الموقف الإستطيقي
(١) الموقف … وإدراك العالم
إنَّ الأغراض التي نُضمرها لحظة الإدراك هي التي تتحكم في تحديد ما نختاره لكي نَنتبه إليه، فأفعالنا هي دائمًا غرضية تتَّجه نحو هدفٍ ما؛ ولذا فإنه عندما تكون للأفراد أغراضٌ مختلفة فإنهم يُدركون العالم على أنحاء مختلفة، بحيث يُقرُّ أحدهم أمورًا معينة يتجاهلها غيره أو يُنكرها، ذلك أن الاهتمام أو الموقف هو الذي يُرشِد الانتباه في اتجاهات ذات صلة، ويهيئ الكائن إلى أن يسلك بطريقة فعالة، ويحجب في الوقت نفسه تلك المنبهات التي لا تتَّصل بغرضه وربما تُشتِّت جهوده وتبددها، فالطالب الذي يستغرق في حل مسألة رياضية، على سبيل المثال، يولي كل اهتمامه إلى العناصر المتصلة بهذه المسألة، ويصرف انتباهه بشكل حاسم عن كل منبِّهات البيئة ولا يكاد يُدرك منها شيئًا، بل إن الموقف الفكري والأيديولوجي لَيتحكَّم في طريقة الإصغاء إلى الأشياء وهيئتها المُدرَكة، ويَشحن الانتباهَ في اتجاهات معيَّنة ويَصرِفه عن المُضيِّ في اتجاهات أخرى.
(٢) الموقف العملي والاقتصاد الإدراكي
مساوئ الموقف العملي
يرى السوقة أن الفنان رجلٌ ذاهلٌ جدًّا، لأنه مُتيقِّظٌ جدًّا لما نحن ذاهلون عنه، إننا نَبتذل الوجود ونُسطِّحه، ونُشيح عنه كأننا سنزوره ألف مرة، فلا نَنظر الأشياء ذاتها بل نقرأ بطاقاتها، ونرى إليها بعين الغرض فلا نرى غير تصنيفاتها التي أعدَّتها لنا سلفًا ثقافتنا المحلية، إننا نَنظرها باللغة، واللغة تطمس الفروق وتَسرق «فردية» الأشياء وتُحيلها إلى فئاتٍ عامَّة وأنماطٍ كلية، يَنصِب «اللفظُ» وجهه بيننا وبين «الشيء» فيَحجُبه عنا، فلا نرى منه غير الاسم والغرض (وإلا لكنا جميعًا رسامين ومثَّالين).
ولا تكتفي الألفاظ بأن تقف حائلًا بيننا وبين الأشياء، بل تقف أيضًا حائلًا بيننا وبين أنفسنا! إن مشاعرنا وانفعالاتنا الذاتية لتُفلت هي أيضًا من قبضتنا، فنحن لا نعرفها على وجه التحديد — لا نلمس تعاريجها الدقيقة ولا نسبر أعماقها الغائرة ولا نتبيَّن قسماتها الفردية وملامحها الشخصية، ولا نُدرك منها إلا جانبها التقريبي غير الشخصي ووجهَها العام الشائع الذي تسنَّى للغة أن تَلتقِطه وتُسجله (وإلا لكنا جميعًا شعراء وروائيِّين وموسيقيين).