الأحوال والحوادث في مصر أثناء الحملة السورية
سرنا وراء نابوليون في غزوته للبلاد السورية إلى أن عاد إلى الديار المصرية، كما هو مفصل في الباب السابق، ولم نرد أن نقطع سلسلة التاريخ في ذلك الباب بذكر ما وقع في مصر من الحوادث والشئون التي لها أهمية تاريخية، واخترنا أن نخصص لها بحثًا يؤلف منثورها ويجمع شتاتها.
وقبل أن نأتي على الحوادث المختلفة نذكر أن نابوليون قد أحسن اختيار نائبه، أو وكيله في مصر، ونعني به الجنرال «دوجا» إذ يظهر من الخطة التي سلكها ذلك الرجل في إدارة شئون مصر، ومن تناوله الحوادث المختلفة، وتصريفه أمورها، أنه كان على جانب عظيم من القدرة السياسية، مع تؤدة وأناة وحلم وحسن روية ويقظة تليق بالحاكم الحكيم، ولقد كان سلوكه مع أهالي المنصورة والمنزلة بعد ثورة الشيخ حسن طوبار، جديرًا بالثناء والإعجاب، ولعل سياسته في ذلك الظرف هي التي أهلته في نظر نابوليون ورشحته لتولي الزعامة في غيبته، وكان الفرنساويون في حاجة إلى رجل لين في غير ضعف، شديد في غير عنف، مثل الجنرال دوجا، في الوقت الذي غادر فيه نحو نصف الجيش الفرنسي أرض مصر إلى سوريا، والذي هدد فيه المماليك وعرب الحجاز، بل وعرب الغرب، أرض مصر من جميع الجهات، فكان من المحتم على مديري الأمور منهم، ولاة وحكامًا، أن يتوددوا ويتلطفوا مع المصريين وأن يعاملوهم بأحسن أساليب المعاملة، مع المحافظة الدقيقة على تقاليدهم وعاداتهم.
وكان من خير المساعدين للجنرال دوجا في مهمته الشاقة، مسيو بوسيلج مدير الأمور المالية الذي كان يسميه الجبرتي «بوسليك الروزنامجي» والجنرال دوستين، الذي كان حاكمًا للقاهرة، وكان يلقب بالقائمام.
وكانت إدارة أمور الوجه القبلي وملاقاة حوادثه العصيبة ومحارباته العتيقة مع مراد بك وحسن بك الجداوي وعثمان بك الشرقاوي، وعرب الحجاز تحت زعامة الشريف الجيلاني، موكولة إلى الشجاع الباسل الجنرال ديزيه الذي وطد سلطة الفرنساويين في الوجه القبلي من الجيزة إلى أسوان.
وقد أحسن الجنرال دوجا السياسة مع المصريين في العاصمة، واهتم بالأمور الصغيرة والكبيرة حتى اكتسب ثقة المشايخ والأعيان والمصريين عامة، فمن ذلك أن نابوليون لما برح مصر إلى سوريا في الخامس من شهر رمضان اجتهد الفرنساويون بإرشاد الجنرال دوجا في أن يسلكوا مع المسلمين سلوكًا لائقًا بالآداب الإسلامية في ذلك الشهر، وأصدروا الأوامر المشددة للمسيحيين من أقباط وشوام بأن يحافظوا على التقاليد المرعية في السنوات السابقة، وبأن لا يتجاهروا بالأكل والشرب في الأسواق، ولا يدخنوا التبغ، ولا يلبسوا العمائم البيض والشيلان الكشمير؛ إلى غير ذلك من التقاليد المرعية في تلك الأيام، ثم أخذ الفرنساويون يزورون المسلمين في ليالي رمضان «ويدعون أعيان الناس والمشايخ والتجار للإفطار والسحور ويعملون لهم الولائم»، ويقدمون لهم الموائد على نظام المسلمين وعاداتهم، ويتولى ذلك الطباخون والفراشون من المسلمين تطمينًا لخواطرهم، ويذهبون أيضًا ويحضرون عندهم الموائد ويأكلون معهم وقت الإفطار، ويشاهدون ترتيبهم ونظامهم ويحذون حذوهم، ووقع منهم من المسايرة للناس، وخفض الجانب، ما يتعجب منه، وقال الشيخ الجبرتي صاحب الكلمة المتقدمة: «وانقضى شهر رمضان ووقع فيه السكون والطمأنينة وخلو الطرقات من العسكر واختفائهم بالليل جملة كافية، وانفتاح الأسواق والذهاب والمجيء وزيارة الإخوان ليلًا، والمشي على العادة بالفوانيس ودونها، واجتماع الناس للسهر في الدور والقهاوى ووقود المساجد وصلاة التراويح وطواف المسحرين والتسلي بالرواية والنقول وترجي المأمول وانحلال الأسعار.» ثم قال: «ولما كان يوم العيد أطلق الفرنساويون المدافع تكريمًا وإجلالًا، وطافوا على أعيان البلد للتهنئة والتبريك والمجاملة» … إلى غير ذلك من الحال الاجتماعية التي تدل على تلطف الفرنساويين، وسلوكهم مسلك الحكمة والسياسة بفضل دهاء الجنرال دوجا وفطنته.
ومما يجب ذكره في باب الأعمال الطيبة التي تمت في تلك المدة إنشاء أول جسر على نهر النيل بين الجيزة والقاهرة، وقد أنشئ ذلك الجسر في النقطة التي يوجد فيها الآن كبري عباس، قال الجبرتي: «وضع الفرنساويون جسرًا من مراكب مصطفة، وعليها أخشاب مسمرة من بر مصر بالقرب من قصر العيني إلى الروضة قريبًا من موضع طاحون الهواء تسير عليه الناس بدوابهم وأنفسهم إلى البر الآخر، وعملوا كذلك جسرًا عظيمًا من الروضة إلى الجيزة.»
ويجمل بنا أن نقول هنا: إنه كان من المحتمل، لو ترك الفرنساويون وشأنهم مع المصريين، ولم توجد لهم إنجلترا القلاقل والمشاكل وساروا بالقطر سيرة دوجا خلال الحملة الشامية، أن تتوطد بين الفريقين دعائم الوفاق والتفاهم.
- (١)
ثورة أمير الحج.
- (٢)
ثورة المهدي بمديرية البحيرة.
- (٣)
المخابرات مع أمراء المسلمين.
- (٤)
حروب ديزيه مع مراد بك والمماليك وعرب الحجاز في الصعيد.
وسنشرح مع الإيجاز المفيد تلك المسائل واحدة واحدة.
(١) مسألة أمير الحج
كانت وظيفة إمارة الحج من الوظائف الكبرى في القطر المصري، وكان لا يتقلدها إلا كبار الأمراء من المماليك، ولهذه الوظيفة مرتبات ثابتة وأوقاف كثيرة، فلما قدم الفرنساويون إلى مصر كان أمير الحج صالح بك من أتباع مراد بك، قادمًا بالمحمل والحجاج المصريين من الأقطار الحجازية، وحاول نابوليون أن يستدعيه إلى القاهرة كما سبق لنا ذكر ذلك فرفض، وانضم إلى إبراهيم بك عند بلدة بلبيس وسافر معه إلى الأقطار الشامية وتُوفي بها في تلك السنة، ولكي يؤكد نابوليون للمصريين أنه محافظ على تقاليدهم الدينية وعاداتهم الإسلامية، ارتأى أن يسند وظيفة إمارة الحج للمدعو مصطفى بك الذي كان في وظيفة كتخدائية الباشا أو وكيله أو نائبه، قال المعلم نقولا الترك في حوادث الأيام الأولى من احتلال الفرنساويين: «ثم إن أمير الجيوش أحضر مصطفى أغا كتخدا باكير «بكر» باشا وأمنه وألبسه فروًا، وجعله أمير الحاج وأمره أن يباشر لوازم الحج وما يحتاج إليه، وقال له: لماذا الوزير فر هاربًا مع المماليك؟ ألم يعلم أننا متحدون مع الدولة العثمانية، ونحن ما حضرنا هذه الديار إلا بإذن السلطان، ثم أمر أن يحرر إلى بكر باشا وأن يرجع إلى القلعة كما كان، وله الكرامة والأمان.» وظاهر من هذا أن نابوليون تعطف على مصطفى بك وأحسن إليه وقلده أكبر المناصب.
وقد بحثت كثيرًا لعلي اهتدي إلى ترجمة لمصطفى بك هذا في مجلدات الجبرتي أو في سواه فلم أعثر على اسمه إلا في وقت اختياره لإمارة الحج، ويغلب على الظن أنه كان من المماليك، وأنه كان في وقت من الأوقات أغات الإنكشارية «قومندان وجاق؛ أي: فرقة الإنكشارية» ثم تولى كتخدائية الباشا، وبقي بعد دخول الفرنساويين مقربًا منهم، وقد عهدوا إليه تشغيل الكسوة الشريفة ومنحوه مرتبات ومخصصات إمارة الحج وجعلوه أمينًا على ممتلكات الباشا الوالي التي لم يمسوها بسوء، فلما قصد نابوليون الغارة على سوريا اختار كما ذكرنا من المشايخ مصطفى الصاوي وسليمان الفيومي والدواخلي والعريشي لمرافقته، واختار معهم مصطفى بك أمير الحج وأدهم أفندي بجمقشي زاده قاضي القضاة، وكان النظام الذي رسمه لهم نابوليون هو أن يسبقهم بمرحلة، فلما وصل إلى الصالحية كانوا هم في بلبيس، ولما برح الصالحية طلب إليهم أن ينتقلوا إليها، قال الشيخ الجبرتي: «فبلغهم وقوف العرب بالطريف فخافوا من المرور فذهبوا إلى العرين «كذا» فأقاموا هناك، وأخذ عسكر الفرنسيس جمالهم فأقاموا مكانهم فقلق المشايخ الدواخلي والصاوي والعريشي، وخافوا سوء العاقبة ففارقوهم وذهبوا إلى العرين، وتخلف الفيومي مع كتخدا الباشا والقاضي.» وذكر الجبرتي أيضًا «أن الشيخ الصاوي والعريش والدواخلي وآخرين خافوا عاقبة الأمر، وذهبوا إلى القرين «بالقاف» وحصل الدواخلي توعك وتشويش.» وقال أيضًا: «واتفق أن الشيخ الصاوي أرسل إلى داره مكتوبًا، وذكر في ضمنه أن سبب افتراقهم من الجماعة أنهم رأوا من كتخدا الباشا أمورًا غير لائقة، فلما حضر ذلك المكتوب طلبه الفرنساوية المقيمون بمصر وقرءوه، وبحثوا عن الأمور غير اللائقة فأولها بعض المشايخ أنه قصر في حقهم والاعتناء بشأنهم فسكتوا وأخذوا في التفحص، فظهر لهم خيانته ومخامرتهم عليهم» … وزاد الجبرتي على ما تقدم إيضاحًا لحوادث ١٧ منه، إلا أنه لم يذكر لنا عرضه من عبارة تخوف المشايخ الثلاثة «سوء العاقبة» سوى قوله: «إن الفرنساويين ظهرت لهم خيانة مصطفى بك وعصيانه.»
وحقيقة ما وقع من مصطفى بك، كما يُؤخذ من أقوال المؤرخين الفرنساويين ومن عبارات الجبرتي المتقطعة، ومن روايات المعلم نقولا المبعثرة، أن مصطفى بك لما كان في جهة الشرقية وصلت إليه أنباء من أحمد باشا الجزار، ومن رئيسه السابق بكر باشا يخبرانه فيها أن الجيش العثماني قادم لتخليص مصر من جهات شتى، وخيل له أن نابوليون قد ذهب بجيشه إلى سوريا، وأنه يستطيع لما له من مركز إمارة الحج، ومن صفة الوكالة عن والي الدولة في مصر، أن يثير على الفرنساويين حربًا عوانًا، فأثر على القاضي الذي سبق لنا وصفه بالضعف والخور في حوادث ثورة القاهرة، وأراد أن يؤثر على المشايخ الأزهريين، وهم حريصون دائمًا على رعاية صوالحهم، فلم يتأثر بعض التأثر إلا الشيخ سليمان الفيومي وعاد الثلاثة الآخرون للقاهرة، وانتقل مصطفى بك والقاضي والشيخ الفيومي وبعض التجار والجند الوجاقلية الذين كانوا معهم، ونادوا بالجهاد وخلاص البلاد، وفي حوادث يوم ١٧ شوال، يقول الجبرتي: «إن مصطفى بك انتقل ومن معه إلى كفور نجم، ثم إلى منية غمر ودقدوس وبلاد الوقف، وانضم إليه الجبالي وبعض العرب العصاة، فأكرمهم وخلع عليهم وأخذ يفيض الأموال، وحين كانوا على البحر «يريد على نهر النيل في جهة ميت غمر» مرت بهم سفن تحمل الميرة والدقيق إلى الفرنسيس بدمياط، فاغتصبوا تلك السفن وأخذوا ما فيها قهرًا.»
والخلاصة أن مصطفى بك قلب للفرنساويين ظهر المجن وبادأهم بالعدوان اعتمادًا على قدوم جيش الجزار وإبراهيم بك من سوريا، فأمتد لهيب الثورة في مديريتي الشرقية والدقهلية، قال لاكروا «وهو ناقل عن كتاب برتران بإملاء نابوليون»: إن مصطفى بك أمير الحج وصلت إليه رسائل من الجزار بأن بونابرت قد قتل، وإن الجيش العثماني محيط بالجيش الفرنساوي، فرفع مصطفى بك راية العصيان جهارًا، وأصدر منشورًا يحرض أهالي مديرية الشرقية على الثورة، وذكر في ذلك المنشور، أن بونابرت قتل وأن جيشه قد تبدد، فانضم إليه بعض الأهالي حتى بلغت قوته نحو خمسمائة من المشاة ومثلها من الخيالة، فلما وصلت الأخبار إلى القاهرة، أصدر الجنرال دوجا أمره إلى الجنرال لأنوس حاكم إقليم المنوفية بمطاردة مصطفى بك والقضاء عليه، فصدع بما أمر، وبعد عناء ومشاق ومقابلات عديدة، تفرقت قوة أمير الحج شذر مذر، وفر هو هاربًا إلى دمياط، وبحث لأنوس عن القرى التي اشتركت في الثورة وأحرقها، لتكون لغيرها مثالًا وعبرة، وقد قال نابوليون في خطابه إلى حكومة الديركتوار المؤرخ ١٨ يونيه، رأى بعد أربعة أيام من وصوله إلى القاهرة، «وهكذا فقد ذلك الرجل — يريد مصطفى بك — في يوم واحد جميع الخيرات التي نالها على يدنا، وأصبح مشردًا مطرودًا من وطنه، بعيدًا عن أسرته التي لا تزال بالقاهرة، وفقد كل كرامة واحترام».
ولم يعرف الجبرتي ما جرى على مصطفي بك سوى أنه ذكر أنه ربما رحل إلى الشام، ولكن المعلم نقولا روى أن مصطفى بك فر إلى غزة ومنها إلى عكا، فلما دخل على الجزار، قال: أنت الذي كنت أغاة الإنكشارية وأمير الحج «يريد عند الفرنساويين» قال: نعم ولكني هربت منهم وأتيت اليك، فقال الجزار: ما أنت إلا جاسوس ثم أمر بقتله.
ولما نظموا أمور القرى والبلدان المصرية على النسق الذي جعلوه، ورتبوا على مشايخ كل بلد شيخًا ترجع أمور البلدة ومشايخها إليه، جعل الشيخ سليمان الفيومي شيخًا للمشايخ، مضافًا ذلك لمشيخة الديوان وحاكمهم الكبير فرنساوي يُسمى «ابريزون» فازدحمت داره بمشايخ البلدان، فيأتون إليه أفواجًا ويذهبون أفواجًا، وله مرتب خاص خلاف مرتب الديوان، واستمر معهم في وجاهة إلى أن انقضت أيامهم وسافروا إلى بلادهم، وحضرت العثمانية والوزير يوسف باشا كان الشيخ في عداد العلماء المتصدرين. ا.ﻫ.
(٢) ثورة المهدي في مديرية البحيرة
دعوى المهدوية قديمة العهد في الإسلام، ولطالما جلبت على المسلمين من أسباب المشاكل والحروب والرزايا والتحزبات والانقسامات، ما لا تزال ذكراه مؤلمة لنفوس المسلمين، وقد حدث في أواخر شهر ذي القعدة من سنة ١٢١٣ هجرية، أن رجلًا مغربيًّا لم يذكر لنا واحد من المؤرخين اسمه، وكل ما ذكره الجبرتي عنه لا يتعدى بضع سطور نأتي على نصها قبل شرح ثورته ودعاويه الطويلة العريضة ومحارباته للفرنساويين أيامًا عديدة، قال الجبرتي في ختام أخبار شهر ذي القعدة: «ومن حوادثه أن طائفة من عرب البحيرة يقال لهم: عرب الغز، جاءوا وضربوا دمنهور وقتلوا عدة من الفرنسيس وعاثوا في نواحي تلك البلاد حتى وصلوا إلى الرحمانية ورشيد، وهم يقتلون من يجدونهم من الفرنسيس وغيرهم، وينهبون البلاد والمزروعات.» ثم قال في حوادث ٢ من شهر ذي الحجة: «وتجمع كثير من الفرنسيس وذهبوا إلى جهة دمنهور، وفعلوا بها ما فعلوا في بني عدي من القتل والنهب لكونهم عصوا عليهم بسبب أنه ورد عليهم رجل مغربي يدعي المهدوية، ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد، وصحبته نحو الثمانين نفرًا، وكان يكاتب أهل البلاد ويدعوهم للجهاد، فاجتمع عليه أهل البحيرة وغيرهم وحضروا إلى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنساوية، واستمر أيامًا كثيرة يجتمع عليه أهل تلك النواحي وتفترق، والمغربي المذكور تارة يغرب وتارة يشرق.» ا.ﻫ.
هذا كل ما ذكره الجبرتي عن ثورة المغربي المدعي المهدوية في مديرية البحيرة، واضطراب روايات الجبرتي ونقصها راجع إلى أنه مقيم في القاهرة، وأن الفرنساويين، لمقتضى السياسة، يمنعون تسرب الأخبار الصحيحة عن الثورات والحوادث في داخلية البلاد، والظاهر من رواية المؤرخين الفرنساويين أن ثورة هذا المغربي استفحل أمرها وعظم شأنها حتى اضطربوا لأمرها، أما المعلم نقولا فلم يذكر كلمة واحدة عن حوادث هذه الثورة.
وخلاصة ما كتب الفرنساويون في هذا الصدد هو أن ذلك الرجل المغربي كان من أهالي «دونه» من ولاية طرابلس الغرب، وأنه اشتهر بالتقوى والصلاح بين قومه حتى كبر اعتقادهم فيه فادعى المهدوية، وكان رجلًا جريئًا فصيح اللسان، قوي الجنان يدعي أنه لا يأكل ولا يشرب، وأن الملائكة تغذيه وتحميه، وخرج ذلك الرجل من بلدته وليس معه إلا خمسة وعشرون رجلًا، فلما وصل إلى واحة سيوة وجد بها قافلة من الحجاج المغاربة فيها نحو أربعمائة رجل من الأشداء الأقوياء والمسلحين، فخطب فيهم وحرضهم على الجهاد ضد الكفار.
وكان أول الهاربين الفارين من تلك الواقعة المحزنة ذلك التقي الورع صاحب الكرامات، والآيات البينات، الذي تحرسه الآلهة! وتغذيه الملائكة! ولا تميته السيوف! ولا تحرقه النيران! انتهز ذلك الكاذب المنافق فرصة دفاع الأهلين عن أولادهم وأعرضهم وما يمتلكون من حطام الدنيا، وفر مع جماعة من أتباعه على ظهور الخيل إلى حدود الصحراء من شمال مديرية البحيرة، تاركًا وراءه أولئك المساكين يتجرعون غصص الموت، ويرون بأعينهم حشاشات أفئدتهم، وفلذات أكبادهم تذبح على شفار السيوف وتحترق في لهيب النار!
ولكن ذلك المفتون لم يسلم من يد القصاص العادل؛ لأن الجنرال لأنوس لم يكتف بتبديد شمل تلك القوى المهدوية، بل سار بقوة كافية لمطاردة الفارين حتى أدرك في العشرين من شهر مايو «المهدي المنتظر» عند الصحراء، وهناك اخترقت صدره رصاصة فسقط يتضرج في دمائه.
ومن غرائب مقتضيات الجهل أن أولئك المغاربة والعربان المفتونين بمهديهم لم يريدوا أن يعتقدوا عن قائدهم قد مات بل تفرقوا شذر مذر عصابات وجماعات في أنحاء البلاد يوهمون الناس أن المهدي لم يمت، وإنما قد اختفى وهو يحارب بسيفه البتار، من وراء ستار … ا.ﻫ رواية الفرنسيين.
•••
ما تقدم من رواية ذلك المغربي الثائر ضد الفرنسيين مستقى من المصادر الفرنسية التي لم يكن لدينا سواها، ولكني عثرت في اللحظة الأخيرة على بيان من مصدر موثوق بصحته وروايته؛ لأنه أولًا مصدر محايد، وثانيًا شاهد عيان، وصاحب هذه الرواية هو الكولونيل روبرت توماس ويلسون الإنجليزي أحد ضباط الحملة الإنجليزية التي قدمت لمصر تحت قيادة الجنرل أبو كرومبي للاشتراك مع الجيش التركي في إخراج الفرنسيين من أرض مصر.
وفيه حضرت صدقات من مولاي محمد صاحب المغرب ففرقت على فقراء الأزهر وخدمة الأضرحة والمشايخ المفتيين والشيخ البكري والشيخ السادات والعمريين على يد الباشا بموجب قائمة ومكاتبة.
وهذا النبأ وحده من بين أنباء الجبرتي ورواياته في مجلداته الأربعة يثبت أنه كان هناك من أمراء المغرب أمير يدعى «مولاي محمد»، وأنه كانت له صلة بمصر، وأنه كان يرسل الصدقات إلى العلماء والمشايخ وطلاب العلم في الأزهر الشريف، فإذا ضم هذا إلى رواية ويلسون الذي قابله ورآه وحادثه ووصفه كما عرفه، كان من المحقق أنه لم يكن رجلًا مشعوذًا، وأنه قدم مصر بغتة بجماعة من عرب الصحراء الغربية وأهل الغرب لمحاربة الفرنسيين عن غيرة دينية، وأنه لم يُقتل كما روى كُتاب الفرنسيين الذين أجمعوا على الخلاصة التي تقدم بيانها.
ولا نجد مناصًا من تذكير القراء بما كتبناه عن ثورة القاهرة وما يجلبه أولئك الأفاقون مثل بدر المقدسي السوري، وذلك المهدي، أو الأمير المغربي، على الأهالي الآمنين المطمئنين، من البلايا والمصائب، كما حصل لأهالي دمنهور، وكما وقع لسكان القاهرة من قبلهم، ولا زلنا نقول ونكرر إنه مع شديد رغبة الناس في الخلاص من الحاكم الأجنبي، فإن مصلحتهم وظروفهم تقضي عليهم بالتزام السكينة والابتعاد عن القلاقل ما لم تتكافأ القوى ويضمن الفوز، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وكانت تلك المصلحة وتلك الظروف تقضيان على الحاكم الأجنبي من جانب آخر أن يدرك شعور العامة، ولا يمكن المهيجين المفتونين من إثارة الخواطر بالضرب على الأوتار الحساسة من العواطف القومية، وأن يسلك مع الذين قدر عليهم القضاء بالوقوع تحت سيطرته مسلك الحكمة والعدل والإنصاف، وأن يدع إدارة أحكام البلاد في أيدي أبنائها حتى لا يشعر الأهلون بثقل وطأة السلطة الأجنبية، فبذلك — وبه وحده — يقفل باب التحريض والتهيبج في وجوه طلاب الصيد في المياه العكرة، ممن لا ناقة لهم في البلاد ولا جمل.
(٣) المخابرات مع أمراء المسلمين
كانت حملة نابوليون على سورية مدعاة للتأثير العظيم على العالم الإسلامي؛ لأن محاربة الدولة العثمانية في سوريا بجيش مدرب تحت قيادة رجل مثل نابوليون بونابرت كان من شأنه أن يبعث الوجل والاضطراب في قلوب أمراء المسلمين، الذين كانوا تابعين للدولة العثمانية اسمًا، وكانوا يتحينون الفرص للخلاص من سيطرتها المركزة في القسطنطينية — تلك السيطرة التي كانت تخول لها إرسال الولاة الظالمين المتغطرسين الضالين إلى ولاياتها المختلفة، ولهذه الأسباب كان كبار الأمراء وذوي العصبية من ولايات الدولة العثمانية ينظرون إلى نتيجة الحملة الفرنسية في سوريا لينضموا، أو ليشايعوا، أو ليظهروا الولاء للغالب، أملًا في الخلاص، ووسيلة للاستقلال عن الآستانة، وكان من هؤلاء الأمير بشير الشهابي وأمثاله في فلسطين وسوريا، ومنهم أيضًا أمير مكة الشريف مسعود بن غالب.
وقد سبق لنا أن ذكرنا أن نابوليون انتهز فرصة موسم الحج فأرسل خطابًا لشريف مكة يذكر له فيه استيلاءه على مصر ويدعوه إلى المصادقة، ويظهر أن الشريف غالب لم يحفل بالرد على نابوليون، ولكنه حين علم أن الفرنسيين قاموا بحملة على سورية وأخذوا يهاجمون عكا، وأنه مما يدخل في حيز الممكنات أن تتفكك عرى الدولة العثمانية، بعث بخطاب مطول إلى القاهرة يظهر فيه التودد نحو الفرنسيين ويعدهم بالمعونة والتأييد.
وقد نشر الجبرتي نص هذا الخطاب؛ لأن الفرنسيين أذاعوه في مصر ليقيموا البرهان على أن أمراء المسلمين يراسلونهم ويظهرون العطف نحوهم.
من الشريف غالب بن مساعد شريف مكة المشرفة إلى عين أعيانه، وعمدة إخوانه «بوسليك» مدير أمور جمهور الفرنساوية، وممهد بنيان السياسة بسداد همته الوفية؛ وبعد: فإنه وصل إلينا كتابك، وفهمنا كامل ما حواه خطابك، مما ذكرت من وصول «قنجتنا» وأنك أرسلت هجانا برفع العشور عن البن، وبذلت الهمة في شأن التصرف في نفاذ بيعه، وتأملنا في كتابك فوجدنا من صدق مقاله ما أوجب تمسكنا بوثاق الاعتماد عن تموه غياهب الشك في كل المراد، ووجب الآن علينا تكوين أسباب المصادقة، والمبادرة فيما ينظم مهمات تسليك الطرق بيننا وبينكم عن الوعث وزوال المناكرة، وشهلنا الآن إلى طرفكم خمسة مراكب مشحونة من نفس بندرنا جدة المعمورة في هذا الأوان، ولا أمكن لنا خروج هذا المقدار إلا بمشقة علاج مع سلب اطمئنان التجار؛ لأن كثرة أكاذيب الأخبار، أوجبت لهم مزيد الارتياب والأعذار، بحيث ما بيننا وبينكم إلا العربان المختلفة رواياتهم على ممر الأزمان، وأما نحن فقد جاءتنا منكم قبل هذا المكاتيب، التي أوجبت عندنا من خطاب كتبكم زوال تلك الظنون والأكاذيب، فخاطرنا مستقر بالطمأنينة من قبلكم، لما ثبت عندنا من ألفاظ كتبكم، والمطلوب في حال وصول كتابنا إليكم إرسال عسكر من لديكم إلى بندر السويس لأجل حفظ أموال الناس، ويصلوا بالأبنان إلى مصر، ويبيع التجار، ويزول وقف الأسباب والبأس، وتهتموا في رجوعهم كذلك قبل بأوان، ليكون ذلك سببًا في كثرة وفود الأبنان، وعند رجوعهم يعد البيع من مصر إلى السويس كذلك تصحبوهم بالعسكر من طرفكم الوثيق، ليكونوا محافظين لهم من شرور الطريق؛ لأن هذه المرة ما أرسل إليكم هذا المقدار إلا تجربة واستخبارًا من أعيان التجار، وعند مشاهدة الإكرام والاحتفال بهم، في كل حال يرسلون إليكم نفائس أموالهم، ويهرعون بالجلب لطرفكم، ويزول الريب عن قلوبهم، ونرجو الله بهمتنا تسليك الطرقات، وتنجيح المطالب، وتحصيل الميراث بأحسن مما كانت من الأمان، وأعظم مما سبق في غابر الأزمان، ويكثر بحول الله الوارد إليكم من الأسباب الحجازية، وكذلك لنا بن في المراكب، فمأمولنا منكم إلقاء النظر على خدامنا، وبذل الهمة على ما هو من طرفنا، وأنتم كذلك لكم عندنا مزيد الإكرام في كل مرام، ولا يخفاك أنه ورد علينا قبل بأيام كتب من طرف أمير العسكر الفرنساوية، محبنا بونابرته، فما كان لنا منها فتأملناه، وصار إليه الجواب فوصله إليه، وما كان منها معولًا في إرساله علينا إلى نواحي الهند وابن حيدر وإمام مسكت، ووكيلكم الذي في المخا، فجميعًا أصدرناها من طرفنا مع من نعتمده إلى أربابها، وإن شاء الله عن قريب يأتيكم الجواب والسلام.
تحريرًا في ثمانية عشر شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وثلاثة عشر.
•••
وظاهر من هذا أن مخابرات نابوليون لم تكن قاصرة على شريف مكة، بل اتخذه أيضًا واسطة لإيصال كتبه وأغراضه إلى حيدر آباد في الهند، وإلى إمام «مسقط» على الخليج الفارسي، وإلى القنصل الفرنسي في المخا، أو موخا، باليمن.
أما حوادث محاربة الفرنسيس للمماليك في الصعيد فقد أجملناها تحت عنوان المحاربات الفرعية من هذا الكتاب.