مدخل إلى الحكمة البابلية
بيد أنَّ الطريق إلى قراءة النص مليء بالحفر والعثرات، ولا نريد أن نُكرِّر ما قلناه عن مشكلات قراءة النص ومحاولات تحليله وتفسيره وإعادة بنائه واستحضاره كما تثيرها اليوم كتابات البنيويين وأصحاب فلسفة التأويل «الهيرمينوطيقيين»؛ فغاية ما نريده هو تعرُّف العالم العقلي الذي نشأت فيه هذه النصوص القديمة، وقراءتها كما قلتُ بأكبر قدرٍ ممكن من التفهُّم والتعاطف لمعايشة التجارب الأصلية، والظروف والأحوال الاجتماعية والنفسية التي دفعت أصحابها إلى تدوين شكاواهم ومرثياتهم لأنفسهم ولقيم عصرهم، ومحاولة تحسُّس الجذور الدفينة للظلم والاضطهاد والتسلط التي تدور حولها هذه النصوص بمختلف الصور والأشكال والأساليب.
هل يمكننا مع هذه المعلومات والوثائق القليلة من أدب السومريين أن نتمثَّل تفكيرهم أو نُعيد بناءه كما يقال اليوم كثيرًا؟ إن أغلب الباحثين يَشكُّون في هذا ويَعدُّون المحاولة سابقة لأوانها، خصوصًا إذا عرفنا أن اللغة السومرية — على الرغم من التقدم الكبير في دراستها في نصف القرن الأخير — لا تزال كما قدَّمنا في التمهيد تواجه الباحثين بمشكلاتٍ عويصة لا يُستهان بها، ويكفينا في هذا المدخل إلى نصوص الحكمة المنشورة في هذا الكتاب؛ أن نلاحظ أوجه التشابه أو الاختلاف بين تفكير السومريين وتفكير البابليين ابتداءً من الألف الأول قبل الميلاد حتى زوال دولتهم واختفائهم بصورة نهائية. ولا بد أن نؤكد الآن أن الفروق بين وجهتي النظر إلى الحياة والعالم لا ترجع لأسبابٍ عرقية مضللة، وإنما تعود في المقام الأول إلى عوامل التغير والتطور الثقافي في وادي الرافدين، بحيث يصعب تحديد دور العناصر والموجات السامية الوافدة في تشكيل الفكر البابلي، كما يصعب وضع حواجزَ فاصلةٍ بين الثقافتين السومرية والبابلية اللتين ثبت تداخلهما وتأثيرهما المتبادل منذ أقدم عصورهما. وعلينا الآن أن نُقدِّم صورةً إجمالية عن هذا التطور العام، راجين أن تساعد — على الرغم من اختصارها الشديد وتبسيطها المُخلِّ — على إبراز الملامح الرئيسية للحكمة البابلية كما تعكسها النصوص المقدَّمة.
هكذا كانت الآلهة وكان دورها في تسيير شئون الكون، لكن هذه الصورة لم تلبث أن تغيَّرت في الفترة الواقعة بين الألف الثاني والألف الأول قبل الميلاد، فقد اتخذت الآلهة ملامحَ إنسانيةً واضحة، وبدأت تمد بعضها لبعض يد العون أو تتصارع بأسلحة الحيلة والمكر التي برع فيها البشر، وبذلك أسقط الإنسان تصوراته وقيمه وقوانينه الأخلاقية على الكون في مجموعه. ويتجلَّى هذا التغيُّر في الأدب الملحمي؛ ففي ملحمة الفردوس أو الجنة (وهي ديلمون بالسومرية) نجد «أنكي» إله المياه العميقة يتزوج من الإلهة ننخر ساك (الأرض-الأم) ويسقي تربة ديلمون من مائه، فتتحول إلى جنةٍ خضراءَ مزدهرة بالحقول والأشجار والأثمار، وتولد له ابنة على هيئة إلهة من إلهات النبات، وتروق له الابنة فيُغويها ويتزوجها، وتولد له حفيدة على صورة إلهةٍ أخرى من إلهات النبات، ويُكرِّر أنكي فعلته؛ فتُحذِّر ننخر ساك الجيل الرابع، وتشترط كل عروسٍ جديدة أن يُقدِّم لها هدايا الزفاف نباتات وفواكهَ معينةً لا يتردد الإله النهِم عن تقديمها؛ ليقطف من كل ثمرة ويتذوَّقها جميعًا! وتغضب ننخر ساك وتصب لعنتها عليه: «إلى أن يوافيك الموت، لن أنظر إليك بعين الحياة.» ويشتدُّ المرض عليه وتهاجمه ثماني علل بعدد النباتات التي أكلها، ويأخذ في الذبول والانهيار. وتنزعج الآلهة لما أصابه؛ إذ إن اللعنة على أنكي تعني شُحَّ المياه وغوصها إلى باطن الأرض … ويحار مجمع الإلهة كيف يعالج الأمر، وأخيرًا يتطوع الثعلب للبحث عن ننخر ساك حتى يجدها، ويتمكَّن الإلهة من إقناعها بشفاء «أنكي» من مرضه عن طريق خلق ثمانية آلهة يختص كل إله منهم بشفاء أحد أعضائه العليلة:
ونظرةٌ واحدة إلى الملاحم البابلية تُبيِّن فضل السومريين الذين سبقوا بالريادة والإلهام. والمثل الواضح على هذا هو أسطورة هبوط عشتار إلى العالم السفلي التي لا تعدو أن تكون صياغة بابليةً حرة، أو كما تقول اليوم إعادة كتابة، لأسطورة هبوط أنانا السومرية. وكم صاغت العبقرية البابلية من الأصول السومرية نسيجًا مطبوعًا بالأصالة والعمق! ولا شك أن ملحمة جلجاميش خلقٌ بابليٌّ فريد لا يُقلِّل من قدره أنه يعتمد على أسطورة البطل السومري ملك أوروك «الوركاء»، والمهم في هذا الصدد أن الآلهة البابلية قد اكتست رداء المهابة والجلال، كما ظهرت لديها النوازع الأخلاقية التي تُميِّز الخير من الشر والمباح من غير المباح، فإله الدمار والهلاك والأوبئة «إيرا» لا يقدم على خطته بإهلاك البشر — كما سبق القول — قبل إقناع مردوخ وبقية الآلهة بضرورتها، و«عشتار» إلهة الحب والخصب والموت، التي أهانها جلجاميش عندما صدَّ عن حبها، تُصمِّم على نزول الثور السماوي إلى الأرض لينتقم لها، ولكنها تلجأ قبل ذلك إلى أبيها إله السماء «أنو» وتشكو إليه همها فيرقُّ لها فؤاده، ولا يأذن لها بالانتقام حتى يطمئن إلى أن الثور الغضوب لن يُهلِك الجنس البشري جوعًا (اللوح السادس من الملحمة). وتتعهد عشتار لأبيها بذلك فيأذن لها بإرسال الثور الرهيب الذي يتصدَّى له جلجاميش مع صديقه «أنكيدو» …
ويطول بنا الحديث لو تتبَّعنا الملاحم البابلية التي تدور حول الصراع الذي نشب بين الآلهة حتى تم القضاء على الأشقياء والمفسدين منهم. فأسطورة «زو» تروي عن هذا الشيطان الفظيع المستهتر الذي سرق لوح القدر أو لوح المصير من الآلهة وهدد الكون بالفوضى والعماء، وملحمة التكوين أو الخلق الشهيرة (وهي المعروفة بكلماتها الافتتاحية في اللوح الأول منها «إينوما إيليش» أي عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض) تُصوِّر آلهة البدء الثلاثة التي كانت تعيش في حالةٍ سرمدية من السكون والصمت (وهو إبسر إله الماء العذب، وتعامة: «تامت» إلهة الماء المالح، وممو إله الضباب المنتشر فوق المياه) حتى بدأ نسلهم من شباب الآلهة في إزعاجهم وسرقة النوم من عيونهم … ويخطط القدامى لسحق النسل الطائش المتوثِّب بالحيوية والنشاط والضوضاء … ويخاف شباب الآلهة فلا ينقذهم منهم في المرة الأولى سوى الإله آيا (أو أنكي) إله المياه العذبة وإله الحكمة، وفي المرة الثانية ابنة مردوخ الذي يختاره مجمع الآلهة للقاء جيش «تامت» المخيف، ويتمكَّن مردوخ من أسرها في شبكته وذبحها وشقِّ جسدها نصفَين يرفع أحدهما فيصير سماء، ويسوِّي الثاني فيجعل منه الأرض، ويعيد تنظيم الكون وإخراجه من حالة «الهيولية» الأولى إلى حالة النظام والحركة والحضارة، واللافت في هذا الصراع أن الآلهة يجتمعون كأنهم لجنة من المواطنين الصالحين لينتخبوا مردوخ لقيادة المعركة، ثم يجتمعون مرةً أخرى للاحتفال بانتصاره وتتويجه سيدًا على الكون الذي أعاد خلقه وتنظيمه.
وأخيرًا يتجلَّى تغير صورة الآلهة في نظرة البابلي خلال الألف الثاني قبل الميلاد إلى الآلهة الخاصة والشياطين الشريرة التي كان في العصور السابقة لا يأمن على نفسه من أذاها؛ فقد صار يعتقد أن إلهه الخاص الذي يرعى بيته وأسرته يمكنه أن يحميه من شر هذه الشياطين في مقابل تقديم خدماته وأضحيته له. لقد كان أصل البلاء الذي حل بالمعذب البار أو «أيوب» البابلي هو أن إلهه الخاص قد نبذه وتخلَّى عنه، وأن روحه أو ملاكه الحارس قد أخذ يبحث عن غيره (انظر السطور الأولى من اللوح الأول من «لدلول» أو لأمتدحن رب الحكمة) وتنهال عليه المصائب والآلام والأسقام من كل نوع، ويقاسي الأمرَّين من غدر الصديق والعدو، حتى يرى في الحلم رسل مردوخ الذين يحملون إليه بشائر الإنقاذ والشفاء والتوبة عليه، ومع أن هذا الإله الخاص أو الشخصي كان بالضرورة إلهًا صغيرًا، فقد كان في استطاعته أن يحمل مظلمة صاحبه إلى الآلهة الكبرى، وأن يتشفَّع له عندهم ويسألهم الرضا عنه والرأفة به؛ ولهذا يختم المعذب (في اللوح الأخير من النص الآخر وهو الحوار بين المعذَّب والصديق) شكواه الطويلة بهذه الضراعة:
وقبل الحديث عن الأدب البابلي الكلاسيكي لا بد من وقفةٍ قصيرة عند فترة الانتقال التي انتهت بتأسيس الدولة «أو السلالة» البابلية الأولى ومدِّ سيطرتها على جنوب وادي النهرين بأكمله، وهي الفترة التي عصفت فيها الاضطرابات السياسية واستمرت من حوالي سنة ١٩٠٠ إلى سنة ١٧٠٠ قبل الميلاد.
كان شعب السومريين قد اختفى على وجه التقريب، بعد أن خلَّف وراءه تراثًا ثقافيًّا عظيمًا، وكانت حياة الفكر والمفكرين يتوزعها تياران أحدهما محافظ والآخر متطلع للتغيير، أما التيار الأول فكان ممثلوه مستقرِّين في أحياء الكُتَّاب أو الكتبة والنُّسَّاخ في المراكز السومرية القديمة، ومن أهمها مدينة نيبور (نفر) التي عاش فيها معظم مثقفي العصر وعلمائه، ويبدو أنهم كانوا يحتكرون العلم والتعليم مع التلاميذ الذين تلقَّوا تدريبهم في «الأدوبا» (أو بيوت تعليم الكتابة على الألواح الطينية وتلقين المعارف المتاحة في مختلف فروع «العلم» والعمل) وأصبحت الثقافة وقفًا عليهم. ونحن لا نعلم شيئًا عن علاقة هؤلاء الكتبة بالمعابد، ولا ندري إن كانوا قد تولَّوا مناصب الكهنة. والمهم أنهم كانوا حرَّاس التراث السومري، وأن فترة حكم سلالة أور الثالثة (من حوالي ٢١١٢–٢٠٠٤ق.م.) والعصر المعروف بعصر إيزين-لارسا (من حوالي ٢٠١٧–١٧٦٣ق.م.) يشهدان على أنهم لم يكونوا حرَّاس قبور ولا ورثة عظام بالية! فقد عثر على أعمال أدبية يُرجَّح أنها أنشئت في هذه الفترة، كما دونت وروجعت أعمالٌ تقليدية ربما ظلَّت حتى ذلك الحين تراثًا تتناقله الشفاه، حتى أقبل المثقَّفون و«العلماء» السومريون على تسجيلها خوفًا من الضياع أو توقُّعًا لكارثةٍ مجهولة كانت نُذُرها تحوم في الأفق (على نحو ما فعل الكُتَّاب والعلماء الموسوعيون وفقهاء اللغة والدين وحفظه التراث في العصور التي ذبلت فيها قوة الإبداع والتجديد كالعصر السكندري والعصر المملوكي …).
والأدب البابلي القديم أدبٌ كلاسيكي بكل معنى الكلمة؛ ففيه قوة وعمق ونضارة ونضج يندر أن نجدها في مراحله المتأخرة، ويكفي أن يطَّلع القارئ على ملحمتَيه الخالدتَين (وهما ملحمة الخلق أو التكوين — إينوما إليش — وملحمة جلجاميش) أو على بعض الأعمال التي لم يتوخَّ فيها الكاتبون شروط الجمال وبلاغة الأسلوب وشاعرية اللغة: كالتراتيل، والضراعات للآلهة، والمناظرات الأدبية، والنصائح، والأقوال السائرة، والأمثال الشعبية؛ التي تجد نماذجها في هذا الكتاب. ولا بد أن نتوقف هنا لنسأل: إذا كانت معظم روائع هذا الأدب قد نمت من بذورٍ سومرية، وتفرَّعت عن أصول غرسها السومريون، ففيمَ تختلف نظرة المفكِّر البابلي عن النظرة السومرية؟ وإذا كانت قد تعرضت لتغيرات كبيرة، فإلامَ ترجع هذه التغيرات؟
وكيف يُفسَّر بيت الشعر المشهور الذي يبدو أن الألسنة ظلت تتناقله قرونًا طويلة وردَّده الأدباء والكتاب في ألواحٍ كثيرة: لم يولَد طفل بغير إثم (أو بغير خطيئة)؟
إذا كان الإنسان في حضارة وادي الرافدين قد اشتاق إلى العدل وجأر بالشكوى من الظلم، فيبدو أن الموت كان بالنسبة إليه هو الظلم الأكبر، والسبب في هذا بسيط سبق أن ذكرناه، ولا بأس من تكراره: فلم يكن لدى سكان وادي الرافدين — على العكس من المصريين القدماء مثلًا — تصوُّرٌ واضح عن العالم الآخر، ولم يتوقَّعوا جزاءً ولا ثوابًا من رحلتهم المحتومة إلى العالم الأسفل أو «الأرض التي لا رجعة منها»، والأساطير السومرية والبابلية المختلفة عن الهبوط إلى هذا العالم تُصوِّره في صورةٍ بشعةٍ مخيفة. ولعل البابلي أن يكون قد سأل نفسه هذا السؤال الساذج المحزن: إذا كان الآلهة يتمتَّعون بالخلود، فلماذا حُرم البشر منه؟ وأعظم آثار الأدب البابلي القديم، وهي ملحمة جلجاميش، تدور حول هذا السؤال. والمعروف أنها استمدت مادتها الأصلية — كما سبق القول — من قصصٍ سومريةٍ عديدة عن جلجاميش، ثم أضافت إليها ونسجت خيوطها في نسيجٍ رائع يشهد على أصالة العبقرية البابلية. وإحدى هذه القصص السومرية، وهي جلجاميش وبلاد الأحياء، تُصوِّر كيف تعذَّب البطل الإلهي-البشري معًا بفكرة الموت، وكيف تاق إلى بلوغ الشهرة وخلود الذكر عن طريق عملٍ خارق. والأهم من ذلك أن الكاتب السومري القديم الذي أضاف إلى الموضوع الأساسي قصصًا خرافية أخرى مجهولة الأصل قد بثَّ في عمله روح الخوف من الموت؛ فبعد فجيعة جلجاميش في موت صديقه «أنكيدو»، وبعد مغامراتٍ عديدة مع الوحش «حواوا» و«ثور السما»، يضطر البطل إلى الاعتراف بالموت، ويتلقى نصيحة سيدوري صاحبة الحانة أو ساقيتها بمواجهة الحياة والاغتراف من نبع اللحظة الراهنة أو التشبُّث بعرف فرسها الجميلة العابرة ومعرفة قيمتها كما عبرت عن ذلك الأسطورة الإغريقية وأحد الحكماء السبعة (انظر اللوح العاشر من الصياغة البابلية القديمة):
ومن الواضح أن نصيحة صاحبة الحانة لا تنطوي على كلمةٍ واحدة تشير إلى الدين، وإذا جاز القول بأنها تعبر عن «فلسفة» فهي لا تخرج عن الرضا بالواقع وتقبُّل الطبيعة، على نحو ما فعل الشُّكَّاك القدماء عند الإغريق مثل بيرون أو فرون (٣٦٠–٢٧٠ق.م.)، والشكاك المحدثون مثل مونتني (١٥٣٣–١٥٩٢م). ولا بد أن الكاتب القديم كان يكظم في نفسه رغبةً دفينة في تحدِّي الآلهة والتجديف عليها، ظهرت في ذلك العصر في بعض الرسائل التي كتبها البابليون إلى آلهتهم الخاصة وكأن لسان حالهم يقول: إن تحققوا مطالبنا فسوف ننبذكم ونحرمكم من الشعائر والقرابين التي لم نقدمها لكم عبثًا! ثم ظهرت بعد ذلك بصورةٍ أوضح وأشد إيلامًا في مناجاة المعذَّب البار لنفسه وفي حوار المعذِّب المضطهِد مع صديقه «العالم» الحكيم في النصَّين اللذين سيرد الحديث عنهما بشيء من التفصيل. ولسنا ندري شيئًا عن مدى انتشار هذه النغمة المتمرِّدة في ذلك العصر المتأخِّر من عصور التاريخ والحضارة في العراق القديم «إذ إن النصوص الثلاثة التي ستطلع عليها ترجع على أرجح الآراء إلى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد أو أوائل الألف الأول.» ولكن المؤكد أنها كانت نتيجة مترتِّبة على التصوُّر الجديد للعدل الكوني والإلهي، ولهفة الإنسان على استغلاله لصالحه أو فشله في إدراك حقيقته وسوء فهمه له.
كان عهد حمورابي (١٧٩٢–١٧٥٠ق.م.) هو قمة المجد السياسي الذي بلغته الدولة أو السلالة البابلية الأولى، غير أن توحيد المدن القديمة تحت سقف الإمبراطورية القوية قد كان من أهم العوامل التي أدت إلى القضاء على التنوع الثقافي في بلاد الرافدين. والمرجح أن ذلك التطور قد تمَّ بصورةٍ تدريجية لا نعلم تفاصيلها، فعندما انتهت الدولة البابلية الأولى نهاية لا تزال غامضة وبدأ العصر الكشي (من حوالي ١٥٧٠ إلى حوالي ١١٥٧ق.م.) بداية لا تزال كذلك غامضة، وجدنا المدن السومرية القديمة (مثل نيبور (أو نفر)، وأوروك (أو الوركاء كما تسمى اليوم)) تقود زمام الحياة الثقافية بالاشتراك مع مدينة بابل، وأصبحت الثقافة السائدة بابلية، دون أن يمنع هذا من أن تبقى في التراث السومري بقية أو بقايا من حياة؛ فقد واصل الكتبة نسخ النصوص السومرية القديمة، مع إضافة الترجمة البابلية في معظم الأحيان، بل يقال إن عددًا من النصوص السومرية الجديدة قد نشأ في تلك الفترة.
على أن فكرة التقوى — من حيث هي ضمان لصحة الفرد ويُسر أحواله — كانت أكثر تعرضًا للاهتزاز من فكرة العدالة؛ فقد كان ابتلاء الأبرار حدثًا يوميًّا متكررًا — كما هي الحال في زماننا ومجتمعاتنا — وكان عذاب الصالحين واضطهادهم حقيقةً واقعية لا تنكر أو ترد، والنَّصَّان اللذان نقدمهما من أدب الحكمة البابلية يعالجان من زاويتين مختلفتين هذه المشكلة التي حيرت الإنسان في الحضارات المختلفة، لا سيما في العصور التي اشتد فيها الظلم الاجتماعي والاضطراب السياسي والاقتصادي.
لقد كان كاتب المناجاة أو الشكوى الشعرية التي تُعرَف على سبيل الاختصار باسم «لدلول» (أو لأمتدحن رب الحكمة) عبدًا مخلصًا لكبير الآلهة البابلية «مردوخ»؛ ولذلك ظل سؤاله الأساسي طوال القصيدة هو كيف يسمح مردوخ بأن يحدث له ما حدث؟ إنه لا يهتم كثيرًا بالقوى والأشخاص الذين تسببوا في محنته (كالآلهة الخاصة، والشياطين، و«المعذبين» في الأرض — بكسر الذال وتشديدها — من الملك وأعوانه إلى الخدم والعبيد) وكان لا ذنب لهم ولا مسئولية تقع على أكتافهم فيما أصابه. أما المعذب (بفتح الذال) في حواره مع صديقه الحكيم فيتحدث بالتفصيل عن المسئولين عن اضطهاده، بحيث يُعدُّ النص وثيقة أدبية وتاريخية بالغة الدلالة على الظلم الاجتماعي في الفترة التي كُتب فيها.
إن النصين المذكورين — بجانب نصوصٍ أخرى يرجع تاريخ تأليفها أو انتشارها للعصر الكشي — يقدمان الإجابة عن الأسئلة العقلية والمشكلات الفكرية التي أرَّقت ضمير الإنسان في ذلك العصر البائس، خصوصًا بعد أن احتدم في نفسه الصراع بين إحساسه بأنه يعاقَب على ذنب لا يستحقه، وبين اعتقاده التقليدي الذي لم تزعزعه الأحداث بأن حكم الآلهة للكون حكمٌ عادل، وأن حكمتهم خافية ومتعالية على عقول البشر، ولو أمعنَّا النظر في «لدلول» لأخذتنا الشفقة على المؤلف المجهول الذي يُضني نفسه بمحاولة الإجابة عن الأسئلة التي أثارها، ولشعرنا نحوه بالإعجاب لأنه قد تجرَّأ على تجاوز الرأي الشائع بأن الإنسان لا يمكنه أن يتعلم الخير والشر والصواب والخطأ إلا إذا كشفت له الآلهة عنهما. فهو يؤكد أن الإنسان لن يستطيع أن يميز الخير من الشر؛ لأن الآلهة بعيدة أو مفارقة، ولا بد أن يكون التفسير «المنطقي» الذي اعتمد عليه ضمنًا هو أن المعايير الأخلاقية بالنسبة للآلهة على العكس تمامًا مما هي بالنسبة للبشر، ويكفي أن نقرأ معًا هذه السطور الدالة من اللوح الثاني للقصيدة (من ٣٤ إلى ٣٨):
وقد وردت مثل هذه الإجابة «الحكيمة» التي تدل على يأس البابلي المقهور، أو على تسليمه واستسلامه، في ضراعة تقول بعض سطورها مع شيء من التصرف:
ومع ذلك كله يبدو من قراءة نص «لدلول» أن كاتبه يُقدِّم هذه الإجابة التقليدية الحكيمة بغير تحمُّس، وأنه يكاد أن ينفض يديه ويدير ظهره للإشكال كله وينصرف بائسًا من التوصل إلى إجابةٍ نهائية أو حلٍّ شافٍ. وإذا كنا نجد في ختام القصيدة ما يشبه الحل أو الإجابة، فقد جاءا في اتجاه لم يقصده الكاتب: إن الزمن قد شفى الآلام وأبرأ العلل، وشمل الإلهُ عبده في النهاية برحمته. ولعل الردَّ الضمني على السؤال الأزلي أن يكون في تقديره هو هذا: أن عذاب الصالحين مؤقت، وهو ردٌّ شبيه بما قاله كاتب «المزامير في التوراة» من أن مجد الأشرار ونعمتهم موقتة: «هو ذا هؤلاء هم الأشرار ومستريحين إلى الدهر يكثرون ثروة. (… …) حتى دخلت مقدس الله وانتبهت إلى آخرتهم، حقًّا في مزالق جعلتهم، أسقطتهم إلى البوار، كيف صاروا للخراب بغتة، اضمحلُّوا، فنوا من الدواهي، كحلم عند التيقُّظ، يا رب غد التيقظ تحتقر خيالهم.»
أما عن الصديق الحكيم في حواره السابق الذكر فهو لا يملُّ القول لصديقه المنكوب بأن التقوى تجلب الخير والصحة والرخاء، وهو على العكس من أصحاب أيوب التورائي يرفض اتهام صديقه بأنه لا بد أن يكون قد اقترف جريمةً خفية (وإن كانت كل الدلائل تؤكد أنه قد أقدم على ارتكاب خطأٍ كبير أو إثمٍ منكر!) فالواقع أن المتحاورَين يحافظان حتى النهاية على الاحترام المتبادَل بينهما، كما أن الحوار ينتهي نهايةً مفتوحة، وكأنما يترك الفرصة للمعذَّب لكي يراجع ثورته العارمة، ويتبصَّر بعدالة الآلهة البعيدة من ناحية، وبقصور إدراكه لحكمته الخافية من ناحيةٍ أخرى. بيد أن الإيمان العريق بهذه الحكمة كان يستند من الوجهة المنطقية على رأيٍ أقدمَ من الذنب والخطيئة، يرجع لشكوى معذَّب من سلالة أور السومرية الثالثة من أنه لا يعرف ما هي الجريمة التي عوقِب بسببها، أضف إلى هذا أن الضراعات والتراتيل الدينية منذ العصر السومري كانت تؤكد هذه الحكمة الخافية للآلهة البعيدة. ويبدو أن رجال الدين في العصر الكشي قد كوَّنوا من كل هذا عقيدةً تذهب إلى أن الإنسان لا يملك البصيرة التي تساعده على إدراك معنى الذنب والخطيئة، وأن الآلهة وحدهم هم القادرون على كشف الغطاء عن بصره؛ لذلك شاعت الخطايا الناجمة عن الجهل، وساد الاعتقاد بأن الإنسان الذي لا يعرف ذنبه أو لا يعي أنه مُذنِب يمكن مع ذلك أن يقف موقف المتهم أمام الآلهة ويتألَّم ويتعذَّب. ولعل السطور التالية المقتطفة من نصوص متفرقة — يُرجَّح أن تكون مقطوعات من ضراعة لمردوخ — لعلها أن تلقي شيئًا من الضوء على هذا «المذهب» عن الذنب والخطيئة:
وأخيرًا فإن المشكلة التي صوَّرها مؤلف هذا النص المُحيِّر أعمق بكثير من الإجابة التي قدَّمها الصديق الحكيم الملتزم بظاهر النص الديني وحرفيته. فالمشكلة القديمة المتجددة أبدًا هي هذه: لماذا يعمد بعض الناس إلى اضطهاد غيرهم من الناس؟ واللافت للنظر أن المعذَّب المضطهد في هذا الحوار يصر على ثورته اليائسة، رافضًا الفكرة التي تقول: إنَّ الإله الخاص أو الشخصي يمكن أن يقدِّم له الحماية والأمان. والأخطر من هذا أن المعذَّب وصديقه الحكيم يتفقان في الرأي على أن الآلهة قد جبلت طبيعة البشر على الكذب والظلم، ولا شك أن هذه هي أغرب الأفكار التي انحدرت إلينا من حضارة وادي الرافدين وأشدها جسارة وتمردًا. والذي يجعلها كذلك هو أنها تنفي الفرض القائم على الطاعة المطلقة والتسليم التام بعدالة الحكم الإلهي للكون. ولقد انقطع النص عندما وصل إلى هذه الفكرة، ولا بد أن المؤلف — أو المؤلفين المجهولين — قد فزعوا من النتائج المخيفة المترتِّبة عليها، وأحسُّوا أنهم أضعف من مواجهة السلطة الدينية والإلزام الاجتماعي.
بقى أن نقول: إنَّ هذا العمق النادر في التفكير، والدقة الغريبة في البحث، والشجاعة والحرية في التساؤل العقلي واستنباط الأجوبة الممكِنة أثناء العصر الكشي، لم يكن من الممكن أن تتم بغير ذلك الجو الكئيب الذي وجد المثقف فيه نفسه في حالٍ مختلفة كل الاختلاف عن حال أجداده الذين عاشوا في ظل الدولة البابلية القديمة؛ في جو آخر صوَّرته صاحبة الحانة في جلجاميش — على نحو ما رأينا — في هذه النصيحة العدمية الحكيمة والمُريبة معًا: عش وتمتع ليل نهارك! ولا شك أن الاكتئاب إلى حد القنوط والاستسلام لم يكن غريبًا على بلد تسلط على أقداره حكامٌ أغراب، ورزح تحت نير الفقر والتخلف والركود. وقد يتصادف أن نجد فيه نصًّا متشائمًا وساخرًا إلى حد «العبثية» أو المحال بالمعنى الحديث، مثل الحوار بين السيد والعبد الذي تجده في هذا الكتاب، لكن هذه السخرية المُرة لا تتعارض — في تقديرنا على الأقل — مع العدمية القائمة التي يُعبِّر عنها النص في مجموعه، كما لا يتنافى مع القدرة على تحدي «موت القيم» في عصور الاحتضار والانهيار، ولا مع التشبث بالأمل والإصرار على العمل المبدع في انتظار الإنقاذ … (ولا ننسَ أن نصَّين من النصوص الثلاثة قد كُتبا على هيئة حوار، والحوار بطبيعته دليلٌ حي على الحرية واحترام الآخر …) ومع ذلك يبدو أن الانطباع العام الذي نخرج به من قراءة هذه النصوص — بعيدًا عن الاجتهادات والتخريجات والتأويلات التي تستوجب الحذر في كل الأحوال، وتقتضي الدقة التامة في توثيق النصوص وتحقيقها — هو الاستسلام والتسليم بالأوضاع البائسة التي قدَّرتها الآلهة على البشر في لحظةٍ حرجة من تاريخهم. ولأن البشر — كما توحي بذلك النصوص — يستحقُّون في النهاية ما يجري لهم بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها في حق الآلهة وفي حق أنفسهم، فإن التسليم بمشيئة الآلهة يقتضي المزيد من الطاعة والخضوع لإرادتهم، والقيام بشعائر العبادة والخدمة لهم، ومعظم النصوص من العصر الكشي يضرب على هذا الوتر الذي تتردد أنغامه في عهود التأزُّم والتردِّي والانكسار، وإن كان يعزف أيضًا — في أحوالٍ نادرة — على وتر التمرد والتحدي، ويصرخ صرخة الغضب والتحذير مما يلمسه على مستوى الفرد والمجتمع من تردد وتخاذل واندحار أو انتحار (نكاد نلمس آثارها في الحوار بين المعذب والصديق عندما يُقرر الأول التخلي عن مسئولياته الاجتماعية، والانطلاق إلى حياة الاغتراب والتشرد والضياع، كما نحسها في حوار السيد المتشائم مع عبده الذي يمكن أن يوحي كما قلت بعدمية القيم — أي فقدان كل القيم قيمتها — وبأن الانتحار بدق العنق أو الغرق هو المخرج الباقي والخلاص الوحيد).