مقدمة المُترجِمة
منهجُه السرديُّ يَمتاز بالتقاطه دقائق الحياة غير المُلفِتة واقتناص الشعريَّة منها عبر الموقف الدراميِّ أو من خلال المونولوج الداخلي الطويل راسمًا صوره التشكيلية في نقلات مُباغتة ومفارقة، وساخرة أحيانًا، ليُكوِّن بنيةً سرديةً تنبع من وتصبُّ غالبًا في أحد الأسئلة الوجودية. يستلهم مفردات تأمُّله من «الشيء» ومدى تأثُّره ﺑ/ وتأثيره على «الإنسان»، انطلاقًا من كون المرء والموجودات في حالٍ دائمة من الجدل والحوار. يُناقشُ القاصُّ أزمةَ الإنسان عبر مواقفَ حياتيةٍ تبدو، ظاهريًّا، بسيطةً وبديهية، بل تكاد تكون يومية عابرةً غير مُلفتةً، سوى أنه يَنجح في اقتناص العمقِ الوجوديِّ منها والمحنة التي تُعانيها شرائح محدَّدة من البشر.
كل الشرائح السابقة تلك، أو لنقلْ كل حالات الإنسان المُتباينة تلك تَلتقي كثيرًا، برأيي، وتتقاطَع؛ إذ إنها مرايا للنفس البشرية في أصفى حالاتها وأكثرها أثيريةً وبُعدًا عن الأرض. إنه الإنسان بكلِّ ما يَحملُ من ضعفٍ وقوَّة، في آنٍ، في مختلف درجات إنصاته للوجود والموجودات تبعًا لفرادته ولأسلوب رؤيته العالم، ووجهة نظره الخاصة عن فكرة الخلق والحياة.
أجاد القاصُّ معالجته تيمة «الفقد». ربما براعتُه تلك بلورتها محنةٌ شخصية مرَّ بها حين فقد شقيقتَه، كما سنَعرف من خلال الحوار معه. حين يفقد الإنسان شريكَه الأهم في الحياة، هل يُحاول أن يستبدل بالمفقود بعضًا منه؟ أشياؤه التي تركها مثلًا؟ قصاصات الورق؟ قلامات الأظافر؟ شعرة من جسده؟ أو حتى بعضًا من بَوله؟! كيف يُمكن أن تشفَّ رُوح الإنسان في وحدته إلى درجة أن يَتوسَّل محبوبه الغائبَ عبر مخلفاته الصغيرة؟!
يجمع أسلوبه اللغوي بين الكلمة الإنجليزية (البريطانية) الرفيعة وبين التعبيرات الدارجة الحديثة. يُجيد القفز بينهما في نقلاتٍ رشيقة، لا نتوءاتٍ حادة تُعرقِل استرسال التلقِّي، وبغير إثقالٍ من أيٍّ منهما على الأخرى. كما يجيد الجمعَ بين الجُملة الطويلة التي تزخر بالجمل الاعتراضية، وبين الجُملة الخاطِفة المباغتة التي تُشبه الومضات أو الطلقات التي تعمل على إنارة النص حينًا، وفي حين آخر تَعمل على تسريب شحنةٍ من الصدمات المُتوالية التي قد تُحوِّل فكر القارئ عن المسار الذي كان قد ركن إليه قبل لحظات.
مثل كثيرين من كتَّاب القصة القصيرة الحديثة، يبدأ ريفنسكروفت نصَّه، أحيانًا، من منتصَف الموضوع، أو ربما من نقطة الذروة، ثم يعمل على «لملمَة» الزمن من الأمام ومن الخلف حتى تَكتمِل قصاصات الصورة المشهدية في آخر سطرٍ ربما.
ويقودنا هذا إلى الكلام عن النهايات؛ فهو أحيانًا — برأيي الخاص — يُثقِل النهاية بإيضاحٍ وشُروح قد تُفسِد جمال ورهافة الوقفة المفاجئة المُبتسرة التي يُجيدها بعض الكتَّاب المرموقين والتي أجادَها هو نفسه في أكثر من قصة في هذه المجموعة. تلك الوقفة التي شأنها أن تدع للقارئ ثغرةً يدخُل منها إلى فضاء التأويل وثراء الدلالة. فلا هي أغلقتِ النصَّ على أُحادية التلقِّي ولا هي عطَّلت القارئَ عن عملِه في إكمال المشهد مع الكاتب عبر معينِه المعرفيِّ الخاص ودرجة نفاذِه إلى النص. فيما النهايات الوافية الشافية المُكتمِلة التي «لا غبار عليها» تُفوِّت على القارئ — برأيي — فرصة المشاركة الإبداعية كما أنها تحرمُه من مُتعة الارتطام بالمفارقة وتؤدي إلى استلابه لذة الصدمة. وفي سؤال لي حول ذلك الأمر أجاب ريفنسكروفت بأنه يودُّ أن يُخاطب أكبر شريحة من القراء، على تبايناتهم، ولذا يُحاول أحيانًا أن يطرح الغموض عن قصِّه ما أمكنه ذلك.
لا تخلو قصص ريفنسكروفت من ومضات من الواقعية السِّحرية واستجلاب الميتافيزيقا أحيانًا (كما نَلمس في: رَحِمٌ يتأهب – النبتة الصغيرة)، أو الاتِّكاء على الحُلم بكل ما فيه من فوضى وخرق لقوانين المنطق والتعليل (الجَرَس)، إلى جوار الواقِعي والمتعين الممسوس بخيطٍ من الرومانسية أحيانًا (البومة) تلك القصة الحافِلة بكثير من الصور الشعرية وكثير من أسباب الشجن الإنساني الرفيع. وفي حين آخر قد يوسل الحقائق العلمية في بناء شعرية نصِّه ما يُحقِّق الجديلة الثرية الجميلة بين العلم والأدب (أحوال المادة). كلُّ تلك الخيوط، التي يَنجح ريفنسكروفت في غزل نسيجه عبرها، تجعل من تجربته مشروعًا أدبيًّا مُتنوعًا وثريًّا وجديرًا بالترجمة.
ورغم أن السرد أحد أقدم الفنون الإبداعية التي عرفها الإنسان إلا أن فن القصة القصيرة لم يتمَّ تأصيلُه في العالم إلا في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر فيما فن الرواية أكثر إيغالًا في القدم. فقد غدت الرواية شكلًا مُستقلًّا من أشكال الأدب في القرن الثامن عشر الميلادي في إنجلترا، حتى ولو استطعنا رصد جذورها المُمتدة بعيدًا في الأدب الإغريقي القديم.
ظهرت ملامح النضج القصصي الأولى في أعمال بعض الكتاب مثل تشيكوف وموباسان بينما لم تتجلَّ ملامح التكثيف الدلالي والتعبير الفني الحداثي العالي إلا في أعمال المُحدثين في بداية القرن العشرين مثل جويس وكافكا وهيمنجواي وغيرهم، ورغم ذلك لم تَسُد نظريةٌ واحدةٌ وقتئذٍ تُحدِّد معايير هذا الفن.
ويُمكن لمُتتبِّع الإبداع الروائي أن يلمس كيف تطورت طرائق السرد عند المبدعين منذ بداية القرن العشرين وحتى نهايته مرورًا بالمرحلة الوسطى التي تحوَّل فيها السرد نوعيًّا على يد روَّاد الحداثة من أمثال بروست وجويس وفرجينيا وولف.
ظهرت بادرات التجديد عبر أعمال تَعتمِد التجريب في محاولة التعبير عن أزمة الإنسان الروحية في العصر الصناعي الحديث، عن نوازعه النفسية وأعماقه الخبيئة ومزاجِه القلق. وتجلَّى خط التأزُّم الروحي والأخلاقي في بطل كافكا الذي يعيش صراعًا ضاغطًا في مواجهة العالم المادي المميكن البيروقراطي الذي أحال البطل إلى صرصار في رواية «المسخ». وتزامن ذلك مع تجريب مارسيل بروست وفرجينيا وولف في تقنية الكتابة بوصفها حفرًا في الذاكرة مُختلطة برؤى تصنعها أحلام اليقظة عبر تفتيت الزمن والأحداث وانتثار وتشظِّي الوقائع إلى دقائق صغيرة، فيما عُرف بتيار الوعي الذي حاول رسم الرؤى والمشاعر والذكريات التي تفيض بها عقول الشخوص وقد برعت فيه وولف مع إضافة تقنية الرمز لتؤكِّد هشاشة العلاقات الإنسانية في عالمٍ انهارت قيمُه الاجتماعية، كما نَلمح في العديد من أعمالها مثل «صوب المنارة، وبين فصول العرض». كما أثرت الحركة الوجودية بشكل كبير على الأدب في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، فظهرت أعمال تُكرِّس عبثية الحياة وتشوُّشها ولا جدواها كما في أعمال سارتر وكامو.
تبنَّى الفن بعدئذ نهج هدم المُسلَّمات القائمة في تصوراتنا عن الأشياء، إذ لا شيء محدَّدًا يُمكن أن نطلق عليه واقعًا إلا عبر رؤيتنا له من منظورات مُتباينة تبعًا للظرف والعين الراصدة وزوايا النظر. وقد ترتب على ذلك تطوُّر في الأدوات الفنية فيما يتعلَّق بالبِنية السردية للنص، فأصبح السارد يَعتمِد العبارات المُبتسَرة الحادة المتشظية محاولًا الوصول إلى شيء من الحيادية في رصد العالم، مُتخلصًا من النزعة الذاتية التي تُخالط عادةً الأعمال الأدبية. حاول بعض المبدعين تنحية النوازع البشرية من حبٍّ وكراهية وانفعالات وثورية تاركًا للقارئ حرية بناء رُؤاه الخاصة. وظل التجريب في الأدب مَعنيًّا طوال الوقت بالبحث عن أشكال جديدة تناسب العصر. وقد ترافَق مع هذا التوجه بروز تيارات عالمية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين في فن السرد الذي غدا يمتلك القدرة العالية على الإيحاء رغم الْتصاقِه الشديد بالواقع، والذي قد يَجمع بين الوثائقية والانغماس المُفرط في التفاصيل الصغيرة التافهة حدَّ الملل، ثم المرور العابر على الأحداث الكبرى مثلما نجد في رواية «العطر» الشهيرة لزوسكيند.
ما الذي فجَّر هذا التغيُّر تحديدًا؟ هل هموم الإنسان ذاته (كموضوع)، أم إن الذي تغيَّر هو رؤية المبدع (كفاعل) لموضوعه وطرائق توسُّله الجماليات الفنية الجديدة لبناء هيكله الدراميِّ؟ أم إن الثورة الصناعية واشتعال الحروب الكونية، ودخول الحرب الكيماوية (تلك التي أبرزت نزعة الإنسان الوحشية التدميرية) ضمن تقنية الحرب العالمية الأولى وتبدُّل خريطة العالم كان لها انعكاسها المنطقي على الفن باعتباره انعكاسًا لمجريات الحياة؟
القرن العشرون يَعكِس سمات التناقض الشديدة في الإنسان. إذا ما تأمَّلنا المنجزات الصناعية والتكنولوجية الكبرى سيما الثورة النووية ثم الرقمية التي أنتجتْها عقول لامعة من العلماء من جهة، والتي تزامَنَت مع، وربما أدَّت إلى، النزعات السيادية التخريبية الكبرى التي تجلَّت في الحروب ومحاولة الاستئثار بالهيمنة على العالم من جهة أخرى، تزامنًا مع العديد من النظريات الوَضعية والفِكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أنتجتْها مجمل الفلسفات الحديثة على تناقُضها، ثم المناداة بسقوط مجمل السلطات الفِكرية والدينية، لاكتشفنا كم هو قرنٌ ثريٌّ غرائبي مشحون بالمفارقات. وكان بديهيًّا أن يتأثَّر الفن بوجه عام بكل تلك الالتباسات والهزَّات التي خلخلت ثوابت الإنسان التي كانت زرعتها، إلى حدٍّ بعيد، العقائد الدينية.
إلى أي مدًى انزاحت طرائق تناول الكاتب لهموم الإنسان سياسيًّا واجتماعيًّا ووجوديًّا منذ الكلاسيكية كما في «الحرب والسلام» لتولستوي أو حتى «الدون الهادئ» لشولوخوف، رغم انزياحها قليلًا عن الواقعية الاشتراكية بمعناها المثالي بالمفهوم الأدبي النقدي، وحتى الآن؟
إلى أيِّ مدى تبنَّى المُبدعون مبدأ الفن للفن الذي بدأ التنظير له إدجار آلان بو، وإن اكتفى بالتنظير ولم يتجلَّ ذلك كثيرًا في سرده وشعره، عِوضًا عن مبدأ الفن ذي الرسالة المحمَّل بأثقال القضايا وهموم المجتمع والوطن؟ وكيف يحاول كتَّاب اليوم عمل معادلة محسوبة تجمع بين المبدأين الواقفين على طرفي النقيض؛ بحيث لا تطغى الأيديولوجيا على الفن، أو يُحلِّق الفن منفصلًا عن الحياة والأرض؟ هل من المُمكن حقًّا الوقوف على أرضٍ سواء بين الفن والرسالة؟
ربما عبر هذه المجموعة ومقارنتها مع معينِنا المدَّخَر من قراءاتنا المتراكمة يُمكننا أن نقف على إجابةٍ للسؤال التالي: كيف عبَّر قلم المبدع عن محنة الإنسان عبر الزمن؟ هل تغيَّرت رؤية المبدع للوجود؟ أم إن الذي تغيَّر هو شكل التعبير عن تلك الرؤية؟ هل تغيَّر «البطل» المرويُّ عنه من الفارس إلى «المهمَّش» المطحون الذي لم يكن ليُغري الكتَّاب القدامى بتبنِّيه كموضوع؟ هل تباينتْ أزماتُ الإنسانِ منذ بداية القرن الماضي وحتى نهايته؟ خلال فترةٍ خاض خلالها حربَين كونيتَين، وتغيرت ملامح الخارطة؟ فترة صنع فيها الإنسان وعاش تحوُّلاتٍ سياسيةً واجتماعيةً وتكنولوجيةً وثقافيةً وفلسفية وفكرية كبرى، قرنٌ من الزمان نشأت خلاله مدارس وانهدمت أخرى، كيف تبدَّل الإنسان وكيف تبدَّلت همومه وأحلامه؟
والأهم من ذلك كيف تبدَّلت العينُ الراصدةُ له: عينُ المبدع؟
مدينة الرحاب
يونيو ٢٠٠٥