وصف الحركة العلمية إجمالًا
أول ما نلاحظه أن الأمة الإسلامية في هذا العصر خطت خطوة جديدة في حياتها العقلية، وحركاتها العلمية؛ وكان هذا نتيجة لازمة لكل ما أحاط بها من بيئة طبيعية واجتماعية.
ذلك بأن تاريخ الفكر في الأمم المختلفة يكاد يسلك سبيلًا واحدة، ويتدرج في درجات معينة، كل درجة منها تسلم إلى التي تليها متى تهيأت الظروف وتوافرت العوامل، وليس سيرها من قبيل طيف الخيال أو حلم النائم، يتنقل حيثما اتفق، ولا يخضع في حركاته لقانون ولا نظام.
وقد جدَّ كثير — من الباحثين — في دراسة العقل البشري وتعرف قوانينه، وعرضوا للأمم المختلفة يرقبون ما طرأ على أفكارها من تغيُّر، ويرصدون الأسباب التي دعت إليه، ثم يقارنون بين الأمم؛ ليتبينوا كيف اتحدت الأسباب وتوحدت الخطوات فاتخذت النتائج واستخلصوا من كل ذلك قوانين عامة، وإن كان بعضها لا يزال مجال البحث واختلاف النظر.
أرادوا ببحثهم أن يُخضعوا الحياة الفكرية في الأمم لمثل ما خضعت له مواد الطبيعة، فقد استكشفوا قوانين الجاذبية والمغناطيسية وحركات الأجسام والضوء وما إلى ذلك، ورأوا أن الأعضاء ووظائفها خاضعة كذلك لقوانين طبيعية، فالعين كالمنظار في عدساتها وانكسار الأضواء عليها، والأذن تقوم في تأدية وظيفتها على خصائص الصوت وقوانينه وهكذا، وكذلك الشأن في الجماعات وما يحيط بها، فللصحراء وخصائصها أثر قوي في قبائلها، وللسهل الخصيب أثر كبير في حياة أهله — ومثل ذلك يقال في النظم الاجتماعية؛ فليس نوع الحكومات التي تحكم الشعوب إلا نتيجة طبيعية لحالة الشعب وما يحيط به، ولتاريخه وما كان فيه من أحداث — كذلك تطوُّره الفكري يمكن إخضاعه لقوانين طبيعية، وإن كان ذلك شاقًا عسيرًا؛ فهو يتطلب معرفة دقيقة بتاريخ الأمم، وما طرأ عليه من تغيرات، والتغلغل في أعماق التاريخ لمعرفة العوامل التي تعمل في تدرج الأمم واختلاف عقلياتها — أضف إلى ذلك أن هناك عاملًا قويًا في الإنسان ليس في غيره من مواد الطبيعة وهي «الإرادة الحرة»؛ فيُخيَّل إليه أنه فوق القوانين بإرادته، وأنه يستطيع أن يعمل في اللحظة الواحدة الشيء وألا يعمله، وأن يتحدى علماء الاجتماع الذين يتنبؤون بحدوث حادث بناءً على قوانينهم فيعمل غيره؛ ولكن علماء الاجتماع مع تقويمهم هذا العامل يقللون من أهمية حرية الإرادة، ويرون أنها في اختيارها الظاهر خاضعة لقوانين لا تستطيع الخروج عنها، وأن اختلاف الجو وعوامل المدنية تعمل في الإرادة والعقلية عملها في اختلاف الوجوه والألوان.
قد تختلف الأقوام بعض الاختلاف في تاريخ حياتهم العقلية تبعًا لعوامل كثيرة أهمها العوامل الاقتصادية: من قوم يعيشون على الصيد، وآخرين على زرع الأرض وهكذا، فيختلف — بناءً على ذلك — كيفية تدرجهم في الرقي، ولكن — على الرغم من ذلك — فالقوانين العامة لمراحل الرقي العقلي واحدة وإن اختلفت الجزئيات، فمن الحق أن الأمم تعيش في بيئات طبيعية مختلفة، وأن هذه البيئات قد تعجل بتقدُّم القوم في سبيل الرقي العقلي وقد تؤخر سيرهم، ولكن اتجاه الطريق واحد على كل حال — هذه البيئات المختلفة قد تلوَّن الحياة العقلية ببعض ألوان فرعية خاصة، ولكن الألوان الأصلية واحدة، ومَثَل الأطوار العقلية في الأمم مثل حياة الأفراد، فالإنسان ينشأ طفلًا يافعًا فشابًا فكهلًا فشيخًا، ويمرُّ الأفراد بهذه المراحل وإن اختلفوا — فيما بينهم — في بعض التفاصيل من ألوان وعادات وطبائع وأخلاق.
وإذا نحن أردنا أن نطبق القوانين التي وضعها هؤلاء العلماء على الفكر العربي شعرنا بصعوبة ذلك؛ لِمَا أحاط بالعرب من ظروف وأحداث قلَّ أن تحدث لغيرها من الأمم — ذلك أن هذا التطبيق يكون سهلًا نسبيًا متى كانت الأمة قد سارت سيرها الطبيعي من داخلها لا من خارجها، كالأمة اليونانية، قطعت هذه المراحل وهي هي أمة اليونان، ولكن الفكر العربي كان فكر أمة عربية مستقلة عن غيرها، ثم لم يمهلها التاريخ حتى تتدرج، أوقُلْ إنها لم تمهل التاريخ، فقد أخضعت لأمرها أمة الفرس وأمة الروم وأممًا بين ذلك كثيرة، وهذه الأمم المختلفة من فرس وروم ومصريين وأمثالهم كانت على درجات مختلفة من سلَّم الرقي العقلي، وكانت قد قطعت مراحل لم يقطعها العرب في جاهليتهم، وكانت حياتها الاجتماعية مختلفة كل الاختلاف، فحياة الفرس الاجتماعية غير حياة الروم، وهما غير حياة المصريين وهكذا، وحياتهم العقلية مختلفة تبعًا لاختلاف حياتهم الاجتماعية، وانتقل كثير من العرب من جزيرتهم إلى هذه الأصقاع؛ فسكن قوم في فارس، وقوم في مصر، وقوم في الشام، وقوم في العراق، وكانوا أولِي الأمر فيها أيام الخلفاء الراشدين والدولية الأموية، وكان المنتقلون من جزيرة العرب إلى هذه الأقاليم أكثر ممَنْ انتقل من الأقاليم المختلفة إلى جزيرة العرب، ونَشَر العرب اللغة والدين في كل هذه البلاد المفتوحة، وأصبحت الثقافة مصبوغة بالصبغة العربية، وأصبحت لغةُ العلم هي اللغة العربية — هذه الأسباب وغيرها جعلت الفكر العربي إذا جعلنا بَدْأه العصر الجاهلي لا يسير السير الطبيعي الذي ساره في الأمم المنعزلة التي لم تمتزج هذا الامتزاج — لقد كان الفكر العربي فكرًا عربيًا خالصًا (إلا قليلًا) في الجاهلية من حيث طبيعته ومن حيث لغته، أمَّا في الإسلام فنحن نسميه فكرًا عربيًا على نوع من التجوُّز، وهو في الواقع فكر أمم مختلفة اتخذت اللغة العربية أداة لتفكيرها، وهو فكر العرب وفكر الفرس وفكر الروم وفكر المصريين مُزِجَ كله مزجًا قويًا، واتخذ اللغة العربية أداته، واتخذ الإسلام أساسه — كان الفكر الفارسي والرومي قد قطع مراحل في التفكير لم يقطعها الفكر العربي في الجاهلية، فلمَّا كان الامتزاج أبت الطبيعة إلا أن تسير على قوانينها فتجعل من هذا المزيج المختلف العناصر وحدة، وإن كانت هذه الوحدة مختلفة الأجزاء معقدة التركيب، وهذا المزج كذلك يسرع في قطع المراحل التي تقطعها الأمة المنعزلة في أزمان طويلة، كما يجعل دراسة هذه الظواهر المختلفة أصعب مراسًا وأبعد منالًا.
- (١) يظهر أن العرب في جاهليتهم كانوا في طور سرعة التصديق وحياة الخرافات والأوهام٣ — ولابد أن يكونوا قد عاشوا هذه المعيشة قرونًا طويلة قبل الإسلام ولكن لم يصلنا إلا القليل عن جاهليتهم الأولى، وأكثر ما وصلنا كان قبل البعثة بما لا يعدو قرنين، فقد أدركهم التاريخ وهم يكادون يكونون في آخر هذا الطور؛ ومما يلاحظ أن تطُّور العرب في الجزيرة كان بطيئًا في الجاهلية بطئًا شديدًا، وخاصة سكان الصحراء؛ لضعف اتصالهم بمَنْ حولهم، فهم يعيشون عيشة تكاد تكون متشابهة — وعلى الجملة فقد فشت فيهم عبادة الأصنام، واستسقوا بها المطر، واستنصروا بها على العدوَّ، وذبحوا لها الذبائح، وامتلأت بها منازلهم، وإذا اختصموا في أمر استقسموا بالقداح عندها، وإذا أرادوا سفرًا كان آخر ما يصنعون أن يتمسحوا بها، وإذاقَدِموُا من سفر كان أول ما يصنعون إذا دخلوا منازلهم أن يتمسحوا بها، وعظَّموا الأنصاب وهي الأحجار ينصبونها ويطوفون بها وهكذا — ومُلِئتَ حياتهم بالخرافات والأوهام، فهم إذا أمسكت السماء وأصيبوا بالقحط عمدوا إلى السَّلَع والعُشَر٤ فحزموها وعقدوهما في أذناب البقر ثم أشعلوا النار فيهما تفاؤلًا بسَنَا البرق، وهم إذا مات منهم كريم عمدوا إلى ناقته فعكسوا عنقها وأداروا رأسها على مؤخرها، وتركوها في حَفِيرة ولا تُطْعَمُ ولاتُسْقىَ حتى تموت، ليُحشر عليها راكبها، فإذا لم يُفعلْ له ذلك حُشِر ماشيًا؛ وهم يعتقدون بالهامَة تخرج من رأس القتيل، وتنادي على قبره اسقوني فإني صَديَِّة حتى يؤخذ بثأره، إلى كثير من أمثال ذلك٥ — وكانت الكهانة والعرافة نظامًا من نظم حياتهم، يفزعون إلى الكُهَّان والعرَّافين في منازعاتهم وخصوماتهم، ويرون أن لهم صلة بالجن يأخذون عنهم، وقد اشتهر بينهم كهان كثيرون كان لهم مقام سامٍ بينهم — كل هذا وأمثاله كان فاشيًا بين القبائل، ونظامًا عامًا عند الطبقات المختلفة، قد خضعت حياتهم للتفاؤل والتشاؤم، وأسرعوا في تصديق ما يُروْىَ لهم وضَعُفَ تعليلهم للأحداث إلا في القليل النادر؛ مما يدل على أنهم لم يَعْدُوا هذا الطور الذي ذكرنا.
ورووا أنه خرج إلى الشام يسأل اليهود والنصارى عن دينهم لعله يصل إلى ما يثلج صدره، ويذهب شكه — وكذلك «وَرَقة بن نَوْفل» ذكروا أنه كره عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب — وهكذا روت لنا الكتب طائفة كثيرة في هذا العصر شكّتَ وبحثت، وقالت الشعر في شكِّها، وتنديدها بالأصنام وكرهها لما عليه قومهم من عادات غير معقولة كالذي يقول:
ونحوه مما يصحُّ أن يُسمَّى طور الشك والبحث.
-
(٢)
وأعقب دور الحَيْرة هذه دور العقيدة والإيمان؛ فجاء الإسلام يدعو إلى عبادة إله واحد ليس كمثله شيء، ودخل الناس فيه أفواجًا، وقَضى على ما كان في الجاهلية من خرافات وأوهام — حارب الأصنام وحطمها، ولمَّا دخل رسول الله ﷺ المسجد يوم فتح مكة ورأى الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن بِسِيَةِ قوسه٨ في عيونها ووجوهها ويقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كَانَ زَهُوقًا ثم أمر بها فكُفِفت على وجهها، ثم أُخْرِجت من المسجد فحُرِقت، وبعث خَالدَ بن الوليد والطفيل بن عمرو الَّدوْسيِّ وغيرهَما لكسر بعض وتحريق بعض، وأكذَبَ الكهان ولم يعترف بهم، ونهى عن تصديقهم وعاب سجعهم ونهى عن الطيِّرة والتشاؤم وأمثالها — وعلى الجملة فقد حارب الإسلام ما كان يسود العرب من أوهام وأحل محلها دينًا شرحنا مبادئه فيما تقدَّم.
اعتنق الناس الإسلام في حماسة وقوة فملك عليهم نفوسهم وأثر في كل المناحي الاجتماعية ومنها العلم — فقد ظلَّ الدين أساس كل الحركات العلمية إلى أواخر العصر الأموي، فأساس التاريخ سيرة النبي ﷺ وغزواتُهُ وفتوح المسلمين، والفقه مبني على ما ورد من قرآن وحديث، ووعظ الوعاظ وبحث العلماء دائر حول الدين من تفسير وحديث وفقه وما إلى ذلك، وما أُثِر عن ذلك العصر من دراسات دنيوية من طب وصناعة (كيمياء) فقليل نادر، وأكثر مَنْ اشتغل بها من غير المسلمين — اقتنع العلماء بالإسلام وآمنوا به إيمانًا صادقًا لا مجال للشك فيه فكان بحثهم في تفسير ما غمض من نصوصه، أو جمع ما تفرق من الحديث، أو استنباط أحكام القرآن والحديث، أو تطبيق ما ورد منهما على الحوادث الجزئية.
-
(٣)
جاء العصر العباسي فرأينا مظهرًا آخر — رأينا العلوم الدنيوية تفيض فيضًا في المملكة الإسلامية؛ فتترجَمُ الفلسفة اليونانية بجميع فروعها من طب ومنطق وطبيعية وكيمياء ونجوم ورياضة، وتترجم الرياضة الهندية والتنجيم الهندي، ويترجم تاريخ الأمم من فرس ويونان ورومان وغيرهم، ورأينا الإلهيات اليونانية تعرض ويعرض بجانبها الديانات الأخرى من يهودية ونصرانية ومجوسية وغيرها، ورأينا أرباب الديانات يتجادلون في أديانهم ويقفون مواقف الهجوم والدفاع — كل هذا سبَّبَ حالة عقلية جديدة — فأهل الديانات الأخرى إنما يدعون إلى دينهم بالعقل والمنطق، ويُرَدّ عليهم بالعقل والمنطق، فكان طبيعيًا أن يفعل المسلمون ذلك حينما يدعونهم إلى الإسلام — قد كانت الدعوة إلى الإسلام في العصر الأول أكثر ما تعتمد على الأسلوب الفطري من لفت إلى الكون وآثاره ودلالة ذلك على موجدها أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا الآية. فجاء أرباب الديانات الأخرى في العصر العباسي يريدون أدلة عقلية مؤسّسة على منطق أرسطو، فيها مقدمة صغرى وكبرى، مستوفيتان للشروط، وفيها نتيجة كذلك؛ فتحولت الدعوة الدينية إلى علم الكلام، وتأثر تفسير القرآن وتفسير الحديث والتشريع بهذا الأثر الفلسفي، ورأينا العلماء يجتهدون في شرح كل ما يعرض لهم من ذلك بعلل عقلية وعبارات منطقية — وإذا كان هذا في العلوم الدينية فالأمر في العلوم الدينوية أشد وضوحًا؛ فالطب والرياضة والهيئة وغيرها اعتمدت كل الاعتماد على التجارب وأقوال العلماء وبراهين المنطق. وهذه — على العموم — ظاهرة جديدة في العصر العباسي وإن كانت نتيجة طبيعية لحياة الناس وسيرهم العقلي.
•••
وكلَّما تقدَّم العلم مال إلى الامتحان والجزم، ولم يكتفِ بالاعتماد على أقوال الرواة وآراء السابقين، حتى إذا قطع في هذا شوطًا بعيدًا دخل في طور التنظيم، وجُمعت المسائل المتعلقة بموضوع واحد في مجموعة واحدة، وكونت فرعًا مستقلًا بعض الاستقلال، ويلاحظون كذلك أن فكر الإنسان اتجه أولًا إلى الطبيعة ومظاهرها ثم انتقل إلى النظر في الإنسان ودراسته، وبعد ذلك تميزت العلوم وُنظِّمت.
فإذا نحن نظرنا في ضوء هذا إلى العرب وجدنا معلوماتهم في الجاهلية مبعثرة، نظرات في الطبيعة ونظرات في الإنسان لا تربطها رابطة، وتجارب يرويها الخلف عن السلف من غير امتحان، طب موروث وكهانة مألوفة، وقول في النجوم والأنواء والرياح سمعه جيل عن جيل، ورواية للشعر لا تعتمد على درس أو امتحان وهكذا، وكل شخص راقٍ يعرف هذه الأشياء جملة على أنها معلومات ثابتة، وأحاديثهم من هذا القبيل فيها كل شيء وليس فيها شيء دقيق منظم؛ حتى إذا جاء العصر الذي يليه من عصر الخلفاء الراشدين وإلى قبيل الدولة العباسية رأينا العلم السائد هو العلم الديني كما ذكرنا، ورأينا المسائل تُبْحَث بنظر أدق، ولكن لم نجد العلوم كذلك متميزة، فليس علم مستقل اسمه التفسير، ولا علم مستقل اسمه الفقه وهكذا، ولا العلماء كذلك؛ فابن عباس يتكلم في مجلس واحد في مسائل متنوعة في فروع متعددة وكذلك غيره، والثقافة كتلة واحدة ممتزجة من تفسير وحديث وفقه وما يلزمها من لغة وشعر، كلها تُْلَقى في درس واحد ليس ذا فروع ولا لكل فرع اسم، والذين يجمعون الحديث لا يبوَّبونه، ولا يضعون الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد تحت باب واحد، ولم يكن تأليف بالمعنى المنظم الذي رأيناه بعدُ في العصر الذي وَليِه.
كذلك نرى العلم في العصر الأموي كانت نواته القرآن والحديث، فكل مسائل العلم تقريبًا تدور حول هذه النواة؛ منهما يُسْتَنْبَط الفقه، ولأجلهما يُروْىَ الشعر، وبسببهما تبحث مسائل النحو. وعلى الجملة فالحركة العلمية كلها دينية إلا القليل؛ أمَّا في العصر العباسي فقد ظلت هذه النواة — وإن اتخذت البحوث حولها شكلًا آخر — ولكن وجدت بجانب هذه النواة نواة أخرى تجمعت حولها العلوم الدنيوية، وهي نواة الطب؛ فقد أسس النساطرة بمعاونة اليهود مدرسة للطب بجند يسابور، وأيَّدهم الخلفاء العباسيون، وقد كانت هذه المدرسة الطبية وارثة الطب اليوناني والفلسفة اليونانية في الشرق، وحول هذه الدراسة الطبية تكونت دراسة الطبيعة والكيمياء والهيئة، بل والمنطق والإلهيات، وكانت الثقافة الطبية تتطلب كل هذه الفروع، وبرنامجها يسع كل هذه الأشياء، كما نلاحظ هذا حتى في فلاسفة المسلمين أمثال الفارابي وابن سينا؛ فكلاهما طبيب فيلسوف.
من أجل هذا نرى نوعين من الدراسة في هذا العصر: دراسة دينية حول القرآن والحديث، ودراسة دنيوية حول الطب، ولكل نوع مميزات خاصة ومنهج في البحث خاص، وإن أثَّر كل منهما في الآخر وتأثر به.
•••
في هذا العصر كما لاحظ الذهبي وضعت في اللغة العربية أسس كل العلوم — تقريبًا — فقلَّ أن نرى علمًا إسلاميًا نشأ بعدُ ولم يكن قد وُضِعَ في العصر العباسي، وُضِع تفسير القرآن، وجمع الحديث ووضعت علومه، ووُضِع علم النحو، وألَّف فيه سيبويه كتابه الخالد، ووضعت كتب اللغة ورسم خطتها الخليل بن أحمد كما وُضِعَ العروض، ودُوِّنت أشعار العرب في المعلقات التي دوَّنها حماد الرواية والمفضليات التي دوَّنها المفضّل الضبي، والأصمعيات التي دوَّنها الأصمعي، ووضع الجاحظ أساس الكتب الأدبية، وحذا حذوه ابن قتيبة والمبرد وغيرهما، ودُوِّن الفقه على يد الأئمة وتلاميذهم، ودون التاريخ الواقدي وابن إسحاق وأمثالهما — هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى تُرْجِمتَ كتب الفلسفة من منطق ورياضة وهيئة وطب غيرها، وبدأ العلماء يؤلفون فيها، فماذا جدَّ بعدَ ذلك من علوم لم تكن في هذا العصر؟ إنما جدَّ بعد ذلك توسيع هذه العلوم وزيادة جزئياتها، وإجادة تأليفها أو ضعفه، ومعالجة أنفع أو أضر.
•••
وعلى هذا فقد كانت الحضارة في العراق أيام العباسيين أتمَّ منها في دمشق أيام الأمويين، والمال أكثر، فكانت الصنائع أتُمّ والعلم أوفر.
على أن هناك أسبابًا أخرى في عصرنا هذا غير الأسباب العامة من كثرة العمران ونحوها.
ومنها: أن الدولة العباسية أصبحت الغلبة فيها للفرس وغيرهم، ولم تعد الأمور كلها بيد العرب كما كان في العهد الأموي؛ فأمسك هؤلاء بزمام شئون الدولة ومنها العلم، وقد كان الفرس قد قطعوا المراحل الأولى للعلم وكادوا يصلون إلى آخرها، وكذلك شأن النساطرة وأمثالهم، فلمَّا أُعطوا الحرية اللازمة للعلم نهضوا به وقادوا حركته على مثل المنهج الذي كانوا يسيرون عليه في أممهم قبل الإسلام.
ومنها: أن مرور أكثر من قرن على ظهور الإسلام وانتشاره، وفتوح البلدان وحكمها بيد العرب مكَّن من ظهور جيل من أبناء الفرس والروم وغيرهما، نشأ في بلاد إسلامية وأصبح مسلمًا إمَّا باعتناق الدين أو بالمرْبَى، وصار يجيد العربية كأهلها، وجمع إلى ذلك ثقافته بلغة آبائه، فأنشأ باللغة العربية ما كان يكتبه آباؤه باللغة الفارسية أو اليونانية، ودُوِّن في العلوم العربية على النحو الذي كانت تُدَّون به العلوم من في اللغات الأخرى.
ومنها: أن الحياة الاجتماعية بالعراق واختلافها عن الحياة الاجتماعية في الشام جعلت الحاجة ماسة لنوع من العلوم كان لابد منه، فدجلة والفرات تلجئ حتما إلى نظام في الريَّ غير الذي في الشام وجزيرة العرب، وهذا يلجئ حتمًا إلى النظر في الخراج نظرًا جديدًا كان له من غير شك أثر في كتاب الخراج لأبي يوسف، واختلاف الحياة في البصرة والكوفة جعل هناك خلافًا طبيعيًا بين مدرستي البصرة والكوفة في النحو واللغة والأدب وغيرها.
ومنها: أن هناك عوامل شخصية أثَّرت في العلم لو لم تحدث لأخَّرت سير العلم بعض الزمن، كالذي كان من أبي جعفر المنصور؛ فضعف معدته جعله يهتم كثيرًا بالطب ويستدعي الأطباء على اختلاف مللهم ونحلهم ويصغي إليهم ويشجعهم على البحث في الطب والتأليف فيه، فكان هذا نواة للعلوم العقلية، ومثل ذلك اعتقاده في التنجيم، أي أن هناك ارتباطًا بين حركات النجوم وأحداث الأرض؛ فاهتم بذلك وبنى عليه بعض أعماله كتخطيط مدينة بغداد، واختياره الوقت الملائم وهكذا.
ومنها — وهو فوق ذلك كله — أن الأمة الإسلامية كانت قد مرّتَ بطور المسائل الجزئية المبعثرة، فكان لزامًا أن يسلمها ذلك إلى الطور الآخر؛ طور التنظيم وتدوين العلوم وتميزها — ولكن يجب أن نلاحظ هنا أن العلوم التي انتقلت هذا الانتقال إنما هي العلوم النقلية من علوم دينية ولغوية وأدبية؛ أمَّا العلوم العقلية من طب ومنطق ورياضة ونحوها فقد بدأت في الأمة الإسلامية منظمة؛ لأن الأدوار الأولى — أدوار الأبحاث الجزئية — كانت قد قْطِعتَ من أزمان بعيدة في أممها كاليونان والهند والفرس، وكانت قد وصلت إلى مرحلة التنظيم والتدوين والتبويب، فلمَّا نُقِلت في العصر العباسي إلى اللغة العربية نُقِلتَ بهيئتها الكاملة، ولم تحتج إلى أن تمر بالمراحل الطبيعية من جديد، ولعل المؤلفين بعد في العلوم النقلية لمَّا رأوا العلوم العقلية منظمة هذا النظام اقتبسوا منه في علومهم، وأدخلوا عليها ما استحسنوا من النظم.
•••
وقد كان لكل من العلوم النقلية والعقلية منهج في البحث والتأليف خاص، فأمَّا منهج البحث والتأليف في العلوم النقلية فاعتماد على الرواية وصحة السند، فالمؤلفون في التفسير في ذلك العصر يعتمدون على نقل ما رُوِي من تفسير الآيات عن الصحابة والتابعين، فإن زادوا شيئًا فترجيح أحد هذه الأقوال — وكذلك الشأن في الحديث، أهم ما يشغل المحِّدث جمع الأحاديث وامتحان أسانيدها لمعرفة جيدها من رديئها وهكذا، ومثل ذلك يقال في علم اللغة والأدب؛ إذ هما تأثرا بالعلوم الدينية، ونمط الرواية فيهما نمط الرواية في الحديث، فاللغوي يروي ما سمع من أعرابي أو عالم، وكثيرًا ما يذكر السند كما يذكره المحدِّث مثل الذي نرى في كتاب الأغاني.
وأمَّا العلوم العقلية كالطبيعة والرياضة والطب فأكثر ما تعتمد على معقولية الحقائق وامتحانها إمَّا من طريق المنطق وإمَّا من طريق تجربة الحقائق وامتحانها عمليًا، فإذا ُذكِرتَ حقيقة فقلما يعنون بقائلها، ولكنهم يعنون بوضعها تحت قواعد المنطق، وهل من قوانينه ما يؤيدها أو ما ينقضها، وكذلك قد يمتحنونها عمليًا ليرقبوا نتيجتها؛ فيحكموا عليها بالخطأ أو الصواب.
وهناك علوم أخذت بشبه من المنهجين كالفقه بعد العصر الأول؛ فكثير من الفقهاء لم يعتمد على المنهج الأول من الاستدلال بآية أو حديث فقط، بل استعمل الدليل المنطقي في تأييد مذهبه والرد على خصومه، ومن ذلك النحو بعد عصره الأول كذلك؛ فأصبحت المسألة لا يُحتَّج فيها بالسماع من الأعراب فحسب بل بالبرهان العقلي أيضًا.
وهذا الاختلاف بين المنهجين طبيعي؛ ففي المسائل الدينية وشبهها متى ثبت النص عن الشارع فلا مجال للعقل، وفي العلوم العقلية مجال العقل واسع المدى لا يحدّه إلا البرهان على الخطأ أو الصواب — ولنسق مثلًا لكل من المنهجين، مثال المنهج الأول: قال تعالى: وَلَهَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ عِنْدهُ لايَسْتَكْبِِروُنَ عَنْ عِِبَادتَهِ ولا يَسْتَحْسِروُنَ … لا يستنكفون عن عباداتهم إياه ولا يُعْيون من طول خدمتهم له.. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، حدثني عليّ، قال حدثنا عبد الله، قال حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس (رضى الله عنه) قوله: وَلاَ يَسْتَحْسِروُن. لا يرجعون — حدثنا بشر، قال حدثنا يزيد، قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله لا يستحسرون، قال لا يُعيون. حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله َ لايَسْتَكْبِِروُنَ عَنْ عِِبَادتَهِ ولا يَسْتَحْسِروُنَ، قال: لا يستحسرون لا يمّلون ذلك الاستحسار، قال ولا يفترون ولا يسأمون هذا كله معناه واحد والكلام مختلف، وهو من قولهم بعير حسير إذا أعيا وقام، ومنه قول علقمة بن عَبَدة:
وكان لكل منهج أثر كبير في أصحابه من حيث الأخلاق العلمية والصفات العقلية، فالأولون قصروا اتجاههم على التحقق من صحة النقل، ولم يحكِّموا كثيرًا مقياس العقل، وكرهوا أن يصغوا إلى نقد الناقد يحكِّم المنطق في علمهم، والآخرون أطلقوا لعقلهم العنان، ولم يشاءوا أن يقتصروا في ذلك على دائرة أبحاثهم — وظلوا في أمن وطُمَأنينة ما استعملوا منهجهم في الطب والرياضة والمنطق، ولكنهم يقتنعوا بذلك، بل حاولوا أن يطبقوه على علم الكلام والفقه والنحو بل واللغة، فكان صدام عنيف بين الطائفتين، ورمى الأخلاق الآخرين بالزندقة والإلحاد، كما رمى الآخيرون الأولين بالجمود والتزمت؛ وكان أظهر مَنْ يمثل الأولين علماء الحديث، ومَنْ يمثل الأخيرين علماء الكلام، وكان من وراء ذلك كله صراع بلغ حد سفك الدماء أحيانًا كما سنعرض له بعد.
ولم يكن هذا الصراع عنيفًا قويًا في العصر الأموي، وأهم سبب في ذلك أن العلم كله في عهد الأمويين كان في يد رجال الدين تقريبًا، وهم يكادون يكونون من عقلية واحدة أو متشابهة، فلمَّا كان العصر العباسي اتسع مدى العلوم الأخرى التي تكوَّنت حول الطب، وهي العلوم العقلية، وذلك جعل العلم ينفذ إلى بيئات أخرى، بعضها غير ديني كالأطباء والرياضيين، وبعضها لها لون خفيف من الدين كطبقة الكُتَّاب، وبعضها شاءوا أن يضعوا أيديهم على الثقافات المختلفة دينية وغير دينية، ويمزجوا بينها ويوفقوا بين ما تناقض منها كعلماء الكلام، فكان من ذلك عقليات غير متشاكلة سببت النزاع والجدل، ولكن في الوقت عينه وسَّعت مجال العلم وأوصلته إلى مناطق لم يصل إليها قبل.
•••
على كل حال، في أقل من خمسين عامًا من آخر الدولة الأموية إلى صدر الدولة العباسية كانت أغلب العلوم قد دُوَّنت ونُظِّمت، سواءً في ذلك العلوم النقلية من علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، وعلوم اللغة والأدب على اختلافها، والعلوم العقلية من علوم الرياضة والمنطق والفلسفة والكلام.
•••
ساعد على هذه الحركة العلمية الواسعة، أو قل نتج عن هذه الحركة والميل إلى تدوين العلم ونقله من المشافهة إلى الكتابة اتساع صناعة الورق.
واستعملت عند العرب كلمة القرطاس، وهو ورق يُتَّخَذُ من بَرْدِيّ مصر، قال في اللسان: «القرطاس معروف يتخذ من بَرْدِي يكون بمصر» — وفي صبح الأعشى القرطاس كاغَدٌ يتخذ من بردي مصر — وقد ورد في القرآن استعماله مفردًا وجمعًاوَلو نَزْلَنا عليك كِتَابا فِي قِرطَاسٍ ووتَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ وقد فسَّرها قتَادة كما في تفسير الطبري بالصحيفة، ولم يبينها؛ والعرب قديمًا عرفوا القرطاس، وأكثروا من تشبيه آثار الديار بالكِتَاب بعد ما مضى الزمان عليه، قال المُرَّار بن سعيد الفَقْعسّي:
وعلى كل حال فهذه العسب واللخاف والرق والمهرق لا تساعد على انتشار العلم؛ لقلتها وعدم صلاحيتها وغلاء ثمن بعضها، فهي لا تصلح لشعب يريد أن يتعلم ويدوِّن العلم، خصوصًا وطبقة العلماء طبقة فقيرة غالبًا.
وكان في مصر بجانب البَردْي نوع من القماش يكتب عليه، وكانت مصانعه في أبو صير وسمّنود؛ وبدار الكتب المصرية حجج كتبت على هذا القماش.
وقد وصلت إلينا مجموعة من الورق والرق والحجارة على اختلاف أنواعها، حُفظت في دار الكتب المصرية وغيرها من دور العلم، وجدّ الباحثون من المستشرقين في دراستها، مِن دارسٍ للخط العربي وتطوره، ومُؤرخ يقارن بين ما فيها وما في كتب التاريخ، ومستنتج ما تدل عليه من ظواهر اجتماعية واقتصادية، وكيماوي يحلل ليعلم ممَّ تكونت وكيف صُنعت إلخ.
والذي يهمنا الآن أن نقول: إن اقتران نشاط مصانع الورق وكثرتها ورخص أثمانها — بحركة العلم وتدوينه في العصر العباسي — كان أمرًا لابد منه في وصول العلم إلى النحو الذي وصل إليه، وما كان يصل إلى ذلك القدر من الرقي لو ظلت أدوات الكتابة على حالتها الأولى من السذاجة أو الغلاء، بل إن الأدب أيضًا مدين لهذه الصناعة، فقد كثر الكُتَّاب وخلَّفوا لنا آثارًا قيمة واستعملوا الورق في كتابة الرسائل الرسمية، ورسائل الاعتذار والحب وما إلى ذلك، مما لم يكن يكون لولا الورق — ولو كان في العصر الجاهلي أو صدر الإسلام ورق دُوّنت فيه الأحداث الجاهلية والإسلامية لكان شأن المؤرخين في ذلك غير شأنهم اليوم.
وقد نتج عن هذا الورق وتدوين العلوم فيه وجود الكتب وخزائنها، وأصبحت المكاتب منذ العصر العباسي الأول مصدرًا عظيمًا للثقافة.
ويسلمنا هذا البحث — بحث تكوّن العلوم في العصر العباسي — إلى بحث آخر، وهو هل للدولة العباسية أثر في تلوين العلوم كلها أو بعضها لونًا خاصًا ولم يكن يتلون به لو نشأ في دولة غيرها؟ هل لو كان العلم دُوَّن في العهد الأموي أو في الأندلس أو في دولة شيعية كان يتخذ شكلًا آخر؟ وهل كان العلماء الذين دوَّنوا العلوم متأثرين بأنهم تحت ولاية العباسيين وسلطانهم، أو كانوا مستقلين تمام الاستقلال؟ إلى نحو ذلك من الأسئلة التي تدور حول نقطة واحدة.
والذي يظهر لي أن العلم تأثر بالدولة العباسية تأثرًا كبيرًا، بعض هذا الأثر واضح ينكشف بأقل بحث، وبعضه غامض عميق لا ينجلي إلا بطول النظر وإعمال الفكر؛ ذلك أن الدولة العباسية كان موقفها — وقت تدوين العلوم — موقف الذي يهدم دولة كانت قوية عظيمة هي دولة الأمويين، استمرت في الحكم نحو مائة عام، وكان من رجالها عظماء، كمعاوية عبد الملك بن مروان وهشام، شيدَّوا الملك وأسسوه على دعائم ثابتة، وتغلغلت سلطتهم في مناحي الحياة، فجاء العباسيون يهدمون هذا البناء من أساسه، ويقيمون دولة جديدة على نظام خاص غير الذي عرفه الأمويون.
وكان أمام العباسيين شيعة يرون أن آل العباس اغتصبوا الخلافة منهم، وأن أحق الناس بالخلافة آل أبي طالب لا آل العباس.
وكان هناك مذاهب كالخوارج والمرجئة وما إليهما، هي مذاهب دينية في الظاهر ولكنها كثيرا ما تتعرض للسياسة، ولها رأي قد يخالف رأي الدولة وقد يوافقها؛ كل هذا — من غير شك — كان يصطدم بالعمل أحيانًا اصطدامًا عنيفًا، ويخلق مشاكل في نهاية التعقيد، تقف أمام العلماء يحاولون حلها، وليس كل العلماء في أي وقت وفي أية أمة بالذين يتنزهون جميعًا عن الغرض دائمًا، ولا يغرهم المال والجاه أبدًا، فكان من بين العلماء مَنْ استمسك بالحق وخالف تعاليم الدولة وميولها، وتعرَّض للعذاب، ومنهم مَنْ شايعها وأخذ يؤيد بعلمه وجهة نظرها، فأغدقت عليه مالها، وكذلك الشأن في الأدب، لقد كان أحب الشعراء للرشيد مروان بن أبي حفصة؛ لأنه كان يصل مدح الرشيد بالتعريض بالشيعة من مثل قوله:
وهكذا كان أقرب الشعراء إلى نفوس الخلفاء مَنْ عرف ما في نفوسهم. وأكثر من مدحهم ونال من عدوهم؛ فالشعراء العلويُّون موضع نقمة العباسيين واضطهادهم وتشريدهم.
وليست كل العلوم بمثابة واحدة في الاتصال بالسياسة وشئون الدولة والتأثر بها، فهناك — مثلًا — علوم الرياضة والطب والمنطق والطبيعة؛ فهي علوم مستقلة لا نعلم لها اتصالًا بالسياسة وتصرفاتها، ولكن بجانب ذلك نرى التاريخ — مثلًا — من أشد العلوم اتصالًا بالسياسة، وكذلك كان في العصر العباسي كثيرًا مايُتَّخَذُ وسيلة من وسائل الدعوة، وكان بعض المؤرخين يتقربون إلى الخلفاء بروايتهم ما يرضيهم.
وقد كان من أهم ما حارب به العباسيون الأمويين التأثير في المؤرخين حتى يصبغوا لون الأمويين بلون قاتم مظلم، ولون العباسيين بلون زاهر ناضر.
لقد وضع الخلفاء الأولون من بني العباس وآلِهِم البرنامج للمؤرخين في الطعن في بني أمية؛ فسار المؤرخون على منهاجهم، وتوسعوا في تكميل خططهم، فقد صعد أبو العباس المنبر وخطب الناس فكان مما قاله: «ثم وثب بنو حرب ومروان فابتُّزوها وتداولها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فلمَّا آسفوه انتقم منهم بأيدينا، ورَدَّ علينا حقنا».
وَاستَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فألقاه ورماه بسهام وقال:
ذلك قول لا يسيغه العقل من خليفة المسلمين مهما بلغ من فسقه وفجوره؛ ولذلك قال الذهبي: «لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوُّط».
وقال أبو عبيدة: دخل أبو عمر بن العَلاء على سليمان بن عليِّ — وهو عم السفاح — فسأله عن شيء فصَدَقه، فلم يعجبه ما قاله، فوجِدَ أبو عمرو في نفسه وخرج وهو يقول:
وتصوير بعض المؤرخين له بأنه سياسي محنَّك قدير كان يرسم الخطط لعلي بن أبي طالب، مع أن أكبر مزية له في الواقع هي سعة علمه، إلى غير ذلك.
وهكذا ضاعت معالم الحق بين العصبية العباسية والعصبية العلوية، وصعب على المؤرخ الصادق النزيه أن يصل إلى الحقيقة.
•••
وربما كان ذلك وأمثاله سببًا في التوسُّع في الحيل الشرعية، ووضع الكتب فيها وخاصة في مذهب الحنفية، فهم أول مَنْ أفردها بالتأليف — فيما أعلم — وسيأتي بحث هذا فيما بعد.
•••
•••
والأدب اتجه أكثر إلى مشايعة رغبات القصر، يذم الشعراء مَنْ ذمهم الخلفاء، ويمدحون مَنْ رضوا عنه، فإذا خرج محمد بن عبد الله على المنصور، قال ابن هَرْمَة:
وإذا رضى المعتصم عن الأْفشِين، فقصائد أبي تمام تترى في مدحه، وإذا غضب عليه وصلبه، فقصائد أبي تمام أيضًا تقال في ذمه وكفره؛ ويرضى الرشيد عن البرامكة فهم معدن الفضل، ويقتلهم فهم أهل الزندقة والشرك، وهكذا وقف الأدب أو أكثره يخدم الشهوات والأغراض، وقديمًا هجا الفرزدق الحجاج بعد أن مدحه فقيل له: كيف تهجوه وقد مدحته؟ فقال: «نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه، فإذا تخلى عنه انقلبنا عليه»، ولو قال: «نكون معه ما كانت الدنيا معه» لكان أصدق.
•••
هذا قليل من كثير في هذا الباب، ومن الطبيعي أن هذه الأمور وأمثالها تجري في الخفاء، ولا يعلم الناس من أمرها إلا فلتاتٍ قليلة، وألاعيب السياسة دائمًا تجري من وراء سُتُر كثيفة، ولا يعلم الأكثرون إلا المظاهر، وهي قليلة الدلالة على البواطن.
كما أن من الحق أن نذكر أن العباسيين، وإن تدخلوا في تلوين بعض العلوم ببعض الألوان وكان هذا سيئة من سيئاتهم فلهم محمدة أخرى في تشجيع العلم وتدوينه والمكافأة عليه واستحثاث الهمم لخدمته.
•••
ولنبحث بعدُ مسالة لها صلة وثيقة بهذا الموضوع وهي «حرية الرأي» في هذا العصر، وإلى أي حد كانت.
وإن الباحث في هذا الأمر يرى مظاهر تبدو متناقضة؛ فيرى مظاهر كثيرة تدل على تمتع الناس بقدر من حرية الرأي كبير، ومظاهر أخرى تدل على عكس ذلك. فمثلًا نرى من ناحيةٍ أن بعض الشعراء استطاع أن يجهر في صراحة بذم الخلفاء، ولا يكتفي بالتلميح؛ فقد رُوي أن سُلَيمْ بن يزيدَ العَدَوِيِّ، وهو من أصحاب واصل بن عطاء قال في زمن أبي جعفر المنصور:
وكان شيعيًا مشهورًا بالميل لعلي بن أبي طالب وذريته، وقد قال فيهم قصيدته المشهورة «مدارسُ آيات خَلتْ مِن تِلاوَةٍ»؛ وقد هجا المعتصم، فكان مما قال فيه:
ونرى رجلًا أعمى من أهل بغداد اسمه علي بن أبي طالب يقول لمَّا أراد الأمين أن يأخذ البيعة لابنه وهو طفل:
ويقول أحمد بن أبي نعيم في أبيات فاحشة:
إلى كثير من أمثال هذا الشعر، ولو كان الخلفاء يعاقِبون أشد العقوبة ولو بالظنة على مثل هذا لما كثر هذه الكثرة.
فهذه الأخبار وأمثالها تدل على قدر كبير من حرية الرأي، وخاصة إذا لاحظنا أن أكثر هؤلاء الذين جهروا بهذه الآراء لم يمسهم سوء، أو مسهم طائف من سوء.
هذا من الناحية السياسة، وكذلك نرى هذا المظهر في الناحية العلمية؛ فالدولة العباسية مع تأثيرها بعض الأثر في التاريخ وغيره — كما أشرنا — لم ترغم المؤرخين على أن يقولوا — دائمًا — ما تحب، بل استطاع كثير منهم أن يتحرروا من تأثيرها، وأن يبدوا آراءهم في صراحة. فهذا «ابن جرير الطبري» يروي كتابه عن مؤرخين عاشوا في هذا العصر، ويروي آراء وأخبارًا لا تُرضي الخلفاء العباسيين، ولا ذريتهم الذين كانوا في الحكم وقت أن دُونت هذه الحوادث؛ فقد ذكروا السفاح وسفكه للدماء، وعابوا على المنصور شحَّه وقتله كثيرًا من الناس ظلمًا، وذكروا الأبيات المقذعة التي قيل إن بشارًا هجا بها المهديّ، ووصفوا مجالس لهوهم، ومَنْ كان منهم يشرب الخمر ومَنْ لا يشرب، ومَنْ كان يفرط في سماع الغناء ومَنْ لا يفرط، وتركوا لنا صورة لكل خليفة، إن لم تكن صحيحة الصحة كلها، فهي قريبة من الصحة، فلم يقلبوا الحقائق وإن لطفوها أحيانًا، وهذا — بلا شك — ما كان يكون لولا تمتع بقدر كبير من حرية الرأي.
ثم نستعرض كتابًا، كمقالات الإسلاميين لأبي حسن الأشعري، أو الملل والنحل للشهرستاني، أو الفرْق بين الفِرق للبغدادي؛ فنرى مذاهب وأقوالًا في الإلهيات ونحوها يستغرب القارئ من عرضها، ويعجب كيف كان قائلوها يجرءون على قولها ثم لا يتعرض لهم أحد، وكيف كانوا في منتهى الحرية في أخذ الأقوال عن فلاسفة اليونان ومزجها بالإسلام، وكيف كانوا — وخاصة المعتزلة — يعرضون لأحداث التاريخ في صدر الإسلام، ويحللون أفعال الصحابة، وينقدونهم نقدًا صريحًا، ويبينون خطأهم من صوابهم، ويعارضون المعارضون بمثل قولهم، إلى غير ذلك مما سنبينه في الكلام على الفرق الدينية. ثم كان الفقهاء ينقد بعضهم بعضًا في حرية تامة، فابن أبي ليلى ينقد أبا حنيفة بكل ما يستطيع من قوة، وتلاميذ أبي حنيفة يردّون عليه كذلك، والنزاع بين تلاميذ أبي حنيفة والشافعي ومالك وغيرهم على أشده، هو في حدود العقل أحيانًا، وخارج حدوده أحيانًا، ثم لا يتعرض لهم أحد بسوء، وإنما يدفعون الحجة بالحجة والتهويش بالتهويش — أليس هذا منظرًا بديعيًا من مناظر حرية الرأي قد نستطيع أن نقول فيه إننا الآن لا نستطيع أن نجرؤ على ما كانوا يجرءون عليه، ولا نتمتع بمثل ما تمتعوا به.
ولكن الحق أن القائل إذا اقتصر على هذا الجانب من التاريخ في هذا العصر لم يكن مصيبًا، وكان قد نظر إلى المسالة من جانب واحد، فهناك جانب آخر لو قصر الناظر نظره عليه لصرح بأن حرية الرأي في ذلك العصر لم يكن لها وجود. فمن الناحية السياسية نطالع تاريخ الوزراء فقلَّ أن نرى وزيرًا في العصر العباسي مات حتَف أنفِه، فأول وزير لأول خليفة عباسي أبو سلَمَة الخَلاّل، وقد أوعز السفاح إلى أبي مسلم الخراساني بقتله ففعل، واستوزر أبو جعفر المنصور أبا أيوب سليمان المورياني ثم قتله، وقتل أقاربه واستصفى أموالهم، وفي ذلك يقول ابن حبيبات الشاعر الكوفي:
والمهدي استوزر يعقوب بن داود ثم ما زال السعاة يسعون به حتى نكبه المهدي وجعله في المطبق، ونكبة الرشيد للبرامكة معروفة مشهورة، واستوزر المأمون الفضل بن سهل ثم أوعز بقتله وهكذا.
ومن الناحية العلمية والدينية نرى خلفاء بني العباس قد أهانوا كثيرًا من العلماء وعذبوهم؛ فأبو حنيفة ومالك يُضربان ويحبسان؛ لأنهما لا يريدان أن يتوليا القضاء، أو لرأيهما في البيعة؛ وسفيان الثوري يتنقل في البلاد مختفيًا، لأنهم أرادوه على قضاء الكوفة فأبى؛ ثم هذه الإدارة التي تُنشأ للبحث عن الزنادقة وعقوبتهم، والإفراط في قتل المتهمين، ومنهم — بلا شك — مَنْ قتل ظلمًا وعدوانًا، وكان الداعي إلى قتله أسبابًا سياسية، فنفذوا أغراضهم تحت ستار الزندقة استمالة للجمهور، كما فعلوا في ابن المقفع — وقد تقدم ذكره — وكما فعلوا في صالح بن عبد القُدُّوس، فقد كان مولى من موالي الأزد، وكان واعظًا في البصرة ثم في دمشق — وكان يقول الشعر لا في مدح خليفة أو أمير، وإنما يقوله في الحكمة والموعظة، مثل قوله:
وقوله:
ومن شعره وكأنه طُبّق عليه:
وقد روى الخطيب البغدادي أن المهدي اتهمه بالزندقة فأمر بحمله إليه فأُحضر بين يديه، فلمَّا خاطبه أعجب بغزارة علمه وأدبه وبراعته وحسن نباهته وكثرة حكمته، فأمر بتخلية سبيله؛ فلمَّا وّلى رده وقال ألستَ القائل:
قال بلى يا أمير المؤمنين، قال فأنت لا تترك أخلاقك، ونحن نحكم فيك بحكمك في نفسك؛ ثم أمر به فُقتِلَ وصُلِبَ على الجسر — وهذا الخبر إن صح لم يدل على شيء يصح أن يؤاخذ عليه، فضلًا عن أن يقتل به، ويعجبني ما قال أحدهم أنه رآه في المنام، فوجده ضاحكًا مستبشرًا. فسأله كيف نجوت؟ قال وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال قد علمت براءتك مما كنت تُرْمَى به — فإن هذه الرؤيا انعكاس لعقيدة الحالم في صحوه، وأخشى أن يكون جرى على لسانه في وعظه قول به مساس للنظام في وقته، أو نقد لتصرف من تصرفات الخلفاء، فرموه بالزندقة — وإن فشو الاتهام بالزندقة في ذلك العصر دليل على عبودية الرأي لا على حريته — ثم هذا المأمون على أنه أكثر الخلفاء العباسيين تسامحًا، وأوسعهم صدرًا، وقف موقفًا غريبًا، إذ حمل الناس حملًا على القول بخلق القرآن، وعذب بعضًا وقتل بعضًا، واشتد في ذلك شدة تستخرج العجب، وبخاصة صدورها من مثله وهو الفيلسوف الواسع الفكر البعيد النظر — وعلى العموم كان المعتزلة يُضطهدون يوم كانت السلطة في يد أعدائهم، وكانوا يَضْطهدون يوم كانت السلطة لهم، وكلا الحالين يُخْجِل مَنْ يقول بحرية الرأي في ذلك العصر.
وبعد، فهل يمكن التوفيق بين هذين العرضين؟ وهل يمكن استخلاص قواعد ثابتة يؤرَّخ بها الرأي في العصر العباسي، وُتعِين على وضع حدود فاصلة بين الحرية والعبودية؟
- (الأول): أن الخلفاء العباسيين الأولين وبخاصة المنصور، وضعوا أسسًا
للدولة أهمها
- (١) تعظيم الخلافة في نفوس الناس، فأبو جعفر المنصور رأى كثرة الخارجين على الدولة فلم يسمح أن تحدث أحدًا نفسه بالخروج عليها، وقتل في هذا الأمر بالظنة، وخير ما يمثل هذا الجانب ما روي أن عبد الصمد بن علي قال للمنصور: «لقد هجمتَ بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو، قال المنصور: لأن بني مروان لم تَبْل رممهم، وآل أبي طالب لم تَغْمَد سيوفهم، ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقة واليوم خلفاء فليست تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة».٦٨
- (٢) مما يتصل بهذا أنه صبغ الخلافة صبغة دينية، وأقام الخليفة مقام الحامي للدين، الذائد عن حياضه؛ فالسلطان ظل الله في أرضه، ومنه تُتَلقى كل سلطة ونرى هذا واضحًا في الدولة العباسية أكثر منه في الدولة الأموية؛ فلا نرى مثلًا في الدولة الأموية قاضيًا اتصل دينيًا وسياسيًا بالخليفة كما اتصل أبو يوسف بالرشيد فاصطبغ الخليفة العباسي صبغة روحية، وكان من مظاهر ذلك ما أحاطوه بالبيعة من مظاهر قدسية؛ ومن ثمَّ لمَّا ضعفت سلطتهم وغلبهم الأمراء والولاة على أمرهم ظل في نفوس الناس لهم الحرمة الدينية.
من أجل هذا المبدأ، نرى أن الخلفاء لم يكونوا يسمحون بسبب من الأسباب ضعف شأن الملك أو يؤدي إلى ذلك، ومن كلام المنصور: «الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاث خلال: إفشاء السر، والتعرُّض للحرم، والقدح في الملك». فهم إن سمحوا بحرية الرأي في كل شيء فليسوا يسمحون بها في هذا الباب، وإذا مسَ العلم هذه الناحية فالعقوبة شديدة؛ ومن رأيي أن أبا حنيفة ومالكًا والثوري لم يعاقَبوا للسبب الذي يذكر عادة، وهو عدم رغبتهم في تولي القضاء، ولكن لأن امتناعهم مظهر من مظاهر عدم تعاونهم مع الدولة القائمة، والجمهور يرى أن هؤلاء إذا امتنعوا فلأن الدولة ظالمة لا تحكم بالعدل، ولأن امتناعهم قد يدل على رغبتهم الخفية في نصرة أعداء العباسيين كالعلويين — ومن هذا الباب توسيع أمر الزندقة وإنشاء الإدارة الخاصة بها، فهم — وقد أخذوا على عاتقهم حماية الدين وصبغوا الخلافة صبغة دينية، وربطوا الأمرين بعضهما ببعض — قد رأوا التشدد في هذا الأمر كالتشدد في سابقه، وكان أكبر ما يضطهدون قومًا من أتباع ماني، يعتنقون الإسلام ظاهرًا، ويعملون على هدمه باطنًا — وطبيعي أن هذا الباب إذا فتح لا يقف عند حد، ويؤخذ فيه البريء بذنب المجرم — فإذا لم يتصل العلم بشيء من هذين فالعلماء أحرار فيما يقولون.
- (الثاني): أن حرية الرأي وقدرها كانت متصلة اتصالًا كبيرًا بمزاج الخليفة؛ فمثلًا — كان المنصور ضيق الصدر سياسيًا واسع الصدر علميًا، يأخذ بالظَّنة في كل ما يتعلق بالملك، ويحاسِب أشد المحاسبة حتى ما توهمه في النية والضمير، ويجزي على ذلك بالقتل السريع، لا يرحم خارجًا عليه، بل ولا مَنْ توسم فيه خروجًا، ولا مَنْ حاول أن ينتزع منه سلطة، ولو كان هو مانحها — أمَّا في العلوم فرحب الصدر، يتسع صدره للمعتزلة وتعاليمهم، فيقرب إليه أحد زعمائهم عمرو بن عبيد، وعمرو هو الذي يفر منه، ويشجع المنجمين والأطباء، وكل ما أتوا به من ضروب الفلسفة، والمهدي كان شديد الحس فيما يتعلق بالزندقة، مغرمًا بالعقوبة عليها، والبحث عنها حتى في أعماق الصدور؛ كان يشعر أن فيها خطرًا على الدولة من حيث تعاليمها، فاشتراكية «مزدك» وفلسفة «ماني» تجمعت في زنادقة عصره، وأحس أنها تَحُل قوى الشعب إذا انتشرت، ونظر إليهم بنظره إلى مَنْ يحل الأخلاق ويفسد المجتمع، ويهدم السلطة، فعاقب وأسرف في العقوبة، واتهم وبالغ في الاتهام، أمَّا فيما عدا ذلك من ضروب الآراء، ومختلف العلوم فكان سمحًا سهلًا، والرشيد في تشجيعه للحركات الأدبية والعلمية لا يُبارَى، وإن أُخِذَ عليه أنه كان يكره الاعتزال وقد يعاقب عليه — وليس يساويه في ذلك إلا المأمون بل قد يفوقه، فقد كان له من الذوق العلمي والأدبي والعقل الفلسفي، ورحابة الصدر في الجدل والمناظرة والإصغاء إلى مختلف الآراء ما شجع الحركات العلمية والأدبية والفنية أكبر تشجيع، ولا يؤخذ عليه في ذلك إلا موقف الغريب — الذي يتنافى وما عرف عنه من حرية الرأي — في محنة خلق القرآن، وسنعرض لها بعدُ.
على كل حال من الحق أن نقول إن عصرنا الذي نؤرخه — على الرغم من كل مظاهر الاستبداد التي ألممنا بها — كان عصرًا مجيدًا في تاريخ الإسلام من حيث حرية الرأي العلمية إلى حد كبير؛ فلمَّا تولى المتوكل اضطهد المعتزلة وشرَّدهم كل مشرَّد، وأزال سلطانهم، وانتقم منهم بأكثر مما فعلوا أيام المأمون، وعزلهم من الوظائف الحكومية، وقبض على القاضي أحمد بن أبي دُوَاد وكان نصير المعتزلة، وسجنه؛ وانتصر للسنية في قوة وعنف، وكما اضطهد المعتزلة — وهم قادة حرية الرأي — اضطهد غير المسلمين من نصارى ويهود، وعزلهم كذلك من الوظائف، ووضع لهم تعاليم في منتهى الشدة يجب أن يتبعوها — وبذلك قبع المتكلمون الذين كان على رأسهم المعتزلة، وقبع الفلاسفة وكان على رأسهم النساطرة وأمثالهم، وانتصر رجال الحديث، وغَلب المنهج الذي يمثله المحدثَّون، وهو المنهج النقلي الذي سبقت الإشارة إليه — وعلى الجملة فقد كانت خلافة المتوكل خاتمة لعصر حافل بالآراء والمبادئ، وفاتحة لعصر آخر قُيِّدت فيه الآراء والأفكار إلى حد بعيد، ومُنِحتَ فيه السلطة للمحافظين من الفقهاء والمحدّثين، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.