(١) أبعاد المنطق
لا يوجد منطق واحد على ما هو شائع،
المنطق الصوري عند الفلاسفة. بل تتعدد
اتجاهات المنطق من منطق للحدود عند
الكِنْدي والفارابي وإخوان الصفا وابن سينا
وأبي حيان إلى منطق صوري عند ابن سينا إلى
منطق وجودي، منطق المستويات عند إخوان
الصفا إلى منطق شعوري عند إخوان الصفا وابن
سينا في «منطق المشرقيين» إلى منطق شرعي
عند ابن حزم والغزالي في ضم الوافد إلى
الموروث.
بل تتعدد هذه الاتجاهات خارج منطق
الفلاسفة إلى منطق الأصوليين عند ابن حزم
في «التقريب لحد المنطق والمدخل إليه» حتى
يظهر الوافد من خلال الموروث وكما هو الحال
في «أقيسة الرسول».
١ وقد يتم رفض الوافد «نقد
المنطق» «والرد على المنطقيين» عند ابن
تيمية دفاعًا عن المنطق والموروث، و«ترجيح
أساليب القرآن على منطق اليونان» للصنعاني.
٢ وقد يتم جمع الوافد والموروث
في منطق شرعي متكامل من أجل توسيع الرؤية
وإكمال الناقص والجمع بين المصدرين كما هو
الحال في الأعمال المنطقية عند الغزالي
التي تتفاوت بين العرض للوافد مثل «محك
النظر» و«القسطاس المستقيم» إلى التحول من
العرض إلى التأليف والتراكم في «معيار العلم».
٣
وواضح أن كل فيلسوف يكتب في أكثر من
اتجاه مثل ابن سينا الذي يكتب في منطق
الحدود «رسالة في الحدود»، وفي المنطق
الصوري موسوعاته الأربع: «الشفاء»
و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» و«عيون
الحكمة»، وفي المنطق الشعوري «منطق
المشرقيين» على الأقل على مستوى النوايا
الخالصة التي لم تنفذ على عكس السهروردي في
«حكمة الإشراق» الذي أقام بالفعل منطقًا
إشراقيًّا في مقابل المنطق الصوري القديم.
٤ كتب في كل اتجاهات المنطق
باستثناء منطق المستويات.
كما كتب إخوان الصفا في معظم اتجاهات
المنطق: منطق الحدود، الحدود النفسية في
«رسالة في الحدود والرسوم» ومنطق
المستويات، منطق الوجود، والمنطق الشعوري.
وركز بعض الفلاسفة في اتجاه واحد مثل
الكِنْدي في «رسالة في حدود الأشياء
ورسومها»، والفارابي في «فصوص الحكم»، وأبي
حيان في منطق الحدود، والغزالي في المنطق
الشرعي المتكامل.
ويظهر المنطق كمسائل متفرقة أولًا عند
الكِنْدي والفارابي وأبي حيان دون أن
ينتظمها نسقٌ عام. ثم يتحول إلى نسق عند
إخوان الصفا وابن سينا كمنطق للحدود
والتصورات والغزالي كمنطق متكامل. وهناك
عرض للمنطق وتعليقات عليه دون إضافة جديد،
وهناك محاولات إبداعية لتغيير مستوى المنطق
من المنطق الصوري عند ابن سينا إلى المنطق
الشعوري عند أبي حيان في الحدود النفسية أو
إلى منطق المستويات، منطق الوجود عند إخوان
الصفا أو إلى المنطق الشرعي المتكامل عند
الغزالي. مثال النوع الأول: تعليقات ابن
باجه في المنطق. لم يُضِف جديدًا على ما
وضعه الفارابي وابن سينا وما قام به أبو
حيان وإخوان الصفا والاكتفاء بتأكيدات
معروفة سلفًا مثل أن المنطق صناعة نظرية،
وأنه معياري، صناعة تعصم الذهن من الزلل في
كل تصور أو تصديق. وقد يرتبط بنظرية
المعرفة أو مناهج البحث كما هو الحال عند
الكِنْدي مثل: تفرقة ابن باجه بين نوعين من
المعرفة، المعرفة التي تأتي من شخص
لتوجيهها كالكاهن والخطيب والشاعر، وتكفيها
كلية واحدة، والمعرفة التي تأتي من كليتين
لتعم جميع الصنائع وهي التي تسمى علومًا
على الإطلاق وعلى التقديم. ومَن له هذا
المبدأ يكون ناطقًا ولو بالقوة كما هو
الحال في الإنسان. وتُحيل الطبيعيات إلى
المنطق. وإن كثيرًا من الأمور الطبيعية
إنما تُردُّ إلى المنطق نظرًا لأن نظامَ
العالم ونظام العقل نظامٌ واحد.
٥
ويختلط المنطق بالرياضيات كما هو الحال
عند إخوان الصفا والفارابي والموسيقى عند
الكِنْدي وابن سينا. فقد كتب ابن سينا
رسالة «في الموسيقى» إملاء كمدخل لها.
٦ وهي رسالة علمية خالصة، رياضية
طبيعية مثل كتاب «الموسيقى الكبير»
للفارابي والذي لا يشير إليه بالرغم من
مصادره عند الكِنْدي والفارابي دون تحليل
لتقابل الألحان مع انفعالات النفس كما فعل
الفارابي في القصة المشهورة عن اللحن
المبهج واللحن الحزين واللحن المنيم. هي
رسالة علمية خالصة تتفق مع نزعته الصورية
وليس لها دلالة دينية أو حضارية مباشرة. لا
تعتمد على وافد أو موروث من قرآن أو حديث
ولا حتى على موسيقى الشعر أو موسيقى القرآن
أو الموسيقى العربية لحنًا أو تراثًا أو
الموسيقى اليونانية.
٧ ويتألف علم الموسيقى من
جزأَين: التأليف وهو موضوع النغمة اتفاقها
وتنافرها، والإيقاع وموضوعه الأزمنة
المتخللة بين النغم والنقرات. والغاية من
كليهما صنعة اللحن.
٨
وتنضم الرياضيات إلى المنطق في التعليقات
عند الفارابي. فمع الجنس والفصل، والموضوع
والمحمول، والجوهر والعرض، والجزئيات
والكليات والمقدمات والقياس والتمثيل،
والأسماء المشتركة يضم تحديد النقطة والسطح
والوحدة والعدد … إلخ.
٩
(٢) البنية والتاريخ
ويمكن عرض المنطق بطريقتين: الأولى تتبع
مراحل تاريخه طبقًا لتواريخ الحكماء ابتداء
من الكِنْدي حتى الغزالي مرورًا بإخوان
الصفا والفارابي وأبي حيان وابن سينا.
وبهذه الطريقة يفرض التاريخ نفسه على
البنية بالرغم من تحولات التاريخ، وتكشف
البنية في البداية والوسط والنهاية. ويقع
التحليل المنطقي في الحتمية
التاريخية.
والثانية اكتشاف البنية المنطقية التي
تتجاوز التاريخ إلى المنطق كعلم بمباحثه
الأساسية وبنيته الرباعية التي وضعها
المناطقة المسلمون واستعملها الفقهاء.
المنطق إما تصور أو تصديق. التصور يُنال
بالحد، والتصديق يُنال بالبرهان. وهذه
الطريقة تُضحي بتطور البنية وتكشفها في
التاريخ، وتُحيل المنطق إلى بنية عقلية
خالصة.
والجمع بين الطريقتين، البنية من خلال
التاريخ، والتاريخ من خلال البنية تُعطي
التطور حقَّه دون أن تقع في حتميته
واتصاله، وتُعطي البنية حقَّها دون الوقوع
في صوريتها وانغلاقها. فالمناظرة الشهيرة
بين المنطق والنحو وقعت في القرن الرابع
بين متَّى بن يونس وأبي سعيد السيرافي
ولكنها من حيث البنية تضع إشكال المنطق
والنحو، الوافد والموروث في حالة التضاد
قبل أن يجمعهما الغزالي في كتبه المنطقية
في حالة الوفاق. ومنطق الحدود الذي هو أحد
جوانب البنية الأولى يظهر فيه التطور من
منطق الحدود عند الكِنْدي وإخوان الصفا
وابن سينا وأبي حيان ومن خلاله يظهر منطق
التصور والتصديق عند الفارابي. والمنطق
الشعوري يتطور من إخوان الصفا والحدود
النفسية إلى ابن سينا ومنطق المشرقيين.
والمنطق الشرعي يتطور من أقيسة الرسول
والتقريب إلى حدِّ المنطق عند ابن حزم في
القرن الخامس إلى نقض المنطق والرد على
المنطقيين لابن تيمية في القرن الثامن
عودًا إلى المنطق الشرعي الجامع بين الوافد
والموروث في أعمال الغزالي المنطقية في
القرن الخامس.