الخوارج١
يكاد يكون الأساس الذي يدور عليه مذهب الخوارج من الأساس الذي يدور عليه الإرجاء، أعني مسألة الكفر والإيمان.
وترى من قولهما أن بحث الخوارج كبحث المرجئة يدور حول الكفر والإيمان، نظر إليه المرجئة نظرًا واسعًا رحيمًا، فأدخلوا في ساحة الإيمان كل مصدق؛ وأجازوا العفو عن كل عاص، وأرجأوا أصحاب الفتنة إلى الله يقضي بينهم، ونظر الخوارج إليه نظرًا شديدًا ضيقًا، فلم يعدوا مؤمنًا إلا من تحرز عن الكبائر، وخطأوا عثمان فيما فعله في سنيه الأخيرة فكفّروه، وإلى عليّ وحزبه وخصومه وأحزابهم فأكفروهم، لأنهم — على الأقل — قبلوا التحكيم وكتاب الله واضح لا يقبل تحكيمًا. ثم قالوا إن الولاة الظلمة من معاوية وقومه من الأمويين كَفَرة، ويجب أن يقابل كفرهم وظلمهم وجورهم بالخروج عليهم جهارًا.
فهم بهذا على النقيض من الشيعة في أمرين أساسيين:
-
(١)
فبينا يقدس الشيعة عليًا يكفره الخوارج، ويرون عبد الرحمن بن ملجم — قاتله — من خير البرية، ويقول أحدهم وهو عمران بن حطان:
يا ضربةً من منيب ما أرادَ بهاإلا ليَبْلغَ عند العَرْشِ رِضواناَإنّي لأذكرُهُ يومًا فأحسَبُهُأوْفىَ البرَيَّةِ عند الله مِيزَاناَ -
(٢)
وبينما يعد الشيعة من أصولهم التقية، يعد الخوارج من أصولهم الخروج على السلطان الجائر في غير مواربة، ومن غير نظر إلى قوة الخارج وقوة الإمام.
وهم يخالفون المرجئة لأن الخوارج تؤلف جبهة معارضة وتقاتل الأمويين والعباسيين، والمرجئة يكونون جماعة حياد ومسالمة.
وهم أشد من المعتزلة، إذ يعدون مرتكب الكبيرة كافرًا، على حين أن المعتزلة تعده لا كافرًا ولا مؤمنًا، وهم أشد من المعتزلة أيضًا في تمسكهم بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غير هوادة ولا حسبان قوة وضعف.
هذه هي الأصول التي أجمعت عليها الخوارج، وإن كانوا قد تفرقوا نحو عشرين فرقة تختلف فيما بينها في الفروع لا في الأصول؛ مثال ذلك أن الأزارقة والصفرية تتفق في أن أصحاب الذنوب مشركون، ولكن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، والأزارقة يرون ذلك؛ ومثل أن الأزارقة استحلت أموال مخالفيهم بكل حال؛ والعجاردة لا يرون أموال مخالفهم فيئًا إلا بعد قتل صاحبه؛ ومنهم من يرى أن القتال لا يكون إلا مع إمام منهم، ومنهم من لا يرى اشتراط ذلك، وهكذا من التفاصيل والمسائل الجزئية.
وألمع فكرة لهم رأيهم في الخلافة، وأنه إن كان لابد منها فأصلح الناس لها أحق بها، قرشيًا كان أو غير قرشي، عربيًا أو غير عربي؛ فليس عندهم فكرة أن الخليفة معين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول الشيعة، ولا هناك نظام الوراثة وتفويض الخليفة الأمر لمن يليه كما كان الشأن في عهد الأمويين والعباسيين.
ثم إذا انتخب الخليفة وتمت البيعة له، وسار سيرة لا تتفق ومصلحة المسلمين بأن جار و ظلم وجب عزله، فإن اعتزل وإلا قوتل حتى يقتل.
لقد كان أكثر من اعتنق المذهب الخارجي في أول الأمر عربًا سكنوا البصرة والكوفة بعد فتوح عمر، وكانت تغلب على أكثرهم البداوة، وكأن كثير منهم من بني تميم، ثم رأينا أن بعض الموالي دخل في عقيدتهم؛ ولعل السبب في دخولهم أنهم اشتركوا مع الخوارج في بعض الأمويين واعتقادهم بعدم صلاحيتهم ووجوب الخروج عليهم حتى تزول دولتهم.
ومع دخول بعض الموالي كان المذهب الخارجي مصبوغًا إلى درجة كبيرة بالصبغة البدوية في محاسنها ومساويها، فهم كثيرو الخلاف على الرؤساء، كثيرو التفرق شيعًا وأحزابًا، محدودو النظر، ضيقوا الفكر في نظرهم إلى مخالفيهم؛ وهم مع ذلك شجعان إلى أقصى حدود الشجاعة، صرحاء في أقوالهم وأعمالهم، أسهل شيء عليهم أن يبيعوا نفوسهم لعقيدتهم، يهزأون بما يقول الشيعة من تقية، ويحتقرون من باعوا آراءهم وضمائرهم للخلفاء الأمويين طمعًا في المال والجاه، ثم هم لغلبة بداوتهم أبعد عن التطور الديني والعلمي والاجتماعي؛ فدينهم تغلب عليه البساطة الأولى؛ وهم فيما عدا شذوذهم في بعض عقائدهم يمثلون الإسلام الأول على فطرته قبل أن تدخل فيه تعاليم من الأمم الأخرى، والديانات الأخرى، والتقاليد والنزعات من أهل الملل والنحل التي دخلت في الإسلام بعد. وظل إيمانهم إيمان قلب لا إيمان علم؛ وظلت حياتهم الاجتماعية — في معيشتهم، ونظرتهم للحياة، وحروبهم، ونحو ذلك — حياة بسيطة بدوية لم تتغير كثيرًا بتغير الزمان؛ فهم يذكروننا بالوهابيين الآن في بساطتهم وإن اختلفت تعاليمهم.
من أجل ذلك لم يكن ينتظر منهم أن يبحثوا في صفات الله، هل هي عين الذات أو غيرها، وأن الله يرى بالأبصار أو لا يرى، كما فعل المعتزلة؛ لأنها نظرات فلسفية أبعد ما تكون عن طبيعة البداوة، ولا ينتظر منهم أن يقدسوا أئمتهم كما تفعل الشيعة، لأنهم إنما كانوا ينظرون إلى إمامهم كما كان ينظر العرب الأولون إلى شيخ القبيلة.
نعم تروي هذه الكتب عن بعض الفرق الخوارج أنهم بحثوا في القَدَر خيره وشره، وإثبات الفعل للعبد، وإثبات الاستطاعة قبل الفعل ونحو ذلك، ولكن هذه المباحث لم تكن من نفسها، وإنما استعارتها من المعتزلة.
ويقتل عبد الرحمن بن ملجم عليّ بن أبي طالب، ثم يظل يقرأ القرآن ويرى أنه تقرب بعمله إلى الله، فإذا أريد قطع لسانه جزع، ويقال له: لم تجزع؟ فيقول: أكره أن أكون في الدنيا مواتًا لا أذكر الله! إلخ إلخ.
ثم إن المذاهب الأخرى التي تفلسفت كالاعتزال والتشيع إنما استمدت فلسفتها العميقة من العصر العباسي، فقد كان جوه جوًا تشيع فيه الفلسفة من قصور الخلفاء، ومن اليهود والنصارى، ومن الفرس، ومن الكتب المترجمة، ومن الأطباء، ومن الجدل والمناظرة؛ فكانت كل فرقة تأخذ منه بقدر استعدادها، وبالقدر الذي يتفق وأصولها. وقد جاءت الدولة العباسية والخوارج في أخريات أيامهم، فقد أنهكوا الدولة الأموية وأنهكتهم، ونالوا منها ونالت منهم؛ حتى إذا أعقبهم العباسيون كان الخوارج في حالة تشبه الاحتضار. وحركاتهم التي أتوا بها في العهد العباسي تشبه حركة المذبوح، فلم يتح — من أجل هذا — للمذهب الخارجي فرصة أن يتفلسف.
نعم! كان من بين علماء العصر العباسي من اعتنق مذهب الخوارج، كأبي عبيدة مَعمَر بن المُثنّى، قال ابن خِلِّكان: «إنه كان يرى رأي الخوارج»، وقال: «كان يميل إلى مذهب الخوارج»، وقال أبو حاتم السجستاني: كان أبو عبيدة يكرمني على أنني من خوارج سجستان، وقال الثوري: «دخلت المسجد على أبي عبيدة وهو ينكت الأرض جالسًا وحده، وقال من القائل:
وقد ألف فيما ألفه كتابًا في «خوارج البحرين» — ولكن أبا عبيدة لم يكن فيلسوفًا ولا من أهل الكلام حتى يستطيع أن يفلسف المذهب الخارجي. وإنما كان عالمًا واسع الاطلاع في الغريب وأيام العرب — ثم كان إن صح أنه خارجي يكتم مذهبه، كما تدل عليه الحكاية السابقة، فهو يتمذهب بالمذهب الخارجي لنفسه، ومع ذلك يخالفه في الصميم منه، فهو يتقي الجهر به؛ ومن أصول الخوارج عدم التقية، ثم هو أكره للعرب وأميل إلى الشعوبية، ومتصل بالخلفاء والأمراء ومتملقهم، فهو ليس خارجيًا إن كان إلا في بعض عقائدها كالطعن على الخلفاء، وكثرة التكفير للمخالفين على أن يكون ذلك سرًا مكتومًا.
وكذلك الهيثم بن عدي، قال فيه ابن خِلِّكان: «إنه كان يرى رأي الخوارج»، وألف فيهم كتابًا اسمه «كتاب الخوارج»، ولكنه كان كأبي عبيدة إخباريًا لا فيلسوفًا، وكان متصلًا بالمنصور والمهدي والهادي والرشيد، ولو كان من الخوارج حقًا لخرج خروجهم.
من أجل هذا لم يرو لنا عن الخوارج مذهب مفلسف، ولا فقه واسع منظم ولا نحو ذلك، إلا ما كان من الإباضية أتباع عبد الله بن إباض الخارجي الذي مات في عهده عبد الملك بن مروان؛ فإن هذه الفرقة عاشت وانتشرت في شمالي إفريقية، وفي عمان، وفي حضر موت، وزنجبار، واستمرت إلى يومنا هذا. فكان من الطبيعي أن يكون لهم أصول اعتقادية، وتعاليم فقهية، وكذلك كان فقد تعدل مذهبهم مع الزمان، فلهم أصول كلامية متأثرة إلى حد كبير بمذهب المعتزلة في القول بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الجنة، والله لا يغفر الكبائر، كما لهم كتب فقهية خاصة تخالف أهل السنة في بعض الفروع مثل أنهم لا يرون الزواج يصح إلا فيما بينهم.
•••
فظل نظرهم في العهد العباسي كما كان في العهد الأموي، إلا أن قوتهم في هذا العهد لم تكن كقوتهم في العهد الأموي، لأن الأمويين وولاتهم — ولا سيما المهلب بن أبي صفرة — فتكوا بهم فتكًا ذريعًا، وإن كان انتصار الأمويين أضعف قوتهم هم أيضًا.
ومع هذا فقد حاربوا العباسيين في قوة، وصلابة، وجلد يشبه ذلك الذي كان لهم في العصر الأموي.
وثار الخوارج أيضًا في المغرب (تونس وما حولها) من صفرية وإباضية، فأرسل إليهم المنصور عمر بن حفص من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخل المهلب، فدامت المعارك بينهم طويلًا، وانضم كثير من البربر إلى الخوارج، وكان على رأس الخوارج أبو حاتم الإباضي، وانتهى الأمر بقتل عمر بن حفص واستيلاء أبي حاتم والخوارج على القيروان؛ فأرسل المنصور يزيد بن حاتم بن قبيصة بن أبي صفرة، فتغلب على الخوارج، وقتل أبو حاتم وأتباعه من الخوارج والبربر، وكان عدة من قتل في المعركة نحو ثلاثين ألفًا، وجعل آل المهلب يقتلون الخوارج ويقولون يا لثارات عمر بن حفص؛ ومكث يزيد في إخماد هذه الثورة نحو خمس عشرة سنة؛ وقد قالوا إنه كان بين الخوارج وجنود المنصور من لدن قاتلوا عمر بن حفص إلى أن انقضى أمرهم على يد يزيد بن حاتم نحو من ثلاثمائة وخمس وسبعين وقعة.
وفي عهد المهدي خرج بخراسان جماعة من الخوارج وعلى رأسهم يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرم، منكرًا هو ومن معه على المهدي سيرته التي يسير بها، واجتمع معه خلق كثير، فأرسل إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيباني، فأسر يوسف البرم، وبعث به إلى المهدي ومعه وجوه أصحابه، فقتلهم المهدي وصلبهم، وكان ذلك سنة ١٦٠.
وفي عهد المهدي أيضًا خرج يس التميمي بالموصل، واستولى على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، فبعث إليه المهدي. من هزمه وقتله وعدة من أصحابه، وذلك سنة ١٦٨.
وفي عهد الرشيد خرج الصحصح بالجزيرة وغلب على. ديار ربيعة، فسير الرشيد إليه من قتله سنة ١٧١.
ثم في سنة ١٧٨، كانت ثورة الوليد بن طريف الخارجي بالجزيرة، وقد قال السمعاني في الأنساب: إنه شيباني، وتبعه في ذلك ابن خلكان، وقال ابن الأثير إنه تغلبي. وقد أرسل إليه هارون يزيد بن مزيد الشيباني ابن أخي معن بن زائدة، فكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فقالوا للرشيد: إنما يتجافى يزيد عن الوليد لما بينهما من الرحِم. فعلى كلام السمعاني وابن خلكان تفسير هذا أنهما معًا من شيبان، وفسر ابن الأثير هذه العبارة بأن شيبان وتغلب كلتيهما من وائل، وهذا هو الرحِم. ولعل قول ابن الأثير أصح، فقد قال بعض الشعراء في الوقائع التي بينهما:
وأيًا ما كان، فقد عظم أمر الوليد في الجزيرة، فنازله يزيد بن مزيد، وقال لأصحابه: «إنما هي الخوارج، ولهم حملة فاثبتوا، فإذا أنقضت حملتهم فاحملوا عليهم، فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا»، وكان الوليد يوم خرج يقول:
وقد انكسر جيش الوليد بعد وقائع عنيفة، واتبعه يزيد فقتل الوليد. وأخذ رأسه.
وهكذا كانت ثورات الخوارج في الجزيرة وعمان، وبلاد المغرب، وقد انتصر فيها العباسيون، ولم يلقوا فيها من العنت ما لقي الأمويون، وكانت هذه الهزائم المتوالية للخوارج سببًا في ضعف أمرهم، وقلة شأنهم، فلم يعد لهم من القوة والقتال أثر في التاريخ كبير.
•••
من هذا كله نرى الخارجي قد اجتمعت له العاطفة القوية، والأداة الصالحة للتعبير عنها.
قال عمران بن حِطَّان الخارجي:
ويقول قائلهم:
وهم حتى في غزلهم يمزجون بين الشجاعة والغزل، ويوفقون بين حب الموت وحب الحياة، ويتقربون إلى من يحبون بحسن البلاء في الأعداء، إن شئت فاقرأ قول قطرِي:
إن كان الأدب ظل الحياة الاجتماعية وصورة من صورها، فأدب الخوارج صورة صادقة صحيحة من صور حياتهم. لقد كانوا شجعانًا لا يبالون الموت، حتى أدخلوا الرعب على قلوب خصومهم، فكان معاوية بن قرة يقول: لو جاء «الديلم من ههنا، والحرورِية (أي الخوارج) من ههنا لحاربت الخوارج» أي لأنهم أشد خطرًا؛ وكان العدد القليل من الخوارج يوقع الفزِع والرعب في العدد الكثير من غيرهم.
وقد قال في هذا المعنى عيسى بن فاتك الخارجي لما هزم الخوارج جنود السلطان يوم آسك:
من أجل هذا كان كلامهم كسهامهم، وخطبهم كقلوبهم؛ يصفهم عبيد الله ابن زياد فيقول: «لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع»، ويروي المبرد «أن عبد الملك بن مروان أتى برجل منهم، فبحثه فرأى منه ما شاء فهمًا وعلمًا، ثم بحثه فرأى منه ما شاء أربًا ودهيًا، فرغب فيه واستدعاه للخروج عن مذهبه، فرآه مستبصرًا محقِّقًا، فزاده في الاستدعاء، فقال له: فُتغِنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت، فاسمع أقلْ. قال له: قل. فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له من مذهبهم بلسان طِلق، وألفاظ بينة، ومعان قريبة. فقال عبد الملك: لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة خُلقَت لهم وأني أوْلَى بالجهاد منهم».
•••
لقد كانت ثقافة الخوارج — بحكم غلبة البداوة عليهم — ثقافة عربية خالصة، لا أثر فيها لفلسفة اليونان، كما هو الشأن في ثقافة المعتزلة؛ ولا أثر فيها لثقافة الفرس كما هو الشأن في الشيعة. ثقّف الخوارج ثقافة أدبية لغوية على نمط العرب في ثقافتهم، وثقافة إسلامية على النمط المعهود في عصرهم، من تفهم للكتاب والسنة في سهولة ويسر؛ فإن جادلوا في الدين فاحتجاج بظواهر النصوص وتمسك بحرفيتها، فكان على أدبهم هذا الطالع.
لذلك كان مظهر أدبهم من جنس أدب العرب، لا كُتب تؤّلف، ولا بحوث تصنّف، ولا موضوع يحلَّل، ولكنه شِعر كثير وخُطَب كثيرة؛ وحِكم منثورة. وقد أنتجوا في هذا إنتاجًا ضاع كثيره وبقي قليله، ولو لم يحفظ لنا المبرد في كتابه الكامل طائفة صالحة منه لعمي علينا أمره. وقد دلنا هذا القليل المروي على الكثير الضائع، كما لم يبق في أيدينا — على ما أعلم — من دواوينهم إلا ديوان الطِّرماح الشاعر الخارجي.
وأكثر ما روي لنا من شعرهم وخطبهم وحكمهم ونوادرهم كان في العصر الأموي. أما ما روي لنا في العصر العباسي فقليل؛ وربما كان السبب أن أمرهم ضعف في العصر العباسي فضعف أدبهم تبعًا لذلك، أو أن مدوني الأدب في العصر العباسي أباحت لهم السياسة أن يرووا الأدب الخارجي الأموي؛ لأن هذا الأدب خصم للدولة الأموية، وخصومتها حلال في نظرهم من جميع الوجوه، أما خصومة الخوارج للعباسيين فمبغضة مكروهة. فإن اعترضت بأن الشعر الشيعي قد روي وحفظ في العصر العباسي، وهو خصم كخصومة الخوارج، قلنا إن الشيعة لم يضعف أمرهم في العصر العباسي ضعف أمر الخوارج، وظل منهم قوم ذوو جاه يعطفون على آثار الشيعة، فإن لم يستطيعوا حفظه جهرًا حفظوه سرًا، فإذا قوي أمرهم أظهروه. أما الخوارج فلم يبق لهم في المدن من يعني بأمرهم كثيرًا. ثم إن الأدب الخارجي أدب لساني لا أدب مكتوب، فكان يتطلب لحفظه أن يذهب رواة الأدب كالأصمعي إليهم ليأخذوه عنهم، وأكثر هؤلاء الرواة كانوا صنائع للدولة العباسية يتقربون إليهم برواية ما يرضيهم.
على كل حال ليس من شأننا في هذا الجزء أن نقف طويلًا عند الأدب الخارجي الأموي، فإن نظرنا إلى الأدب الخارجي العباسي رأينا كثيرًا منه أدبًا إباضيًا؛ وقد حفظت مكاتب الإباضية في المغرب وعمان بعض آثارهم التي ترجع إلى العصر العباسي الأول، وإن لم نقف عليها. وربما كان ألمع شيء في الأدب العباسي ما قيل في حادثة الوليد بن طريف التي ذكرناها قبل؛ فقد حاربه يزيد ابن مزيد الشيباني، وكان مسلم بن الوليد (صريع الغواني) متصلًا به، فنوه بحروبه للخوارج في شعره؛ من قصيدته المشهورة التي مطلعها:
وقد أطال فيها وصف حروبه مع الخوارج ثم قال:
إلى آخر القصيدة، وقد عددنا هذا أدبًا خارجيًا لأنه يتصل بحوادث الخوارج ويلقي ضوءًا على حروبهم.
ولما مات الوليد بن طريف وقفت منه أخته الفارعة الخارجية موقف الخنساء من أخويها، ورثته بجملة قصائد، منها قصيدتها المشهورة:
ومنها قصيدتها:
إلخ …