من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٢) الحكمة النظرية: المنطق – الطبيعيات والإلهيات – النفس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

سادسًا: نظرية الفيض

ونظرية الفيض هي الغالبة على علوم الحكمة عند إخوان الصفا والفارابي والسجستاني والعامري وابن سينا. تُعطي افتراضًا ثانيًا عن علاقة الله بالعالم، والإلهيات بالطبيعيات عن طريق ملءِ المسافة بين الاثنين على نحوٍ تدرُّجي متصل لردم الهوة السحيقة التي تركتْها نظرية الخلق في تصور الله والعالم متضادَّين، صفات الكمال في الله وصفات النقص في العالم، والإنسان بينهما، بين كمال النفس ونقص البدن. الفيض تصور هرمي للعالم، ثنائي مضاعف. بين الله والعالم هناك درجات بين الألوهية والطبيعية. لم يخلق الله العالم بإرادته من لا شيء كُنْ فَيَكُونُ، بل فاض العالم منه بعلمه دون أن ينفصل عنه. فالعالم امتداد طبيعي لله في درجات أبعد. كلما صعدنا إلى أعلى وصلنا إلى الكمال المطلق، وكلما نزلنا إلى أسفل وصلنا إلى النقص المطلق. وما بينهما درجات بين الكمال والنقص. في العالم العلوي، الكمال أكبر من النقص، وفي العالم السفلي النقص أكبر من الكمال. ولما كان الإنسان لم ينفصل عن الله بل فاض عنه يكفيه التأمل والتدبر حتى يعود بذهنه إلى مُنشِئه الأول دون ما حاجة إلى فعل في الدنيا. فالفعل ضعف التأمل. يكفي «إلى الخلف سِرْ» حتى يصعد الإنسان إلى الكمال بدلًا من «خلفًا دُرْ»، أي التوجه بالفعل والكد والسعي إلى الله وإعطاء الظَّهر إلى العالم. الفيض ردُّ فعلٍ على الثنائية الحادة المتعارضة في الخلق، وعلى الانفصال بين الخالق والمخلوق، من أجل تصوُّر العالم واحدًا، لا فرق فيه بين الواحد والكثير إلا اختلافًا في الدرجة وليس اختلافًا في النوع. هي صورة شعرية ورؤية فنية للعالم بدلًا من التحليل العقلي والحجج الصورية في نظرية الخلق وأدلة وجود الله من الحدوث إلى القِدَم، ومن الممكن إلى الواجب، ومن المعلول إلى العلة.

(١) إخوان الصفا

ولا يوجد عند الإخوان تصورٌ واحد للفيض بل على الأقل ثلاثة تصورات. الخلق الفيضي الذي يجمع بين الخلق والفيض. يؤيد الخلق ثم يكتشف عيوبه، والفيض العددي لما كانت الأعداد هي الكائنات ووحدات الكون، والفيض الكوني أي مراتب الوجود، الله والعقل والنفس والمادة.

(أ) الخلق الفيضي

والعجيب أن الإخوان يقولون بحدوث العالم، وينقدون القول بقِدَمه باعتبارهم متكلمين، ولكنهم يختلفون معهم في نوع أدلة الحدوث كما اختلف ابن رشد مع الأشاعرة. ويستعملون أولًا أدلة من الفيض لإثبات الحدوث ثم يقولون بالفيض كفلاسفة، ويصفون فيض العالم عن الله ليس بطريقة الفارابي اعتمادًا على فلك بطليموس ولكن اعتمادًا على أعداد فيثاغورس، فيض الوجود عن الأعداد. يقولون بالخلق كمتكلمين، وبالفيض كفلاسفة، وبالإشراق كصوفية. ولما كان القول بالخلق أقرب إلى الأشعرية لم تكن هناك مسافة كبيرة بين الخلق الأشعري والفيض الإشراقي. القول بحدوث العالم ونقد قِدَمه أقرب إلى علم العقائد منه إلى الفلسفة. بل إن الإخوان يستنكرون الاختلاف حول العالم وينتهون إلى ضرورة القول بخلقه. ويعتمدون في إثبات حدوث العالم على العلم الطبيعي وتحليل الحركة في العالم والتحدي بمعرفة العالم أولًا قبل إدراك حدوثه وقبل إثبات الصانع. ويستنكرون إثبات حدوث العالم ببراهين إلا على نحو معين. الحجة المقبولة هو توسُّط الإنسان في كل شيء في جسمه وقواه ورتبته وعلمه وحواسه. يثبت حدوث العالم عن طريق التفكر في حدوث الأشياء أولًا قبل حدوث العالم وعلَّته، معرفة صورة العالم كما تُدركها الحواس وليس في الماضي أو المستقبل على كثرة الكواكب وأبعادها ومقاديرها وأعظامها وحركتها والمجرة وما نراه من أثر على وجه القمر، وعلة اختلاف أجناس المعادن وأشكال الناس وهياكل الحيوان. فالدليل في اللاهوت الطبيعي وليس في اللاهوت العقلي. القول بحدوث العالم هو العلم، والقول بقِدَم العالم هو الجهل.١

ولا يكتفي الإخوان بإثبات حدوث العالم إيجابًا بثقافة الفيض ولكنهم يعيدون الكرَّة سلبًا بنقد قِدَم العالم عن طريق دليل الحركة الذي يقوم على مقدمتَين. الأولى أن الحركات تدل على اختلافها، والثانية أن المتحرك المختلف لا يكون قديمًا. والنتيجة إذن الله هو القديم. وهي مقدمات أشبه بقياس منطقي مجرد، والنتيجة تقوم على قياس الخلف. كما يدل اختلاف الحركات على أنها واقعة بقصد قاصد وصنْع صانع وجعْل جاعل وفعْل فاعل حكيم قادر عالم. ويرجع خطأ القول بقِدَم العالم إلى الظن بأن العالم ساكن في حين أنه متحرك حركة الفناء والبعث. والقيامة نوعان، للعالم الكبير وللعالم الصغير.

ويستعرض الإخوان حجج الحكماء في إثبات الحركة أو نفيها؛ لأنها لا معنًى لها ولا حقيقة. ويحولون الحركة من المستوى الصوري الطبيعي إلى الحركة النفسية. فالحركة والسكون إما عن حس قادر تشخيصًا لها وإما الحياة نفسها بالطبائع. ويستطرد الإخوان في بيان أنواع الحركة والمحركات ووجهات الحركات المختلفة وسبب حركات الكواكب وحركات الحيوان. ويتحول الموضوع من الطبيعيات الإلهية إلى النفسانيات والعقليات؛ لأن النفس مبدأ الحركة وفي العلوم الناموسية الإلهية والشرعية لدلالتها على الحياة الاجتماعية والسياسية والقانونية.٢

ويستعرض الإخوان آراء السابقين دون ذكرٍ للكندي أو الرازي، ربما صمْتًا عن المصادر، وللطابع التجميعي الموسوعي للرسائل، وربما الطابع السري للجماعة، وربما لأولوية الموروث على الوافد فيها، وربما للثقافة الشعبية التي تعرضها والتي لا تتحمل الثقافة العالمة عند حكماء البلاط.

ويدافع الحكماء عن أنفسهم ضد تهمة قِدَم العالم استباقًا لدفاع ابن رشد ضد اتهام الغزالي لهم بذلك. ويحذرون من سوء الفهم لأقوالهم وإلصاق تهمة بهم بناء على خطأ شائع. وما أكثر الشائعات التي أُطلقت على الحكماء، وقد كان الحكماء يتعاملون مع الثقافة الوافدة والأفكار الشائعة فيها بالإضافة إلى الثقافة الموروثة. فينشأ ازدواج بين الثقافتَين قراءة الموروث في الوافد، وقراءة الوافد في الموروث، مما يسبب خلطًا بين عرض الوافد ونقد الموروث. وحجتهم ضعيفة وهي أن الحكماء لا يتصورون الصلة بين الله والعالم في الزمان والمكان ومن ثَم ينشأ القول بقِدَم العالم. وهي حجة افتراضية وليست لها صياغة منطقية على عكس صياغات ابن رشد لحججه النقلية العقلية الصارمة. الزمان عدد الحركة، والله لا يتحرك.

كما يدافع الإخوان عن استقلال الجوهر بنفسه كما يقول الحكماء أي استقلال الطبيعة فظن الناس أنهم يفكرون أنه بفعل فاعل مع أن الله هو الذي أبدع صفاته. لذلك يُساء فهمُ قول الحكماء، ويتهمون بالقول بعجز الله، والله ليس عاجزًا. العجز ليس بالضرورة من الفاعل بل لعدم تقبُّل المفعول أو من جهة الفاعل لضعف الفاعلة أو قلة معرفته أو غياب الأدوات، وغياب المكان والزمان والحركة أو من جهة المادة وعدم قبولها أو عسرها، وفهم آيات القدرة على أنها خصوص لا عموم. العجز فينا ثم تشبيه الله بأنفسنا لأن الفكر الديني يقول على التشبيه، قياس الغائب على الشاهد. والله منزهٌ عن الاجتهاد والصنعة والعجز.٣
ويقدم الإخوان حجة على حدوث العالم عن طريق خرابه. فما دام العالم سينتهي يوم المعاد فما ينتهي لا بد وأن يبدأ. نهاية العالم نتيجة طبيعية لبدايته. ويحاول الإخوان صياغة هذه الحجة في مقدمات قد لا تؤدي بالضرورة إلى النتيجة أو مقدمات هي في ذاتها في حاجة إلى إثبات وتعبِّر عن إيمان مسبق.٤ والواضح منها لا يقدم جديدًا؛ لأنها تقوم على إثبات الفاعل الحكيم المختار والقصد والغرض والعناية. صحيح أن الخلق والبعث، البداية والنهاية مرتبطان، ولكن القضية ما المقدمة وما النتيجة؟ ما العلة وما المعلول؟ هل الخلق مقدمة والبعث نتيجة وهو الأكثر اتساقًا مع منظومة العقائد، أم أن البعث مقدمة والخلق نتيجة كما هو الحال عند الإخوان؟ وكل ذلك تشبيه بالعالم الإنساني وإسقاطه على الله. وتعاد صياغة نفس الحجة على مستوى أخلاقي، الأثر الضار لقِدَم العالم على سلوك البشر، والأثر الحسن لحدوث العالم على حياة الناس. الاعتقاد بقِدَم العالم يؤدي إلى الجهل وعدم البحث في حين يؤدي الاعتقاد بالحدوث إلى العلم والبحث. وهي حجة خطابية إنشائية يمكن قلْبُها إلى العكس، الأثر الحسن للاعتقاد بقِدَم العالم، وأن الإنسانَ باقٍ فيه عاملًا كادحًا له قوانينه الطبيعية التي يقدر الإنسان بعلمه على معرفتها، وبإرادته على السيطرة عليها. في حين يؤدي القول بالحدوث إلى إهمال العالم الفاني، والاستعداد للخلود الفردي خارج العالم، والارتكان إلى العلة الأولى، وإهمال العلل الثانية كما هو الحال اليوم.٥

ويتناول الإخوان موضوع العلية والعناية باعتبارها العنصر المتوسط بين الله والعالم في نظرية الخلق، وهو تعبير كلامي أو حدوث العالم وهو التعبير الفلسفي. ففي رسالة «العلل والمعلولات» تظهر العلل الشعورية. فهي رسالة في النفسانيات والعقليات أكثر منها رسالة في الطبيعيات أو الميتافيزيقا الصورية نظرًا لأن الطبيعة حية والإنسان في وسطها. وتهدف الرسالة إلى إثبات العدل بمعنى المتكلمين خاصة المعتزلة أو العناية عند الفلاسفة. فنِعَم الله كثيرة وفي مقدمتها الحكمة، والحكمة تأويل القرآن وليست الفلسفة اليونانية. فالعناية في الطبيعة حدسٌ لا شعوري من توجُّه قرآني رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ وحاجة العالم إلى العناية بعد الخلق مثل حاجة البناء إلى الصيانة بعد التشييد.

والعلية إجابة عن تساؤلات تسع هي الأعراض: هل ما، لمَ، أين، كيف، أين، متى، مَن؟ جمعًا بين العلل الأربعة في الفلسفة والأعراض. ويبحث الإخوان في تعريف العلة والمعلول وتحديد أنواعها كما هو الحال في رسائل الحدود والرسوم منذ الكِنْدي حتى ابن سينا والجرجاني وواضعي رسائل التعريفات. ومعرفة الحقائق بمعرفة العلل، أي الفكر العلمي الأصولي، وبالنفس الطاهرة، علم الطبيعة مع علم النفس مع علم الأخلاق. معرفة العالم الخارجي مشروطة بالعالم الداخلي. فالتعليل هو الحكمة، والبحث عن العلل هو عمل بالحكمة. فالعلوم وموضوعاتها متداخلة، لا فرق بين الإلهيات والطبيعيات والنفسانيات والأخلاقيات والاجتماعيات.

ومسائل العلية لها إجابتان، واحدة للعامة وأخرى للخاصة، قد تتفقان وقد تختلفان مثل: لمَ خلَق الله العالم بعد أن لم يكن؟ لمَ خلقه في الوقت دون وقت؟ لمَ خلقه على هذه الصورة؟ كيف خلق العالم وابتدأه أولًا وآخرًا؟ والإجابة لحكمة وخير. فالله جواد حكيم، والخلق حكمة، ولعلمه بذلك الوقت نظرًا لعلم الله المسبق، ومن أجل الحكمة والإتقان أو عن طريق الأعداد. فالله يعلم كل شيء في الأرض من معادن ونبات وحيوان وكل ما في الدنيا من كثرة يجري مجرًى واحد. وحركات الحيوانات وجهاتها وأشكالها وهيئاتها وصورها لا يعلمها إلا الله كما هو الحال في التوحيد عند المتكلمين.٦

وينتقل الإخوان من البحث عن العلل في الطبيعة أي الحكمة من الإنسان إلى الحيوان بحثًا في جبلة الحيوان عن أربعة أسباب: آلامها، عطب أبدانها، شقاوة نفوسها، هلاك هياكلها بالجوع والعطش والشهوات المختلفة واللذات الذليلة.

آلام الحيوان حفاظًا على بقائها، وحماية لأجسادها ووضع حب الحرب والقتال فيها أو الهرب والفرار. لكل منها عمر يموت ثم يأكله حيوان آخر حتى لا تبقى الجثث جيفًا وينشأ الضرر. والحكمة في الألفة بين الحيوان الجماع، وفي نفور بعضها التباعد والانتشار والتباعد في الأماكن على عكس الإنسان الذي في حاجة إلى الزحام والتعاون في المدن والقرى.

ويأكل الحيوان بعضه بعضًا للنفع على عكس ما قاله المعتزلة في التعويض عن الآلام. ويظل الاعتراض قائمًا لماذا يستعبد البعض على حساب البعض الآخر؟ وهناك عدة إجابات على ذلك من فعل الحكيم الشرير. فللعالم فاعلان خير وشرير، أو من فعل النجوم أو عقوبة لها على ما سلف من الذنوب في الأدوار السالفة، وهو رأْي أهل التناسخ أو العوض تحقيقًا للعدل أو للأصلح تبريرًا للشر، وهو رأي المعتزلة أو للعجز عن الفهم أو غياب الحكمة مع أن أفعال الباري قصدية، تهدف إلى تحقيق النفع الكلي والصلاح العمومي. وهو مقياس فقهي؛ إذ لا يمكن فهم الكل بالنظر الجزئي.

ومع ذلك يظل الاعتراض قائمًا. لماذا يكون البعض مأكولًا والآخر آكلًا؟ لماذا لا تتحلل الجثث وتصير ترابًا؟ وماذا سيأكل الإنسان الأخير آكل الإنسان الأول؟ ولماذا يكون البعض أشرف والبعض الآخر أقل شرفًا؟

والحكمة في اختلاف النبات منافع الحيوان نظرًا للتراتب في الوجود بين الأعلى والأدنى، من الإنسان إلى الحيوان إلى النبات مثل التراتب بين الكلي والجزئي. وكما يوجد إسقاط من الإنسان على الحيوان هناك إسقاط من الإنسان على النبات.٧

وعلة اختلاف اللغات والألوان والأخلاق والصور والأب واحد اختلاف الأماكن والأتربة والأهوية وطوالع البروج وساحات الكواكب والآراء من أجل الاجتهاد واستخراج العلم.

والعالم عالمان، روحاني وجسماني، والجسماني أفلاك وأركان ومولدات والعالم الروحاني محيط بالعالم المادي، محيط بعالم الأفلاك، وعالم الأفلاك محيط بعالم الأركان الذي دون فلك القمر. وقد جعل الله عالم الأفلاك كروي الشكل مستدير الحركة؛ لأنه أفضل الأشكال والحركات. والعدد اثنا عشر أفضل الأعداد، والأفلاك تسعة والكواكب سبعة لأنها أفضل الأعداد. في الفلك عقدتان، وبعض البروج متقلبة، وبعضها ذو جسدَين. بعضها ثابت، وبعضها ناري، وبعضها ترابي لما في ذلك من وجوه الحكمة وإتقان الصنعة. البروج المتقلبة لتقلُّب أمور الدنيا، والثابتة لثبات أمور الآخرة، وذوو الجسدَين لاتصال أمور الدنيا بأمور الآخرة. والعقدتان الملائكة والجن والشياطين والأرواح والنفوس. والكسوف للشمس والقمر ليلًا لدفع الشك من نفوس المرتابين الذين يظنون وجود إلهين. ولقد خلق الله العالم عالمَين، علويًّا للأفلاك وسفليًّا للأركان لإتقان الحكمة وللاعتبار في الدنيا والآخرة. العالم الطبيعي مخلوق طبقًا للعالم الإنساني: الشمس والقمر، الآخرة والدنيا، الزهرة السعد الأصغر، وزحل النحس الأكبر، والمشتري السعد الأكبر، والمريخ النحس الأكبر. فالدنيا والآخرة يفسران كل شيء في نظام الكواكب. وعطارد مزج، أي تعليق الدنيا على الآخرة. والمشتري سعادة أهل الآخرة وهي السعادة الكبرى، والزهرة سعادة أهل الدنيا وهي السعادة الصغرى. والمريخ محنة أبناء الآخرة، وزحل محنة أبناء الدنيا. الأمر إذن كله إسقاط إنساني، إسقاط الأفضل على الطبيعة المستديرة. وتقسيم الكواكب إلى سعدَين ونحسَين وممتزج إسقاط للانفعالات الإنسانية على الطبيعة تحويرًا لحديث «السعيد مَن سَعِد في بطن أمه والشقي مَن شَقيَ في بطن أمه»، وتحولًا من الحتمية الأخلاقية النفسية إلى الحتمية الكونية. ومن ثَم يكون الفارابي أفضل في نقد علم أحكام النجوم.

وبعد استنفاد الدفاع عن الحكماء ضد اتهامهم بالقول بقِدَم العالم، وإثبات حدوثه والعلية والعناية فيه يكتشف الإخوان العلاقة بين الله والعالم على أنها علاقة فيض. والفيض هو حلٌّ وسط بين الخلق والقِدَم. فهو مثل الخلق في تبعية الأدنى للأعلى، وسيطرة الأعلى على الأدنى، وهو مثل القِدَم في الربط بين العالمَين والتواصل بينهما ضد القطيعة بينهما في نظرية الخلق. لذلك تتداخل نظرية الخلق والفيض عند الإخوان فيما يمكن تسميته «الخلق الفيضي». هو خلق ولكن دون ثنائية، وهو فيض دون قِدَمه. هو إلى الفيض أقرب نظرًا للتركيز على العلاقة بين الله والعالم أكثر من التركيز على الطرفين وأهمية التراتب في الكون بين الأعلى والأدنى. إذا وقع الخلق دفعة واحدة فهو الخلق وإذا وقع تدريجيًّا فهو الفيض. وقد يكون الخلق للأمور الروحانية، والفيض للأمور الطبيعية أو العكس طبقًا لإحساس الفيلسوف الميتافيزيقي. الفيض الروحي رأسي بالضرورة من الأعلى إلى الأدنى، والفيض الطبيعي قد يكون أفقيًّا تطوريًّا طبعيًّا. وكما أن هناك أدلة على الخلق هناك شواهد على الفيض. الخلق افتراض عقلي أما الفيض فمشاهدة حسية.٨ في الخلق الفيضي، الفيض في الطبيعيات والخلق في الإلهيات. الفيض في الماديات والخلق في الروحانيات. وقد يكون العكس صحيحًا أيضًا، الروح تفيض والمادة تخلق، التدرج في الروحانيات، والدفعة الواحدة في الماديات، التواصل في الفيض والانقطاع في الخلق. وكلاهما قرآني. فخلق العالم في ستة أيام فيض، وخلق العالم دفعة واحدة بالأمر الكوني كُنْ فَيَكُونُ.

يرفض الإخوان وجود العالم في زمن الله كوجود بالقوة وصُوَر للأشياء في ذهن الصانع؛ لأن صور الأشياء استقراء في حين أن علم الله استنباط. والنزول أشرف من الصعود؛ لأن الأعلى أشرف من الأدنى، والصوري أشرف من المادي، والله أكمل من العالم واليد العليا خير من اليد السفلى. وهو أقرب إلى الخلق لأن العالم خارج الذهن الإلهي. ومع ذلك تنتهي حجج الإخوان من إثبات الخلق إلى إثبات الفيض. ويظل الموضوع متأرجحًا في نقطة البداية، الله في الخلق أم الواحد في الفيض، وإذا كان الفيض أقرب إلى الحدوث منه إلى القِدَم إلا أن ميتافيزيقيا الفيض أقرب إلى القِدَم منها إلى الحدوث. الفيض أقرب إلى التواصل منه إلى الانقطاع في حين أن الحدوث أقرب إلى الانقطاع منه إلى التواصل. الفيض تواتر بالمعنى الفلسفي وليس بمعنى الرواية والأخبار، والحدوث مثل السند المقطوع في علم الحديث. الفيض مستمر؛ لأن الوجود باقٍ، والفائض جواد كريم على المفيض عليه في حين أن الخلق عطاء مرة واحدة وليس صدقة جارية. كذلك لزمت العناية لإعادة التواصل، والبعث لإنقاذ الخلق عيب العناية التدخل في شئون العالم، والنيل من الحرية الإنسانية واطراد قوانين الطبيعة. لذلك فضَّل بعض الحكماء مثل ابن رشد صفة الحكمة على الإرادة على عكس الغزالي الذي فضَّل صفة الإرادة على الحكمة. إذا كان الفيض في الطبيعة وفي الإنسان فإن حرية الأفعال تصبح موضع شك. فالأعلى أقوى من الأدنى، وفعل الأدنى مجرد مستقبل لفعل الأعلى. وهو أقرب إلى الدفاع عن الأشعرية ضد خلق الأفعال واطراد قوانين الطبيعة.

(ب) الفيض العددي

وأحيانًا تأخذ نظرية الفيض شكلًا رياضيًّا. فكما تتراتب الأعداد تتراتب الموجودات نظرًا للتماهي بين العقل والوجود. ومعرفة المبادئ العقلية أساس معرفة مبادئ الموجودات. الموجود عدده اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة. وكل فرقة وجدت لعدد. العدد اثنان للثنوية، والثلاثة للنصارى، والأربعة للطبائع، والخمسة للخرمية، والسابعة للشيعة، والثمانية للموسيقيِّين، والتسعة للهند. وتعز السادسة. فالثنوية تقول بالصورة والهيولى.٩ والمثلثات مثل الأبعاد الثلاثة، الطول والعرض والعمق.١٠ والمربعات مثل الطبائع الأربعة.١١ وقد ينقسم كل طرف. فالهيولى في القسمة الثنائية تنقسم قسمة رباعية، الأولى وهو الجوهر، الكل وهي الأفلاك الطبيعية وهي الهواء والنار والماء والأرض. والصناعة هي النسب.

وتكشف نظرية الفيض العددي عن التحول من النقل للإبداع، من نظرية الأعداد عن الفيثاغوريِّين إلى نظرية الفيض عند إخوان الصفا. ومذهبهما واحد في العدد، والخلاف في المنظور الحضاري. الواحد أصل العدد كما أن الله واحد أصل الموجودات. لذلك تبدأ الأعداد باثنين. وتعتمد الأعداد على العقل كما يعتمد المعلم في حين يعتمد المتكلم على الحس أولًا.

وتبدأ نظرية الفيض العددي من الرياضيات إلى الطبيعيات، ثم من الطبيعيات إلى الإلهيات. فالنظام الرياضي والنظام الطبيعي والنظام الإلهي نظام واحد. في رسالة «العدد» في القسم الرياضي لا يوجد فيض، وفي الرسالة الأولى في القسم الثالث النفسانيات والعقليات يظهر الفيض العددي ثم النفسي ثم الوجودي اعتمادًا على فيثاغورس وليس أفلوطين. الطبيعة رياضة والرياضة طبيعة كما يتضح في التقابل بين الجسد والعدد. بين ثقوب الجسد والمتوالية الحسابية.١٢
وهناك ست ثنائيات مشتركة بين العدد وأفعال الله، واثنا عشر عددًا خاصة بأفعال الله. وتجمع بين الثنائيات المنطقية والطبيعيات والصوفية والدينية الصريحة أي العقائدية. وهي ثنائيات في المخلوقات لأن الوحدة من صفات الله، وهي لا تقبل المشاركة. ويتدخل الله في كل مرحلة من مراحل الفيض بطريقة غير مباشرة. وكلها من خلق الله، ولا يوجد عدد إلا وله موجود مطابق له.١٣ والأشياء مزدوجة في أفعال الله مثل الأعداد الثنوية.١٤ ومرة تُصبح الثنائيات اسم فاعل وليس اسم فعل.١٥ وبعضها مشتق من الحيوان والنبات، الطبيعيات الخاصة، اثنان مشتركان وعشرة جدد.١٦ أبدع الله الموجودات ونظمها كمراتب للأعداد عن الواحد لتكون الكثرة دالة على الوحدة، ونسبتها إلى الخالق كنسبة الكثرة إلى الواحد. الله واحد بالحقيقة يتضمن الثنوية والكثرة من كل زوجين اثنين في الحيوان والنبات.١٧ فالكثرة تتضمن الوحدة، والوحدة تتضمن الكثرة. وليس من الحكمة جعل الموجودات كلها ثنوية بل مثلثات ومربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات. فالموجودات كليات وجزئيات. والكليات مثل تسعة آحاد.
وأما الثلاثيات فهي ثنائيات ومتوسطات مركبات، طرفان ووسط.١٨ والمربعات تقسيم الأوتاد (المنازل) بحسب الأربعة من الاثنتي عشرة منزلة من منطقة البروج والأوائل (النجوم) وما يلي الوتد. فالأفلاك من الموجودات.١٩ والمخمسات مثل: الكواكب المتحيرة، والأجسام الطبيعية، وأجناس الحيوان، والحواس الخمس، وأجزاء النبات الخمسة، والأشكال الفاضلة عند إقليدس، والنسب الموسيقية، والرسل أولو العزم، وأيام عربية وفارسية، وأركان الإسلام الخمسة، والفضلاء من بيت النبوة، وفرائض الحج، ومراقي المنبر، والأيام المعدودات بمنًى وعرفات، وكتب موسى، والأصابع، والحروف في أوائل سور القرآن.٢٠ القرآن آخر مراحل الوحي بأفصح اللغات، والشريعة أتم الشرائع. وقد أتت الشرائع حسب الأعداد. وقد أتت الحروف أوائل السور حسب الأعداد أيضًا.٢١ والمسدسات طبيعة الأفلاك وأقسام البروج وحالات الكواكب.٢٢ وما من عدد من الأعداد إلا وقد خلق الباري جل ثناؤه جنسًا من الموجودات مطابقًا لذلك العدد قلَّ أو كثر.

لما كان الله واحدًا جعل الأشياء كثيرة منعًا للشرك، فالله واحد حق وغيره كذلك بالمجاز كما عبَّر الكِنْدي. والله هو الذي يعطي الواحد اسمه للموجود، والزوج والفرد، والصحيح والكسور في الأعداد لها ما يقابلها في الموجودات. الموجودات في عالم الأرواح أفراد، وفي عالم الأجساد أزواج، وفي عالم الأفلاك صحيحة، وفي عالم الكون والفساد وكسور. فكل مرتبة في الوجود مرتبة في العدد.

بل إن أصل الهندسة هو العدد؛ فالعالم كروي الشكل، وتصاريف الأمور الجزئية أيضًا مستديرة؛ الأرض والهواء والحيوان والنبات والمعادن. والشكل الكروي أفضل الأشكال. وتضم الدائرة المثلث والمربع والمخمس. ميزة الدائرة أن مساحتها أوسع وحركتها أسرع، وأبعادها عن الآفات، وأقطارها متساوية. المركز في الوسط وتدور في المكان. لا تماس غيرها إلا على نقطة وتتحرك مستديرًا ومستقيمًا.٢٣
وبتبسيط أكثر واختصار على خمس مراتب، الله واحد، والعقل اثنان، والنفس ثلاثة، والهيولى أربعة، والصور المجردة خمسة. وعلاقة الواحد بالمتوالية الحسابية مثل علاقة الله بالفيوضات الأربعة.٢٤ ولكل مرتبة في الوجود مرتبة في العدد.

ويأخذ مسار الفيض وهو تطور رأسي من أعلى إلى أسفل عدة مراحل وليس تطورًا أفقيًّا من الخلف إلى الأمام، عدة مراحل، تميز اللطيف عن الكثيف، صور الأشكال الكروية الشفافة الفلكية، تركب بعضها فوق بعض، استدارة الأجسام النيرة. ويمكن تمييز مسار آخر، تركيز مراكزها، تمييز الأركان الأربعة، ظهور نظامها وترتيبها. مسار التطور إذن، الشكل والتركيب والعلاقة والجوهر.

وعلاقة الأعلى بالأدنى هي علاقة كمال ونقص. بقاء الأعلى وجود الأسفل، وتمام الأعلى بقاء الأسفل، وكمال الأعلى تمام الأسفل، ومراتب الكمال ثلاث: أعلاها باقٍ تام كامل، وأوسطها باقٍ تام، وأدناها باقٍ.٢٥ الفيض من الكمال إلى النقص، والإشراق من النقص إلى الكمال. والفيض بضرورة الجود وليس فعلًا إراديًّا. كما أن الإشراق تأمُّلٌ عقلي وليس فعلًا إراديًّا. والفيض ليس فقط في الوجود بل أيضًا في النفس، أي في المعرفة والسعادة حيث يتوحد الوجود بالقيمة في ملحمة كونية عامة.
وتظهر ألفاظ الاختراع والإبداع والفيض والخلق على التبادل دون فروق اصطلاحية دقيقة؛ فقد أوجد الله الكل وأبدع من غير واسطة ثم أوجد النفس بواسطة العقل ثم أوجد الهيولى. فالعقل جوهر روحاني فاض عن الله. وهو باقٍ وتام وكامل. والنفس جوهر روحاني فاض من العقل وهي باقية تامة غير كاملة. والهيولى الأولى جوهر روحاني خاصة من النفس. وهو غير باق غير تام ولا كامل. العقل بلا واسطة والنفس بواسطة. والفيض من خلال الواسطة. كل مرتبة دنيا تفيض من المرتبة العليا حتى الرابعة. علاقة الفيض بدل عن علاقة العلة بالمعلول في الخلق. العقل فاض عن الله، والنفس عن العقل، والهيولى عن النفس. والعقل يقبل الفيض من الله. والبقاء والكمال والتمام دفعة واحدة لأنه حدس لا وساطة، في حين أن النفس تقبله بوساطة العقل. ولما كانت النفس بعيدة درجتَين احتاجت إلى الشوق والكمال والتمام والبقاء أكثر مما يجعل الإشراق نتيجة طبيعية للفيض. الإشراق في النفس والفيض في الوجود. أما الهيولى فلا تحتاج لبعدها. فهذه هندسة كونية عقلية إشراقية.٢٦ وأحيانًا يستعمل إخوان الصفا لفظ سريان. وينطبق على أوصاف الذات مثل الوجود والبقاء والوحدة وصفاتها مثل العلم والقدرة والحياة، وبها سياسة مثل الرياسة، وأسماء الربوبية والكمال والتمام.
ويبدو الترتيب الخماسي في نظرية الفيض، الله والعقل والنفس والهيولى والطبيعة أي عالم الأركان الأربعة. الله هو البداية والطبيعة هي النهاية. لما صدرت الموجودات من الأول يستحيل الحديث عنها دون بيان الأصل الذي صدرت عنه. إذا ثبت الله فالعالم يصدر عنه، وإذا ثبت العالم فالله خالقه. والإلهيات تؤدي إلى الطبيعيات، والطبيعيات تؤدي إلى الإلهيات. نظرية الفيض ربطٌ بين الطبيعيات والإلهيات بدلًا من هذه الثنائية الحادة بين طرفَيها في نظرية الخلق. هي أقرب إلى أساطير الخلق التي يتحد فيها الذات بالموضوع، والله بالعالم. الله هو الذي أوجد الزوجين الأولين، العقل والنفس، دائرتين محيطتين. الكون علو وسفل، حائط ومحوط، استمرارًا للثنائية التقليدية بين الصورة والمادة، الذكر والأنثى، آدم وحواء، الله والعالم. ويصعب معرفة الأبوين، العقل والنفس أم آدم وحواء نظرًا للتشكل الكاذب. تحولت الذاتيات إلى كونيات، تحولت الطبيعة إلى كتاب، والكتاب إلى طبيعة كما هو الحال في «علم الميزان» عند الشيعة. وتقوم القسمة الخماسية على قسمة رباعية باستثناء الله، وهذه على قسمة ثنائية، الأصل الفرع: وهما مصطلحان أصوليان.٢٧ العقل أصل والطبيعة فرع، والنفس فرع للعقل وأصل للنفس. والنفس فرع للعقل وأصل للهيولى. وهي أيضًا ثنائية النظر والعمل. العقل نظر والنفس عمل، والطبيعة عمل دون نظر، والنفس عمل بالنسبة للعقل ونظر بالنسبة للهيولى. والهيولى عمل بالنسبة للنفس ونظر بالنسبة للطبيعة. وهي أيضًا علاقة التنزيه بالتشبيه. الله تنزيه دون تشبيه والطبيعة تشبيه دون تنزيه، والعقل تشبيه بالنسبة لله وتنزيه بالنسبة للنفس. والنفس تشبيه بالنسبة للعقل وتنزيه بالنسبة للهيولى. ولا يوصف العقل بأنه الفعال كما هو الحال عند باقي الحكماء. والعجيب بعد تأليه العقل إلى هذا الحد أن يسود اللامعقول والسحر والخرافة والجهل نظرًا لارتباطه بما هو أعلى وليس بما هو أسفل أي الطبيعة، العقل العلمي وليس العقل الإلهي.
ويتداخل علم الكلام مع نظرية الفيض؛ فالفلسفة تطوير لعلم الكلام، وعلم الكلام هو أحد المصادر الداخلية للفلسفة. ولما كان الله هو أول الموجودات برزت قضية الذات والصفات. ولا توجد صفة لا يشارك فيها الإنسان، ما ينبغي أن يكون وهي صفات الإيجاب، وما هو كائن وهي صفات السلب. وكلاهما إنشاء، مرة إيجابًا ومرة سلبًا. فهي صفات في الإنسان على الحقيقة وفي الله على المجاز.٢٨ والنبي في زمانه، والحكيم في وقته يفاض عليه من القوة المتصلة به من العالم الأعلى المخصوص بالعالم.
ويتم الفيض في النفس على مراحل العمر. وهي سبع. ولكل مرحلة أوانها في الإدراك من الطفولة إلى الكهولة، من القوة الحساسة إلى الناطقة إلى العاقلة المميزة إلى الحكمية المستبصرة إلى الملكية المؤيدة إلى الناموسية الممهدة للمعاد أو المفارقة للهيولى حي آخر العمر إلى المعراج.٢٩ وتتأيد النفس النباتية بسبع قوى فعالة.٣٠ والنفس باقية. النفسانيات والعقليات هما الدرجتان الثانية والثالثة من الفيض. والجسمانيات هي الطبيعيات. ولا توجد إلهيات بل علوم ناموسية إلهية وشرعية بالإضافة إلى الرياضيات والمنطقيات. ومع ذلك فالكل إلهيات. ويبدو الفيض في النفس أقرب إلى التصور الحيوي للطبيعة الذي يضع روحًا سارية في كل شيء حتى في الأركان الأربعة في أفعال الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل وفي تكوين المعادن. فكل شيء له نفس.٣١
وتختلف مراتب الفيض من رسالة إلى أخرى بين أربع وخمس وعشر والروح واحدة. الله يفيض على الملائكة الذين يفيضون من بعدهم على الأنبياء الذين يفيضون على البشر. والأنبياء والحكماء سيرة واحدة مما يدل على اتفاق الحكمة والشريعة. يفيض العلم من الله إلى الملائكة إلى البشر إلى حيوان البر وحيوان البحر. فلا حدود للفيض في الحيوان والنبات والجماد.٣٢

الفيض من أعلى إلى أدنى هبوطًا، والإشراق من أدنى إلى أعلى صعودًا. ففيض المعارف على العقل والنفس الصافية، نفوس الأنبياء والأولياء.

وإذا كانت أفعال الطبيعة مستمدة من الوسائط وليس من الله مباشرة وأن أفعال النفوس الجزئية الإنسانية مستمدة من قوى النفوس الكلية الفلكية تظهر نظرية الفيض لتُفسِّر هذا المدد وهذا الصدور من أعلى إلى أدنى. فقد جعلت الحكمة الإلهية والعناية الربانية الكواكب واسطة بين المركز والمحيط. إذا كانت في الأوج قربت من الأشخاص الفاضلة واستمدت منها الفيض.٣٣ وإذا كانت في الحضيض أوصلت الفيض إلى العناصر فتكونت المعادن والنبات والحيوان. فحركات الأفلاك بين العلو والسفل، بين الأعلى والأدنى، تأخذ الفيض من أعلى وتصبُّه في أسفل، من عالم ما فوق القمر إلى عالم ما تحت القمر، من عالم الأفلاك إلى عالم العناصر الأربعة. إذا سارت الفيوضات من هناك إلى مركز العالم نزلت البركات من السماء إلى الأرض، الأرزاق والرحمة والوحي والتأييد والنصر.٣٤
والنفوس الجزئية خادمة للنفوس الكلية. إذا أحسنت في خدمتها وطلبت الأجر والجزاء من الله تنال منزلة جلية وكرامة، ومكافأة بعد مفارقتها هياكلها سواء كانت الخدمة في إصلاح الدين أو إصلاح الدنيا. فلا يضيع عند الله شيء احتسابًا لوجهه. وأفعال الأنفس الجزئية من قوى النفس الكلية التي أنشأها الله، الخير والشر فيها، والثواب والعقاب عليها. مع أن هذا لا يحل قضية المسئولية. فلو كانت الأفعال من النفوس الجزئية وجب الاستحقاق، وإن كانت من ذوي النفوس الكلية امَّحت المسئولية ولم يجب الاستحقاق. والنفوس الجزئية من قوى النفوس الكلية والفلكية، لا هي بعينها ولا منفصلة عنها مما يؤدي إلى نظرية الفيض. كما أن الجسد جزء من أجسام العالم لا هو كله ولا منفصل عنه وكذلك الأفعال. وقد ذكرت قوى النفس الكلية البسيطة التي تعمل أجناس النبات وأنواعها في كتب الأنبياء على أنها ملائكة الله وجنوده طبقًا لظاهرة التشكل الكاذب، واستبدال النفوس الكلية بالملائكة. وإذا فارقت الأجساد تكون مشغولة بتأييد النفوس الناقصة حتى تكمل وترتقيَ إلى حال أعلى تشبهًا بالله فالحكمة هي التشبه بالله. بحسب طاقة البشر. وماهية الإنسان تتدرج من أسفل إلى أعلى من اللامرئي، من اللحم والعظم إلى الجسد والروح إلى النفس الناطقة. لذلك يكون البحث إما في الجسد أو في النفس والجسد أو في النفس الخالصة، طرفان ووسط بناء على تعريف النفس أيضًا من أدنى إلى أعلى من عرض يتولد من الأخلاط إلى جسم لطيف غير مرئي إلى جوهرة روحانية.٣٥
والحيوانات كالإنسان والنبات على مراتب، البعض منها قريب من الفضائل الإنسانية والبعض الآخر بعيدٌ عنها. البعض منها شريف، والبعض الآخر خسيس.٣٦ والنبات واسطة بين الإنسان والعناصر لطفٌ من الله وعناية منه. وترتيب النبات والحيوان والإنسان أمرٌ إلهي يدل على الحكمة الإلهية والعناية الربانية دلالة لأولي الأبصار والباحثين عن حقائق الأشياء. الحيوان يتغذَّى على النبات، والإنسان يتغذَّى على الحيوان والنبات. كما وزع إله المواهب على كل الكائنات. وهي أوسع من أن يأخذها شخص واحد أو نوع واحد أو جنس واحد. والحيوانات تختلف فيما بينها في طريقة التكاثر والطيران؛ لأنها تنقسم أيضًا إلى العناصر الأربعة. فجسدها يكون أقرب إلى عنصر منه إلى الآخر.
والطبيعة والقيمة نظام واحد. الطبيعة قيمة، والقيمة طبيعة. ويتحدان معًا في الجغرافيا البشرية. ويبدو هذا الاتحاد أحيانًا في أسماء الحيوانات مثل «مالك الحزين».٣٧ الحيوان إما ناقص كالعنكبوت أو ناقص تام كالحشرات والهوام، بيض وفقْس، أو تام الولادة من ذكر وأنثى. ويتقدم الناقص التام في الزمان لحاجة التام إلى الزمان والكمال. وكل عضو خادم للآخر من أجل منفعته وفائدته وتحقيق غرضه وكماله من أجل بقاء النسل. ومراتب الطبيعة وسلم القيمة من حكمة الصانع وجلال عظمته. فالأجسام كلها من جنس واحد وجوهر واحد وهيولى واحدة. وإنما اختلافها بحسب صُوَرها وشرفها وغايتها. فعالم الأفلاك أصغر وأشرف من عالم العناصر. والعناصر بعضها أشرف من بعض.٣٨ والمراتب الثلاث الكبرى الإنسان أشرف من الحيوان، والحيوان أشرف من النبات. والمعادن تتفاوت شرفًا، وكلها من الزئبق والكبريت.٣٩ وهما تركيب من العناصر الأربعة. وكل جسم يقبل صورة الكل يكون أشرف مما لا يقبلها، وهو الجسم الساذج مثل شرف النفس الجزئية لاستقبالها العلوم.٤٠

وقسمت أجناس الكائنات إلى أقسام. الموجودات بحسب طبيعة الوجود مما يسمح بالمراتب والتفاوت. وقد اكتشف الحمار وهو يمثل المعارضة ضد السلطة التعددية في الطبيعة أكثر مما اكتشفتْها السلطة، وفي نفس الوقت التعادل والكمال والجنس، وجدل السلب والإيجاب حتى الشمس والقمر. بها الكسوف والخسوف، الملائكة والشياطين، الإنس والجن. فالكمال لله وحده. هذا هو حمار الحكيم.

ومراتب الطبيعة في تصور رأسي على شكل هرم في قمته الله. ثم يتدرج الهرم إلى أفلاك ثم الإنسان ثم الحيوان ثم النبات ثم المعادن. وكلما صعدنا إلى أعلى زادت مراتب الشرف وقلَّت مراتب الخسة وكلما نزلنا إلى أسفل زادت مراتب الخسة وقلَّت مراتب الكمال. والمراتب في التقدم والشرف وليس فقط بالزمان. وتتحد مرتبة الشرف بالغاية والقصد. لذلك يتقدمها الإنسان جميعًا. وتتفاوت مراتب الحيوان أيضًا طبقًا لظهور الحواس فيه، الحس، البدن، الحركة، الصوت. الإنسان يتجه إلى أعلى، والنبات إلى أسفل، والحيوان أفقيًّا إلى الأمام. ونسبة صورة الإنسان إلى سائر الحيوانات كنسبة الرأس إلى الجسد، السائس والمسوس، الملك والخادم.٤١ وأوتادها المعادن، وهي مكونة من العناصر الأربعة. ومنها يتكوَّن النبات مع زيادة التغذي والنمو، طولًا وعرضًا وعمقًا. ويشارك الحيوان النبات، ويزيد عليه الحركة والحس. والإنسان يشارك النبات والحيوان ويزيد عليها النطق. وكل زيادة انفصال وكسر في خط التطور.٤٢ وكل تقدُّم في الكون لا يعني تقدُّمًا في الشرف؛ فالجماد متقدم على المعادن بالزمان، والمعادن متقدمة على النبات، والنبات متقدم على الحيوان، والحيوان متقدم على الإنسان. فالتقدم هنا يعني سلمًا أدنى من التطور، والتأخر يعني سلمًا أعلى. وهناك مراتب متوسطة داخل كل مرتبة. هناك حيوان أرقى من حيوان وأقرب إلى الإنسان، وحيوان أخس من حيوان وأقرب إلى النبات. وكذلك الأمر في النبات. الأشرف الذي يقرب من الحيوان. والأخس الذي يقرب من المعادن. وهناك الإنسان الأشرف الأقرب إلى الملاك، والإنسان الأخس الأقرب إلى الحيوان.
والترتيب نفسه في حاجة إلى نظر. هل الهيولى الأولى تسبق الصورة المجردة؟ قد يلزم العكس. فالصورة أشرف من الهيولى حسب مراتب الشرف. وماذا تعني الهيولى الأولى؟ هل هي مادة؟ كيف تكون هيولى روحانية؟ وكيف تخرج الطاعة منها؟ كيف يتحول هذا العالم الروحاني إلى مادي. فيض الروح من الروح سهل ميسور، وخروج المادة من المادة أيضًا سهل وطبيعي، ولكن فيض المادة عن الروح في حاجة إلى قفزة وانقطاع.٤٣

في الطبيعيات هناك تقدُّم زماني، وفي الروحانيات لا يوجد ولكن هناك تقدُّم روحاني على المبادئ. فالنفس متقدمة على البدن ولاحقة عليه (المعاد)، عودة النفس إلى حالتها الأولى بعد الدهور والأعوام. هذا نوع من تاريخ الروح. وفي العودة تحتاج النفس إلى الأخلاق والتطهير. فكان التصدق هو طريق العودة وليس العمل الصالح والجهد والإرادة في العالم. الله هو الفائض الأول على العقل، ومن العقل إلى النفس، ومن النفس إلى الهيولى. فهو المصدر الأول للفيض. فهي تعددية فلسفية لا أفقية، تراتبية وليست على مستوًى واحد. كما أن المصدر الأول والأكمل والأشرف في تصور هرمي، تعددية الطبقات وليست تعددية القوى. هذه هي ملحمة الوعي، موسيقى الكون، نَغَم الطبيعة، شعر الوجود، روح التاريخ. فالخلق قصة مثل الأساطير القديمة في فارس، أهرمان وأرمزدا، تفسير الأساطير الخلق والمعاد على نحوٍ علمي متسق، متفق مع الحضارات القديمة ومستواها. هو تفسير للعالم بالمبادئ والغايات وفي نفس الوقت تقسيم العمل بحيث تؤدي كلُّ مرتبة وظيفتَها.

ولكل دائرة معرفة تخصُّها، الملائكة والإنسان والحيوان والنبات والمعادن. فمراتب الفيض خمس من أعلى إلى أسفل، وخمس من أسفل إلى أعلى. وأفعال الروحانيِّين وهي الملائكة فيضٌ من العقل والنفس. الفلاسفة تُسميها روحانيات، والناموس يسميها ملائكة، ولا مشاحة في الألفاظ.٤٤

والعجيب أنه في القسم الرابع «في العلوم الناموسية الإلهية والشرعية» تعود نظرية الفيض من جديد في الرسالة الثامنة «أحوال الروحانيين». ولا يعني الروحانيون أعضاء المدينة الروحية مما يبرر وجود الرسالة في هذا القسم بل الموجودات الروحانية، الملائكة والشياطين، وبالمناسبة العودة إلى نظرية الفيض، الله، والعقل، والنفس، والهيولى، والطبيعة، تفيض كل مرتبة لاحقة من المرتبة السابقة. وقد برر وضعها أن الناموس لا يعني الشريعة الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية أو قانون التاريخ، بل قد يعني أيضًا قانون الطبيعة وسنن الكون. وفي هذه الحالة تكون أدخلَ في الحكمة النظرية منها في الحكمة العملية.

تغلب على الرسالة السمعيات دون العقليات. ويُشبه الموضوع آخر جزء من نظرية الوجود في علم أصول الدين بالسؤال عن وجود الجن والشياطين.٤٥ وتبدو أهمية الموضوع عند الإخوان في ثنائية متصارعة يسهل استعماله للإقناع في الدين الشعبي. الموضوع من الموروث، عقاب الجن والشياطين لاسترقاق السمع كصورة فنية على أهمية موسيقى القرآن ونَغَم الكون وعلى سماعه في العالم الإنساني.٤٦

(ﺟ) الفيض الكوني

بعد الخلق الفيضي، الفيض يتولد من الخلق، والفيض العددي، الفيض يتولد من الأعداد هناك الفيض الكوني الذي يتولد فيه الفيض من الأفلاك. يرفض الفيض ثنائية الخلق إلا أنه يضاعف ثنائيته على نحو تراتبي في تصور هرمي للعالم. يبدأ التراتب بالثنائية. فالموجودات كلية وجزئية، والكلية أشرف من الجزئية والجزئية تفيض عن الكلية.٤٧
يبدو عالم الأفلاك في قلب نظرية الفيض. وهو متصل بالحركات النفسانية، إحالة من النفس إلى العالم، ومن العالم إلى النفس. النفس ذات طرفين تنحط منها قوتان، قوة مما يلي الطبيعة المتحدة بها من الأفعال الطبيعية، وقوة تنحط من الطرف القريب من العقل فتتحصل بالصور الإنسانية، وتتشكل بالأشكال الفلكية. ومكانها من الأرض مواضع الملوك والرؤساء.٤٨ وتنحط من دائرة الشمس إلى عالم الأرض دائرة لوضع ملائكة تسميها الحكماء روحانيات. ولهم صفات في الأسرار الناموسية والعلوم الشرعية تليق بهم. هذه المنزلة أجلُّ منازل الروحانيِّين الفاضلين وهم الملائكة المقربون. الدوائر السابقة هي الدوائر الفلكية السماوية والروحانيات الهابطة من الملأ الأعلى من لون العرش إلى منتهى المركز أسفل سافلين وبين فلك دائرة ودائرة فيها من السكان ما يظهر من أفعالهم في الزمان بموجبات القران. يثبت من جرم كل كوكب من الكواكب الثابتة قوة روحانية تسري في جميع جسيم العالم من أعلى الفلك الثامن الذي هو الكرسي الواسع إلى منتهى مركز الأرض. وبهذه القوة مع هذه الملائكة يكون النور الذي تشرف به السموات، وتضيء الأفلاك، ويتصل بالشمس، الملائكة العالون سكان الكرسي الواسع وحملة العرش المحيط من فوقهم يمدونهم بالفيضانات الكاملة في جوار رب العالمين، المستمعون لكلامه، الفاعلون بأمره، حملة الوحي إلى الأنبياء. ودائرة الشمس في العالم العلوي دائرة شريفة بمنزلة القلب من الجسد.
قرب الملائكة من الشمس صورة إنشائية وتعني المشاركة في العلو والسمو والرفعة مثل تقدُّم الأفلاك براية مكتوب عليها «لا إله إلا الله» مثل الطرق الصوفية. وهي نظرة إنسانية، توجه الفلك نحو الإنسان، والإنسان نحو الفلك في لذة العيش وأُنْس الأرواح. يتحكم فيه جدل السلب والإيجاب، السلب ممثل في المشتري وزحل، والإيجاب في المشتري وباقي الأفلاك. فالجدل أقرب إلى الإيجاب منه إلى السلب. وبالحروب يتميز الخبيث من الطيب. فالسلب إيجاب، والإيجاب سلب.٤٩ وتتحول ظاهرة التشكُّل الكاذب إلى خرافة. استعمال ألفاظ الفلك القديم للتعبير به عن الملائكة والكرسي وحملة العرش ثم ظهورهم على الأرض بموجب أحكام القرآن.
وقد خُلقت الموجودات طبقًا لبروج الأفلاك، وجسم العالم مركَّب من إحدى عشرة كرة. والفلك مقسوم نصفين. وفيه اثنا عشر برجًا. والأرض ليست مجموعة متخلخلة لكثرة المغارات والكهوف والأودية أما الكواكب فمصمتات.٥٠ وهناك عدة دوائر أخرى بالإضافة إلى الدوائر الفلكية السماوية والروحانيات الهابطة. في دائرة ما تحت فلك القمر لا توجد أعلام ولا ملائكة ولا مواكب لأنها عالم الكون والفساد، ثم الدوائر التي على سطح الأرض الصاعدة، المعادن والنبات والحيوان والإنسان ثم دائرة الناموس الإلهي ومعها دائرة الملك والعزة والسلطان، ثم دائرة أصحاب الحِكَم الفلسفية العقلية، ثم دائرة أدنى الصنائع. ولا يختلف هذا التصور، الدوائر المتداخلة، عن التصور الهرمي للعالم منظورًا إليه من أعلى؛ وذلك لأن الشكل الكروي أفضل الأشكال؛ لأنه يجمع بين التناهي واللاتناهي عند الحكماء، ويقوم على الاتصال وليس على الانفصال، لا فرق بين عالم الروح وعالم الطبيعة، تحويل الطبيعة إلى شعر، أي إلى صورة فنية تجمع بين الحق والخير والجمال.٥١

ومراتب الفيض هي مراتب الشرف والقيمة بين الأعلى والأدنى. وأول شيء اخترعه الله جوهرًا بسيطًا تامًّا كاملًا. كل صور الأشياء فيه وهو العقل الفعال. ومنه فاضت الرتبة الكلية، وانبجس من النفس الهيولى الأولى ثم الهيولى الثانية ثم عالم الأفلاك.

وينتهي الفيض الكوني بإيجاد التقابل بين الطبيعة والإنسان، بين الأفلاك وقوى النفس، فالإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير.٥٢ بل يوجد تقابل بين جسد الإنسان العضوي وعالم الأفلاك.٥٣ ويلاحظ التطابق شبه التام بين العالمَين، وتكرار الشمس والقمر. ويستمر التقابل في أدق التفصيلات.٥٤ وهذا ما يسمَّى بنضد العالم أي وقيامه على بنية واحدة بصرف النظر عن تعدُّد مظاهره في رسالة «كيفية نضد العالم بأسره»، الرسالة التاسعة من القسم الرابع «في العلوم الناموسية الإلهية والشرعية»، وتعرض الناموس على أنه قانون الطبيعة. يعني النضد دوران كل شيء، الدوران كقانون عام، الدورة، التصور الدائري للحياة والتاريخ، دورات الأفلاك، ودورات الفصول، والدورة الشهرية، ودوران الليل والنهار، ودورات الأمم ودورات التاريخ. ويقوم على التضاد بين طرفين، الأثير والزمهرير، النار والهواء، الماء والأرض حتى يتمَّ الدوران في حركة دائرية تبدأ ولا تنتهي.٥٥

(٢) الفارابي

وقد بلغت نظرية الفيض الذروة عند الفارابي من حيث الإحكام النظري والتحليل العقلي والخطاب الفلسفي بعيدًا عن إنشائيات إخوان الصفا وأدبياتهم ورسائلهم وتشبيهاتهم ورموزهم حتى التقَى بالفكر الشيعي عند العامري والسجستاني والذي بلغ الذروة عند الكرماني.٥٦ ومع ذلك ظلت متناثرة في عديد من أعماله بل وفي فقرات متقطعة ولم تُصبح نسقًا شاملًا كما هو الحال عند السجستاني وابن سينا.٥٧ ويغلب على كل عمل جانب منها؛ ففي «عيون المسائل» تغلب المسائل الطبيعية والإلهية.٥٨ وفي «المسائل الفلسفية» يسود المنطق. و«فصوص الحكم»، وقد استعار ابن عربي نفس العنوان، أقرب إلى النص الصوفي. لذلك تسوده الإلهيات النفسية أي الإشراق.٥٩
نظرية الفيض إسلامية صوفية، موروثة من التصوف كردِّ فعل على نظرية الخلق لحكماء البلاط وفلاسفة السلطان. أصبح التصوف في أواخر الثالث وأوائل الرابع أحد مظاهر المقاومة السلبية بعد أن عزَّت المقاومة الفعلية بعد استشهاد الأئمة من آل البيت. تحوَّل الجهاد من فعل في الأرض إلى طاقة روحية في السماء تقذف بالمعارف والحقائق بعد أن زيَّفها حكماء الأرض. لذلك يخاطب الفارابي القارئ ليجنده إلى الرسالة الجديدة التي تنزعه من الأرض الظالمة وتربطه بالسماء العادلة.٦٠

لذلك فإن الحديث عن أثر أفلوطين في نظرية الفيض إنما هو تغليب للوافد على الموروث، وللخارج على الداخل، وللنقل على الإبداع. مع أن نظرية الفيض لا تُحيل إلى اليونان إلا في أقل الحدود، الشيخ اليوناني زينون وليس أفلوطين. وتبلغ «السياسة المدنية» قمةَ الإبداع. فلا تُحيل إلى وافد أو موروث بل تعتمد على تحليل العقل الخالص. بل إن رسالة «زينون الكبير اليوناني» تُشبه قواعد الإيمان الست في علم العقائد، في الدلالة على وجود المبدأ الأول، في صفاته، نسبة الأشياء إليه، النبوة، الشرع، المعاد، وكأن المبادئ الست في الفيض هي قواعد العقائد الست في قواعد العقائد.

ويصعب التمييز في نظرية الفيض بين المنطق والطبيعيات والإلهيات والإنسانيات التي أفاض فيها إخوان الصفا وأصبحت المنظور العام للطبيعيات والإلهيات، وجعلها الفارابي ميدانه العملي بحيث لم يَعُد هناك فرقٌ بين نظرية الفيض في نظرية المعرفة، المنطق الإشراقي وفي نظرية الوجود، مراتب الفيض الأربعة، الله والعقل والنفس والمادة، وفي نظرية الأخلاق، في المجتمع والسياسة. ويتضح ذلك من بنية «آراء أهل المدينة الفاضلة». فالفيض حدس واحد ينطبق على الله والعالم والإنسان والمجتمع.٦١ أصبح الفيض حدسًا رئيسيًّا، ورؤية للعالم تقوم على التصور الهرمي المتدرج من أعلى إلى أدنى في مقابل التصور الثنائي للعالم الذي تقوم عليه نظرية الخلق كما هو الحال عند الكِنْدي. المنطق معرفة، والمعرفة وجود، والوجود إله، والإله يفيض على العقل والنفس والمادة أو الهيولى الأولى قبل أن تتمايز فيها المادة والصورة. وكلٌّ منها له عالم يدبره. الله يدبر العالم، والعقل يدبر الفلك، والنفس تدبر البدن، والصورة هي التي بها يتم تفرُّد المادة الأولى فتحولها إلى موضوعات جزئية. لم يَعُد المنطق فقط هي مناهج البحث أو طرق الاستدلال كما هو الحال عند الكِنْدي بل أصبح نظرية عامة في المعرفة الإشراقية التي تقبل المعارف من واهب الصور هبة وعطاء وليس استنباطًا من مقدمات منطقية أو استقراء من وقائع جزئية حسية.
ونظرية الفيض هي الأساس الميتافيزيقي لكل شيء في المنطق مثل الأسماء الخمسة والإلهيات والطبيعيات والإنسانيات كما يتضح ذلك من «آراء أهل المدينة الفاضلة» وبنيتها الرباعية: الموجود الأول، الموجودات الثواني، النفس، الاجتماع.٦٢ صحيح أن الاجتماع يشمل خمس الكتاب، وكلٌّ من الله والعالم والنفس خمس، ولكنه حدس واحد، مرة في الله، ومرة في العالم، ومرة في النفس، ومرة في المجتمع. وهي نفس بنية «السياسات المدنية» بالرغم من تركيزه على خصال الرئيس أكثر من تركيزه على السياسات المدنية مما يدل على وحدة الله والسلطان على التبادل. في «السياسات المدنية» يشمل الجانب النظري عن «المبادئ الست» نصف الرسالة، والنصف الثاني تطبيقها في السياسة. وهي أقرب الرسائل إلى «آراء أهل المدينة الفاضلة». والمبادئ الست هي نفسها مراتب الفيض الأربع بعد التمييز في الله بين الموجود الأول والموجودات الثواني، والتمييز في المادة بين الصورة والمادة حتى تُطابق المبادئ الستة الأجسام الستة.٦٣ المبادئ الثلاثة الأولى ليست في أجسام، والمبادئ الثلاثة الثانية في أجسام. الله بداية كل شيء. فأساسها الإلهيات. لذلك تبدأ «آراء أهل المدينة الفاضلة» و«السياسات المدنية» بالإلهيات المقلوبة مرة إلى أسفل فتصبح الطبيعيات أو إلى أعلى فتصبح الإلهيات أو إلى داخل الفرد فتصبح الأخلاق أو في المجتمع فتصبح السياسة. فتتأهل السياسة في الدين، والنظم الاجتماعية في العقائد، تأكيدًا لوحدة النظر والعمل. والفيض يعم الكل، العالم العلوي والعالم السفلي، العالم الداخلي والعالم الخارجي. وتظل تعبيرًا ميتافيزيقيًّا عن إشكال الواحد والكثير.

(أ) الله، واجب الوجود، الموجود الأول

هو الواجب لذاته بالكمال، غير واجب الوجود بغيره بالنقص. هو المعتبر بذاته في مقابل ممكن الوجود المعتبر بغيره، مبرَّأ عن جميع أنحاء النقص. فهو كامل، في غاية الكمال والبهاء، صورة فنية للحبيب.

هو واجب الوجود في كل زمان في حين أن ممكن الوجود في زمان دون زمان. هو أزلي دائم الوجود، وجود بالفعل وليس بالقوة، أول وصف له. فيه ينحاز عمن سواه. هو ذاته، انحيازه لوحدته وذاته. وأحد معاني الوحدة الوجود الخالص. الوجود واحد والواحد وجود. الوحدة تساوق الوجود، والوجود يساوق الوحدة.

واجب الوجود لا يخضع للعلية والغائية، فهو علة ذاته وغاية ذاته بعكس ممكن الوجود الذي يتسلسل ويصل إلى واجب الوجود. لذلك يثبت واجب الوجود ببرهان العلية، استحالة تسلسل ممكن الوجود إلى ما لا نهاية مما يدل على استمرار الأدلة على وجود الله من الكلام إلى الفلسفة، ومن الجدل إلى البرهان. لا علة له؛ لأن العلة الأولى فيه، في حين أن ممكن الوجود له علة، لا علة فاعلية أو صورية أو غائية. وإذا فرض واجب الوجود غير موجود لزم المحال بعكس ممكن الوجود. وهو الدليل الأنطولوجي الشهير على مستوى الله، واجب الوجود عروس الفكر. معانٍ واضحة في الذهن، سميت الأمور العامة في علم أصول الدين المتأخر.٦٤ ولا يوجد ما هو أظهر منها. ومن شروط التعريف تعريف الشيء بأوضح منه.

ماهيته عينُ وجوده على عكس ممكن الوجود الذي تُباين فيه ماهيتُه وجودَه. ليست الماهية سبب وجوده؛ لأن ماهيتَه عينُ وجوده، ولا العلة فيه سبب المعلول. فليس للماهية وجودان، مفيد ومستفيد؛ لأن إحداهما ليست علة للآخر. وتستمر نظرية واجب الوجود في معظم رسائل الفارابي الإلهية. ففي «الدعاوى القلبية» تبدأ بأحكام العقل الثلاثة الشهيرة في علم أصول الدين، الوجود والإمكان والاستحالة والتي لم تتشكل إلا منذ الجويني في القرن الخامس في «العقيدة النظامية» بعد الفارابي بقرن ونصف. ويسمِّي الفلاسفة الوجوب الوجود؛ لأنهم يتحدثون عن الله وليس عن حكم عقلي. ولا يتحدثون عن الاستحالة أو الامتناع، بل عن أن الوجوب والوجود نفس الشيء، واجب الوجود في مقابل ممكن الوجود. فالوجود قاسم مشترك بين الوجود والوجوب. كل شيء في عالم الكون والفساد ممكن الوجود؛ لأنه لو كان ممتنع الوجود لما وجب، ولو كان واجب الوجود لكان لم يزل. ممكن الوجود يحتاج إلى علة تُخرجه من العدم إلى الوجود. كل ما له وجود عن ذاته هو ممكن الوجود. وكل ممكن الوجود وجوده من غيره. ولا يمكن التسلسل إلى ما لا نهاية. فلا بد من الوصول إلى واجب الموجود بذاته، علة نفسه، متقدم على كل المعلولات.

وواضح أن نظرية الفيض بالرغم من أنها تحاول تجاوز ثنائية نظرية الخلق إلا أنها ما زالت قراءة لها بتضعيف الثنائية حتى تتحول إلى تصور هرمي للعالم. فالوجود أيضًا في نظرية الفيض وجودان، واجب وممكن، قديم وحادث، صوري ومادي، فعلي وانفعالي، أول وثانٍ، كلي وجزئي. ومع ذلك فهو جامع للطرفين معًا. هو الأول والآخر، الفاعل والغاية، وتظل علاقة الواجب بالممكن نفس علاقة الشرف، علاقة الاستقلال والتبعية كما هو الحال في العقائد الأشعرية. وقد كان الفارابي معاصرًا له.

وبالرغم من أن نظرية الفيض إشراقية في المعرفة إلا أنها ما زالت عقلية جدلية برهانية مثل نظرية الخلق وإثبات واجب الوجود ببرهان العلية واستحالة تسلسل ممكن الوجود إلى ما لا نهاية، وتبنِّي التصور الطولي الديني التقليدي الذي يقوم على الانفصال وليس التصور الدائري العلمي الذي يقوم على الاتصال. وتستعمل البرهان المنطقي مثل التضايف للربط بين طرفَي المعادلة. وقد يصل البرهان المنطقي في صياغته إلى حد الرمز الرياضي.

وفي صفات الله يتم التركيز على الثلاثي، العلم والقدرة والحياة. وهي أكثر تنزيهًا من الرباعي، السمع والبصر والكلام والإرادة في علم الكلام لتبرير النبوة.٦٥ ويزاد عليه بعض صفات الفلاسفة مثل الحكمة والكمال. وتأخذ بعض الصفات صياغة العبارة وليس اللفظ باعتبارها تعبيرًا إنشائيًّا عن انفعال داخلي مثل تمام القدرة، كامل الأفعال؛ فالأول تام القدرة والحكمة والعلم، كامل في جميع الأفعال دون خلل أو عجز أو تصوُّر أو آفة أو عاهة، حادثة في الأشياء الطبيعية التي هي عاجزة بسبب المادة عن قبول النظام التام.

ويعقل الأول الفاسدات من جهة عِلَلها وليس من جهات حادثها. فالعلم الأشرف هو العلم بالأعلى وليس العلم بالأدنى، بالصورة وليس بالمادة. وعلم الأول واحد عقلي بسيط، علم فعل، علم واجب الوجود، في حين أن علْمنا متكثر، علم نفساني، علم ثانٍ، انفعالي، علم ممكن الوجود، وهي نفس القسمة الكلامية القديمة للعلم، علم قديم وعلم حادث، الأول كلي والثاني جزئي.

ويعلم ذاته وبالكل. وعلمه بالكل بعد علمه بذاته. ثم يتحد الكل بذاته. وهو الباطن والظاهر. كل ما يظهر من ذاته لا يدخل في الزمان باعتباره ذاتًا. علمه لذاته لا ينقسم، وعلمه الثاني عن ذاته. إذا تكثر لم تكن الكثرة في ذاته بل بعد ذاته. ومنه يجري القلم في اللوح المحفوظ إلى يوم القيامة. هو عالم بذاته، والعلم بالذات علم بالغير ما دام الغير موجودًا في الذات. والعلم الأفضل هو العلم التام الذي لا يزول. وهو حكيم زيادة من علوم الحكمة، لا يفعل إلا ما هو حكمة لأنها علم بالذات وبالغير.٦٦

وتستمر صفات الله، يفيض بعضها عن بعض كما فاض العلم عن الوجود في القدرة والحياة. فهو حيٌّ لأنه عاقل. وهو عالم لأنه يعلم بالعقل لا بالحواس، وهو الحكيم المطلق من ذاته، مريد لأنه ليس فيه ضدية للأشياء. وتبرز صفة الواحد. فهو واحد لا شركة فيه. ويظهر دليل التمانع على نحوٍ فلسفي لإثبات الوحدانية تحوُّلًا من الكلام إلى الفلسفة، وتوسيع التصور اعتمادًا على العقل دون النقل. الواحد متقدم على الاثنين تقدُّمًا طبيعيًّا. إذا كانَا معًا اشتركَا في جميع الأشياء ولم يكونَا اثنين. وإن اختلفَا يكون أحدهما سببًا للآخر. ويستحيل وجوب واجبَين للوجود؛ إذ لا بد أن يتخصص أحدهما بالماهية.

وتظهر بعض الألفاظ الموروثة مثل «الباري» وليس لفظ «واجب الوجود» طبقًا لظاهرة التشكُّل الكاذب. ويظهر القلق بين الكلام والفلسفة، بين التشبيه والتنزيه، بين العقائد والحكمة، بين القلم واللوح المحفوظ من ناحية والعلم من ناحية أخرى.

ولا يوجد إحصاء دقيق لأوصاف الذات الست أو صفاتها السبع كما هو الحال في علم الكلام الأشعري، ولا صياغة دقيقة لها. بل معظمها يغلب عليه الإنشاء وكأنها تجربة شعورية للتنزيه على أسس إشراقية. يقوم على الاتساق وليس التضاد. مع أن الاتساق يوقع في الصورية، والتضاد حيوية وصراع وتناقض وجهاد وغلبة.

وهل ردُّ الحياة إلى العقل والعلم تعريفٌ للحياة؟ هل تردُّ الحياة إلى العقل والعلم وحدهما دون أبعاد الحياة الأخرى خاصة العملية منها؟ قد يكون تعريف المتكلمين أفضل عندما جعلوها شرط العلم. الخطاب الإلهي إذن ما هو إلا خطاب مبالغات من أجل الذهاب دائمًا إلى الأعلى، انتقالًا من الجزئي إلى الكلي، ومن الحسي إلى العقلي، ومن المرئي إلى اللامرئي، ومن النسبي إلى المطلق، ومن النهائي إلى اللانهائي، ومن المحدود إلى اللامحدود.

ويقوم هذا الانتقال على التشبيه. فنحن أحياء أولًا ثم وصفنا الله بأنه حيٌّ. نحن أحياء لا تحتاج إلى إثبات؛ لأننا ندرك أحسن المدركات بأحسن إدراك. الخطاب كله يقوم على التشبيه، وليس فقط بالإنسان ولكن أيضًا بالحيوان. فالحي يستعار لغير ما هو حيوان، فيقال على كل موجود كان على كماله الأخير. وإذا كان في الحياة الكمال الأخير فكيف يُطلق على غير الكائن الحي؟ وكيف يكون الكمال الأخير لغير الحي؟

ويستعمل الفارابي الطرق الثلاثة للحديث عن صفات الله، طريق الإيجاب في اللاهوت الإيجابي، إثبات صفات الكمال لله، وطريق السلب في اللاهوت السلبي، نفي صفات النقص عن الله، وطريق التشبيه في لاهوت المماثلة، قياس الغائب على الشاهد. واللاهوت الإيجابي أقل لصعوبته، واللاهوت السلبي أكثر لسهولة النفي. ولاهوت التشبيه هو السائد في كل الحالات.

ويظهر اللاهوت الإيجابي في أنه موجود وواحد وأن وحدته غير ذاته، ذات واحدة وجوهر واحد. وتتكرر صفات العلم والحكمة، والقدرة والإرادة. بل ويمتد الأمر إلى الصفات الإنشائية ما دام الأمر هو مجرد انفعال بالتنزيه والتعظيم والتبجيل. فهو حق وحيٌّ وحياة. ويظهر أحيانًا أفعل التفضيل في اللاهوت الإيجابي. فهو أحق باسم الواحد من كل شيء.

ويتحول اللاهوت الإيجابي إلى لاهوت سلبي لتقوية الإيجابي. فالإيجاب دون سلب صورية أو إعلان وبيان دون تجربة حسية. فالعلم مثلًا لا يحتاج في علمه إلى ذات أخرى يستفيد منها خارجة عنه ولأن يكون معلومًا إلى ذات أخرى تعلمه. هو مكتفٍ بذاته في أن يعلم ويعلم، علمه بذاته جوهره، عالم ومعلوم وعلم.

ونظرًا لأن الأمر مجرد إفاضة في التنزيه يغيب الاستدلال الداخلي على كل صفة، اكتفاء بالإعلان عن النوايا، ووضع الصفات بمنطق الثقة بالنفس، وبقوة الاعتقاد الفلسفي. وأحيانًا يظهر الاستدلال على استحياء مثل استحالة التركيب فيه لأن التركيب نقص وعيب في مقابل البسيط. هو استدلالي خلقي نفسي أقرب إلى نفي المماثلة وطريق التشبيه. وتستنبط كل صفة من صفة أخرى بناء على منطق الاتساق والعقل والاستدلال المنطقي البديهي.

ويظل اللاهوت الإيجابي عرضة لنقد اللاهوت السلبي ولاهوت التشبيه. ففي العلم بالذات ما يهم في العلم ليس الموضوع الخارجي والإحاطة به بل وعْي العالم بذاته، وهو ما يُعطي الصدارة للذات على الموضوع. وما الداعي لصفة العلم ما دام المعلوم موجودًا في العالم، عقل وعاقل ومعقول، علم وعالم ومعلوم. وقد لا يتجاوز الأمر تحصيل الحاصل، الاتساق مع النفس في رغبتها في التنزيه القائم على الإجلال والتعظيم. ويصعب أحيانًا اطراد هذه القسمة الثلاثية للصفات بين الاسم واسم الفاعل واسم المفعول ونقلها من العلم إلى الحكمة والقدرة والحياة. فإذا كان الله عالمًا وعلمًا ومعلومًا، عاقلًا وعقلًا ومعقولًا فكيف يكون حكيمًا وحكمةً ومحكومًا لأن الله لا يكون موضوعًا للحكمة؟ كيف يكون قادرًا وقدرة ومقدورًا، والله لا يقدر عليه أحد؟ كيف يكون حيًّا وحياةً وحييًّا؟ سامعًا وسمعًا ومسموعًا، مبصِرًا وبصرًا ومبصَرًا؟ هل يجوز أن يكون الله مبنيًّا للمجهول في صياغات عبارات التنزيه؟ هل ما زال ردُّ الفعل على التشبيه قائمًا وعلى ثنائية الذات والصفات واعتبار الصفات زائدة على الذات والمخاطرة بالوقوع في التشبيه عند الأشاعرة؟ أم أنها صورة «الارستقراطي النبيل»، الواعي بذاته الذي لا يحتاج إلا إلى نفسه، ولا يحب إلا نفسه، كل شيء فيه وله ومنه؟

ويقوم اللاهوت الإيجابي على وصف الله بكمالات الإنسان، بالإنسان الكامل، الإنسان كما ينبغي أن يكون، بأقصى ما يصبو إليه الإنسان من نفسه، بأعز ما لدى الإنسان من وعيٍ ذاتيٍّ. الفرق فقط أنها تقال على الإنسان نسبيًّا وعلى الله بإطلاق. وكلها صفات إيجابية ملوكية. للإنسان جوهر وأعراض، ولله ذات وصفات، قياسًا للغائب على الشاهد، في الإنسان مرئية وفي الله غير مرئية.

ويستفيض الفارابي في اللاهوت السلبي، تبرئة الله وتنزيهه من كل أنحاء النقص البشري. ليس في مادة، وليس له صورة وإلا كان مركبًا. وهو ما يعادل وصف الذات بأنها لا تُشبه الحوادث، وليست في محل في علم أصول الدين، ومن أجل التسامي والاستعلاء عن طريق نفي ما هو موجود لتجاوزه.

وقد يقوم النفي على استدلال منطقي لتخفَّ حدةُ التعالي والانفعالات النفسية، مثل نفيِ الشريك والصفة والحد عنه تعالى. يقوم نفيُ الشريك على إثبات المباينة لكل ما سواه، أي أنه لا يُشبه الحوادث كما هو الحال في علم أصول الدين. وهي صورة سلبية للتنزيه، وفي نفس الوقت رفض المباينة والتغاير والاثنينية. فهو كل شيء واحد لا ينقسم. والدليل على نفيِ المباينة هو أنه لو كانت مباينة كان الذي باين فيه غير الذي شارك فيه. فيكون الشيء الذي باين به جزءًا مقوِّيًا له، والذي اشتركَا فيه هو الجزء الأخير، فيكون كلُّ واحد منقسمًا ويكون كلُّ واحد من جزئَيه سببًا لقوام ذاته فلا يكون أولًا، ولا يكون هناك موجود أقدم منه هو سببه وهذا محال. ويتكرر الدليل بالنسبة للآخر المباين المشارك لإثبات أنه ليس في المرتبة الأولى. فإذا كان الآخر هو الذي يُباين ولم يكن هذا شيئًا يباين لزم أن يكون الآخر هو الوجود الذي يخص ذاك وهو وجود مشترك. فالآخر مركَّب من شيئين، شيء يختص به وشيء يشارك فيه. فالآخر منقسم، والذات بسيط. والتقسيم له سبب وجود وأنقص من البسيط فلا يكون في الوجود الرتبة الأولى. وهناك صيغة ثالثة وهو أنه لو كان مثل وجوده في النوع خارجًا منه بشيء آخر لم يكن تامَّ الوجود؛ لأن التام هو الذي لا يوجد شيء خارجٌ عنه من نوع وجوده. فالتام في العظمة ما لا يوجد أعظم منه. والتام في الجمال ما لا يوجد أجمل منه. والتام في الجوهر ما لا يوجد أكثر منه جوهرية. كل تام من الأجسام لا يمكن أن يكون من نوع شيء آخر غيره. وإذا كان الأول تامَّ الوجود فهو متفرد به وحده. فهو واحد من هذه الجهة.

ونفيُ الضد عنه استمرار اللاهوت السلبي الصريح، والاستدلال الداخلي، والمحاجة مع النفس دون إظهار الخصم بعد أن تحوَّل الكلام إلى حكمة، واعتمادًا على العقل الخالص دون أدلة نقلية. والضد مباين للشيء. فهو إحدى حالات المباينة. ولا يمكن أن يكون ضد الشيء هو الشيء. وليس كلُّ مباين ضدًّا وليس كل ما لا يكون الشيء ضدًّا. الضد ما كان معاندًا، يُبطل كلٌّ منهما الآخر ويفسده إذا اجتمعَا. كلٌّ منهما يوجد ووجوده مرهون بعدم الآخر. والضد في الوجود وفي الحال أو الكيفية وفي الفعل أو في الجوهر، والتضاد في الجوهر لا يجعل الشيء قائمًا بذاته، أزليًّا باقيًا أولًا، ولا سببًا لوجوده بل الضد هو سببه. والضد لهما مشترك، يجعل تلاقيهما ممكنًا بحيث يُبطل أحدهما الآخر، موضوع أو جنس أو غيرهما. ويكون وجوده أقدم منهما. وهما يتعاقبان عليه. ولما كان الضدان في رتبة واحدة فالأول متفرد بوجوده دون مشاركة. فهو إذن واحد متفرد برُتبته.

ويصل اللاهوت السلبي إلى حدِّ النفي المطلق بل نفي النفي، فالتنزيه لا حدود له، والتسامي لا حدَّ له. لا أفضل ولا أقدم منه، ولا أرفع من وجوده، لا يشوب وجودَه عدمٌ أصلًا. ولا يمكن أن يكون له وجود بالقوة، ولا بوجه من الوجوه. ليس في حاجة إلى أن يكون أزليًّا. لا يوجد وجودٌ مثل وجوده أو مرتبة مثل مرتبته. ليس له سبب وليس له مادة. لا يقوم بمادة أو في موضوع، لا صورة ولا غاية ولا غرض له.

أما نفيُ الحد عنه؛ لأن الحد لا يمكن أن ينقسم بالقول الشارح الذي يدل على جزء من أجزائه وإلا كانت الأجزاء سببًا لوجوده على جهة ما تكون المعاني تدل على الأجزاء وهو محال. وما دام لا ينقسم في القول الشارح فأولى ألَّا ينقسم كمًّا، لا عظم له ولا جسم له، وأحد معاني الواحد أنه لا ينقسم.٦٧

ولا يختلف اللاهوت السلبي في نظرية الفيض عنه في نظرية الخلق، الحديث عن الله بلغة التطهير والتنزيه. ويتولى السلب تباعًا؛ لأنه إيقاع نفسي في نفس الصياغات اللغوية يقوم على نفي المشاهدة الحسية. لا علة لوجوده، ولا يوجب بغيره، منزَّه عن جميع أحوال النقص، لا ماهية له مثل الجسم، لا جنس، ولا فصل، ولا حدَّ له، لا يمازجه العدم، ليس له وجود بالقوة، لا يمكن ألَّا يكون، لا حاجة به إلى شيء يمدُّ بقاءه، لا يتغير من حال إلى حال، لا يقبل التجزؤ، لا كم ولا متى ولا أين، ولا تنطبق عليه كل الأعراض، والجنس والفصل والضد. لم تَعُد الصياغات تشير إلى شيء في الخارج بل تعبر عن عمليات نفسية تستبعد المماثلة والمشابهة والقياس. واجب الوجود لا ينقسم بالفصول ولا بالحمل، لا جنس ولا فصل ولا نوع ولا ندَّ ولا مقوم ولا موضوع ولا عوارض ولا ليس له. الحق لا ينقسم ولا يشارك غيره، ولا يقابل ضدًّا، ولا يتجزأ مقدارًا ولا حدًّا، ولا يختلف ماهية وهوية، ولا يتغاير ظاهريًّا وباطنيًّا. هو اقتضاء نفسي بنفي الجواز أن يكون جسمًا، سطحًا وخطًّا ونقطة؛ لأن الجسم مركَّب من مادة وصورة، وهما علتان للجسم، والموجود الأول واحد. كما تظهر لغة الاحتياج والإشباع الإنسانية فهو لا يحتاج، ومستغنٍ عن كل شيء، لا يُشبه أحدًا، ويباين كلَّ شيء لتفرده.

وللاهوت السلب بعض المميزات مثل التطهير والذهاب إلى ما هو أعلى وأبعد وتجاوز القطعية والأحكام النهائية والكشف عن التجربة الذاتية والموقف النفسي وراءه الذي قد يكون بداية الإشراق والتعرف على الله بطريق، بالرغم من محاولات الاستدلال والاتساق العقلي مثل دليل الممانعة، وجمعه بين التنزيه العقلي والإيمان القلبي، وابتعاده عن التشبيهات الكلامية. ومع ذلك هذا النفي المطلق والسلب إلى ما لا نهاية قد ينتهي إلى العدمية المطلقة والوقوع في الوهم، والذاتية الفارغة الخالية من أي موضوع. كما يؤدي نفي الحد عنه إلى استحالة الحديث عنه حتى سلبًا. كما أنه يقضي على العالم، ويُلقي عليه عرائض الاتهام من أجل تبرئة الله. فكل شيء في هذا العلم نقص، والكمال خارجه. مع أن التضاد إيجاب في العالم وهو شرط الإبداع. ونفيُ الشرك يقضي على أساس العمل الجماعي خاصة وأن كماله قد يتحول في التجربة الصوفية إلى نموذج الحياة الفاضلة.٦٨
كما أن نفي الوجود بالقوة فيه يجعل الله وجودًا وليس صيرورة، ثباتًا وليس حركة، مما ينتفي معه صفة المشروع والتحقق وإنكار الغائية والقصد والغرض مع أن التصورَين محتملان، تصور الثبات كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ والتصور الحركي كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.٦٩
في لاهوت السلب لا يدرك الله إلا بالنسبة إلى الإنسان سلبًا. فالحديث عن الله بالنسبة إلى الإنسان هو رفض لتحديد الإنسان أو ما يتصور على أنه تحديد. ومن ثَم تحدث ثلاثة أفعال للشعور. أولًا وصف الإنسان وحدوده، وهو وصفٌ نقدي لأن الله في البال والنية باعتباره الضد مما يؤدي إلى إزاحة التصور الإنساني وإدانته، فالناقص ينزوي أمام الكامل. ثانيًا نفيه أي إصدار حكم قيمة عليه بأنه عيب ونقص، ومن ثَم يصبح كمال الإنسان نقصه. ثالثًا قلب الوصف من السلب المتوهم إلى الإيجاب الوهمي فيأخذ الله صفة الكمال.٧٠ ولماذا تكون صفات الإنسان بلحمه وعظمه وصفات الطبيعة المشاهدة عيوبًا ونقائصَ وهي التي جعلت الإنسان يحمل الأمانة التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان؟
ويقوم لاهوت السلب بالرغم من أهميته في التنزيه، على تبرئة الله وإدانة الإنسان، وتلك قسمة ضيزى. فالإنسان أولى بالدفاع، والله غني عن العالمين. فبعد وصف الإنسان كما هو عليه يتحول حكم الواقع إلى حِكَم قيمة، وينقلب الإيجاب إلى سلب. ثم يتم الاغتراب عن الإنسان بعد رفضه وإدانته والبحث عن الكمال الموهوم. ولما كان الله أعز ما لدى الإنسان وأغلى ما لديه يتم تعليق هذا الكمال الضائع على الأرض عليه في السماء، ويتحول النفي إلى إثبات في الله بعد أن تحوَّل الإثبات إلى نفي في الإنسان. ونفيُ صفات الإنسان تدميرٌ له لحساب صفات الكمال الموهوم. مثال ذلك: ما قيل عن صلة العقل والعاقل والمعقول في الإنسان على الاختلاف وحتى الله على الهوية.٧١

وإذا كانت الحركة والزمان والعدم موجودات ناقصة وبالتالي فإن معقولاتها ناقصة في حين أن الأشكال الرياضية، المثلث والمربع أكمل وبالتالي فإن معقولاتها أكمل. ومن ثَم يمكن قياس كمال الموجود الأول على كمال الأشكال الرياضية، انتقالًا من الجزئي إلى الكلي، ومن الحسي إلى العقلي، ومن المرئي إلى غير المرئي. ولمَ إدانة الحركة والزمان والنهاية والعدم والحكم عليها بالنقصان وهي مظاهر للطبيعة، وقد تكون من كمالات الإنسان أن يحولها إلى كمال؟ ألَا يعبر ذلك عن الاغتراب الديني والموقف النفسي المسبق بأن الثبات والخلود والوجود كمال؟ ولماذا الأشكال الرياضية أكمل وهي فارغة صورية، والزمان والحركة أفضل منها وأكمل فيها عشق وحياة؟

وتستمر إدانة الذات وتبرئة الآخر، نوعًا من البطولة الزائفة؛ إذ يستحيل فصل الموجود الأول عن إدراكه بحيث يُمحى الفرق بين الذات والموضوع. الله من جهته غير معتاص الإدراك ولكن لضعف عقولنا نحن وملابستها المادة يعتاص الإدراك. وكلما كان الضوء أتم وأكبر كان إدراك البصر أتم. وقد يُصاب الرائي بالعمى الضوئي إذا زاد الضوء عن الحد. وكلما اشتد الضوء ضعف البصر، والأمر على خلاف ذلك، مما يدل على قياس الرؤية الإلهية على الرؤية الإنسانية. فنقص معقوله في نفوسنا وليس لنقصانه أو عسره لضعف عقولنا. فالتصورات نوعان. الأول ممتنع من جهة ذاته أن يعقل فيعقل تصورًا تامًّا لضعف وجوده ونقصان ذاته، والثاني مقبول من جهة فهمه وتصوره على التمام ولكن عقولنا ضعيفة، وكلاهما طرفَا نقيض. الأول في غاية النقص، والثاني في غاية الكمال. يجب في الأول، وهو الغاية من كمال الوجود أن يكون معقولًا في نفوسنا في غاية الكمال. ويتطلب ذلك خلاص النفس من المادة وتطهيرها من العلائق والتشبه بالنفس والبصر الذي عليها قام علم المناظر. كلما تخلصنا من المادة كان تصورنا أتمَّ وأيقن وأصدق.٧٢
والطريق الثالث هو قياس الغائب على الشاهد، والحديث عنه بلغة المماثلة والتشبيه، اللغة الإنسانية مدفوعة إلى حد الإطلاق. كما يظهر أفضل التفضيل وجمع أكبر قدر ممكن من صفات الكمال الإنساني والرغبات والأشواق والميول الإنسانية.٧٣ ولا فرق بين لغة المنطق أو الطبيعيات أو الإلهيات طالما أن المقصود هو المبالغة.

فهو كامل الأوصاف، مبرَّأ من جميع أنحاء النقص. وهو كمال إنساني مثل الخير والإشراق والبهاء والحكمة والعقل والجمال والبهاء إثباتًا لا نفيًا، تشبيهًا لا تنزيهًا. وتستعمل لغة الإشراق مثل غاية الجمال والكمال والبهاء وله أعظم السرور بذاته، وهو العاشق الأول والمعشوق الأول. ويصل الأمر إلى وصْف الله بالملتذ بذاته، الفرِح بنفسه، وهي من صفات النقص الإنساني. فالفيض له لغته الإشراقية لغة المحبة والعشق والكمال والغاية والقصد. هو الخير بالحقيقة خير محض، والشر عدم ذلك توحيدًا بين الوجود والأخلاق. الخير تشوق كل شيء في حدِّه، وإتمام وجوده، وبلوغ رتبته، ونَيل حقيقته.

والفرق بين الصفات الإلهية والصفات الإنسانية فرقٌ في الدرجة وليس في النوع. لله أفعل التفضيل. فهو أكمل وأرفع وأفضل وأبهى وأجمل. يعقل أفضل معقول بأفضل عقل، ويعلم أفضل معلوم بأفضل علم، ويدرك المدركات بأحسن إدراك، يعلم بالعلم الأتم، ويوجد الوجود الأتم. لذلك يسمَّى الإنسان مجدًا وجلالًا وهما من صفاته تعالى. وفي هذه الحالة يكون أفعل التفضيل تنزيه شعوري. والأجمل والأبهي والأزين هي أيضًا لغة الحبيب.

والحكمة أفضل الأشياء بأفضل علم، وأفضل العلم هو الدائم الذي لا يزول أي العلم بالذات. يكشف أفعل التفضيل عن المبالغات المستمرة، والتحول من النسبي الإنساني إلى المطلق الإلهي، أفضل الأشياء، وكأن الله شيء، أفضل العلم وكأن العلم على مراتب حتى تكون الحكمة أفضله.

وهناك صفات أخرى أقرب إلى المدائح والخطاب الإنشائي تُطلق على الله مثل العظمة والجلال والمجد له تعالى بعيدًا عن الخطاب التصوري المجرد مع لفظ الاحتراز والتنزيه «تعالى». العظمة والجلال والمجد بحسب كماله في جوهره أو في عرضه أي في ذاته وصفاته وأفعاله. والجمال والبهاء والزينة صفات جمالية غزلية تعبر عن علاقة الإنسان به تعالى وهو في حالة الوجد. جمالنا وبهاؤنا وزينتنا حسية ونسبية ناقصة وهي له تعالى عقلية ومطلقة وكاملة، قياسًا للغائب على الشاهد، تصغيرًا للنفس وتكبيرًا للآخر. واللذة والسرور والغبطة صفات نفسية وحياتية، تعبر عن حالة الفرح بالكمال. لا نفهم كنهَ ذاته ولا مقدار عظمته إلا بالقياس إلى ما نجده عندنا. والحب والعشق والإعجاب صفات عاطفية. تتحول علاقة الإنسان به تعالى من التباعد إلى التقارب، ومن التصور إلى العشق، ومن العقل إلى القلب. وهي صفات مشتركة بين الإنسان والله، والخلاف بينهما في المقدار، في الدرجة وليس في النوع.٧٤

وتصبح الصفات الإنشائية خطابية في صياغات أدبية وتلقائية فنية، تعبر عن الإشراق مثل صفات البهاء والجمال والزينة، بداية صفات الغزَل والحب للجميل الفائق الجمال والبهاء. اللذة والفرح والسرور والغبطة بمعرفته. وهي لغة الحب الصوفي، لا فرق بين صفاته في ذاته وتجلِّيَّاته في الذات الإنسانية حين معرفته.

ويصل التشبيه الإنساني إلى حدِّ أن لذَّتَه في إدراكه لذاته أعظمُ من لذَّتنا قياسًا للغائب على الشاهد.٧٥ والخلاف فقط في الدرجة، الأقل والأصغر والجزء. وهي صفات مشتركة بين الله والإنسان. يصف الإنسان الله بصفاته. الله موصوف بالإضافة. والصفات نوعان كما هو الحال في علم الكلام، صفات ذاتية وصفات عرضية. الأولى مثل العلم والحياة، والثانية مثل العدل والجور.

والسؤال هو: ألَا توجد في الله معرفة بالآلام والشرور والمعاناة؟ ألَا توجد معارف يتألم لها الإنسان ويعتصر لها قلبُه ويتأزم ويموت؟ ألَا يتألم الله لآلام البشر ويحزن لحزنهم كما يفرح لفرحهم؟ وهل الألم والشقاء عيب ونقص؟ وما وجه الكمال الذي لا يتألم ولا يشقى طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. هذا إقلالٌ من شأن الذات وإعلاء من شأن الآخر، وهو أساس التملُّق الاجتماعي.

واضح أن الفلسفة أقرب إلى الثقافة المغتربة وليست تعبيرًا عن واقع حتى في تجربة الحب الإنساني. فليس الحبُّ كلُّه لذةً وشوقًا وفرحًا وسرورًا، وأشواقًا وعناقًا. على الأقل يصور علم أصول الدين الواقع كما يبدو في تاريخ الفِرَق السياسية في حين أن علوم الحكمة لا تعبِّر عن واقع الفكر بل عن متطلباته وأمانيه.

وتشير أوصاف الحكمة والعقل والعلم إلى أن الفيض ما زال مرتبطًا بالعقل كصفة كمال لله. ولمزيد من التفخيم والتنظيم تضعف الصفات مرة واحدة، مثل عقل وعاقل على وزن فعل وفاعل، أو تضعف مرتين فتصبح ثلاثية الإيقاع عقل وعاقل ومعقول، عشق وعاشق ومعشوق، علم وعالم ومعلوم على وزن فعل وفاعل ومفعول ليبلغ الوصف قمة الكمال عندما يتحد الذات بالموضوع بعد أن تتوحَّد الذات، صفتها مع فعلها. قمةُ التفرد والتوحُّدِ الجمعُ بين العقل والعاقل والمعقول تأليهًا، وضمُّ الأكثر في الأقل والكثير في الواحد على عكس الإنسان.

هو عقل وعاقل ومعقول، العقل ذات موضوع وإيحاء متبادل بين الذات والموضوع مثل الماهية والوجود والحال. ومع ذلك يظل واحدًا، عقل ذاته بذاته، عقل عاقلًا وعقل معقولًا بمادة فهو صورة، والصورة عقل بالعقل. والمادة مانع أن يكون عقلًا بالفعل وأن يكون معقولًا بالفعل، ويكون ذلك قياسًا على الإنسان. فالإنسان معقول، وليس المعقول منه معقولًا بالفعل بل معقولًا بالقوة ثم صار معقولًا بالفعل. والله ليس كذلك، لا ينتقل من قوة إلى فعل، ولا حركة فيه. وقد يحلل البعض أنه عاشق أول ومعشوق أول عند الصوفية أنها لغة تدل على كبْتٍ وحرمان عاطفي وعدم تكيُّف مع العالم.٧٦

وقد يكون هذا الطريق الثالث اعترافًا بإسقاط الصفات الإنسانية على الله ودفعها إلى حدِّ الإطلاق مع أن عظمة الكمال الإنساني في نسبيَّته والسعي نحو مزيد منه دون بلوغ الحد الأقصى.

كما أنه يجعل الله وعيًا بذاته مغلقًا على نفسه، دائرة مغلقة، الذات والموضوع، الذات وصورتها في مِرآة ذاتها، الوعي الذاتي، التوحُّد الذاتي، الوعي الخالص، الرئيس الأوحد. وبالرغم مما في ذلك من رغبة في التنزيه إلا أنها تقع في النرجسية، حب الذات وعشقها لنفسها كموضوع للعشق، وتتحول لغة العقل إلى لغة الوجدان. وأين الآخر ووجوده بحيث يمكن أن تحقق الغاية من العشق، وهي الوحدة بين الأنا والآخر؟ الله فكرة محددة تجعل العقل يعرف حدود اللغة والتشبيه والقياس تدفعه إلى البحث عن الأكمل، والتوجه نحو الخالص دون الوقوع في التجسيم والتشبيه أو القطعية والتوحيد بين القصد وهو التعالي والحكم، أي القضية القائمة على اللغة والتصورات. وما الفائدة من إرادته لذاته؟ ألَا يدل ذلك على نقصٍ؛ لأن الإرادة رغبة، والرغبة حاجة، والحاجة نقص، والنقص ضد الكمال، وبالتالي يتوجه التحليل كله عكس المقصود وضد التصور المسبق وهو الكمال.

وفي طريق التشبيه لا يدرك الله إلا بالنسبة للإنسان على المستوى الشعري الجمالي الأدبي. فالصورة الفنية أكثرُ بلاغة من الحجة العقلية. ومن ثَم يصبح الدين في تعبيرات أقرب إلى الأدب منه إلى المنطق أو الطبيعة أو الميتافيزيقا.

كيف يكون الله عاشقًا لذاته وفي نفس الوقت يصدر شيء عنه عن غير ذاته؟! أما أن يكون الشيء مخالفًا له فكيف يصدر المخالف عن الشبيه، والاختلاف عن الهوية أو أن يكون مشابهًا له فيكون تأليهًا للعالم وتجسيمًا له. وكيف يكون الله غرض نفسه وفي نفس الوقت يصدر عنه شيء آخر مخالف ومباين؟ هل الحديث القدسي الشهير «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببتُ أن أُعرف فخلقتُ الحق فبه عرفوني.» الذي يرويه الصوفية هو الماوراء الشعوري لنظرية الفيض؟ أليس في إثبات الشوق إثباتٌ للغائية؟ وإذا كانت الغاية ذاته فما الفائدة من الغائية وهي تعني أولًا الاتجاه نحو الغير والقصد إليه؟ وهل حبُّ الغير غيرُ حبِّ الذات؟ الحب خروج نحو الآخر وليس نحو الذات، تجاوز الأنانية إلى الغيرية إلا إذا كان في ذلك إثباتٌ أعظم.

ويحاول الفارابي الخروج من عمل الذهن إيجابًا في اللاهوت الإيجابي، وسلبًا في اللاهوت السلبي، وصورة في اللاهوت الشعري في نوع من الدليل الأنطولوجي الشهير تحت عنوان «حق». فإذا كان المعقول في النفس مطابقًا لما هو في الواقع وكان الموجود كاملًا كان المعقول كاملًا. وإن كان الموجود ناقصًا كان المعقول ناقصًا. فالحقيقة تقوم على تطابُق عالم الأذهان مع عالم الأعيان.٧٧
وقد يكون هذا التحول من التصور إلى العشق، ومن العقل إلى القلب أحد مظاهر الاغتراب والتعويض عن أزمة الأرض بحلِّ السماء، وأزمة الواقع باللجوء إلى الخيال. يبدو أن الخطاب الإلهي هو اقتضاء نفسي ومطلبٌ خلقي بدليل ظهور لفظ «اقتضاء» في الخطاب، مثل «وهو مقتضى ذاته».٧٨ وتعني لا يجوز، يجب، يلزم. كما تدل لغة الكمال والنقص على أنهما اقتضاء ومطلب. ويتم التحول من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة إلى الأخلاق بالانتقال من ممكن الوجود وواجب الوجود إلى التقابل بين النقص والكمال. ويكون السؤال أيهما الأصل وأيهما الفرع؟ هل الوجود أساس الأخلاق أم الأخلاق أساس الوجود؟ وقد تتحول الصور الفنية إلى حقائق كونية، ويتم الربط بين الإلهيات والطبيعيات عن طريق الصور الفنية فتصبح بديلًا عنهما وكأنَّ شيئًا لم يكن، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف.٧٩

ويصف الخطاب الفلسفي أيضًا الموجود الأول بأسماء مع الصفات دون تمييز بينهما كما هو الحال في علم الكلام. وهي نوعان. الأول ما يدل على ذاته دون إضافة شيء آخر مثل الوجود والواحد والحي. وهو ما يعادل أوصاف الذات في علم الكلام. والثاني ما يضاف إلى شيء خارجي مثل العدل والجود، وهو ما يعادل الأفعال تجاوزًا للصفات المتوسطة بين الأوصاف والأفعال.

والفرق في استعمال الأسماء هنا وهناك هو فقط في الدرجة، درجة الكمال، وليس في النوع. فالموجود الأول الأعلى والأعظم والأسمى والأكمل والأعلم، والثاني الأدنى والأقل والأنقص.٨٠ وهي الأسماء التي ينبغي إعطاؤها، أي أن الأمر اقتضاء ومطلب، ما ينبغي أن يكون عليه الموجود الأول، وهو الوعي الكامل، والتعبير عنه إنشاءً لا إخبارًا، تعبيرًا عن اقتضاء وليس وصفًا لواقع، مثل وصفه بأنه تعالى مجده مجرد مدح وتعالٍ. والأسماء كلها من الناس والبشر تم نزْعُها وإسقاطُها على الموجود الأول قياسًا للغائب على الشاهد. تُطلق هنا ثم تسقط هناك، اتهامًا للنفس وتبرئة للآخر، تصغيرًا للنفس وتكبيرًا للآخر. فيتم الاغتراب على نحو تصاعدي من أسفل إلى أعلى على النحو الآتي:
  • (١)

    رؤية صفات الإنسان الواقعية.

  • (٢)

    إدانتها كنقص نتيجة للاغتراب واتهام الذات بالدونية.

  • (٣)

    إطلاقها إلى حد الكمال تعزيةً وتعويضًا.

  • (٤)

    وصف الله بها بعد تجوهرها وتجسيمها ونقلها من الصفات إلى الجوهر، ومن الحالات إلى الموضوع.

  • (٥)

    جعلها في الله وحده على الحقيقة ثم إنكار كل العمليات السابقة خداعًا للنفس وإيهامًا لها.

وتظهر الأسماء من بقايا علم الكلام في الفلسفة مع تطوير لها خاصة وأنها تسمح بأفعل التفضيل وبالإنشاء وبالمبالغة والتعبير عن الكمال والفضيلة إلى ما لا نهاية دون أن يدلَّ كلُّ اسم منها على جوهر محدد. كما تعبر عن قياس الغائب على الشاهد أساس الإلهيات. وهي أسماء كثيرة تدل على جوهر واحد، ألفاظ متعددة لها معنًى واحد، وتعبيرات مختلفة تدل على قصد واحد.

ثم يتفرد الله بالأسماء بعد انتزاعها من أصلها ثم إطلاقها عليه بالإضافة. وتدل عليه بمرور الزمن والتعود عليه أولًا مثل الوجود والواحد. وبعد ذلك تدل على غيره بالإضافة. كانت في البداية كمالات الإنسان ومثالاته ثم أصبحت أسماء الله المطلقة، ولا ينال الإنسان منها إلا الأجزاء والنِّسَب والإضافات. يتحول الأصل إلى فرع ثم يصبح الفرع أصلًا.

والأسماء المشتركة منها ما يعم جميع الموجودات، ومنها ما يعم بعض الموجودات. وتقال على غيره لما بينه وبينها من شبهٍ. والأحق بها الأقدم، والإشكال مَن الأقدم؟ الأقدم في الرتبة والشرف أم الأقدم من حيث منشأ اللغة؟ من حيث الرتبة والشرف الله هو الأقدم. ومن حيث نشأة اللغة الإنسان هو الأقدم؛ لأن الأسماء تعبير عن كمالاته ثم إضافتها إلى الله باعتبارها أعزَّ ما لدينا. فلا يمنع أن يكون تسمية غيره بها أقدم في الزمان من تسمية الله بها ثم حدث النقل منه إلى غيره دون أن يلحقَه نقصٌ لأن الغير أقدم بالطبع.٨١

ونظرًا لإنشائيات الأسماء يظهر بعض النقص في الأحكام النظري. فإذا كان الله لا متناهيًا كيف تكون له أسماء متناهية، تسعة وتسعون اسمًا كما هو الحال في علم الكلام بناءً على الرواية المشهورة؟

وكل كمال في الوجود انتُزع منه وأُعطيَ للأول، حركة سلب في حاجة إلى حركة استرداد. ومن ثَم وصف الله بصفات الكمال الإنساني وليس بصفات النقص التي تُنفى عنه كما هو الحال في اللاهوت السلبي، من عمل الوهم والخداع. كلها ما ينبغيان أيَّ اقتضاء نفسي، ومطلب أخلاقي، ونزوع روحي، وتحقق وجودي. لا يمكن وصف الله في ذاته أي في جوهره بل فقط قياسًا على الإنسان، قياسًا للغائب على الشاهد. وكل حديث عن الله تشبيه بالضرورة، حديث الإنسان عن نفسه خارج عنه. حديث الله عن نفسه بلغة الإنسان، وحديث الإنسان عن الله بلغة الإنسان. لا توجد أي وسيلة لمعرفة الله في جوهره إلا عن طريق ما يسقطه عليه الإنسان من كمالاته. كل حديث عن الله ليس وصفًا خبريًّا بل هو حديث إنشائي، ليس حديثًا عن الله بل حديثًا عن الإنسان خارج نفسه، مزحزحًا الله في ذاته إلى الإنسان المتجوهر خارج ذاته. حتى الصفات التي يظن أنه يتفرد بها هي أيضًا من كمالات الإنسان مثل الوجود والوحدانية. فالإنسان موجود يحقق وجوده بالفعل بحرية الفكر والعمل. وهو واحد في شخصيته وليس اثنين كما هو الحال في النفاق وازدواجية الشخصية. ولماذا يكون الوجود والوحدانية من صفات ذاته والعدل والجور من صفات غيره تُعطى له بالإضافة مع أن الوجود والوحدانية من صفات الإنسان وكمالاته، والعدل دون الجور من صفات الله أيضًا ولا يقلَّان عن الوجود والوحدانية تميزًا له؟

هذه الأسماء كلها منقولة من الإنسان إلى الله مسقطة من الإنسان على الله. فالأسماء التي تنقل إلى الله إضافة إنما تفسيرها بردِّها إلى الإنسان. الله مثل القمر الصناعي الذي وظيفته استقبال الصور ثم إرسالها إلى الأرض من جديد. هذه الأسماء المضافة لا تصف كمالات الله بل كمالات الإنسان، فالإنسان هو الأصل والله هو الفرع من حيث التسمية ثم بعد ذلك يتم القلب وتُعطى إلى الله من حيث الأشرف والرتبة ثم تضاف إلى الإنسان كفرع. والمسألة كلها تدور على مستوى الشعور، الشعور بالكمال، ثم على مستوى اللغة ونقلها من مستوى إلى آخر ثم يتم الارتقاء شيئًا فشيئًا حتى الوصول إلى الكمال المطلق، الوجود الأول، العلم الأول. وظيفة الشعور هنا هو التعالي المستمر للوصول إلى القمة.٨٢

وهذا عمل الوهم أي الشعور الخالص المتجرد من أي موضوع خارجي، خداع النفس الميتافيزيقي، الوهم الإيجابي، الذات عندما تتراءَى لنفسها في مِرآة ذاتها.

ولما كانت نظرية الفيض نظرية في المعرفة الإشراقية ونظرية في الوجود الفيضي هناك طريقان للمعرفة، الطريق الصاعد من الخلق إلى الوجود المحض، والطريق النازل من الوجود المحض إلى الخلق. الأول رياضة ومجاهدة والثاني وحيٌ وإلهام. ولا صلة لهذين الطريقين بأفلاطون أو أفلوطين بل هو تفسير لآية إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ليلة الإسراء والمعراج. عالم الخلق إمارات الصنعة يؤدي إلى عالم الوجود المحض الموجود بالذات ثم منه إلى عالم الخلق، صعودًا ونزولًا تفسيرًا لآية سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. ويعتبر الفارابي المحور الأفقي النفس والآفاق، والمحور الرأسي عالم الخلق والعالم المحض.٨٣
إذا كان الفيض حركة نزول من الله إلى العالم فإن المعرفة حركة صعود من النفس إلى الله، فيض الوجود من الله إلى العالم نزول، وإشراق المعرفة من النفس إلى الله صعود. الفيض إذن نوع من التنزيه ورفض التشبيه القائم على قياس الغائب على الشاهد، والإشراق ضمان له بتجريد النفس من المدركات الحسية. الوجود في الفيض من أعلى إلى أدنى يقابل بالمعرفة الإشراقية من أدنى إلى أعلى، الفتق ثم الرتق، الذهاب ثم الإياب، السقوط ثم الرفع، البُعد ثم القرب، الاختلاف ثم الهوية. هنا يتداخل علم النفس مع المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة في علم واحد، لا فرق بين وجود ومعرفة. ومعرفة الحق تؤدي إلى معرفة الباطل، ومعرفة الباطل لا تؤدي إلى معرفة الحق. لذلك أشاح إبراهيم بوجهه عن الآفلين وتوجَّه للذي فطر السموات والأرض.٨٤
وإذا كانت نظرية الخلق ما زالت على الشواهد النقلية خاصة في الأدلة على وجود الله كما هو الحال عند الكِنْدي فإن نظرية الفيض لا تعتمد على النصوص قدْرَ اعتمادها على التجربة الصوفية. فالمعرفة من القلب وليست من النص، من التأويل وليست من التنزيل، من الذوق وليست من العقل. لذلك امَّحى منها الجدل الكلامي والمحاجة والأدلة العقلية؛ إذ تعتمد على الشعور والوجدان والإحساس الجمالي بالعالم. يغيب عنها الخصام والجدل وتفكير الخصوم بل تجمع الناس على رؤية وجدانية مشتركة للعالم. ومع ذلك تظهر بعض الشواهد النقلية تأكيدًا للمعنى العقلي. الواجب لذاته هو الغاية التي ينتهي إليها كلُّ شيء وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى. وكل غاية خير مطلق. البداية بالتجربة الروحية، والشاهد النقلي مجرد مؤكد لما عرفه الحكيم من قبل. المعنى من التجربة وليس من النص، والنص شاهد عليه ومؤيد له.٨٥
وفي «فصوص الحكم» لا يُذكر اسمٌ يوناني واحد بل تُذكر آيتان كشاهد بعدي على أن علم الله لذاته لا ينقسم وعلمه الثاني من ذاته. إذا تكثر لم تكن الكثرة في ذاته بل بعد ذاته، وهي آية وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا. ويستعمل الفارابي الصور الفنية الموروثة مثل الأحدية، الأبدية، الربوبية، القلم واللوح، السدرة والكلمة، العرش والكرسي، السماوات والتسبيح. فهناك عدة عوالم: الربوبية والأمر، والعرش، والكرسي، والسموات، والخلق.٨٦ تحولت إلى موضوعات كونية بالإضافة إلى استعمال الأسلوب القرآني الحر، مثل يغشى السدرة ما يغشى، يُلقي الروح، كلٌّ يسبح بحمده، لكسر الحجة النقلية الحرفية والتوجُّه إلى مضمونها، وتحويل الصور الفنية إلى كون وطبيعة، والنص إلى تجارب ذاتية، واختفاء مصطلحات الوافد وشق مصطلحات موروثة جديدة عن الصور الفنية.٨٧ في نظرية الفيض بداية سيطرة التصوف على الفلسفة منذ القرن الرابع، والاتجاه إلى بواطن القلوب. وكان قد بدأ ذلك في القرن الثالث عند إخوان الصفا واستمر في الفكر الشيعي قبل محاولة ابن سينا الأحكام النظري.
وهو السبب الأول أو العلة الأولى بلغة الخلق والفيض وطبقًا لظاهرة التشكل الكاذب. وهو العقل الأول عندما يعقل ذاته يخلق موضوعه بفيضه عنه. فالذات تخلق موضوعها بالتركيز على ذاتها كما هو الحال في الوعي بالذات، خلق الشعور للعالم بالتفكير فيه. الواقع مستنبط من الفكر، والعالم من الله.٨٨ يفيض العالم عنه بالعقل وليس بالإرادة. بالكرم والجود وليس بالمنفعة والعناية.
وتصور الموجودات عنه ضرورة وليس حريةً واختيارًا، فهو بطبيعته فياض، كرم الذات وحتمية الطبيعة المتولدة عنه. الفيض صفة الكرم على نحوٍ وجودي وليس بمعنًى أخلاقي. لذلك ليس أحدٌ من الموجودات سببَ وجوده أو غاية له. ليس للأول وجودٌ لأجل غيره؛ لأن الموجودات تفيض عنه، وهو فياض على العالم. الأول مطهر من كل الغايات مثل اللذة واليسار والكرامة توهمًا بأن ذلك كله نقص ثم تبرئة الموجود الأول منه وإلا لما كان أولًا، وكان غيره أول منه وبسبب وجوده. وجوده في ذاته هو نفسه وجوده الذي يفيض دون قسمة إلى ذات وآخر ودون حركة خارجة أو آلة كخروج البخار من الماء. ليس وجوده في ذاته أكمل مما يفيض عنه، وليس ما يفيض عنه أكمل من وجوده في ذاته.٨٩ والارتباط بين مراتب الوجودات وبأحوالها وحالاتها مثل المحبة. والمحبة حال إنساني، يتحول إلى جوهر طبيعي كما تتحول الذات إلى موضوع، والوعي إلى كون. الفيض إذن فعل المحبة كما هو الحال عند الصوفية. وقد كانت وحدة الوجود ردَّ فعل على ثنائية الخلق، وأحد معاني التوحيد.

ويأتي الفيض وترتيب الموجودات بعد الذات والصفات والأسماء وكأنها تحل محلَّ الأفعال في نظرية الذات والصفات الأفعال الشهيرة عند الأشاعرة في علم أصول الدين، ولما كان الفيضُ جودًا وعدلًا، وجودًا وقيمة أصبح معادلًا لأصل العدل مع التوحيد كما هو الحال في علم الكلام الاعتزالي.

ويتم الحديث عن الأول عن طريق الحديث عن مراتب الموجودات. الأول ترتيب للطبيعة وتعبير عن نظامها. ليس المقصود الحديث عن مراتب الموجودات في ذاتها بل عن صدورها من الموجود الأول تعبيرًا عنه، فالموجودات كثيرة ومتفاضلة، ومتفاوتة بين الأعلى والأدنى، بين الأكمل والأنقص. تفيض من جوهر الوجود على مراتب متفاوتة من الكمال. والأكمل عند القرب منه، والأنقص حين البُعد عنه. أول مرتبة للفيض من كماله مثله، وآخر مرتبة فيه نقص ينقطع فيض الوجود. ولا يوجد وجود بعدها. فالله هو أساس كل شيء. العالم الخارجي المادي هو نهاية الوعي بالذات وحدوده الخارجية. كما أن الله هو حدُّه العلوي في العمق والسمو.٩٠ الأول هو الوحيد الكامل وما دونه تقل فيه مراتب الكمال والشرف.

ويعبر الفيض عن نفسه بلغة الوحدة والكثرة. فالموجود الأول واحد في حين أن مراتب الموجودات التي تفيض منه كثيرة. وتكون حركة الفيض من الوجود الأول إلى مراتب الموجودات، حركة ذهاب من الوحدة إلى الكثرة، ومن مراتب الموجودات إلى الموجود الأول، حركة إياب عن الكثرة إلى الوحدة. ويظل الموجود الأول بعد الفيض واحدًا لا ينقسم. الواحد أساس الكثير كما هو الحال في علم أصول الدين المتأخر.

تبدأ نظرية الفيض بوضع الموجود الحق باعتباره واجب الوجود. هو الأول والواحد دون المرور بالطبيعيات والأدلة الطبيعية على وجود الله. البداية بالله والطبيعة تفيض عنه، ولا تبدأ بالطبيعة والله نتيجة لها. ولا يوجد تمييز بين واجب الوجود وبين ما يفيض عنه وكأنه موضوع واحد لا فصلَ فيه بين الأول والثاني. الفيض جوهر واحد يجمع المفيض والفائض، المضيف والضيف.

وإذا كان الله قد خلق العالم بالإرادة في نظرية الخلق كعلة فاعلة للعالم فإن العالم قد فاض عن الله في نظرية الفيض بالطبيعة وليس بالإرادة، فالله بطبيعته وبصيغة الجود والكرم، يفيض العالم منه. الله وجود جميع الأشياء منه، والموجودات كلها على الترتيب من أثر وجوده. يتم الفيض بالعقل لا بالإرادة. فالفعل ضعف في التأمل. الفيض ليس عن قصد ولا عن طبع، فالقصد إرادة والطبع حتمية.

تظهر الأشياء منه لأنه عالم بذاته، مبدأ نظام الخير وإبداعه حفظ ودوام الشيء. وتتحول العملية الكونية إلى أخلاق، من واجب الوجود إلى مبدأ نظام الخير. وتظهر لغة الاشتياق والاشتهاء والشوق واللذة هربًا من العقل الكلامي والعالم المادي، وتصبح نظرية الفيض أقرب إلى التصوف منها إلى الفلسفة وأشبه بوحدة الوجود التي تنجلي تدريجيًّا كما هو الحال في فصوص الحكم لابن عربي.

وتفيض الأشياء عن الله عن طريق الملائمة. فلا يصدر عنه إلا ما يلائمه لا ليكمل نفسه بفعله بل لأن الفعل أولى به وأليق وإلا كان ناقصًا. يبدو الاستدلال أشبه بقياس الأولى ولكن على مستوى أخلاقي ذوقي يعبر عنه بلفظ «أليق».

الله مصدر كل شيء، وكل شيء منه يفيض. الموجودات كلها من لوازم ذاته، ووجودها مستمدٌّ منه. صورها في العقول ومعلولها ومنتقشة في نفوس الكواكب والأفلاك وإلا استحال تخيُّلها مطابقة لها. من طبيعة الأول الفيض. متى وجد الأول وجدت سائر الموجودات. تفيض عنه الموجودات بغير علية. والعقل والخيال ضروريان لمطابقة الموجودات لصورها في الأفلاك. العقل يدرك الموجودات، ويتخيل المطابقة؛ لأن الأفلاك خارج نطاق الإدراك.٩١

كل الموجودات الأبدية لها نِسَبٌ واحدة بعضها لبعض. وكلها معلولة للأول. وهي إما إضافية أو مضادية أو علية. وكلها نِسَبٌ لا متناهية. كلُّ منها علةٌ لما تحتها ومعلولٌ لما فوقها. وتتداخل النسَب فيما بينها. وكل من الموجودات له أكثر من نسبة، يكون متضايفًا، ومضادًّا ومعلولًا وعلة. ومع ذلك قصورُها وهيْأتُها المنتقشة متناهية. والجسم لا يكون علة جسم أو نفس أو عقل. فالأدنى ليس مصدرًا للأعلى. الفيض على مراتب تعبيرًا عن معنى آية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وترتيب الأشياء بين الكليات والجزئيات، بين العلل والمعلولات.

ما زالت لغة وتصورات نظرية الخلق سائدة في نظرية الفيض مثل العلية والتصور الثنائي للعالم. فهناك عللٌ متوسطة بين الله والعالم في سلسلة من العلل والمعلولات. الله يفعل في العالم من خلال العلل المتوسطة. وهو علة أولى وليس معلولًا لعلة أخرى. العلة الأولى لا متناهية في حين أن العلل المتوسطة قد تكون لا متناهية أو متناهية. والعلل المتوسطة توجد مع المعلول باستثناء العلة الأولى. والعلل التي لا توجد مع المعلولات ليست عللًا بالحقيقة بل معدات أو معينات مثل الحركة وعلة الحرارة المطلقة وعلة النار، وماهية الصور، وفعل الإحراق دون أن تكون علة شخصية. وهذا تنويع على برهان العلية لإثبات وجود الله كما هو الحال في نظرية الخلق. في نظرية الفيض ليس المطلوب إثبات وجود الله بل إثبات فيض العالم عن الله. الله موجود لأن العالم موجود، والعالم موجود لأن الله موجود. والوجود — بما في ذلك وجودنا — ليس في حاجة إلى إثبات.

ومع ذلك يظل الفكر الطولي من نظرية الخلق، إثبات العلة الأولى عن طريق استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية وهو التصور الديني. ولما كان الفلك يتحرك إلى ما لا نهاية وهو التصور العلمي استحال أن يكون الشيء علة نفسه. لذلك يتم الفيض على وجه عقلي سببي ومسببي.٩٢

ما زالت نظرية الفيض تعيش داخل نظرية الخلق والتصور الثنائي للعالم. فالعالم فاسد، وفساده كونه مثل سائر الأجسام. الكون تركيب، والفساد انحلال، اجتماع وافتراق، وكلاهما في الزمان الطويل والقصير، في المبدأ المحض وفي النهاية المحضة. العالم متكون وفاسد، وكونه وفساده لا في زمان، وأجزاء العالم متكونة فاسدة، وكونها وفسادها في زمان. والله هو الواحد الحق المبدع للكل، لا كونَ ولا فساد. الموجود الأول لا يفسد في مقابل الكون الفاسد. فالحكم بفساد الكون فكرة مقلوبة من الموجود الأول الذي لا يفسد والعكس صحيح. فكلاهما متضايفان. كما أن هذا العالم يجمع بين التناهي واللاتناهي، تناهي الصور والهيئات المتنفسة للإدراك ولا تناهي نِسَب التضايف والتضاد والعلية.

ويعرض الفارابي ممكن الوجود على نحوٍ منطقي ميتافيزيقي يتناول الهوية والوجود. في الإنسان ماهيته غير هويته أي وجوده. والماهية المعلولة ليست من ذاتها بل توجد لغيرها. فهي محدثة لا بزمان تقدم. لا يمتنع وجودها في ذاتها وإلا لم توجد ولا يجب وجودها بذاتها وإلا لم تَكَد معلولة. فهي في حدِّ ذاتها ممكنة الوجود. وتجب بشرط مبدئها، وتمتنع بشرط مبدئها، هالكة في حد ذاتها، وضرورية واجبة من الجهة المنسوبة إلى مبدئها. وهذا معنى آية كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، إشارة إلى الممكن الموجود بداية، ولا يكون واجب الوجود أو ممتنع الوجود إلا بغيره ومبدئه وهو واجب الوجود.

وتقال كل ماهية على كثيرين ليس لماهيتها بل لغيرها؛ لأن وجودها معلول لغير الذات. واشتراك الكثيرين في الماهية ليس من ذاتها بل من خارجها لأنها معلولة. ويشبه ذلك المنطق. فالفصل لا مدخل له في ماهية الجنس وإن دخل في طبيعته أي إنيَّته. الأدنى لا يحكم على الأعلى أو الفصل لا يحكم على الجنس. فترتيب الكليات الخمس ترتيبٌ ميتافيزيقي يتفق مع الفيض في الوجود والإشراق في المعرفة. يتقوم الجنس بالفصل من أجل حصوله على ذاته. وشخص وعين البحث عن ممكن الوجود سابق على واجب الوجود، من الطبيعة إلى الله مما يدل على أن واجب الوجود هو ممكن الوجود مقلوبًا، منفيًّا، مدفوعًا إلى نقيضه للبحث عن أساس له بالتمني والتطهر دون أساس اجتماعي له.

وإذا كان تصور الماهية يستدعي تصديقًا فإن ذلك لا يعني أن الوجود من العوارض أو اللواحق لأنه فائض عن الموجود الأول، ووجود الله غير ماهيته مما يلزم بالضرورة أن يكون وجود الإنسان مخالفًا لماهيته.٩٣ الله واحد، والإنسان اثنان. وهذا هو الفرق بين واجب الوجود وممكن الوجود، بين المثال والواقع، بين الدين والعلم، بين التصوف والفلسفة، دون أن يتضمن ذلك حِكَمًا قيمة بالضرورة أن يكون الأول أفضل من الثاني وأكمل. فالوحدة بين الوجود والماهية ثبات وسكون وصورية فارغة، في حين أن تحقيق الماهية في الوجود، والوجود للماهية حياة وصراع وإبداع.
وكما تنفي نظرية الفيض العلية المباشرة في نظرية الخلق فإنها أيضًا تنفي الغائية المباشرة. فقد احتاجت نظرية الخلق إلى العلية والعناية للربط بين الله والعالم. ولما كان الله والعالم في الفيض شيئًا واحدًا مع اختلاف في الدرجة لم تَعُد هناك حاجة لا للعلية ولا للغائية. لا يحتاج الفيض إلى غائية لأنه من طبيعة الموجود الأول وكرمه. وكما أن تسلسل الموجودات ليس تسلسلًا في وجوده فإنه أيضًا لا غاية له ولا تُفيده كمالًا. إنما الغائية والفائدة لنا. الغائية لنا كمال ولله نقص. والباعث على إنكار الغائية هو الحرص على القِدَم وباقي الأوصاف وإلا كانت الغاية أقدم من الأول مثل البقاء والوجود والواحد وعدم القسمة. الغاية من الخلق الفيضي معرفة الله وتحول الله من ذات إلى موضوع، ما دام يفيض عن الثواني سماوات دون سعْي أو حركة. تفيض الموجودات عنه ولا تنفصل فيه كما هو الحال عند ابن عربي «سبحان الذي خلق الأشياء وهو عينها».٩٤
وكيف تكون الفائدة والغاية لنا مع الحديث المروي عن الصوفية «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببتُ أن أُعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني.» الذي يدل على أن الموضوع خرج من الذات، والعالم فاض عن الله. وفي نفس الوقت لا يُعرف الله إلا من العالم، والذات لا تُعرف إلا باتجاه الموضوع نحوها؟ ولماذا استبعاد الغائية من الألوهية، والألوهية هي الغائية في التاريخ؟ وإنكار الغائية وقوع في السكون والثبوت والموت، فالغائية جوهر الحياة. ليست الغائية نقصًا أو عيبًا أو احتياجًا بل تحققًا وكمالًا. والبديل عن الغائية العشوائية والصدفة واللامعقول وهي مظاهر نقص في الأول والثاني. وهل الإبقاء على الصورة والمادة أجدى من الإبقاء على العلية والغائية وهما جوهر الحياة العقلية، والعقل والنفس من مراتب الفيض؟ والغائية صريحة في القرآن، غائية الله والطبيعة والإنسان.٩٥ قد يكون السبب في نفي الغائية والقصدية عن الفيض هو سيادة الأشعرية الكلامية التي تُنكرهما أو حتمية الفيض وخروجه من طبيعة الألوهية. ما دام الفيض خروجًا فإنه يكون بالضرورة قصدًا، وجودًا لغيره فيضًا وكرمًا ومحبة.

ونظرية الفيض أقرب إلى عمل الخيال منها إلى عمل العقل، صورة فنية إشراقية حتى ولو تحولت إلى أساطير عقول الأفلاك ونفوسها. كيف يمكن تصور الإبداع على هذا النحو الإشراقي الفني الخالي من الصراع والضد والإرادة المتجددة والوسائط وآلام الوضع وأحزان الزمان؟ كيف يكون إبداع ولا جديد في الوجود طالما أن كل فيض لاحق قد يتضمن في الفيض السابق والكل خارج وطائع ومقلد للمبدع الأول الذي فاض بطبيعته وليس بإرادته. وقد توقع نظرية الفيض في تصور هرمي للعالم تعظم أخطارها عندما تتحول إلى بنية اجتماعية وسياسية فتنتج المجتمع الطبقي، والنظام السياسي الرئاسي باسم المدينة الفاضلة. الأعلى أفضل من الأدنى بالضرورة مما يجعل العلاقة بين السيد والعبد علاقة أبدية دون جدل السيد والعبد وتبادُل الأدوار. كل شيء من الموجود الأول فهو عمادة دون جدل السيد والعبد وتبادُل الأدوار. كل شيء من الموجود الأول فهو عمادة البناء كله.

وكيف يمكن الخروج عن الذاتية في نظرية الفيض واللحاق بالعالم الخارجي الذي لا يكون نتيجة لانتشار الوعي أو الوعي المصمت بعد أن ينتهيَ الفيض ويصل إلى أدنى درجة؟ هل يصدر شيء من مجرد تعقل الذات؟ إلى هذا الحد بلغت قمة الذاتية التي تخلق موضوعها؟ وهل يمكن لما يحدث في الذات الإلهية أن يحدث في الذات الإنسانية بدلًا من ضياعها في عالم الأشياء وذوبانها فيه؟ وماذا يعني الفناء في هذه الحالة، عودة ما خرج إلى الوجود الأول وهو لم يخرج منه؟ هل العودة كونية موضوعية أم معرفية ذاتية؟ وهل يستطيع الإشراق رتْقَ ما أحدثه الفيض من فتق؟ وإذا كان الإشراق بعثًا جديدًا فهل هو وهمٌ ذاتي إذا لم يبعث الكون معه؟ وما فائدة صياغة ملاحم شعرية وصور فنية في بناء علوي بديل عن العالم السفلي المحطم؟ وكيف يتم الفعل في العالم والجهاد في الأرض والسعي والكد والكدح فيها والتأمل يُغني عنه، والوعي بالذات يُغني عن الفعل في العالم؟ كيف يتم التغير في هذه الحتمية الكونية والهرم الثابت؟

وبالرغم من أن نظرية الفيض تحاول الردَّ على الاعتراضات على نظرية الخلق والتصور الثنائي للعالم والانفصال إلى درجة التضاد بين العالمَين إلا أن الفيض لا يفسر كيف تخرج المادة من اللامادة أيضًا كاختلاف في النوع وليس فقط كاختلاف في الدرجة. كيف يخرج الزمان من لا زمان بفعل التعقل، والكثير عن الواحد، والحادث من القديم، وهي حجج ابن رشد ضد نظرية الخلق دفاعًا عن الفلاسفة لو قالوا بقِدَم العالم؟ يطغَى الاتصال على الانفصال، والوحدة على التنوع، والتشابه على الاختلاف.

كما أنها لا تفسر كيفية صدور الشر من الخير إلا إذا كانت تُنكر وجود الشر كليةً؛ لأنه خير من منظور أهم وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.٩٦ كيف يصدر النقص عن الكمال وكيف ينتهي الكمال إلى نقص مطلق والله في كل مكان؟
وكيف يكون الفيض حتميًّا دون فعل حر؟ والكرم لا يكون كذلك إلا إذا كان عن قصدٍ واختيار وليس عن طبيعة وحتمية. يبدو الفيض أحيانًا عملية آلية رتيبة رياضية ليس فيها حياة ولا صراع ولا جدل بين الإخفاق والنجاح أو الهزيمة والنصر.٩٧

ويمكن الاعتراض على الفيض بأنه يقلل من شأن التوحيد، ويقول بالمشاركة فيض العقل عن الله، والنفس عن العقل، والمادة عن النفس في علاقات علية متوسطة وكأن الله في حاجة إلى هذه المتوسطات حتى يتمَّ خلقه. ألَا يشارك الموجود الله في صفاته ما دام خرج منه، ويشاركه في أفعاله ما دام يفيض عنه كما فاض هو عن الله؟ بل إن الفيض بالرغم من حرصه على التنزيه إلا أنه لم يسلَم من التشبيه باستعمال الصور الإنسانية مثل الآلة والاحتياج والاستعانة.

(ب) العقل (العقول الثواني) العقل الفعال، الأجسام الأجرام، الأفلاك

ويفيض العقل عن الموجود الأول. ويتولَّى الفيض في عقول عشرة حتى العقل الفعال. كلُّ عقل سابق أشرفُ من العقل اللاحق وكلُّها أشرف من الأمور المادية التالية كالنفس والأجسام العلوية التي هي بدورها أشرف من الأجسام المادية المكونة من المادة والصورة كمال الأشرف هو الأقدم في ذاته، وعند الحكماء ما يحتاج إليه الشيء في وجوده وبقائه، كمال أول، وما لا يحتاج إليه كمال ثانٍ. عندما يعقل نفسه تصدر عنه صورة تتعلق بالفلك والنفس والمادة. وإذا عقل الثاني ذاته صدر عنه أيضًا فلك ونفس ومادة. فهناك عقول عشرة وأفلاك عشرة، ونفوس عشرة. العقل الأول عقل نفسه فصدر عنه عقلٌ ثانٍ لا وجود من ذاته بل يوجد من غيره.

وتبدأ عملية التوليد والإخراج للعقول من التعقل وتركيز الفعل على ذاته وتوليد الموضوع من خلال الذات. وكل عقل سابق هو واحد بالنسبة للعقل اللاحق وهو كثير. كل عقل إذن واحد وكثير في آنٍ واحد، واحد بالنسبة للاحق، وكثير بالنسبة للسابق. فبالرغم من هذه العقول العشرة فإننا لا نملك إلا عقلًا واحدًا. وكل واحد من العقول عالم بنظام الخير الذي يجب أن يظهر منه، فهي عملية حتمية لما ينبغي أن يكون وليست إرادة حرة. ما نقص في الواقع وأصبح عجزًا تحوَّل في الاغتراب وصار قوة.٩٨

فهل العقل الأول هو الواحد أم أنه بعد الواحد؟ يبدو أن العقل الأول بعد الواحد وأحيانًا يبدو أنه هو الواحد، عقل وعاقل ومعقول. هل الله هو العقل الأول يفيض عنه العقل الثاني أم أن العقل الأول يفيض عن الله ثم يفيض العقل الثاني عن الأول؟ ولمَ عقول عشرة ثم تتوقف؟ هل لأخذ الوافد كأداة للتعبير عن الموروث؟ هل هو تقدير للعقل، ومبالغة تحوله إلى أسطورة ثم تحجره وفصله عن حياة الناس؟ ولمَ تختلف هذه العقول بينها بالنوع مع أن الخلاف في الدرجة فحسب؟ ألَا يستطيع العقل الواحد أن يقوم بكل هذه الوظائف؟ ألَا يكفي عقل واحد في الإنسان وفي التاريخ بدلًا من هذه العقول العشرة الأسطورية التي لا وجودَ لها؟ هل هو تعويض عن العقل الضائع في الإشراق كما هو الحال عند الصوفية أم هو ردُّ فعل على عقل المتكلمين لصالح السلطة واستنباط الفقهاء لصالح السلطان؟

هي نظرة فنية للكون تقوم على التدرج كما هو الحال في السُّلَّم الموسيقي، الأحدُّ والأغلظ، الأعلى والأدنى. والمصطلحات هي مجرد العلامات الموسيقية على السُّلَّم، الثنائيات المتتالية، الأشرف والأحسن، الأكمل والأنقص، الأول والثاني، الصورة والمادة، الواجب بذاته والواجب بغيره، السماويات والأرضيات، الإلهيات والطبيعيات، الأقدم والأحدث، فهي مجرد تسميات مختلفة لتصور واحد. لذلك يقال «والحكماء يسمون»، أي أنها مجرد تسمية وألفاظ. هذه ملحمة العقول والنفوس والأفلاك، صورة شعرية تدل على الوجود والخلق والخروج والإبداع المستمر لتفادي الثنائية الحادة في نظرية الخلق، صورة خيالية تقوم على الاشتهاء والتمني.٩٩ ولماذا يكون الأشرف هو الأقدم الممتد في الزمان؟ إذا كان بمعنى العمق التاريخي فهو معنى إيجابي. وإذا كان الأحدث يعني الجديد فهو أفضل من القديم وخطوة نحو المستقبل.

وتفيض صور الموجودات عن واجب الوجود عقليًّا. فالموجودات هي نفسها عقل. والعقل وجود مثل الله، لا تمايُز فيه بين الماهية والوجود، وكذلك ما يصدر عنه لا تمايُز فيه بين الموجودات والمعقولات. الهوية هي أساس الصلة بين المعقول والموجود وليس الاختلاف، ولو كان الاختلاف لأدَّى التسلسل إلى ما لا نهاية طبقًا لعلاقة العلة بالمعلول، أيهما علة وأيهما معلول. ولما كان العقل علة والموجود معلولًا كان السؤال وما علة العقل؟

وعقل الشيء هو عقله مجردًا عن المادة. فإن كان موجودًا هكذا في الأعيان كان معقولًا لذاته. وهو أشبه بالدليل الأنطولوجي في الوجود الفعلي والكمال العقلي.١٠٠ والمعقول من الشخص يكون محمولًا عليه بل هو مشترك بين أشخاص كثيرة؛ فالمعقول كلي والشخص جزئي. لذلك يصعب التمييز في نظرية العقول العشرة بين عقل الموجودات وفيض كلٍّ منها عن عقل الآخر لها، وعقلها لذاتها الذي ينتج عن فيض الآخر منها، بين نظرية المعرفة ونظرية الوجود نظرًا لوحدة المعرفة والوجود وكما هو الحال في الدليل الأنطولوجي.

والعقل الفعال وسيلة لإكمال نقص الجواهر تحت السماء. وهو الذي يهب المادة الأولى صورة. فالمادة الأولى مجرد طبيعة وإمكان واستعداد. العقل الفعال والأجسام السماوية هما الوصيان على الأرض والمربيان لها. ويأتي العقل الفعال بعد فعل الجسم السمائي، ويساعد على المفارقة، أي تحول المعقولات بالقوة إلى معقولات بالفعل. فهي لا تكفل إلا بعقل خارجي هو الجسم السمائي وأجزاؤه. فالسماء تتحكم في الأرض، والأعلى يوجه الأدنى. ولا يحدث ذلك إلا في الإنسان. فالإنسان هو الغاية. ولا يكمل إلا الإنسان بتخلصه من المادة وبتحول عقله من العقل بالقوة إلى العقل بالفعل. وتلك سعادة الإنسان في وجوده المتجردة عن المادة وفي معرفته النظرية.

والسؤال: كيف تخرج الكثرة من الوحدة، والمادة من اللامادة، والناقص من الكامل؟ هل الكثرة دليل على البساطة أم أنها بداية التركيب والتجزئة والتعقيد؟ ولماذا هي فعالة؟ هل يفوض الله جزءًا من فعله لها؟ ولماذا يفعل الله عن طريق الوسائط وهي تحت قدرة الإنسان ومن أجله، أما العقول الفعالة فخارج قدرة الإنسان وسيطرته؟ الوحدة من لوازم الوجود وليست طارئة عليه وفي نفس الوقت مفارقة من أجل إثبات وحدانية الله وفي نفس الوقت إثبات تجلياتها في الوجود. فالله تصور معرفي وصفاته تصورات للوجود. فهل الثواني والعقل الفعال والنفوس ناقصة؟ وما مظاهر نقصها؟ هل لأنها تستمد وجودها من غيرها؟

قد يكون تجوهر العقل خارج الذهن البشري وتجسيمه في الكون تعويضًا عن العقل الضائع في النطق لحساب التصوف. فانزوى العقل إلى السماء بعد أن تمت إزاحته من الأرض وفصله عنها. وهذا التحاب بين العقل والضم والعشق المتبادل ونحن في صراع دموي بين الفرقاء والخصوم أليس تعويضًا عن حال الأمة، وإيجاد السلوى والعزاء في عالم أفضل، وإسقاط ما ينقصنا خارج الوعي، يُهدِّئُها ويسكنها. قد يكون المطلوب توحيد هذه العقول في عقل واحد، تعبيرًا عن عالم التمني في حالة العجز عن العود إلى العالم وإنزاله من السماء إلى الأرض واستقلاله عن تبرير النص وتبرير السلطان. لقد وضع في العقل الفعال كل القوى الضائعة في الأرض فلا يقوى على عقول الفقهاء والسلاطين إلا عقول الأفلاك.١٠١

ألَا يعبر هذا التصور كله عن اقتضاء أخلاقي ومطلب نفسي؟ فالأعلى أشرف من الأدنى، والأشرف مثل الأكمل والأجمل والأبهى. كلها علاقات قيمية وليست علاقات وجود. ولماذا السماويات أشرف من الأرضيات، والسماء جزء من الطبيعة طبقًا للحكمة القديمة؟ بل إن «السماء والعالم» أول كتاب بعد «سمع الكيان». ولماذا تكون السماء أفضل من الأرض إلا بناء على موقف مغترب من العالم؟ الكمال الأول والكمال الثاني، كلُّ ذلك يدل على أن التصور كلَّه أخلاقي إنساني وليس إلهيًّا طبيعيًّا، وأنه قول إنشائي وليس قولًا خبريًّا.

وهي عقول فعالة كلها تنتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر فلك الأرض، وهو سبب وجود الأنفس الأرضية، وسبب وجود العناصر الأربعة بواسطة الأفلاك. والعقل الفعال واحد كما هو الحال في السبب الأول بالرغم مما قد ينتج عن ذلك من مشاركة في صفة الوحدانية معه. ويعقل الأول والثواني في ذاته، ويعقل ما ليس بذواتها معقولات. يدرك ما فوقه وما تحته. المعقولات بذواتها هي الأشياء والمفارقة للأجسام التي ليست قوامها في مادة وما ليس بذواتها معقولات كالحجارة والنبات، ولكن العقل الفعال يجعلها معقولات بالفعل، ويرفعها من الطبيعة إلى رتبة أرفع. العلم هو العلم بالعلو أي العلم الكلي.

والعقل الفعال هو الذي يجعل القوة الناطقة عقلًا بالفعل. الجهد من الخارج، من أعلى، وليس من الداخل، من الإنسان حتى يصبح العقل الإنساني مثل العقل الفعال، عقل وعاقل ومعقول كالذات والموضوع والعلاقة بينهما، وبالتالي يحصل الإنسان على السعادة في المعرفة، ويتحول العقل الإنساني إلى عقل إلهي بعد أن كان هيولانيًّا، ويتشبه به. فكلاهما عقل وعاقل ومعقول.

وظيفة العقل الفعال الاتصال بالحيوان الناطق، أي بالكائنات الحية من أجل إيصاله إلى أقصى مراتب الكمال، السعادة القصوى. فالعلم يؤدي إلى السعادة، يجمع بين النظر والعمل، بين المعرفة والسعادة. مهمتُه تبليغ العلم والرسالات. فالحياة علم كما سيتضح بعد ذلك في «حي بن يقظان». الحياة بنت اليقظة ممثلة في حياة الشعور. والإنسان قادر على المفارقة، والاتصال بالعقل الفعل، ويكون مثله وفي مرتبته دون ما حاجة إلى جسم أو عرَض. العلم يأتي من العقل الفعال كما هو الحال في «التنزيل»، ويصعد إلى العقل الفعال كما هو الحال في «التأويل» بين العقل الفعال والعقل المفعل حركتان، نزول وصعود، ذهاب وإياب كما هو الحال في الوعي المتبادل على المستوى الرأسي بين الإنسان والله، وليس على المستوى الأفقي بين الإنسان والإنسان.

والصلة بين العقل الفعال والقوة الناطقة كصلة الشمس بالبصر، يعطيه الضوء. فالأمر تشبيهٌ وخيال وليس فكرًا، تصوير إنساني وليس علمًا. بفضل الضوء يصبح الإنسان مبصرًا بالفعل. وهو أقرب إلى التشبيهات الصوفية. وكل شيء مرهون بالمساعدة الخارجية كما هو الحال في النسق الأشعري في علم الكلام.

والعقل الفعال هو العقل الأخير سبب النفوس الأرضية، يجب في الأسطقسات بحسب نسبتها من السماويات وامتزاجاتها لتستعد لقبول النفوس النباتية والحيوانية والناطقة من الجوهر العقلي الآخر. ويكون كونها وفسادها بقرب العِلَل أو بُعْدها. وهذه هي الحركة. في العقل الفعال، والفعل من خارج الأرض. وسلب الإنسان فعله وجعله مع النفس في الأفلاك استلابًا للإنسان. كل ما يحدث في العالم من خير أو شر إنما هو ناتج من أعلى وليس من أسفل عن طريق وسائط الأفلاك والحركات الجسمانية. لماذا كل ما يحدث من أسفل لا بد وأن يحدث من أعلى وليس من أسفل وأن يحدث كل ما يحدث من أسفل يؤثر فينا من أعلى؟ ألَا يتعارض ذلك مع ما قاله الفارابي من قبل في «النكت فيما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم» وفي «الجهة» ضد الأحكام النجومية؟

ونظرية الاتصال بالعقل الفعال أحد الجوانب الحركية في الفلسفة الإسلامية بعيدًا عن الطبيعيات الأرسطية، وأن الزمان عدد الحركة خضع لظاهرة التشكل الكاذب، هو الروح القدس، الروح الأمين، ورتبتُه رتبةُ الملكوت. كما أن الأول هو تبارك وتعالى، والمبدع الأول تعالى. ولا يوجد في الموروث أصل لهذا التصور. إنما أخذ الوافد أداة للتعبير عن الموروث.١٠٢

والعقول الثواني أسباب وجود الأجسام السماوية أولَى مراتب الأجسام. سبب شريف لوجود شريف. وكل واحد من الثواني سبب لوجود أحد الأجسام حسب مراتب الشرف. أعلى الثواني ينتج عنه السماء الأعلى. فكل رئيس من درجة مرءوسه. وأدناها يلزم منه وجود الكرة التي بها القمر. والمتوسطات تلزم منها الأفلاك. والقمر أدناها لأنه أقرب الأشياء إلينا وأكثره سطوعًا. فالقرب هنا يعني الدنوَّ المكاني. وبالتالي يتساوى عدد الثواني مع عدد الأجسام السماوية. والثواني هي التي يسميها الروحانيون الملائكة مما يكشف عن عملية التشكل الكاذب، ترك الملائكة كلفظ قديم وأخذ الثواني كلفظ حديث. والروحانيون هم المتكلمون أو الصوفية ورجال الفكر الديني الصريح الذين لا يتفلسفون. الفلسفة إذن ابتعاد عن تشخيص العقائد وتحويلها إلى كونيات في الموجودات الروحانية كما هو الحال في الكلام والتصوف.

والثواني تعقل ذاتها وتعقل الأول أي ما فوقها وليس ما تحتها. المعرفة الصوفية من أعلى، والإنسانية من أسفل، الأولى استنباط والثانية استقراء. والإلهام نوع من الاستنباط المباشر. الأول والثواني والعقل الفعال في رتبة واحدة. كلٌّ منها يعقل ذاته ويعقل الأول. يقتبس وجوده من الأول ثم يفيض منه وجود آخر دون ما حاجة إلى شيء خارجه لهذه الولادة. يفيض من كلٍّ منها سماء من السماء الأولى حتى السماء الأخيرة التي فيها القمر. والسؤال: أين الشمس والكواكب؟ هل في السموات الأولى حتى التاسعة؟

والموجودات دون السماوية في غاية النقص. السماء كاملة والأرض ناقصة مما يعبر عن النظرة التطهرية للعالم. وسبب نقصها أنها لم تتجوهر بعدُ. بل هي كذلك بالقوة وكأن عدم التحقق نقص، والإمكان نقص لم يتحول بعدُ إلى كمال التحقق. هي مادة فقط ما زالت تسعى نحو الصورة وكأن السعي نحو الكمال نقصٌ وليس في حد ذاته كمالًا. والمادة الأولى هي جميع الجواهر تحت السماء. وهي متأخرة ومتخلفة وخسيسة في وجودها، ناقصة وعاجزة لا تسعى من تلقاء نفسها.١٠٣

فلماذا تسمى «الثواني» على الإطلاق دون جعْل التسمية وصفًا للعقول؟ ولماذا عشرة، والقرآن مملوء بأعداد الأفلاك والبروج؟ وهل القول بها يخاطر بالشرك أم أنه توجُّه نحو معرفة السببية في الكون؟

إن إبداع العقل الأول تكريمٌ له. من عملية التعقل، تعقل الأول لذاته، يخرج العقل الثاني في صورة فنية. العقل فاعل ومفعول، عملية تعقل كما أن التوحيد عملية توحيد. العقل ذات وموضوع وعلاقة. العقل هو البداية والنهاية مما يدل على أهمية العقل دون تحجير وتجسيم وتصنيم. هي أقرب إلى الصورة الفنية أو الملحمة الشعرية التي تقوم على الخيال ابتداء من العبارات الإنشائية مثل الغبطة والالتذاذ والسرور. غبطة الثواني في عقل الأول وليس في عقل ذاتها في حين أن عقل الأول على فضيلة ذاته، كلُّه غبطة والتذاذ وسرور بعقل الأول أكثر من غبطته والتذاذه وسروره بعقل نفسه، وإيجاد للمتعة في عقل الآخر وليس في عقل الذات مما يوحي بالتبعية ويكون مقدمة للاغتراب. فالعشق والإعجاب للآخر حتى ولو كان أولًا وليس للذات. الأول هو الأكمل والذات هو الأنقص، الخير من الله، والشر من النفس، تبرئة للآخر وإدانة للذات، بطولة زائفة، أو تضحية بلا ثمن كما هو الحال في علم الكلام. أليس هذا تدميرًا للذاتية والموضوعية معًا عندما يصبح الأول ذاتًا وموضوعًا، ذاته موضوعه وموضوعه ذاته، مغتبطٌ بنفسه وملتذٌّ بذاته، معجب بذاته وعشقه فيكون المحبوب الأول والمعجب الأول والمعشوق الأول؟ وحبُّ الذات وعشق الذات والالتذاذ بالذات والغبطة بالذات نوعٌ من النرجسية كما تصور ابن عربي أن الله يعشق ذاته لأنه لا يوجد معشوق أفضل منه والشرف والخسة مفهومان أخلاقيان. وليسَا طبيعيَّين مما يدل على أن الطبيعيات إنسانيات، إسقاط من الذات على الموضوع، ومن الإنسان على الطبيعة.

وتصور الموجودات الثواني عن العقول الثواني، لكل موجود عقل، ولكل عقل موجود. الموجود الأول هو الله. يفيض عنه الموجود الثاني، جوهر غير متجسم ولا هو في مادة يعقل ذاته ويعقل الأول. وليس ما يعقل ذاته هو غير ذاته. وعندما يعقل الأول يلزم عنه وجودٌ ثالث متجوهر بذاته يلزم من وجود السماء الأولى. ثم يتجوهر العقل ويعقل ذاته ويعقل الأول ويلزم عنه وجود كرة الكواكب الثابتة. ثم يعقل الثالث الأول ويلزم عنه رابع لا في مادة ويعقل ذاته ويتجوهر فيلزم عنه كرة زحل. ويستمر الفيض بنفس الطريقة حتى الخامس المشتري، والسادس المريخ، والسابع الشمس، والثامن الزهرة، والتاسع عطارد، والعاشر القمر. ويعقل الأول ويلزم منه وجود حادي عشر لا في مادة ويعقل ذاته والأول وينتهي عند الوجود. ولا تخرج منه مادة بل توجد الأشياء المفارقة وهي جواهر وعقول ومعقولات. فالمجموع أحد عشر عقلًا وليس عشرة. الأول لا يصدر عنه إلا الكل وليس خلطًا واحدًا. والأشياء المفارقة وجودها في المرتبة الحادية عشرة. وعند فلك القمر تنتهي الأجسام السماوية التي تتحرك دورًا. والقمر أقرب الكواكب لنا وبالتالي فهو آخر مراتب الفيض.١٠٤

وبعد الموجودات الكاملة السماوية تأتي الموجودات الناقصة الأرضية. وتتراوح بين الأشرف والأخس. ويعبر عن مراتبها عن طريق أفعل التفضيل الموجب أفضل وأشرف، والسالب أنقص وأخس. كمالُها تصاعدي حتى الأرقى في حين أن الموجودات السماوية كمالُها تنازلي، بين الكمال المطلق والنقص المطلق. والترقِّي والكمال في طباع هذا الجنس وليس دخيلًا عليه؛ لأن الارتقاء على ثلاثة أنواع، الأول طبيعي وهو توطئة للإرادي ومتقدم عليه في الزمان، الأسطقسات الأربعة وما جانسها من بخار ولهيب، والثاني إرادي، والثالث المركَّب من الطبيعي والإرادي مثل المعادن والحجارة وأجناسها والنبات والحيوان الناطق وغير الناطق. وهذا هو بداية الاغتراب الديني، الكمال إلى أعلى والنقص إلى أسفل. وإذا كان الكمال في الجوهر فماذا عن الأعراض والجواهر لا تنفك عن الأعراض؟ هل هناك حدٌّ لبلوغ الكمال يجعله يخترق حُجُبَ الأجسام الأرضية إلى مرتبة الأجسام السماوية أم أن الترقِّي في مستوًى لا يصل إلى مستوًى آخر طبقًا لجدل التواصل والانقطاع؟ هل الأجسام الأرضية بهذا المعنى أفضل من الأجسام السماوية؛ لأن الكمال في طباع الأولى في حين أن الكمال في الثانية يهبط عليها من العقل الأول أي من مصدر خارجي؟ وكيف يؤدي عقل الأول إلى هبوط دون صعود؟ كيف يؤدي عقل الكمال إلى نقص؟ هل تتفاوت الموجودات السماوية في مراتب النقص والكمال تنازليًّا؟ هل تتفاوت العقول العشرة أيضًا في مراتب الكمال والنقص وهي كلها علوية؟ هل العقول العشرة مفارقة وهي متجوهرة في أجسام سماوية؟ ولماذا تقديس الكواكب والأفلاك وربطها بالعقول؟ هل لأنه العالم العلوي، صورة الكون المثلى؟

إن الموضوع أقرب إلى الصورة الفنية والاعتزاز بالوعي الذاتي. عندما يعقل ذاته تنتج عنه السماء الأولى. فالموضوع ينتج عنه وعيٌ بالذات بذاتها، التركيز على الذات الذي يخلق موضوعه. والثالث يعقل الأول وليس الثاني، أي أنه قادر على تجاوز المتوسطات. فعقل الأول هو سبب الفيض وحتى العاشر. والكل يعقل الأول. وهل يتجوهر اللاجسم؟ وهل التجوهر بالذات الذي يلزم عنه الجسم تجوهرٌ تلقائي أم بسبب عقل الذات أم بسبب عقل الأول؟ وماذا عن السماء الأولى؟ هل هي مختلفة عن الكواكب العشرة؟ ويظل السؤال: كيف تخرج المادة من اللامادة؟ كيف يحدث التجوهر من الذات؟ وهو نفس السؤال الموجَّه إلى نظرية الخلق والذي حاولت نظريةُ الفيض الإجابةَ عليه. وهل هذه العملية آلية إلى هذا الحد دون إرادة حرة أو إبداع؟ وماذا عن المشاركة في الخلق مع الموجود الأول ومن صفاته نفْي الشريك ونفْي الضد عنه؟

وتحدث هذه المراتب أيضًا عن الأجسام السماوية واختلاف حركاتها، وتحدث أشخاص كل نوع منها على أنحاء من القوى كثيرة لا تُحصى. وهو ما يسميه الفارابي «المقاسمة بين المراتب والأجسام الهيولانية والموجودات الإلهية»، أي الاشتراك في المراتب في نظرية الفيض بحيث يكون الإنسان في أعلى مرتبة والمادة الأولى في أدنى مرتبة والعلاقة بين الاثنين علاقة الثنائيات المتطهرة من أعلى إلى أدنى، الله والعالم، الصورة والمادة، الفعل والقوة. تبدأ الموجودات الأرضية من الأخس في الأجسام السماوية، من الأول إلى الثواني الكائنة عن الأول ابتداء من التي ليست بأجسام ولا هي من أجسام ثم السماوية. وأفضل المفارقة في الثواني التي ليست بأجسام ثم الأجسام حتى الحادي عشر. وأفضل السماوية هي الأولى ثم الثانية حتى الحادي عشر فلك القمر. والأشياء المفارقة بعد الأولى عشرة والأجسام تسعة. فكلها تسعة عشر. وكل واحد في مرتبة لا يمكن تغييره في حتمية كونية. كل مرتبة خاصة. ولا يمكن لطبقة أن تأتيَ مكان طبقة. وكل مرتبة ليس لها ضدٌّ بل متجانسة مع التي قبلها والتي بعدها. ومن ثَم لا أضدادَ بينها ولا صراع. وليس له نوعٌ آخر غيره؛ لأن الفكر السلبي ليس له ضدٌّ ولا نوع ولا مادة. وتحدث الأضداد في أشياء، جواهر متضادة أو في شيء واحد نسبة أحواله متضادة، مثل الحر والبرد أو القرب والبعد. فالأول لا ضدَّ له في جوهره ولا في أحواله ولا نسبة من الثاني في القرب والبعد متضادة. والثاني ليس فيه تضاد ولا الثالث حتى العاشر. كل واحد يعقل ذاته ويعقل الأول. ويحسب زيادة فضيلة الأول عليه على فضيلة اغتباطه بنفسه أكثر من اغتباطه عندما يعقل ذاته. وزيادة التذاذه بذاته بما عقل الأول بحسب زيادة كمال الأول على كمال ذاته، وزيادة التذاذه بذاته بما عقل من الأول على إعجابه بذاته وعشق لها بما عشق من ذاته بحسب زيادة الأول وجماله على بهاء ذاته فيكون المحبوب والعجب الأول ثم ذاته. فالأول بالنسبة للعشرة هو المحبوب الأول والمعشوق الأول. ويتضح أسلوب الإنشاء مثل زيادة فضيلة ذاته، زيادة فضيلة اغتباطه، زيادة التذاذه بذاته، وزيادة إعجابه بذاته وعشقه لها بحسب زيادة بهاء الأول وجماله على بهاء ذاته وجماله. هو المحبوب الأول والمعجب الأول، والمعشوق الأول.١٠٥
والأجسام السماوية تسعة في تسع مراتب. كل واحدة تشتمل على جسم واحد كروي. الأول يحتوي على جسم واحد فقط، ويتحرك حركة دورية سريعة جدًّا. والثاني يحتوي على أجسام حركتها مشتركة، وحركتان اثنتان يشترك جميعها فيها. والثالث حتى السابع يشتمل كل واحد على أجسام كثيرة مختلفة في حركات يخص كل واحد منها حركة ويشترك في الآخر.١٠٦ جنسها واحد. وتختلف في النوع. وكل نوع واحد بالعدد والموجودات الهيولانية متجانسة مثل الصور والجوهر. ليس لصورها أضداد. وكل موضوع يقبل تلك الصورة وحدها ولا يكون خلوًا منها. والموضوعات لا تعوق صُوَرها وتكون عقولًا بذواتها. وتظهر نظرية العقول العشرة، كلُّ واحد بصورته، عقل بالفعل، يعقل بها ذاته المفارق الذي عنه وجد الجسم ويعقل الأول. يفارق الأول والعشرة المتخلصة من الهيولى. ويشاركه الإنساني في المادة. وهو مغتبط بذاته ليس بما يعقل من ذاته ولكن بما يعقل من الأول. يشارك المفارق في عشقه للأول وبإعجابه بنفسه وبما استفاد من بهاء الأول وجماله. وأفضل الأشكال الكروية رمز التناهي واللاتناهي، وله أفضل الكيفيات أي الضياء مثل الكواكب. وبعض أجزائها مشفَّة؛ لأنها مملوءة بالنور لا فرق بين الضياء الحسي والنور الروحي.
هذا التصور أشبه بالآلة ذات التروس التي يُحرِّكها جميعًا ترسٌ كبير يحركه ترسان، كلٌّ منهما يحرك ترسَين حتى الترس التاسع تمثل علاقة الواحد بالكثير والعلة بالمعلول. وهو تصور ضروري لا تفاوتَ فيه ولا خللَ تعبيرًا لا شعوريًّا عن آية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ، وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وتغيب المعارضة والمقاومة في هذا النظام الأبدي الخالد، الأول صورة الإقطاعي الرأسمالي، لا فرق فيه بين الله والسلطان. كما تظهر الإنشائيات ولغة الفرح والسرور والاغتباط والعشق، لغة النور والضياء والإشراق.١٠٧

والأجسام السماوية لم تعطَ من أول الأمر ما إليه تتحرك، وكأن الأمر مجرد حركة، بلا هدف مسبق. كل جسم في مكان حول جسم ما. والانتقال ليس في النوع. وللنوع أجزاء وللجسم أجزاء. وليس جزء أولى بجزء من أجزاء الحول، ولا بوقت دون وقت، فماذا يعني كل ذلك، تفسير حركة الأجسام السماوية بالأجزاء؟ هل هذا موضوع تأملات أو بحث طبيعي فلكي؟ وهل يمكن تطبيق تحليلات العلوم الطبيعية على الأجسام السماوية قياسًا؟ ألَا يقوم ذلك على افتراض الجزء الذي لا يتجزأ أو القسمة وهي من آثار علم الكلام؟

وتغيب الدلالة أحيانًا. ويصبح الأمرُ مجردَ تكرار لا دلالة له، أسطورة غيبية لا أصل لها في فلسفة أو دين، مجرد تعبير عن هوى أو مستوى ثقافي للعصر لإيجاد الاتساق بين المعارف وفهْم العالم دون وجود هدف محدد. إنما هو تصور الفارابي للأجسام وكأنها تدور طبقًا لتصوراته ومزاجه. واستعمال أفضل التفضيل «أخس» يدل على أن الخطاب كلَّه إنشائي، وأن النظرة كلها إنسانية. وتبرئة الأجسام السماوية عن التضاد وإشارة إلى الأرض ومَن عليها؛ فإن التضاد نقصٌ وعيب وخسة فيكفُّ الناس عن التضاد والصراع. ولا يوجد في السماء شيءٌ يجري قسرًا وكأن هناك حريةً في السماء وجبرًا على الأرض.

أما الأحوال التي توجد بها الحركات الدورية وفي الطبيعة المشتركة لها فالتفاضل ليس في حركاتها بحسب إضافتها بل لها في أنفسها وندواتها. فالذات أكمل من الغير، والموجود بذاته أكمل من الموجود بغيره.

وكثير من الأجسام السماوية أوضاعها من الوسط وما تحتها مختلفة. ولأجل هذا الاختلاف تلحق بأعراضها خواص.

والأرض مركز الحركة والأجسام السماوية تُسرع حولها أحيانًا وتُبطئ أحيانًا مما يدل على التفاوت. وهناك ضبط للسرعة وهو الثبات. البطيءُ بطيءٌ دائمًا، والسريعُ سريعٌ دائمًا، أي أنه لا يوجد تغيُّر في حركة الأفلاك. وكلاهما قياس على حركة زحل إلى حركة القمر؛ لأن زحل هو المرتبة الرابعة والكوكب الأول والقمر الرتبة العاشرة والكوكب الأخير مثل المركز والمحيط. وهو تعبير لا شعوري عنه كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ. تجتمع أحيانًا وتفترق أحيانًا وتكون على نِسَب متضادة. تقترب أحيانًا مما تحتها وتبتعد عنه. تظهر أحيانًا وتختفي أحيانًا، فالتضاد في نِسَب الحركة مثل الطلوع والغروب، وليس في الحركة أي في العرض؛ لأن الأجسام السماوية جواهر. والجسم السماوي أول الموجودات الذي يلحقه التضاد وبه نسبة المتضادات؛ لأنه أقرب إلى المركز الذي يضم كل الحركات الدائرية للأجسام الأخرى.

وللأجسام طبيعة مشتركة وهي تحركها بحركة الجسم الأول، منها ثلاثة أنواع من الحركات. الأولى حركة دورية في اليوم والليلة. والثانية تباين في جواهرها من غير تضاد مثل مباينة زحل للمشتري، وكل كوكب لكل كوكب، وكل كرة لكل كرة، والثالثة يلحقها التضاد في نِسَبها، تتخلَّى عن نسبة ثم تعود إليها بالنوع لا بالعدد، نِسَب تتكرر، ويعود بعضها في مدة أقصر وبعضها في مدة أطول، ونِسَب لا تتكرر. فيمكن أن يكون لبعضها نسب إلى شيء واحد متضادة أي أن تكون قريبًا من شيء وبعضها بعيدًا عن شيء.

والسؤال هو: هل تتفاضل الكمالات؟ هل هناك كمال أعلى وكمال أنقص؟ وهل تكون كمالات في هذه الحالة؟ هل السرعةُ والبطءُ كمالٌ ونقص أم أنهما طبقًا للثنائيات المتطهرة تعبيرٌ إنشائي خالص؟ وإذا كان التضاد بين الخسيس والنقص فالجسم السماوي يلحقه النقص. وهو صادر عن الأول وهو الكمال. وقد يكون تبريرًا فلسفيًّا لا شعوريًّا لنهاية العالم وليوم القيامة. وإذا كانت الأجسام السماوية بها نزاع بين الكمال والنقص هل تكون في هذه الحالة أقرب إلى الله أم أقرب إلى الأرض؟ هل هناك اختلاف في الكمالات من حيث المبدأ؟ هل هناك أعراض في الكمالات؟ وهل الخواص في الكمالات فطرية أم مكتسبة. وكلها أسئلة عقلية تبيِّن أن الموقف الإنساني الوجداني من العالم لا يكفي بمفرده كي يتحول إلى موقف عاقل.

ولماذا تختلف الأجسام من الوسط ومن أسفل وليس من أعلى؟ هل هذا هو المركز والمحيط أم أن الأسفل قريب من الأرض حيث التعدد، والأعلى قريب من السماء حيث الوحدة؟١٠٨

وتظهر بعض الموضوعات الميتافيزيقية الخالصة المشتركة بين الطبيعيات والإلهيات مثل الوجود والعدم والإمكان، والتضاد والمعارضة والتقابل، والحركة والقوة والفعل، والمادة والصورة، والمفارقة والعناصر، والكمال الأول والكمال الآخر. وهو حدسٌ واحد يتكرر عدة مرات في عدة تمرينات عقلية يتم التفلسف من خلاله في بدايات جديدة.

ويختلط في الأجسام تحت السماوية الوجود بالعدم. وهما أنقص من الأجسام السماوية. ولا يوجد وسط بين الوجود واللاوجود. لذلك تكون الأجسام تحت السماوية ممكنة أي وجود معرَّض للعدم. وإذا كان السبب الأول وجودًا فقط يهب وجوده دون عدم فمن أين يأتي العدم للأشياء؟ كيف تستمد الأجسام تحت السماوية وجودَها ماديًّا أو معنويًّا؟ أليس هذا جمعًا بين المادة والصورة من ناحية في ثنائية الخلق والفيض من ناحية أخرى؟ ويتم الحفاظ على الوجود بطريقتين. إما أن تكون صورته التي بها وجوده قوة أخرى (الداخل)، وأما أن يكون ما يحفظ به وجوده في جسم آخر خارج عنه (الخارج) بجسم واحد خادم أو بأجسام كثيرة خادمة.

وتتكرر قسمة واجب الوجود وممكن الوجود في كل مرحلة أدنى من عقل إلى عقل حتى يكون كل عقل واجب الوجود بالنسبة للعقل الذي يليه ممكن الوجود بالنسبة للعقل الذي يسبقه، الممكن له وجودان، وجود ولا وجود، وجود وعدم.

والموجودات الممكنة ليست لها غاية لأنفسها ولا تسعى من تلقاء أنفسها وبالتالي يلزم لها وجود من الخارج، فاعل يحرِّكها وينهضها. وهو الجسم السمائي الكائن الأقل. هو لازم الطبيعة الممكن ضروريًّا. والغاية من ذلك إفساح المجال لفعل الجسم السماوي فيها. فالفعل من الخارج وليس من الداخل مما يقضي على مفهوم الطبيعة والفطرة، لصالح تحكُّم السماء في الأرض طبقًا للنسق الديني لصلة الله بالعالم.١٠٩

والأجسام الممكنة الوجود بالطبع منها ما وجوده لأجل ذاته ولا يصدر عنه فعلٌ ما. ومنها ما وجوده يصدر عنه فعل إما في ذاته أو في غيره. ومنها ما يقبل فعلَ غيره. وهي قسمة عقلية موجهة دينيًّا وليست قسمة طبيعية. ومفهوم الفطرة هو مفهوم الطبيعة. كل شيء مفطور على أن يكون لذاته أم لغيره.

ولا يتحدث الفارابي إلا على الموجود الأول المفطور لأجل ذاته لأنه هو نموذج الفيض من الأول على الأشياء وفي غياب العائق الذاتي تصل الأشياء إلى كمالها الأخير في مقابل كمالها الأول العادي. فالكمال الأخير هو المثال، والكمال الأول هو الواقع مثل الكاتب النائم والكاتب المنتبه أو الكاتب المتعب والكاتب المستريح.١١٠ والعاشق مثل الفاعل من الخارج، مثل إعاقة الشيء المستتر بحائط من نور الشمس.
وإذا كان الفيض قد تحقق في الماضي فلم يبقَ إلا القليل في المستقبل. وهذا هو سبب حركة الأجسام السماوية في المستقبل وسعيها ودوام حركتها وسعيها نحو الكمال وإتمام الفيض. والسؤال ما دامت هناك حركة وسعْي فهناك غائية وإمكان بالرغم من أن ما تم منها أصبح كاملًا ولا يقبل صورة أخرى.١١١

ولكل ممكن مقابل، ليس أحدهما أولى من الآخر. والمقابل للممكن هو العدم أو الضد أو كلاهما. وتوجد المتقابلات في ثلاثة أوجه في وقتين أو في وقت واحد من جهتين مختلفتين أو في شيئين، كلٌّ منهما في مقابل الآخر. والمتقابلات تكون بالصور المتضادة، والمتضادات تكون بالمادة. والتقابل في المادة يعني أن الشيء لغيره والغير للشيء.

والموجودات الممكنة على مراتب. أدناها ما ليس له وجود محصل ولا بواحد من الضدَّين. وهي المبادئ الأولى. وما حصل له وجود بالأضداد التي تحصل في المادة الأولى، وهي العناصر في الأسطقسات. إذا حصلت بصور أمكن وجود التقابل. ويستمر التقابل بين الصور حتى تصل إلى الصور الأولى، وهي أشرف الموجودات الممكنة والمادة الأولى أخسها.

ويحدث التضاد في الأجسام. فالأجسام لها قوة تعطي صورًا شبيهة لها، ويصادفها قابل بأضداد الصور فتحتاج إلى قوة أخرى لإزالة الصور المضادة. وقد يكون هناك فاعل آخر يقوم بصور مضادة ضد الفاعل الأول، كلٌّ يرمي إلى إبطال صورة الآخر. إذن تلزم قوة أخرى لمقاومة المضاد، في ذاته مقترنة بصورة أو خارجة عنه، بآلة (التي للذكر) أو خادمة بانتزاع المادة المعدة له من امتداد الجسم (الأفاعي). إذ تتعين أجزاء العناصر وبثلاث طرق: طريق المادة، وطريق الخدمة، وطريق الآلة. كما تتعين الموجودات بنفس الطرق، النبات والحيوان غير الناطق والحيوان الناطق. كل مرتبة عليا تستخدم المراتب الدنيا بنفس الطرق الثلاث. الإنسان يأكل الحيوان (المادة)، ويركبه (الخدمة) ويجرُّ محراثه (الآلة). الأشرف يستخدم الأدنى، ولا يستخدم الأدنى الأشرف. الأسطقسات خادمة للمعادن، والمعادن خادمة للنبات، والنبات خادم للحيوان غير الناطق، والحيوان غير الناطق خادم للحيوان الناطق، والحيوان الناطق ليس خادمًا لأحد إلا عرضًا. الإنسان (الحيوان الناطق) إن لم يكن له جنسٌ آخر أفضل منه فليس مادة ولا خدمة ولا آلة لشيء أصلًا أو بالطبع. فالإنسان ملك الكون. والإنسان يتحرك بالمنطق والإرادة وليس بالطبع لأنه موجود حرٌّ. يفعل الإنسان بالمنطق ما يصير بالعرض خدمة مثل غرس الأثمار وتفجير المياه، وبذر النبات، وإنتاج الحيوان أي إعمار الأرض، ولا يخدم إلا نوعه، وليس آلة لشيء آخر.١١٢

والتضاد ناشئ عن قوًى خارجية من حركات الأجرام السماوية وأثرها على الأرض. هو تضاد في الطبيعة وليس في المجتمع مع أنه لا فرق بين الطبيعة «الفيزيقية» والطبيعة الحية.

والممكنات لها قوًى بفعل بعضها في بعض. قد تُضاد الأجسام السماوية وقد تُشاكلها. وتشاكلُ الصور وتضادُّها يُعين بعضها على بعض، ويعوق فعلُ بعضها بعضًا على تبادل وتعاقب، يعينه في وقت على ضده، ويعوقه في وقت آخر، ويعين ضده عليه عن طريق زيادة الحرارة والبرودة أو نقصان ما من شأنه أن يفعل أو أن ينفعل نظرًا لاشتراك الأجسام السماوية وتحت السماوية في إعادة الأولى وفي كثير من المواد القريبة. ويكون ذلك إما على الأكثر أو الأقل أو على التساوي. فالمضاد يعوق والمُشاكل يُعين؛ إذ إن الطبيعة كيف وكم.١١٣

واشتباك هذه الأفعال في الموجودات الممكنة وائتلافها وحصول الامتزاجات واجتماعها على الائتلاف والاعتدال والتقدير والقسوم بالطبع إما بحسب المادة أو بحسب الصورة أو بحسب الأمرين معًا. إذا كان بحسب الصورة فإما لذاته أو لغيره أو للأمرين معًا. ما ينقسم بحسب الصورة نظرًا لأنها غاية المادة.

والحيوان الناطق بحسب صورته لذاته وليس لأجل نوع آخر لا على طريق المادة ولا على طريق الآلة والخدمة. وما سوى ذلك يكون إما لغيره أو للأمرين معًا. والسؤال هو: ما هو مثال الأمرين معا؟ هل هي الموجودات المتوسطة؟ أليس الإنسان لذاته ثم لغيره مثل الأب والابن؟

وقد تحدث معارضة في الأجسام تحت السمائية لقوى الأجسام السماوية؛ إذ تمتنع الأولى عن قبول أفعال الثانية. كما قد تمتنع القوى تحت السمائية عن قبول أفعال بعضها البعض. الممكنة التي فيها قوة فاعلة يمكن ألا تعقل إما لضعفها أو لامتناع أضدادها عليها أو لقوة أضدادها أو لأن أضدادها يقينها من خارج أشياء مشاكلة لها أو أن يعوق فعلَ الفاعل عائقٌ آخر مضاد من جهة أخرى. وليس ذلك عيبًا في الأجسام السماوية بل لامتناع موضوعات الأجسام الأرضية حتى يظل الجسم السماوي قادرًا وسبب الامتناع من فاعل آخر من الممكنات.

والأشياء المفارقة للمادة بجواهرها على كمالاتها الأخيرة؛ لأن لا أضداد لها ولا لموضوعاتها فلا عائق لها. التضاد نقص. والأجسام السماوية أيضًا على كمالاتها الأخيرة ولا تضاد فيها من خارج، ولا تنقطع حركاتها. أما الأجسام الممكنة فهي التي على كمالاتها الأولى وأحيانًا على كمالاتها الأخيرة لأن بها متضادات، تقدم وتأخر. والمقصود منها أن تكون على كمالاتها الأخيرة. والشيء يكون بالطبع لا بالقسر على كماله الأول ليحصل عنه الكمال الأخير، طريق إليه أو عون عليه. فالطبيعة تتجه نحو الكمال. وقد يأتي الكمال من خارجها، من المعقولات الأُخَر.١١٤

أما أشكال الأسطقسات والأجسام المعدنية حسب ما تتفق من فعل فاعلها أو الأشياء المحيطة بها، مقاديرها غير محدودة، ولكنها ليست غير متناهية في العظم تجتمع أجزاؤها اتصالًا أو تماسًّا. ليس اتصالها أو انفصالها طبقًا لقانون بل كيفما اتفق بحسب الفاعل أو اجتماعها وافتراقها. المهم أن يحدث كمالها، وكأن حدوث الكمال لا يسير وفقًا لقوانين الطبيعة. أما الحيوان والنبات فبالطبع.

ولماذا لا تكون المعارضة مثل التضاد في الطبيعة وليست في المجتمع؟ وإذا كانت الطبيعة تقاوم وليست لها إرادة حرة فالأولى مقاومة الإرادات الحرة الفردية والجماعية. ولماذا يكون الكمال لا حركة فيه ولا تقدم ولا تحقق ولا مشروع دفعة واحدة؟ وقد يبدو تناقضًا أن تتحول الطبيعة قسرًا وتتجه نحو الكمال في آنٍ واحد. فالقسر مناقض للكمال، والكمال ليس مقولة طبيعية بل مقولة إنسانية. ومن ثَم ليس في الحيوان والنبات والمعادن كمالٌ مما يدل على أن الفيض تصور شاعري للطبيعة وإسقاط إنساني عليها.

وكل شيء له وجودان، وجود بالمادة، وهو وجود غير محصل، ووجود بالصورة وهو وجود محصل. والممكن على نحوين، ما يمكن أن يوجد شيئًا ولا يوجد وهو المادة، وما يمكن أن يوجد في ذاته ولا يوجد وهو المركب من المادة والصورة. والقوى صور في الأجسام مفطورة فيها لئلا تكون آلات أو خادمة لغيرها. إن كانت مقترنة بالجسم فهي غير مفارقة، وإن كانت في أجسام أخرى فهي مفارقة. ولكل موجود استيهالان، حق المادة للمادة، أن يوجد الموجود الذي هو له، وحق الصورة، أن يوجد الموجود الذي هو له إما لذاته أو لغيره أو أن يكون غيرُه مفطورًا لأجله أو أن يكون نوعٌ واحد يجتمع فيه الأمران جميعًا، لذاته ولغيره. وما هو لأجل غيره بحق صورته أو يكون غيره له مفطورًا لأجله إما أن يكون له مادة أو تكون له آلة أو خادمًا له.

والأشرف والأخس درجات متوسطة كلما كان الشيء أقرب إلى المادة كان أخسَّ، وكلما كان أقرب إلى الصورة كان أشرفَ. المتوسطات إذن مفطورة لأجل ذاتها أو لأجل غيرها. وعلاقة الأخس والأشرف علاقة تبعية واستقلال. وهما مقولتان أخلاقيتان مسقطتان على الطبيعة. فالمادة توجد لغيرها وليس لذاتها، غايتها سببُ وجودها. لذلك لا توجد مادة مفارقة لصورتها. أما صورة الصور فتوجد لذاتها. لكل واحد استيهالان، واحد بمادته وواحد بصورته، الأول للزوال والتضاد، والثاني للبقاء والدوام. والعدل أن يوجد كلاهما كما هو في عالم الكون والفساد. العدل أن يوجد لكل شيء مادة وصورة. الأولى للزوال والتضاد والثانية للبقاء والدوام. وهو تصور إنساني للطبيعة. يقتضي العدل التقابل في المادة، أن يكون الشيء كغيره والغير للشيء على التبادل والشركة. العدل مقولة إنسانية. والفطرة مقولة طبيعية. والنظام في الطبيعة تعبيرٌ عن تصور قرآني، لكل شيء قدر موزون.

لما خرج العقل كان لا بد له من وظيفة فكانت الأفلاك عقول الكواكب بالقوة لا بالفعل. ولا تعقل أو تتحرك دفعة واحدة بل تدريجيًّا. ونظرًا لأنها كثيرة فإنها ناقصة لأن الكثرة أحد مظاهر النقص، والوحدة أحد مظاهر الكمال. والوحدة من لوازمها غير مفارقة لها.١١٥ ومع ذلك موضوعات الوحدة لا تقوم الوحدة. وليست فصولًا مع أجناسها؛ لأن هناك اختلافًا في النوع بين الأشياء ومعانيها، بين الموضوعات والتصورات. ونظرًا لأنها مركبة من مادة وصورة فإن فيها أيضًا نقصًا؛ لأن الكامل لا يكون إلا بسيطًا مثل الأول والعقول الفعالة. وكل عقل يعقل نظامه فيكون سببًا ومبدأ لما يوجد فيه.

الفلك يعقل ثم يتخيل في حين أنَّا نتخيل ثم نعقل. عندما يعقل الفلك يستفزه الالتذاذ فتتبعه الحركة. فالحركة نتيجة للتعقل. وتنتج عن الالتذاذ كما هو الحال عند الإنسان عندما يتخيل فيلتذ فيتحرك. والفرق بين الفلك والإنسان أن الفلك يتصور الغاية في حين لا يتصورها الإنسان. وما يحدث للفلك عندما يعقل من الأول يكون كالوجد الذي يلحق بالإنسان عندما يتخيل. وكل ما تعقله النفس يكون مشوبًا بالتخيُّل.

ومن الطبيعي أن يعقل الفلك ذاته؛ لأنه يعرف ذاته ثم يتخيل بعد هذا التعقل. أما الإنسان فلأنه لا يُدرك الفلك إدراكًا مباشرًا فإنه يبدأ بالتخيل ثم يعقل ما يتخيل. التخيل مقدمة للتعقل. والسؤال هو: هل يقصد الفارابي النبوة، أن النبي يتخيل قبل أن يتعقل؟ وما القصد من هذا كله، عالم العقول والأفلاك أم النبوة قبل أن تتأصل نظريًّا عند ابن سينا؟

وكيف لا يتصور الإنسان الغاية في حين يتصورها الفلك، والغائية مقولة إنسانية؟ والغاية مثل الوجد والحركة والخيال والالتذاذ والعشق حديث صوفي وجداني خالص. وهي صورة شعرية مثل المسيحية، وجْدٌ صوفي مسقط على الطبيعة.

ويصعب التمييز بين العقول والكواكب. فالعلاقة بينهما علاقة الصورة بالمادة أو النفس بالبدن. ومع ذلك هما على درجة واحدة من الفيض من الله إلى العقل إلى النفس إلى المادة. الله مدبر البدن، والمادة الأولى أصل الموجودات المادية. والسؤال هو: لماذا عقول الكواكب بالقوة وليست بالفعل؟ كيف يعقل عقل بالقوة ويصدر عنه وجود؟ قد يكون العقل هنا بالمجاز وليس بالحقيقة، صورة فنية وليست ملائكة ناطقة بالفعل. ويشعر الفارابي بالاعتراض على النسق ويرد عليه مسبقًا كما يفعل المتكلمون. فما دامت الكواكب كثيرة ففيها مواد ونفوس إسقاطًا من الإنسان إلى أعلى مع رتبة الشرف. فالمادة الأثير وليست البدن، والحركة دائرية وليست مستقيمة، والزمان خالد وليس فانيًا.

وما الفرق بين الأفلاك والكواكب؟ هل الأفلاك مسارات الكواكب ومداراتها كما يشهد بذلك القرآن كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ؟ ومَن أين تأتي الأفلاك؟ هل تفيض من الأول كما يفيض العقل؟ وما هي وظائفها؟ وأين يوجد العقل فيها داخلها أم خارجها؟ وإن كان خارجها فكيف يدخل فيها، وإن كان داخلها فهل هو صورتها؟ هل يصدر الفلك من الأول مثل صدور العقل الأول أم أنه يصدر عن العقل الأول عندما يعقل ذاته. ويظل اعتراض ابن رشد على نظرية الخلق قائمًا. كيف تخرج المادة من اللامادة؟

وتبدو علاقة العقل بالأجسام السماوية علاقة الذات بالموضوع لكن على نحو مشخص في الكون، وهي تُشبه الجواهر المركبة من مادة وصورة لأنها منقسمة إلى أجزاء وهي غير مكتفية بذاتها، وبالتالي يحصل عنها شيء آخر غيرها. ولا يبلغ كمالها وفضيلتها إلا بعد أن يفيض عنها فعلًا في غيرها دون أن يحصل لها وجه آخر خارجها.١١٦ والسؤال كيف يفيض عنها شيء دون أن تتخارج وتبقى في ذاتها؟ هل التخارج كم أم كيف؟ وباقي المقولات هل هي أجسام فعلية وتخارج مادي له أعظام وأقدار ومساحات؟ هل هو تفاضل في الأمكنة بين الأعلى والأدنى؟ هل هو تفاضل موضوعي أم إسقاط ذاتي من سلم القيمة؟١١٧

والحركات مستديرة من الإرادات المتصلة تتحرك الأفلاك استدارة على شيء ثابت تُحاكيها الأسطقسات الأربعة. ويكفي محرك واحد وهو طلب الكمال إلى ما لا نهاية على سبيل العشق حتى تتوالى الحركات. فحركة الفلك كماله. والفلك كامل في كل شيء إلا من حيث الحركة والزمان. وإذا كانت الحركة دائرية والزمان عدد الحركة يكون الفلك كاملًا لأن الحركة والزمان لا متناهيان. طبيعة الفيض وجوده بحركة نفسانية لا طبيعية، لا لشهوة أو غضب بل لتشوقه للتشبه بالعقليات المفارقة للمادة.

وهناك تقابل بين العالم العلوي والعالم السفلي، حركة مستديرة في مقابل حركة مستقيمة، مادة خامسة هي الأثير في مقابل العناصر الأربعة، عدم الكون والفساد في مقابل الكون والفساد، العلة في مقابل المعلول، الحركة الوضعية في مقابل الحركة المكانية والكمية والكيفية، والأجرام في مقابل الأسطقسات، الميل الطبيعي للفلك والميل القسري للأجسام. وتميز الفلك بمادة مستقلة هي الأثير تجعله بين الطبيعيات والإلهيات. يشارك الله في اللانهائية والتأثير وعدم الفساد ويشارك الطبيعيات في المادة والحركة. والفرق بين الميل الطبيعي والميل القسري أن الأول دوري والثاني مستقيم. الأول للفلك والثاني للأجسام. والصراع بين الدائرة والمستقيم في الطبيعة هو صراع بين الفكر العلمي والفكر الديني.١١٨

وتتشبه إرادة الفلك بالأول فتتبع إرادته هذه الحركة. ويلزم عن حركته وجود الكائنات باعتبارها كمالات ثوانٍ. والغرض من حركة الفلك ليست الحركة باعتبارها حركة بل حفظ طبيعة الحركة أي نوع الحركة الجزئية. وإن كانت حركة الفلك متجددة فهي واحدة بالاتصال والدوام وأشبه ما تكون بالثابتة. غاية الطبيعة الجزئية شخصية جزئية. أما الأشخاص التي لا نهاية لها فهي غاية للقوة السارية في جواهر السموات التي تتبعها الحركات اللانهائية للأكوان التي لا نهاية لها. وتتحرك دورة الفلك بحركة واحدة في الشرق والغرب، هذه لاحقة وهذه فائتة. كل شيء في حركة في السماء. الكواكب في ذاتها متحركة على مراكزها في أفلاك تداويرها.

ولا تدخل الحركة على جوهر الفلك وإنما هي طارئة عليه. ولذلك قيل إن الفلك ليس في الحركة والزمان بل معهما. الزمان متصل ومنقطع بالحركة ولا يجوز للحركة أن يكون لها ابتداء زماني ولا نهاية زمانية. فلكل متحرك محرك حتى الوصول إلى المحرك الأول؛ لأن وجود محركَين محال. القوى المتحركة متناهية وهو ومحرك واحد. وربط الزمان بالحركة خلطٌ بين الزمان والمكان، ونسيان الزمان الشعوري، والحركة والتاريخ.١١٩

وكل جسم له مكان خاص ينجذب إليه. وله قوة يكون منها ابتداء حركته بذاته. المكان سطح الجسم المحوي. ولا فراغ في العالم ربما لأولوية الوجود على العدم أو لأن الله في كل مكان، ومحيط بكل شيء. وهو خروج على التصور الوافد إلى تصور أكثر تعبيرًا عن الموروث وإن لم يَصِل بعدُ إلى تصور المكان على أنه انتشار في الأرض إلى العالم والحركة والتاريخ.

ويظهر الكلام كمصدر أول للفلسفة مثل قضية حدوث العالم وقِدَمه، إثبات الحدوث وإنكار القديم مع أن الزمان لا أول له ولا نهاية. ولما كان الزمان مرتبطًا بالمكان فالمكان قد يكون كذلك أيضًا. فإذا كان وجود العالم بعد وجود الله بالذات فهناك قبل وبعد أي زمان واتصال ومشاركة في القِدَم.١٢٠

وتظهر بقايا علم الكلام في الجزء الذي لا يتجزأ. والغرض من إثبات تناهي العالم إثبات لا تناهي الله، وإثبات المحرك الأول بدليل الحركة، ووضع قوة في الجسم تحولًا من الطبيعيات المغلقة إلى الطبيعيات المفتوحة دون وضْعها في المجتمع. ويستمر التقابل بين الكلي والجزئي، الثابت والمتحرك، اللامتناهي والمتناهي لهذا السبب. وإذا كانت القوة المحركة غير متناهية والقوة الجسمانية متناهية فإن قوة الفلك تشارك معها صفات الموجود الأول في القوة.

وبالرغم من ظهور اللاهوت السلبي في الحديث عن الفلك نظرًا لقربه من الله، لا حار ولا بارد، لا ثقيل ولا خفيف، لا ضد له ولا يخرقه شيء، ليس به شهوة أو غضب، والمحرك الأول ليس بذي عظم ولا جسم ولا متجزئ ولا متكثر إلا أن الإشراقيات تظهر أيضًا في نفس الوقت في لغة العشق والشوق.

ويستمر تشخيص الفلك وكأنه كائن حي له إرادة وعقل ونفس، مع نظرة تطهيرية له. فهو جوهر خالٍ من الزمان والحركة. وكل شيء يحدث في السماء وليس على الأرض. السماء إيجاب مطلق والأرض سلب مطلق. وما الفائدة من إبقاء النفس والعقل والإرادة والحياة خارج العالم الأرضي وإبقائهما في حركة دائرية في السماء دون إحداث تقدُّم على الأرض؟

وقد توجب حركة بعض الكواكب شيئًا وحركة غيره تمنع فيتصادم الموجبان فيحدث شيء آخر. وقد تتخيل الكواكب الأشياء فيصير تخيُّلها سببًا لحدوث أشياء أخرى، كما أن حركاتها سبب لحدوث حركات أخرى. وقد يكون تخيُّلها سببًا لوقوع تخيلات في نفوس البشر فتبعث على فعل أشياء أو وقوع أمور طبيعية مثل تخيُّل حرارة الهواء فتحدث دون توسُّط. وقد تتصور الكواكب الحركة الجزئية تناقض الحركة الأولى في حين يستحيل التناقض بين ما تتخيل الكواكب وما يتخيل البشر. والحل يكون بصفاء القابل. فالفلك لا غبار في تخيُّله ولا خطأ ولا محال ولا كذب بل هو تخيُّل الواجب والحق، ولكن تخيُّل النفس قد ينتج عن فساد المزاج كما يحدث أثناء النوم بفعل القوة المتخيلة. أما العقل الفعال فلا يفيض من خلاف في التخيلات. يقوم الخيال بدور كُنْ فَيَكُونُ، بمجرد تخيُّل الكواكب شيئًا يقع ذلك الشيء في النفس أو في الطبيعة. فالخيال فعل وحركة. فهل في حركة الأفلاك تضادٌّ ينتج عنه شيء آخر؟ أليس ذلك من شيمة الأرض؛ لأن عالم الأفلاك أقرب إلى الاتفاق منه إلى الاختلاف.١٢١ فالتدافع على الأرض وليس في السماء وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. وهل من المعقول تصادم حركات الكواكب وهي لا فساد فيها إلا إذا كان المقصود المعنى الإيجابي للتصادم وهو التعارض والاختلاف؟
والخيال خلق وإبداع كما هو الحال عند الصوفية خاصة ابن عربي، ولا يوجد حكم على ذلك بالصواب والخطأ بل هو مجرد تصور شعري للعالم.١٢٢ ولا يوجد تصور للفعل كقوة محركة لتاريخ مثل فعل الشهيد.

وليس الفلك حركة مضادة أي قسرية. حركته نفسانية لا طبيعية لأن النفس بها حياة وعقل. ليس للفلك شهوة. لا يتحرك بالعشق نحو معشوقه. وهي أيضًا نظرة إنسانية تطهرية مسقطة على الطبيعة. فالعشق قوة طبيعية كما هو الحال في التصوف كقوة روحية. كل فلك يعشق بمعشوقه وهو عقله. والكل يعشق المعشوق الأول تصويرًا لآية فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا وهو إسقاط من الإنسان على الكون. فالفلك له نفس وعقل مثل الإنسان. الطبيعة إنسان والإنسان طبيعة كما هو الحال عند إخوان الصفا. للطبيعة لغة، تُخاطب، وتُسبِّح مثل الإنسان. والحيوان عالم وأمم مثل الإنسان ولكن الإنسان هو الذي لا يفقه التسبيح، واستعمال تعبيرات «يجوز» و«لا يجوز» يدل على أن الأمر اقتضاء أخلاقي ومطلب نفسي وتحديد ما ينبغي أن يكون. لا يهم التناقض العقلي. إذ كيف تكون العناصر الأربعة كروية الشكل وتشارك الأجسام السماوية صورتها مع أن حركتها في الأرض مستقيمة؟ ألَا يؤدي إلى إثبات كروية الأرض؟ والعجيب قبول الاستدارة في السماء ورفضها في الأرض نظرًا لرفض التسلسل إلى ما لا نهاية؟ وهو التقابل بين الفكر الطولي الديني والفكر الدائري العلمي.

والأجرام السماوية معلومات جزئية وكلية تنتقل من حال إلى حال على سبيل التخيل. ومصدر التخيل الجسماني هو مصدر الحركات الجسمانية التي تصير مصدرًا لتغيُّر العناصر الأربعة وما يقع في العالم من كون وفساد.

واشتراك الأجسام السماوية في معنى واحد هو الحركة الدورية سبب اشتراك المواد الأربعة في مادة واحدة، واختلاف حركتها سبب اختلاف الصور الأربع للمواد بالرغم من مخالفة مادة الأجرام السماوية وصورها لمادة العناصر الأربعة وصورها. فمواد العناصر الأربعة لها أبعاد ثلاثة مفروضة. وصورها لا تفارق مادتها على عكس الأجرام السماوية. الأجسام السماوية كثيرة تتحرك باستدارة حول الأرض، حركات كثيرة، تلحقها جميعها قوة السماء الأولى. بحركتها يتحرك الجميع نظرًا لصدارة الأول على الثواني.

ويحرك الجسم السماوي الأجسام تحت السماوية بعدة طرق. منها التحريك بغير وسط وبغير آلة من الشيء إلى الصورة التي بها وجوده مباشرة، إعطاء المادة قوة ينهض بها الجسم من تلقاء نفسه فيتحرك بها نحو الصورة التي بها وجوده، وهي الحركة التلقائية، إعطاء شيء قوة يحرك بها الجسم إلى الصورة، وهي الحركة عن طريق الواسطة، إعطاء شيء قوة تعطي شيئًا قوة تحرك بها الجسم من المادة إلى الصورة، وهي الحركة عن طريق الواسطة المزدوجة، وقد يكون التوسط بثلاثة أشياء أو أكثر أي بسلسلة من المتوسطات. والحركة انتقال من المادة إلى الصورة وليس انتقالًا من الصورة إلى المادة أي انتقال الخسيس إلى الشريف وليس الشريف إلى الخسيس. الصراع إذن بين الحركة الخارجية والحركة الداخلية، الأولى بفعل فاعل والثانية بفعل الطبيعة، وهو الصراع بين الفكر الطبيعي والفكر العلمي. وهناك صراع آخر بين الحركة المباشرة والحركة المتوسطة. وهو حل وسط يقضي بأن يحرك الله العالم عن طريق الوسائط، الأجسام السماوية أو قوانين الطبيعة. وهناك صراع ثالث في الحركة المتوسطة بين متوسط واحد ومتوسطين وثلاثة متوسطات أو أكثر.١٢٣

وحركات الأجرام السماوية اللامشخصة تصبح الأحداث السفلية المشخصة، أي أن المجهول يصبح مصدرًا للمعلوم حتى النسب في الدنيا تقع نتيجة لاختلاف الحركات العلوية. وتتحد الجهات بالجسم السماوي؛ لأنه محيط ومركز. لذلك كان نافعًا في معرفة التوقيت والأهلة.

لا فرق إذن بين الطبيعيات المقلوبة إلى أعلى، والإلهيات المقلوبة إلى أسفل. فهو نفس الخطاب الثنائي. فالله فكرة محددة رادة غيرها إلى عكسها. فالفعل متناهٍ، ولا وجود لخلاء ولا ملاء لأن الله في كل مكان. والحركتان إلى أعلى وإلى أسفل للعناصر الأربعة النار والهواء في مقابل الأرض والماء، طبيعيات إلهية أو إلهيات طبيعية. ويستعمل الله أحيانًا لكسر حدة التشكل الكاذب وبروز الموروث كاشفًا عن نفسه وكأن الفيلسوف قد عاد متكلمًا والمتكلم عاد فقيهًا.

ولا تتجزأ الأجسام السماوية كالأرضية إلى الجزء الذي لا يتجزأ وذلك بناء على حجة الأولى التي تقوم على الأشرف. وهي حجة نفسية. وهي بسيطة لا تتألف من أقسام، حركة أو زمان. ولا توجد أضداد لها. فلا توجد حركة عن طريق الأضداد. ولا توجد أضداد في جواهرها بل في إضافاتها بعضها إلى بعض أو بعضها إلى الأرض أو إلى الأمرين معًا في حين أنه في الأجسام تحت السماوية التضاد حقيقي وكأن التضاد عيب في الأجسام العلوية وهو نقص. وفي كلتا الحالتين يوجد التضاد في المادة. ويلزم من قوتها المادة الأولى المشترك لجميع ما تحت السماء ووجود الصور الكثيرة فيها. تختلف الأجسام السمائية نظرًا لاختلاف أوضاعها فيما بينها، وبالنسبة للأرض اقترابًا وبُعدًا، اجتماعًا وافتراقًا، ظهورًا وخفاء، سرعة وبطئًا.

جواهر الأجسام السماوية كثيرة. وهي مراتب الموجودات مثل مراتب العقل. ولكل واحد منها عقل مفارق يشتاق إلى التشبيه، يشارك الكل في عشق الموجود الأول.١٢٤ وبها نوع من التغير التخيلي أي مجرد وهمٍ ثم يتبعه تغيُّر جسماني، أي تغيُّر في النفس ثم في الجسم. وهي تعقلات كلية وأخرى جزئية.

والجواهر غير الجسمانية كاملة ليس بها نقص مما يعتري الصور والمادة. فكل جوهر غير جسماني لا يتقوم في موضوع، يوجد لذاته لا لغيره، لا لمادة ولا لآلة ولا خدمة ولا حاجة إلى غيره، لا يزيد وجوده في المستقبل بفعل في غيره أو بفعل غيره فيه، لا ضد له، ولا عدم يقابله. الجواهر غير الجسمانية أولى أن تكون بهذا الاسم من الجواهر الجسمانية المركبة من الصورة والمادة. وتبلغ قمة التطهير في استعمال اللاهوت السلبي أيضًا للفلك. فهو لا يتجزأ ولا يأتلف مما لا ينقسم، ولا يمتد أي رفض صفات العناصر الأربعة. وهي لغة البراءة والإدانة. فالمادة عيب ونقص، والصورة كمال وشرف. فالأجسام السماوية مبرَّأة من النقص. وهل البهاء والجمال في الكمال أم في النقص؟ في الغنى أم في الفقر؟ في الحسن أم في القبح، في القصر أم في الكوخ؟

(ﺟ) النفس

إذا كانت الحياة شرطَ العقل فلا بد من نفس. هناك إذن نفوس وعقول. كلُّ فلك له عقل ونفس مثل علاقة الذات بالموضوع. وجوهر واحد من السموات مركَّب من شيئين: موضوع في نفس، ونفس في موضوع. وفي كلتا الحالتين النفس عقل بالفعل تعقل ذاتها ويعقل الثاني الذي خرجت منه، وتعقل الأول بالرغم من سؤال كيف تكون النفس عقلًا بالفعل وهي في عملية التعقل أي الحركة؟ أليس التعقل حركة الذهن؟١٢٥

والنفس أربعة أنواع. نفس الأجرام السماوية، والنفس الإنسانية والنفس الحيوانية والنفس النباتية. وكلها نفس واحدة بالرغم من تمايز مستوياتها. نفس الأجسام السماوية متبرئة من النقص الذي في الصورة والمادة. ومع ذلك فهي في موضوعات، وبالتالي تشابه الصور. موضوعاتها ليست مادية وبالتالي تخالف الصور. بها بعض النقص مثل الثواني وأكثر منها لأن كثرتها أزيد. كلما صعدنا قلَّت الكثرة وزادت الوحدة، وكلما نزلنا زادت الكثرة وقلَّت الوحدة. الأنفس السماوية كثيرة في مقابل النفس الإنسانية الفردة. وهي مباينة للنفس الناطقة وغير الناطقة في النوع ومتفردة عنها في الجوهر. بها تتجوهر الأجسام السماوية وتتحرك حركات دائرية. وهي أكمل وأشرف من النفس الحيوانية. هي بالفعل دائمًا وليست بالقوة وكأن التحول من القوة إلى الفعل ليس من مظاهر النشاط، وبذلًا للجهد وتحقيقًا للإبداع. بها معقولات. إذ ليس لها من النفس إلا النطق دون الحس والتخيل وكأنما نقصان، والمعرفة النبوة تعتمد على بداهة الحس وخصوبة الخيال. معقولاتها الجواهر المفارقة، كلٌّ منها يعقل الأول، ويعقل ذاته، ويعقل الثواني والذي أعطاها جوهرها. تشبه النفس الإنسانية في النطق مع أن النطق قوة في الإنسان ووسيلة للإدراك والتمييز بين الحسن والقبيح. والأنفس السماوية لا تحتاج إلى ذلك. النطق سند لحرية الأفعال وعدم الوقوع في الخطأ. والأنفس الإنسانية لا تحتاج إلى ذلك لأنها ليست حرة وليست معرضة للاختيار بين الحسن والقبيح. التعقل انتقال من القوة إلى الفعل كما هو الحال في النطق الإنساني. ولما كان التعقل الإنساني للمعقولات الأرضية وتعقل الأنفس السماوية للمعقولات السماوية كانت أشرف. فما تعقله النفوس السماوية غير ما تعقله النفس الإنسانية وكأنه جهل ونقص تترفع عن معرفته النفوس السماوية. وما الفائدة من عملية التعقل هذه إن تمت في السماء دون الأرض؟ ولماذا تكون أشرف من النفس الناطقة وهي قادرة على الاتصال بالعقل الفعال؟ إن علاقة السماء بالأرض ما زالت علاقة شرف ونقص، وهو تصور إنشائي للعالم يعبر عن الثنائية المتطهرة أساس كل دين.

والقلق في النفس أنها في الكواكب وفي الإنسان وفي الحيوان وفي النبات. فهل هي مفارقة للمادة أم حالَّة فيها؟ فإذا كانت مفارقة مثل نفس الإنسان فأين تفارق نفس الكواكب والنفس الحيوانية والنباتية؟ وإن كانت غير مفارقة فكيف يتم الثواب والعقاب للنفس الإنسانية؟ الفلك له نفس مثل الحيوان إما حطَّه من شأن الفلك أو رفعه لشأن الحيوان.١٢٦
والنفوس النباتية والحيوانية ليست صورًا مادية مع أنها في المادة ولكنها ليست منطبقة في المادة. والشبهة في قواها النباتية والحيوانية كيف تبطل ببطلان المادة؟١٢٧ وحركة النفس من الداخل وليست من الخارج، من الإرادة وتسمى طبيعة. إذا تساوت الحركات من غير إرادة تكون النفس النباتية، ومع إرادة تكون الحيوانية والفلكية.
وطبيعة الإنسان من حيث هو إنسان لا كائنة ولا فاسدة بل مبدعة. أما الفاسد الكائن فهم الأشخاص. وكذلك طبيعة كلٍّ من العناصر الأربعة مبدعة أما أشخاصها فهي فاسدة. هناك عنصر الخلود والإبداع في الطبيعة وكأن النفس هي الطبيعة، ومن العناصر الأربعة تنشأ الكيفيات الأربعة، الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة نظرًا للمتغلبة من العناصر فالحرارة تتغلب فيها النار، والبرودة والرطوبة الماء، والهواء واليبوسة الأرض. حقيقة المزاج إذن هو تغير الكيفيات الأربع وانتقالها من ضد إلى ضد فتنشأ القوى الأصلية وتأثيرها المتبادل حتى تحصل كيفية متوسطة. وتلك حكمة الباري، خلق الأصول وظهور الأمزجة منها. وتخصيص كل نوع بمزاج. وكل نوع أبعد عن الاعتدال يكون أبعد عن الكمال. ونوع البشر في الاعتدال لقبول النفس الناطقة. ولكل نوع من النبات نفس صورة النوع. ومنها تظهر القوى التي تبلغ به كمالًا بالآلات، وكذلك نوع الحيوان. يحدث من العناصر (الأركان) الأمزجة المختلفة طبقًا لنسب الاختلاط، فتصبح النفوس النباتية والحيوانية والناطقة من جهة الجوهر.١٢٨

وغذاء الروح هو النسيم يتغذَّى به. والرطوبة غذاءٌ، مستقرُّه هو القلب. فإذا لم يجد منفسًا يطل كالسراج، وينطفئ ولا يفني الذهن.

وتظهر الكيفيات بناء على جدل الطبيعة وقوى الاختلاط، الفعل والانفعال وقواها، وهي قوى فعالة ومنفعلة مثل الذوق واللسان والفم والشم في آلة الشمس. تنشأ الكيفيات المحسوسة والأمزجة وتتغير الكيفيات حتى تحصل كيفية متوسطة أقرب إلى الاعتدال وهي مزاج البشر كي تقبل النفوس الناطقة، النبات ثم الحيوان. الاعتدال أكمل من التضاد. وهو نفيٌ للصراع عن طريق الكمال. هناك عالم النسب والأمزجة والأخلاط، وهو عالم النفس ثم بعد ذلك عالم الكون والفساد وهو عالم البدن. والسؤال هو: هل تتكون النفوس من العناصر الأربعة؟ هل تتكون المادة والنفس من نفس العناصر، ويكون الخلاف بينهما في النسبة فقط، في الدرجة وليس في النوع؟ أليست هذه هي النظرية المادية التي تجعل النفس من جنس المادة، مجرد مزاج للبدن وقواه الحية؟١٢٩ وهل مبدأ العالم غير قادر على خلق النفوس مباشرة دون توسُّط العناصر الأربعة والأفلاك؟
الجسم شرط وجود النفس ولكنها لا تحتاج إليه في بقائها. إذا فارقته ولم تكن كاملة كانت لها تكميلات أخرى بدونه. البدن شرط وجود وليس شرط كمال. والنفوس كلها في حاجة إلى أن تستكمل بالفعل، وهي مستعدة لذلك. وإن لم تكن النفس في البدن فإن قواها في البدن، مشتركة بينها ومنبعثة من قواه العملية. فالنفس مجموع القوى العملية في البدن وإن كانت متميزة عنه. النفس بهذا المعنى هي الغائية ولا تنتقل النفس الإنسانية بالرغم من أنها قائمة بذاتها من بدن إلى بدن؛ لأن كل نفس خاصة ببدنها، وكل بدن مخصص لنفسه مما يدل على رفض الفارابي لتناسخ الأرواح الذي تقول به بعض فرق الشيعة. كما يرفض وجودها السابق على البدن كما هو الحال عند أفلاطون.١٣٠
والنفس الطبيعية هي مجموع الوظائف الحية.١٣١ وهي غير النفس المفارقة التي تسمى العقل. وهي تعمل لا بآلة. ولها قوى ثلاث. الغاذية والمربية (النامية) والمولدة. ولها قوى مدركة ظاهرة هي الحواس الخمس الباطنة، المفكرة، والذاكرة، والوهم، والمتخيلة. ولها قوى محركة، الغضبية والشهوانية. كلٌّ منها تفعل بآلة وليس أي منها مفارقة.١٣٢ وبإدخال نفس الأجسام السماوية تكون هناك ثلاث نفوس: الأجرام السماوية، والحيوان غير الناطق وله قوتان حاسة ومتخيلة، والحيوان الناطق له بالإضافة إلى الحساسة والمتخيلة النزوعية، والناطقة التي تنقسم بدورها إلى نظرية وعملية والتي تنقسم إلى مهيَّأة ومروية. المهيَّأة مجرد استعداد، والمروية تحقيق هذا الاستعداد. ويغيب في هذا التقسيم النفس النباتية. وهناك ثلاث وظائف للنفس الناطقة. الأولى حوزة العلوم والصناعات، باتصالها المباشر بالطبيعة.١٣٣ والثاني التمييز بين الجميل والقبيح وهو ميدان الأخلاق، حسن الأفعال وقبحها، والعلاقات مع الآخرين (المتخيلة). والثالث التروي في الفعل، أو عدم الفعل وإدراك المنافع والمضار والملذ والمؤذي، وهو علاقة النفس مع نفسها.١٣٤
والإدراك للنفس، وليس للحاسة إلا الإحساس بالشيء، وليس للمحسوس إلا الانفعال. والدليل على ذلك أن الحاسة قد تنفصل عن المحسوس وتكون النفس لاهية ولا يتم الإدراك.١٣٥ وتدرك النفس الصور المحسوسة بالحواس والصور المعقولة بتوسط الصور المحسوسة؛ إذ تستفيد معقولية الصور من محسوسيتها. ويكون المعقول مطابقًا للمحسوس وإلا لم يكن معقولًا. أما المجردات فإنها تدرك الصور المعقولة من أسبابها وعللها التي لا تتغير. إدراك الجزئيات بالحواس ثم إدراك الكليات بتجريد الجزئيات فتصبح النفس عالمة بالقوة. وقد تحصل أوائل العقول مباشرة دون مرور بالحس. وهي أشبه بالأفكار الفطرية دون ما حاجة إلى آلات بدنية.١٣٦
وتستمد النفس معارفها من القوة الخيالية وتستكمل ذاتها. وإذا فارقت كانت مستعدة لقبول فيض العقل الفعال. والمقدمات والإنذارات دليلٌ على اتصال النفس بالأوائل.١٣٧ ويستعمل الخيال في الهندسة عندما يتصور في اللوح عند تعلُّم البراهين فلا يتشوش على العقل استيفاء البرهان. ينشغل الخيال بجنس الشيء وليس بالشيء فلا يفارق ولا يمانع الروية حتى تستعد النفس لقبول الصور من واهب الصور.

وتحفظ المتخيلة رسوم المحسوسات بعد غيبتها عن الحس وتركها وتفعلها في اليقظة والنوم عن صدق أو كذب وإدراك النافع الضار واللذيذ والمؤذي، وتأتي العلوم للنفس عن طريق الخيال. وقد يكون أعلى مما يأتي عن طريق العقل دون التصريح بأن ذلك تمهيد لإفساح المجال للنبوة كما هو الحال عند ابن سينا، وقبله الكِنْدي عن طريق الإلهام. فالهندسة والنبوة من نفس العلم ومن نفس القوة وهو الخيال، هندسة الكون وهندسة الروح.

والقوة النزوعية طلب الشيء أو الإحجام عنه، اشتياقه أو كراهيته، إيثاره أو اجتنابه. وبها تكون المحبة والبغض، والصداقة والعداوة، والأمن والخوف، والرضا والغضب، والرحمة والقسوة. فهي مجالات الانفعالات والإرادات والبواعث، والدوافع، والإقدام والإحجام.١٣٨ والقوة الناطقة النظرية تحوز العلوم والصناعات، تميِّز بين الجميل والقبيح، والقبيح من الأخلاق في الأفعال، ومعرفة ما ينبغي. والقوة الناطقة العملية المهيئة منها يحوز بها الإنسان الصناعات والمهن. والمروية التي بها مأخذ الفكر والروية فيما ينبغي أن يفعل ولا يفعل. وهي أقرب إلى الأخلاق العملية، والعقل العملي النظري.١٣٩ والسؤال: هل القوة النظرية هي التي بها يحوز الإنسان على ما لا يعلمه أصلًا ويحتاج فيه إلى نبوة؟

والسؤال الآن: ألَا توجد عند الحيوان قوة مخيلة أم أن فرار الشاة من الذئب مجرد عادة مكتسبة؟ وهل يشارك الإنسان النبي فيها؟ ألَا توجد عند الحيوان قوة نزوعية مثل رعاية القط لأولادها؟ وأين القوة المحركة التي يضيفها ابن سينا والتي يشارك فيها الحيوان الإنسان؟

وتستنبط القوة العملية ما يجب فعله. ويتم به جوهر النفس فيصير جوهرًا عقليًّا بالفعل، وله مراتب: الهيولاني ثم بالملكة ثم المستفاد ثم يصير بالفعل. هذه القوى التي تدرك المعقولات جوهر بسيط وليست بجسم. ولا تخرج من القوة إلى الفعل وتصير عقلًا تامًّا إلا بسبب عقل مفارق هو العقل الفعال الذي يخرجه إلى الفعل. ولا تنحصر المعقولات في شيء متجزئ أو ذي وضع لأنه مفارق للمادة، يبقى بعد الموت، لا يكون ولا يفسد، جوهر أحدي، الإنسان على الحقيقة. له قوًى تنبعث من الأعضاء هي قوى النفس. وظهوره من واهب الصور عندما يكون صالحًا مستعدًّا لقبوله، وهو الجسد أو الروح الكائن في القلب وهو النفس. وإذا أخذت النفس علومها بعد المفارقة من العقل الفعال فما الفائدة؟ وهل المقصود علوم البشر أم علوم النبوة؟ وإذا كانت النفس مجموعة من القوى والعقل الفعال هو الذي يخلد بفعل العقل المفارق فكيف تكون للنفس سعادات وشقاوات اللهم إلا إذا كانت النفس الناطقة هي العقل بالفعل المتصل بالعقل الفعال واتجاه الإنسان للشوق والاحتياج وتحقيق الرغبة تكشف عن الرغبة المكبوتة وعدم تحقق الذات. ونظرًا لصعوبة الواقع كان الكمال إلى أعلى كما هو الحال عند الصوفية.١٤٠

وتتداخل النفس والعقل في الوظائف، ولكن العقل سابق على النفس في الفيض. العقل إذن بديل عن الروح التقليدي، ويعني مراتب العلم، ودرجات التعلم. ويكون العلم من واهب الصور نقشًا من أعلى وليس استقراء من أسفل مما يبرر النبوة والإلهام. فالعقل بالفعل بفضل العقل الفعال وليس من تلقاء نفسه. يعرف الكليات فقط دون الجزئيات. فالعلم علم بالكلي. وهو عقل مفارق يبقى بعد البدن ولا يفنى، جوهر أحادي مشابه لصفة الوحدانية. وهو الذي يجعل الإنسان إنسانًا على الحقيقة. فالإنسان هو الوعي العاقل. له قوة مؤثرة في البدن أي أنه فاعل فيها. والسؤال هو: كيف يتم كمال النفس خارج البدن، وخارج الحياة لا يوجد تكليف؟

والنفس قادرة على إدراك ذاتها أي الوعي بالذات إذا ما تجردت عن البدن. وما دامت ملامسة للبدن فإنها لا تعرف مجرداتها ولا شيئًا من صفاتها المجردة ولا أحوالها لأنها ليس لديها الوعي بالذات. فإذا تجردت عن ملامسة الهيولى زال عنها العائق فتعرف ذاتها وأحوالها وصفاتها. وتمنع القوى البدنية النفس عن التفرد بذاتها لأنها تدرك الأشياء متخيلة معقولة لانجذابها إليها واستيلائها عليها لأنها لم تأتلف بالعقليات، وتعودت على الحسيات فتثق بها وتتوهم أنه لا وجود للعقليات، وتعتبرها مجرد أوهام. وإذا أدركت النفس شيئًا فإنها تطلب الاستكمال حتى تدرك ذات الشيء المدرك.١٤١ فإدراك النفس للشيء تتجه نحو ذات الشيء حتى يكون الإدراك كاملًا كما هو الحال في الحدس الذي يتجه نحو كنه الأشياء.١٤٢
وإذا كان الوعي الخالص لا يحتاج إلى حواس خارجية أو آلات البدن فكيف يمكن إدراك العالم الخارجي؟ ألَا يضحي ذلك بالخارج في سبيل الداخل؟ وماذا لو انتهى إلى التصوف وترك العالم الخارجي وخطأ الحواس؟ وهل الإنسان مجرد معرفة أم معرفة ووجود، وبالتالي ضرورة البدن كأداة للمعرفة وللوجود في آنٍ واحد؟ يبدو أن تجرُّدَ النفس عن البدن حتى تتمكن من إدراك المعقولات ردُّ فعل دفاعي عن الذات ضد محاولة البدن الاستيلاء عليها وتوهم أن كل المدركات حسية وإنكار المعقولات. هل هو حرب بين الحس والعقل، بين البدن والنفس أم أن الوجود وجودان، والمعرفة معرفتان كما هو الحال عند الكِنْدي؟ تمثل المعرفة الإشراقية إذن بداية الثنائية الصوفية المتصارعة.١٤٣
وإذا كثرت النفس الحاسة والمتخيلة قاربت على المفارقة إلا أن تظل مرتبطة بالمادة والصورة. أما النفس الناطقة إذا ما عقلت تقترب أيضًا من الأشياء المفارقة. وكمال العقل ليس فقط في أن يعقل الأشياء التي فوقه بل أيضًا تلك التي دونه، فالعلم من أعلى استنباط ومن أسفل استقراء، إلهامًا ونبوة أو حسًّا وإدراكًا، من العقل الفعال أو من الجزئيات المحسوسة. وهي نفس مفارقة لا تحتاج إلى آلة بعد المفارقة.١٤٤ ويبدو أن الخلود من الخارج، من واهب الصور وليس من عمل النفس كمجموع القوى الحسية. تدرك النفس الناطقة ذاتها مثل باقي المفارقات على عكس التي توجد بغيرها كالقوة المبصرة فإنها لا تدرك ذاتها. تعقل النفس الإنسانية ذاتها لأنها مجردة على عكس النفوس الحيوانية غير المجردة التي لا تعقل ذاتها. فعقل الشيء تجريده عن المادة. لذلك تدرك الكليات لأنها قائمة بذاتها. أما المحسوسات فتدركها النفس بواسطة آلات محسوسة ومتخيلة. المفارقة هو الوعي بالذات.

ويُعلن الفارابي بعد أن بلغ الذروة في الإشراق أن الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر القادرين فقط على معرفة خواص الأشياء ولوازمها وأعراضها دون الفصول المقومة لكل منها الدالة على حقيقتها. فلا يمكن معرفة حقيقة الأول أو العقل أو النفس أو الفلك ولا العناصر الأربعة ولا حقائق الأعراض ولا حقيقة الجوهر بل بعض خواصه، مثل كونه موجودًا لا في موضوع ولا حقيقة الجسم بل بعض خواصه مثل الأبعاد الثلاثة ولا حقيقة الحيوان بل بعض صفاته مثل حواسه، لذلك يقع الخلاف في ماهيات الأشياء لإدراك لوازمها المختلفة. وما دام الباب تُرك مفتوحًا للتصوف والنَّيل من الحس في سبيل العقل، والخوف من البدن واللجوء إلى النفس، بدت المعرفة وكأنها صعبة، وموضوع المعرفة وكأنه مجهول، وأنه ليس في وسع البشر. لا تعرف إلا الخواص والأعراض واللوازم ولا تعرف الأجناس والأنواع والفصول المقدمة الدالة على حقيقة الشيء. يجرفنا الحسُّ بعيدًا عن العقل، وإلى الجزئيات بعيدًا عن الكليات. وبالتالي لا نعرف الأول ولا العقل ولا النفس ولا الفلك بل ولا العناصر الأربعة. لا تعرف الجواهر بل لا ندرك إلا الأعضاء. ثم يقع الخلاف في ماهيات الأشياء نظرًا لاختلاف الإدراكات. فلا يمكن معرفة النفس أو الأول معرفة بعدية من العوارض واللوازم بل من الإنيَّة والماهية. ومن هنا نشأ المنطق والحاجة إليه للتعرف على الأجناس والأنواع والفصول والخواص والأعراض العامة. المنطق إذن قادرٌ على معرفة حقائق الأشياء قياسًا على منطق الإشراق. ومن ثَم يكون مسار الفارابي من علم النفس الحسي إلى المنطق الصوري إلى علم النفس الخالص إلى الإلهيات.

وللنفس بعد الموت سعادات وشقاوات. وهي أحوال متفاوتة للنفوس وأمور مستحقة طبقًا للعدل والاستحقاق كما هو الحال عند المعتزلة. ومع ذلك فالتوفيق من الله. كلٌّ ميسر لما خُلق له. الفلسفة هي تحوُّل من الأشاعرة إلى المعتزلة، من التوفيق إلى خلق الأفعال. ومع ذلك عناية الله محيطة بكل شيء، متصلة بكل كائن، وكل كائن بقضائه وقدره، خيرًا أو شرًّا وإلا لما كان الكون والفساد. والشر ضروري للخير والخير ضروري للشر. لم يتحول الجزء الخاص بالمعاد إلى عقلانية وبقي أقرب إلى علم الكلام منه إلى الفلسفة.١٤٥

(د) المادة

والمادة مع الصورة هما المستوى الرابع من الفيض أو المبدآن الخامس والسادس في الفيض.١٤٦ ويصعب التفرقة بينهما لارتباطهما معًا. والصورة هي مبدأ التفرد والتي بها يصبح الجوهر جوهرًا بالفعل، الصورة تحويل الجسم من جسم بالقوة إلى جسم بالفعل، من مادة لا متعينة إلى مادة متعينة. توجد في المادة، والمادة حامل لها. كل منها ليس له تفرد بذاته بل يحتاج كلٌّ منهما إلى الآخر. المادة للصورة، والصورة للمادة. وكلاهما الطبيعة، ولا شيء باطل فيها. والطبيعة بالصورة أحق. إن لم توجد الصورة لم توجد المادة، وكان وجودها باطلًا، ولا باطل في الطبيعة. على مستوى الطبيعة لا توجد مادة غير متصفة أو صور مفارقة، وتفضل الصورة المادة؛ لأن المادة موجودة لها. فالغاية أشرف من الوسيلة. وفي نفس الوقت تفضل المادة الصورة؛ لأن وجودها لا يحتاج أن يكون في موضوع. والمادة لا ضد لها ولا عدم يقابلها وكأن المادة لا معنى بذاتها في حين أن الصورة لها عدم وضد. ولما كان ما ليس له ضد أو عدم يكون أفضل تفضل المادة الصورة. ويفسر المبدآن كل شيء. فالبصر صورة العين، والعين مادة البصر. النفس صورة البدن والبدن مادة النفس، والنفس قبل أن تستعد للحصول على المحسوسات والتخيلات المعقولات تكون أشبه بالمادة. وإن كانت الصور هنا تشبيهًا بالصور المادية. فالصورة اسمٌ مشترك يشمل صور الأشياء الطبيعية المادية وصورها الحسية وصورها المتخيلة، وأعلاها الصور الناطقة. وتكاد تكون مفارقة للمادة وغير مشابهة للصور في المادة. فإذا حدث العقل بالفعل لا يكون صورة ولا شبيهًا بالصورة، وبالتالي يمكن التمييز بين الصور غير المفارقة والصور المفارقة.١٤٧ والسؤال هو: هل النفس تتكون من العناصر الأربعة وبالتالي تكون تالية الهيولى في الفيض أم أنها تفيض من العقل والفلك وبالتالي تكون سابقة عليها؟ والمادة تقبل الصور المتضادة وكأنها ليس لها أيُّ دور في اختيار الصور متفقين أو متضادين، وكأنه لا توجد صورة أولى من غيرها ودون قانون للاختيار. وهو قبول إلى دون علاقة ضرورية بين الصورة والمادة. وكيف تقبل المادة والفاعلية الصورة؟ وهل التضاد في الصور أم في الأفكار والغايات، جمعًا بين الجدل العقلي والجدل المادي. ألَا يوجد قانون للطبيعة للوجود والعدم لتركيب الصور على المواد ولاتجاه المواد نحو الصور بصرف النظر عن تأثير الأجسام السماوية على الأجسام الأرضية وعن مراتب الكمال والنقص. فالمتكلمون هنا أكثر طبيعية من الفلاسفة الذين في حموة الإلهيات تنتهي الطبيعيات.

ولماذا تكون الصورة سببًا للمادة؟ ولماذا جعل الصورة والمادة كليهما من سبب آخر خارجهما؟ أليس في ذلك قضاء على الطبيعة؟ كما أن تصور الصراع بين العناصر الأربعة وغلبة عنصر على عنصر ونفيه من المجتمع تأكيد لجدل الطبيعة ونفيه عن الجدل الاجتماعي.

والمادة والصورة بداية الموجودات الناقصة. المادة بلا صورة وجود بالقوة ومع الصورة وجود بالفعل. والصورة بلا مادة هي الصورة المفارقة. والهيولى آخر الهويات وأخسها. ولولا قبول الصورة لكانت معدومة. فقوامها من خارجها. الصورة هي التي تُخرج الهيولى من القوة إلى الفعل، وتُحولها إلى جوهر ثم تضع فيه العناصر الأربعة.١٤٨

وهناك فرق بين الهيولى باعتبارها هيولى والهيولى باعتبارها استعدادًا. الأولى مادة والثانية صورة. وكلاهما في الهيولى مثل الجنس والفصل في الحد المنطقي وليسَا مفارقَين. ولا يمكن تحديد البسيط بالحد المنطقي المركب من الجنس والفصل لأنه لا أجزاء فيه. وهذا ما يميز الفيض عن الخلق. الخلق يقوم على الارتباط بين الطرفين، والخلق يقوم على الفصل بينهما. يوحِّد الفارابي بين المادة والصورة أي الاستعداد في الطبيعة كما وحَّد بين الوجود والماهية في الله، والموجود والمعقول في العقول، نفس الحدس التوحيدي ثلاث مرات، في الله وفي العقول وفي الطبيعة. ولماذا تكون الموجودات من المادة والصورة ناقصة وهي الأشياء التي تصنعها وتُبدع فيها؟ أليست علاقة الصورة بالمادة علاقة المعشوق بالعاشق، الموجود لغيره بالموجود لذاته؟ أليست المادة كمال الصورة تتجه إليها، وتكمل المادة إذا حصلت على الصورة؟

والمادة الأولى تأتي من الطبيعة المشتركة أو من اختلاف الجواهر ينشأ وجود الأجسام المختلفة. وعن تضاد النسب تنشأ الصور المتضادة. وعن تبدُّل متضادات النسبة وتعاقبها ومن النسب المضادة والإضافات المتعاندة إلى ذات واحدة في وقت واحد من جماعة تنشأ أجسامٌ فيها اختلاط في الأشياء ذات الصور المتضادة. ومن أصناف تلك الامتزاجات تحدث أنواع كثيرة من الأجسام. ومن إضافاتها التي تتكرر تعود الأشياء ويعود بعضها في مدة أقصر، وبعضها في مدة أطول وعما لا يتكرر من إضافاتها وأحوالها.

إن حدوث الصورة الأولى ممكن. فهي من طبيعة الواحد، كلاهما صورة خالصة، أما بالنسبة إلى المادة الأولى فيظل سؤال: كيف تخرج المادة من اللامادة قائمًا والذي كان بسببه ظهر افتراض قِدَم العالم أنه الأنسب مثل قِدَم الله؟ وهل الأجسام العلوية مختلفة حتى تنشأ عنها الأجسام المختلفة أم متفقة؟ أليست الصور قبلية فهذا أشرف، والقبلي لا ينشأ من البعدي نظرًا لاختلاف النوع؟ وما الدليل على ذلك كله؟ هل هو موضوع للتأمل أو لعلم الفلك؟ ما هي التصورات الدينية التي وراءه؟ وما هو الوافد الذي يتم استعماله كأدوات للتعبير؟ وما الفائدة من الدخول في أسباب الحركة وأنواعها؟ هل هذا علم إلهي أم علم طبيعي؟

وإذا كانت كل الموجودات من مادة وصورة مما يفسر وجودهما ودوامهما تتعاقب الصور على الهيولى. ولما كانت الصور متضادة فلكل جسم حقٌّ واستئهال صورة أخرى بمادة للوجود الذي له. وليس وجود أحدهما أولى من وجود الآخر. حق الصورة هو حق الوجود. وحق المادة هو الصراع الذي يحفظ الوجود، وهي أربعة: قوة في الجسم الذي فيه صورة، وقوة في جسم آخر آلة مقارنة لحفظ وجوده، وجسم آخر أعلى يحفظ مثل الجسم السماوي، واجتماع هذه كلها.

والمضاد المتلف للأسطقسات من الخارج إذا كان لا ضدَّ له في جسمه. والكائن اختلاط قليل التركيب، المضادات التي فيه يسيرة، وقواها ضعيفة ومنكسرة. لذلك كان المضاد المتلف له ضعيف من الخارج. والمضاد الأقل تركيبًا التضاد فيه أكثر وأقوى من الداخل وعن الخارج معًا. والنبات والحيوان يتحللان من الداخل لوجود أشياء مضادة لهما. والذي يتلف من الخارج يُحفظ بآلات بعضها في الداخل وبعضها خارج جسمه فيحتاج إلى آلات تقوم مقام التآلف. ويكون ذلك إما أشخاصًا أو مَن يخلف الأول يحدث بعد زمان. وإلا كانت الأسباب السماوية مرافذة للأسطقسات وسبب تلفها. فهي إما تفيد أو تضاد دون إبطال فعل القوة بل تُحدث امتزاجًا إما للاعتدال أو يزيله الاعتدال. وتتكرر الأفكار في القوى على الأكثر أو على التساوي أو على الأقل.

أما مادة التضاد فمشتركة. وتضاد الموجودات يجعلها مشتركة في المادة على حالتين: الأولى المادة التي تكتسي صورة بعينها مثل الجسم الذي يتغذَّى بآخر. والثانية المادة التي تكتسي صورة النوع. وما يستوفي به الشيء مادته من ضده إما بقوة مقترنة وصورته في جسم، أو بقوة مقترنة وصورته في جسم آخر (آلة مفارقة)، أو بالأمرين معًا، أو في جسم آخر يرأسه (سمائية أو غيره) أو اجتماع هذه كله. ويكون الجسم مادة لآخر إما أن يوفِّيَه صورته تمامًا أو بأن يكسوه صورته وينقص من عزته. والآلة تكون إما على التمام أو على النقص.١٤٩

وهو أطول الأبواب مما يدل على أهميته بالرغم من تجريده. ويُثير عدة تساؤلات: هل التنازع في المادة أم في الصورة؟ وإذا كان في الصورة كما هو واضح فإن وجودَ المادة خالٍ من أي ترجيح. ويمكن مدُّ ذلك من المستوى الطبيعي إلى المستوى الإنساني. فالإنسان قادر على الصراع والتضاد لأنه أعقد تركيبًا.

وإذا كانت المادة تسبق الصورة فهل هناك مادة غير متعينة بلا صورة؟ ومن أين أتت المادة ولا يوجد خلقٌ من عدم؟ كيف تخرج الأجسام الأرضية من العقول العشرة؟

كما تبدو أهمية هذا التحليل في الكشف عن اتساق نسق العقل مع نسق الطبيعة. فلا فرق بين التحليل العقلي والتحليل الطبيعي في ثنائية متطهرة تضم الطبيعيات والإلهيات باعتبارهما علمًا واحدًا.

كما يكشف عن الإسقاط الإنساني في التشخيص الأخلاقي في الحل وهو العدل. فالطبيعة عادلة، وأخلاطها ونِسَبها تتم توفية للعدل. فمن العدل ألَّا يبقى الشيء واحدًا بالعدد بل بقاء الدهر كله واحدًا بالنوع. فالطبيعة في احتياج مثل الإنسان. وتتم المقارنة بين المادة والصورة من حيث الفضل، وهو مفهوم أخلاقي وليس مفهومًا علميًّا. ولغة الاشتياق والوجد في الطبيعة، وعدم الاستغناء، والاتحاد بين طرفين، الصورة والمادة، والله والإنسان والعقل الفعال والعقل الإنساني، والله والعالم لغة إنسانية خالصة. هي نظرية إنسانية خالصة تستعمل صور العشق والعاشق والمعشوق. ومن ثَم يكون الفيض أقرب إلى التصوف الفلسفي أو الفلسفة الإشراقية. فالمادة بها حياة وارتقاء نحو الصورة.

ويظهر موضوع الجوهر والعرض بين الكلام والفلسفة لتحليل العناصر الأربعة في الطبيعة. الجوهر لا في موضوع والعرض في موضوع، والأسباب الطبيعية أربعة: الفاعل والقابل والصورة والمادة. الحرارة والبرودة فعل، والرطوبة انفعال سريع، واليبوسة انفعال بطيء. البالغ في الحرارة النار، والبالغ في الرطوبة الماء، والبالغ في الميعان الهواء، والبالغ في الجمود الأرض. ومن اجتماع العناصر الأربعة يحدث المزاج طبقًا لنسب الاختلاط والعنصر الغالب. وتتغير الصور إذا اشتد عنصر وغلب عنصر. والفساد هو تبدُّل النسب والكيفيات في الأجسام المكونة من العناصر الأربعة وعلى هذا النحو الطبيعي يمكن فهم نهاية العالم.

وقد وضعت حكمة الصانع أصولًا وخلقت منها أمزجة شتى، وأعدَّت لكل مزاج نوعًا، وجعلت إخراج الأمزجة عن الاعتدال لإخراج الأنواع عن الكمال. فالله يفعل من خلال المتوسطات تحولات تدريجيًّا من الدين إلى العلم. لذلك تدخل الموضوعات الطبيعية في رسالة «الدعاوى القلبية».١٥٠ وهو تعبير لا شعوري عن تصور قرآني رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ. وهو ما ظهر عنه المعتزلة في الغائية والقصد والصلاح والأصلح.
ويضرب المثل بالألوان والحركة على الأعراض. فالسؤال عن الألوان وفي أي جسم مجرد استعراض آراء عن اللون، أنه يحدث في الأجسام التي تحت الكون والفساد، وليس الأجسام العلوية ولا العناصر والأجسام البسيطة. وهو رأي أكثر القدماء باستثناء مَن قال إن الأرض من سائر العناصر سوداء. وللنار إشراق. وحدوث الألوان في الأجسام المركبة من امتزاج العناصر إذا غلبت النار كان أبيض، وإذا غلبت الأرض كان أسود. وهو مجرد استعراض لتاريخ العلم في موضوع تطرَّق إليه الكِنْدي في علة اللون اللازوردي. ويقدم الفارابي تعريفات للون على أنها نهاية الجنس المستشف. وكذلك السؤال عن الممازجة كفعل كيفيَّتَين أحدهما في الأخرى، وهو أدخل في تاريخ العلوم. كما يبحث تحت أي مقولة يمكن وضع التخلخل والتكاتف ويجد أنها مقولة الوضع لوضع الطبيعة في تصورات، وكذلك الخشونة والملامسة. ويتساءل عن الأشياء الكثيفة وموقفها من الصلابة واللين. أما الحركة فليس لها حدٌّ لأنها من الأسماء المشكلة. إذ تقال على النقلة والاستحالة والكون والفساد والخروج من القوة إلى الفعل. وقد تقال على النقلة أساسًا كمحكم ثم بتقديم وتأخير على المعاني الأخرى. كما تعتمد بعض المسائل الطبيعية الأخرى على القسمة مثل الجوهر هيولاني وصوري، والجسم طبيعي وصناعي، والطبيعي ليس له حياة كالعناصر، وله حياة كالحيوان.١٥١ وهي ثنائيات الطبيعيات والإلهيات: المادة والصورة، القوة والفعل، النقص والكمال، العاشق والمعشوق.

ويتراوح التحليل بين الطبيعيات والإلهيات، بين العلم والدين. فوجود الأعراض والصور المادية في ذواتها، وهو وجودها في موضوعاتها. فهي ليست مفارقة، ولا تنتقل من موضوع إلى موضوع. وهو تحليل علمي. والغايات في الأمور الطبيعية هي في نفس الوقت وجود الصورة في المادة؛ لأن الطبيعة تتحرك لتحصل الصورة في المادة. فغاية المادة الصورة، وهو تحليل إلهي. والحديث عن الهيولى ووصفها بأنها أخس الهويات حديثٌ أخلاقي إنشائي مسقط على الطبيعة.

وهذا الوضوح ليس من أرسطو بل من وضوح الموروث اعتمادًا على العقل والفطرة. كما يدل على أن الفيلسوف هو العالم والفقيه في نظرة حضارية متكاملة.

ويقال الأجسام السماوية وليست الأرضية. فالفكر يتحدد بالنفي. الأرض نفيٌ للسماء. والسؤال هو: هل الخلاف بينهما في الدرجة أم في النوع؟

والأسطقسات الأربعة صور متضادة، ومادة كل واحدة منها قابلة لصورة الأسطقس وضدها. والموجودات فيها أسطقسات ومنها أخلاطها. ومن الأخلاط أكثر تركيبًا وأقل تركيبًا. والعناصر بسيطة وهي أصل المركب. وتحصل من العناصر الأربعة الأمزجة المختلفة على النسب المستعدة لقبول النفس النباتية والحيوانية والناطقة من جهة الجوهر الذي هو سبب أكوان العالم. وتتحدد العناصر الأربعة بأعلى وأسفل، بالمركز والمحيط، من الوسط إلى خارجه، ومن الخارج إلى الوسط، ومن أسفل إلى أعلى (النار والهواء) ومن أعلى إلى أسفل (الماء والأرض). ويستعمل الفارابي التعبيرات المزاجية من الدين لوصف ظواهر الطبيعة. فقد وصلت السماء بدورانها، والأرض برجحانها، والماء بسيلانه، والمطر بهطلانه. وقد لا يشعر الإنسان بصلابتها «ولذكر الله أكبر»! وهي رؤية قرآنية تقوم على تشخيص الطبيعة وأنسنتها. فالطبيعة لا وجود لها إلا في خضمِّ الإشراق، والصلة بين الطبيعة والله من خلال الإنسان. وكما أن الإنسان عاشق فالموجودات الطبيعية أيضًا عاشقة.١٥٢ وما زالت الألفاظ المعربة أسطقسات وهيولى موجودة بالرغم من استعمال لفظ مادة وعناصر.
أما الحركة فنوعان: إما إرادية طبيعية أو اتفاقية. والحركة الإرادية هي حركة من الداخل إما من الطبيعة أو من النفس بلا إرادة أو بإرادة. والحركة الإرادية إما حيوانية أو فلكية. وقد يتبع الحركةَ عارضٌ لها وهو الزمان. وقطعة هو المكان. والحركة لا ابتداء ولا نهاية لها في الزمان. والخلاء لا وجود له. والحقيقة أنه لا توجد في الطبيعة أشياء اتفاقية لا توجد عن سبب. والأسباب الطبيعية والأسباب الإرادية تعطي إمكانية إقامة علم طبيعي حتمي وعلم إنساني يقوم على الحرية دون خلط بين الاثنين.١٥٣

والسؤال هو: هل تحتاج الصورة إلى المادة أم أن المادة هي التي تحتاج إلى الصورة؟ ألَا يحتاج الأدنى الأعلى أكثر مما يحتاج الأعلى الأدنى أم أن احتياج أحدهما لا يقلُّ عن احتياج الآخر مثل الذكر والأنثى؟ إن لغة النقص والكمال والاحتياج بين الصورة والمادة تدل على أن الأمر كلَّه تصوير إنساني وإسقاط من الذات على الطبيعة.

وهل صحيح أن الصورة واحدة بالنوع، وأنها تتبادل بينها على المادة أم أنها واحدة والخلاف بينها في الدرجة وليس في النوع؟ وما الغاية من هذا الترتيب كله وتكراره أكثر من مرة؟ يبدو أن الحدس الرئيسي واحد، والتفلسف هو فعل البداية المستمرة.١٥٤
والعناصر الأربعة أدنى صور المادة. وهي واحدة بالنوع. تتبادل فيما بينها من حيث المادة. أعلاها الحيوان الناطق ثم يتلوها نزولًا الحيوان غير الناطق ثم النبات ثم المعادن ثم العناصر الأربعة في خمس مراتب. وإذا أضيفت المادة الأولى تكون ست مراتب.١٥٥ وتنشأ باقي الصور من اختلاط العناصر الأربعة وسيادة عنصر عليها، الهواء للحيوان، والماء للنبات، والنار للمعادن، بالرغم من احتياج كل المستويات إلى العناصر الأربعة، والحيوان والنبات والمعادن إلى الماء والهواء والأرض والنار.

يحدث في الأسطقسات قوًى تتحرك بها من تلقاء أنفسها دون قوًى في الخارج، تتصارع وتتقابل وتتضاد. وتفعل فيها الأجسام السماوية. فيحدث من اجتماع الفعلين أصنافٌ من الاختلاطات الامتزاجات بغير تضاد. فالعامل الخارجي هو الذي يلغي التضاد، ويحقق المصالحة بين القوى الداخلية المتصارعة. ومن القوى الطبيعية يحدث اختلاطٌ ثانٍ، وتحدث أجسام متضادة بالصور، ويُحدث كلٌّ منها قوًى فاعلة وقوًى منفعلة، وقوًى تتحرك من تلقاء نفسها بغير محرك من الخارج، وتفعل الأجسام السماوية، ويفعل بعضها في بعض. تفعل الأسطقسات وتفعل هي في الأسطقسات فتحدث اختلاطات أخرى كثيرة تبتعد بها عن الأسطقسات والمادة الأولى. ثم يحدث الاختلاط الثاني من جديد أكثر تركيبًا من الأول إلى ما لا نهاية إلى أن تحدث أجسام لا يمكن أن تختلط فيحدث من اختلاطها جسمٌ آخر أبعد منها عن الأسطقسات فيقف الاختلاط. بعض الأجسام تحدث عن الاختلاط الأول، وبعضها عن الثاني، وبعضها عن الثالث، وبعضها عن الاختلاط الآخر. كل مرتبة عُليَا تحدث من اختلاط المرتبة السفلى. فالمعدنيات تحدث من اختلاط أقرب الأسطقسات وأقل تركيبًا ويكون بعدها عن الأسطقسات برتبة أقل. ويحدث النبات باختلاط أكثر منها تركيبًا وأبعد عن الأسطقسات برتب أكثر. وكلما صعدنا إلى أعلى زاد التركيب. ويحدث الحيوان غير الناطق باختلاط أكثر تركيبًا من النبات. الإنسان وحده هو الذي يحدث عن الاختلاط الأخير، يحدث في كل نوع قوًى تتحرك بها من تلقاء نفسه، وقوًى يفعل بها في غيره، وقوًى يفعل بها فعل غيره. وموضوعات الفعل ثلاثة: على الأكثر وعلى التساوي وعلى الأقل، سواء كان من الغير إلى الذات أو من الذات إلى الغير أو من الذات إلى النفس. وفعل كل واحد إما بأن يرفدَه أو أن يضادَّه. والأجسام السماوية تفعل في كل واحد منها مع فعل بعضه في بعض بالرفد والتضاد، مرة هذا ومرة ذلك فيحدث من اقترانها امتزاجات واختلاطات كثيرة.

والترتيب بين الأدنى والأعلى على التبادل، تنازلي من الإنسان إلى المادة الأولى وهو طريق الفيض أو تصاعدي من المادة الأولى إلى الإنسان وهو طريق الإشراق. فالمعرفة تعادل الوجود، وترفع النقص إلى الكمال. كما يتحول التعليل من الخارج إلى الداخل. إذ تتحرك الأسطقسات بقوًى من داخلها ثم تتفاعل مع القوى الخارجية من الأجسام السماوية، ويكون هو العامل الحاسم الذي يلغي التضاد ويحقق المصالحة بين الداخل والخارج. وإذا كانت القوى ثلاثًا، فاعلة أو منفعلة أو من تلقاء ذاتها فإنها قسمة عقلية بديهية، اتساق العقل مع الطبيعة.

(٣) ابن سينا

إذا كان الكِنْدي هو فيلسوف الخلق، وإخوان الصفا فلاسفة الخلق الفيضي، والفارابي فيلسوف الفيض، فإن ابن سينا فيلسوف الفيض الفلسفي أو الفيض العقلي، نقلًا لنظرية الخلق من علم الكلام إلى علوم الحكمة وليس إلى علوم التصوف كما فعل إخوان الصفا والفارابي.

وقد عرض ابن سينا الإلهيات في موسوعاته الأربع «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات والتنبيهات» و«عيون الحكمة». ليس الخلاف بينها فقط في الإسهاب والتركيز بل أيضًا في مستوى الفهم والتحليل. فإذا كان الفيض في «الشفاء»، و«النجاة» مختصر له، أقرب إلى العقل، والفيض العقلي، فإنه في «الإشارات والتنبيهات» أقرب إلى الإشراقي الصوفي، وفي «عيون الحكمة» أقرب إلى الفيض الطبيعي القائم على وصف الطبيعة وليس التأمل الإلهي.

تظهر نظرية الفيض في «الشفاء» في المقالة التاسعة حول الصلة بين الله والعالم بالتعارض مع قِدَم العالم وليس مع الخلق بالإضافة إلى بعض الموضوعات العقائدية الكلامية المباشرة مثل الشر والقضاء الإلهي والعناية والمعاد.١٥٦ ولا توجد عناوين للمقالات تبرز موضوعاتها العامة والخاصة وأبنيتها الكلية والجزئية. وتتكون كل مقالة من عدة فصول.١٥٧ وأكبر المقالات الثالثة عن الأعراض مما يدل على سيادة الطبيعيات الكلامية. تختلط فيها الميتافيزيقا بالمنطق بالطبيعيات لأنها حكمة واحدة، مرة من أسفل إلى أعلى، الميتافيزيقا، ومرة من أعلى إلى أسفل، الطبيعيات، ومرة من الخارج، أعلى وأسفل، إلى الداخل وهو المنطق.

ويوجد قدر كبير من تمثل الوافد خاصة في المقالات الأربعة الأولى مع تشكُّل كاذب واضح في المقالَين الثامن والتاسع وسيادة الموروث خاصة في المقالة العاشرة الدينية المباشرة عن الوحي والإلهام والأولياء والأنبياء والملائكة والعبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة.

وتختصر إلهيات «النجاة» المقالات المنطقية الطبيعية الأولى من الأولى حتى السابعة التي تبدو فيها الطبيعيات متجهة نحو الإلهيات باعتبارها طبيعيات مقلوبة ومقتربة إلى أعلى ابتداء من ثنائياتها التقليدية التي تضع التمايز منذ البداية بين العالمَين، العالم الطبيعي والعالم الإلهي دون الدخول في جدل مع المشككين والمبطلين وهم المتكلمون.

كما تختصر الثامنة جزئيًّا وتستعيد التاسعة والعاشرة بحذافيرهما؛ لأنهما يمثلان الدين المباشر باستثناء آخر فصلين من العاشرة، الرابع عن عقد المدينة وعقد البيت وهو النكاح والسنن الكلية في ذلك، والخامس في الخليفة والإمام ووجوب طاعتهما والإشارة إلى السياسات والمعاملات والأخلاق، أي اختصار الجانب التشريعي؛ لأنه أدخل في الحكمة العملية، والإبقاء على الجانب العقائدي الصريح مثل النبوة والمعاد أو التشكل الكاذب، واجب الوجود. وبالتالي تتحول إلهيات «النجاة» من عشر مقالات إلى مقالين، الثانية ثلاثة أضعاف الأولى. وفي كلٍّ منهما فصول دون ترقيم.١٥٨ «النجاة» إذن تلخيص فعْلي للمقالات الثمانية الأولى، تلخيص الخمسة الأولى إلى حدِّ الصفر؛ لأنها أقرب إلى المنطق والطبيعة ثم يقلُّ التلخيص في المقالَين الأخيرَين.

ويتم حذف الوافد من المقالات الثمانية الأولى والإبقاء على الموروث في المقالين الأخيرين مما يدل على أولوية الموروث على الوافد وأن الصلة بينهما صلة الأصل بالفرع. غاية «النجاة» الكشف عن حقيقة الشفاء، تتويج الوافد بالموروث ابتداء من المنطق والطبيعيات والإلهيات غير المباشرة، وإزاحة النقاب عن التشكُّل الكاذب، الإقلال من أسماء الأعلام والمعلم الأول، واختصار الموضوعات الوافدة، والإشارة إلى المتكلمين على أنهم المقصودون بالغلط، وإسقاط كل الجدل السابق، تحولًا من التاريخ إلى البنية، ومن الوافد والموروث معًا إلى الإبداع الخالص. فابن سينا لا يقول شيئًا نقلًا مباشرًا بل يعبِّر عن الأشياء إبداعًا. لا يعطي أحكامًا بل تصورات. فالموسوعات الأربع خاصة «النجاة» تصورات لا تصديقات، وصور لا أحكام، وشعر لا مقال. لا يُحيل إلى الفارابي، وهو معلِّمه، وهو أول مَن تكلم عن الواجب والممكن. تبدو وكأن الميتافيزيقا لا موضوع لها بل هي تحوُّل من المنطق والطبيعة، أي من العقل والواقع بفعل الاغتراب.

وإلهيات «عيون الحكمة» أقرب إلى إلهيات «النجاة» من حيث التحليل العقلي. معظمها طبيعيات (سمع الكيان) مثل أحكام الهيولى والصورة، إثبات القوى، أحكام العلل والمعلولات، الوجود وبيان انقسامه إلى جوهر وعرض. يغلب عليها اللاهوت السلبي. لا تُحيل إلى وافد أو موروث، وتقوم على تشكُّل كاذب ظاهر. ولا يظهر إلا في البسملة في البداية والدعوة بالتوفيق في النهاية.١٥٩ تخلو من الربط بين الفقرات أو بيان مسار الفكر. الفكر يضع ذاته أو الوجود يصف نفسه. صحيح أنها من أعمال الشباب وعنفوانه.

أما الإلهيات في «الإشارات والتنبيهات» فأقل اتصالًا بالطبيعيات خاصة في الأنماط الثلاثة الأولى منها بالإلهيات التي تقتصر على الأنماط السبعة الأخيرة. فالإلهيات أكثر من الطبيعيات. أكبرها الرابع «في الوجود وعِلَله» مما يدل على أهمية نظرية الوجود التي يتجلَّى فيها الفيض العقلي، وأصغرها الثامن «في البهجة والسعادة». وعناوين الأنماط ليس من ابن سينا مما يدل على غياب الموضوعات الجزئية داخل الموضوع الكلي. وفي كل نمط عدة مسائل ابتداء من النمط الرابع. والخامس أكثرُها مسائلَ، والسادس أصغرها.

تنقسم إلهيات «الإشارات والتنبيهات» إذن إلى ثلاثة أقسام. الأنماط الثلاثة الأولى في الطبيعيات، تجوهر الأجسام وجهاتها، والنفس ذروتها، والأنماط الثلاثة الثانية، في الفيض العقلي أو الفيض الإبداعي، الوجود وعِلَله، والصنع والإبداع، والغايات ومبادئها وترتيبها، والأنماط الأربعة الأخيرة في الإشراق أي نظرية المعرفة المقابلة للفيض، الفيض ذهاب والإشراق إياب، في التجريد والسعادة، ومقامات العارفين وأسرار الآيات. الفيض الطريق النازل، والإشراق الطريق الصاعد. والنمط السابع في التجريد عن العلم الإلهي ملتقى الوجود والمعرفة، الفيض والإشراق وفي نفس الوقت، جمعًا بين العقل والقلب، النظر والذوق.١٦٠
وإذا كانت إلهيات الشفاء، عقائدية تشريعة، وإلهيات «النجاة» فلسفية عقلية، وإلهيات «عيون الحكمة» طبيعية عقلية فإن إلهيات «الإشارات والتنبيهات» صوفية إشراقية. لذلك كتبت في نوع أدبي جديد، مجموعة من الفقرات تحت ألفاظ إشراقية مفردة، مثل: تنبيه، إشارة، وهم، تبصرة، تحصيل، هداية، نصيحة، تذكرة، وصية … إلخ مما يوحي بالتأويل، أو مزدوجة مثل وهم وتنبيه، زيادة تبصرة، تنبيه وإشارة، إشارة وتنبيه، زيادة تحصيل، خاتمة روحية، هداية وتحصيل، تكملة وإشارة … إلخ.١٦١

(أ) الإلهيات باعتبارها علم الإبداع

ولما كانت نظرية الفيض عند ابن سينا أقرب إلى الفيض العقلي فإنه حاول تأسيس الإلهيات باعتبارها علمًا، وتأسيس نظرية عامة في العلم، وبيان مكانة الإلهيات فيها. تبدو الفلسفة عند ابن سينا أنها تطوير لنظرية العلم عند المتكلمين والأصوليين والنحويين. يعرض ابن سينا للخبر الذي يكون عن شيء متحقق في الذهن لأن المعدوم المطلق لا يخبر عنه بالإيجاب. وإن أخبر عنه بالسلب يكون له وجود في الذهن. وهنا تتحول قضية الخبر إلى قضية الوجود في الأذهان والوجود في الأعيان. الإخبار عن معانٍ موجودة في النفس. والوجود في النفس أولًا وفي الخارج بالعرض.١٦٢ الفلسفة إذن تصحيح لأخطاء علم الكلام فيما يتعلق بالخبر كمصدر للمعرفة. فقد جهل المتكلمون أن الخبر يكون عن معاني النفس وإن كانت معدومة في الأعيان، ويكون الخبر عنها أن لها تعلُّقًا بالأعيان مثل القيامة، فهي معنًى في الذهن يتعلق بوجود في العين بمعنًى مستقبلي أو قياسًا على المستقبل في الماضي.١٦٣

ومبادئ الفنون في صناعتين. وتعني الفنون هنا العلوم. الأولى البرهانية مثل الإلهيات، الفلسفة الأولى، ما وراء الطبيعة أو ما قبلها. وقسم منها يُسمى أثولوجيا أي الربوبيات ومبادئ الوجود. أثولوجيا لا تعني «ثيولوجيا» بل «أنطولوجيا» وما تظهر فيها من عناية. ومن ثَم يخرج ابن سينا عن نظرية الذات والصفات والأفعال للوجود ولإثبات العناية والحكمة والتدبير وهو معنى تسميتها الربوبيات، أي الرب المعتني بالعالم. والثانية الجدلية أي الكلام. الفلسفة برهانية والكلام جدلي، قبل صياغة أنواع الأقاويل الفلسفية، الخطابي والجدلي والبرهاني عند ابن رشد.

وموضوع العلم الإلهي بالحقيقة إشارة في كتاب «البرهان». فهو موضوع برهاني. لا حد ولا تصور ولا تصديق ولا أيٌّ من الأسماء الخمسة يجوز عليه. لغة المنطق إذن هي لغة اللاهوت السلبي.١٦٤

ومن مظاهر وضع الوافد في إطار الموروث هو تسمية «ما بعد الطبيعة» العلم الإلهي، وأول مَن قام بذلك هو الفارابي. ويسميه ابن سينا «ما بعد الطبيعة»، و«ما قبل الطبيعة»، أي الفلسفة الأولى، أي ما قبل الخلق وهو الله، أو ما بعد الطبيعة، وهو الدليل البعدي. فالتسمية تتعلق بمنطق البرهان. أما تسمية «العلم الإلهي» فلمعارضته للمتكلمين وتشخيص الموجود الأول في نظرية الذات والصفات والأفعال. موضوع العلم الإلهي هو الموجود من حيث هو موجود. وهو علم لأنه معرفة الله والأمور المفارقة للمادة. ليس شخصًا معينًا بل الوجود ذاته.

واضح إذن أن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى، وأنه لا حديث في الإلهيات مستقلًّا عن الطبيعيات، وأنها كموضوع مستقل وهمٌ. الإلهيات طبيعيات سلبية عن طريق النفي، كما أن الطبيعيات إلهيات سلبية عن طريق الإثبات، الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى، الطبيعيات إلهيات نسبية والإلهيات طبيعيات مطلقة. وكلاهما منطقيات وجدانية، تنزيهات عقلية تلقائية، موقف مغترب من العالم.١٦٥

هي بنية ذهنية واحدة تعبِّر عن نفسها في مقولات مزدوجة متعددة وكأنها مستمدة من قاموس فلسفي واحد لدراسة المنطق والطبيعيات والإلهيات. هو علم واحد، علم الذهن أو تصورات العالم في عالم الأذهان. ثم ينعرج إلى أعلى فيصبح إلهيات أو يهبط إلى أسفل فيصبح طبيعيات. ومن ثَم تصبح قضية عالم الأذهان وعالم الأعيان قضية جوهرية تعبر عن مدى التطابق بين العقل والوجود. لذلك جعل القدماء الوجود في الأعيان وهو الشيء وفي الأذهان أو النفس وهو المعنى، وفي اللفظ وهو اللغة.

تظهر هذه الثنائيات في لغة المنطق مثل الجزئي والكلي، اللفظ والمعنى، التحليل والتركيب، الاستقراء والاستنباط. وفي الطبيعيات في الحسي والعقلي، والمتحرك والثابت، والمادة والصورة، والمكان والزمان، والتكاتف والتخلخل، وفي الميتافيزيقيا مثل الحادث والقديم، الممكن والواجب، الناقص والتام، الكثير والواحد، المركب والبسيط، العدم والوجود، الاختلاف والهوية، وكلها مفاهيم إضافة، إذا عرف أحد المضافَين عرف الآخر. وتستنبط كلها من بعضها البعض. يكفي البداية بأحدها حتى تتوالى الأخرى كحبَّات العقد.

وقد تتحول إلى ثلاثيات مثل الواجب والممكن والمستحيل؛ لأن كل ثنائية، الواجب والمستحيل، لها توسُّط الممكن، الوجود والعدم والحال.١٦٦ وفي هذه الحالة يمكن تعريف أحد الطرفين بنفي الآخر. فالواجب هو الذي إن فرض غير موجود لزم منه محال. فالمحال داخل في تعريف الواجب عن طريق النفي.

والحقيقة أن ذلك كله مقتضى نفسي، وبنية شعورية تم تجريدها إلى حدِّ التنزيه في بناء هندسي للعقل أو شعر للطبيعة أو مواجيد إلهية. كلها في عالم الأذهان وليست في عالم الأعيان، في الذات وليست في الموضوع، تعبر عن عالم ما ينبغي أن يكون وليس ما هو كائن، تحقق الوئام المعرفي مع العالم حقيقة أو وهمًا، وتُعطي الرضا والطمأنينة في النفس.

ونظرية الخلق أو الخلق الفيضي أو الفيض الإبداعي تنحصر في علوم ثلاثة: الطبيعية والتعليمية والإلهية. وهنا يبدو استبعاد المنطق باعتباره آلة للعلم ثم وضع التعاليم بين الطبيعي والإلهي، كسُلَّم ارتقاء من العالم إلى الله، من الموقف الطبيعي إلى الموقف المغترب.

تبحث الإلهية عن الأمور المفارقة بالقوام والمدة وعن الأسباب الأولى للوجود الطبيعي والتعليمي، وعن سبب الأسباب ومبدأ المبادئ وهو الإله «تعالى». موضوع العلم الإلهي أنية الله تعالى. ووجوده ليس سلَّمًا بل مطلوب إثباته، افتراض يتم التحقق من صحته. ليس البحث الإلهي ببعيد عن العلوم الرياضية. أليس الله واحدًا والواحد من الموضوعات الرياضية؟

وتبدو الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى. فقد بان في الطبيعيات أن الإله ليس بجسم ولا مادة ولا حركة. الطبيعيات إلهيات سلبية نافية. والإلهيات طبيعيات سلبية نافية.١٦٧
ويبدو الفرق بين الإلهيات والطبيعيات فرقًا في القول، القول الإلهي والقول الطبيعي على مستوى اللغة. فهناك أربعة احتمالات: الأول القول الإلهي في نفسه، وهو غير ممكن؛ لأن الله لا يتحدث عن نفسه في العلم الإلهي بل هو حديث المتكلم أو الفيلسوف على نحو طبيعي ثم مقلوبًا إلى أعلى. والثاني القول الطبيعي وهو في نفسه ممكن قبل أن يتحول إلى قول إلهي. والثالث القول الإلهي الذي يقول في الطبيعة كمقدمة للقول الإلهي. والثالث القول الإلهي الذي يقول في الطبيعة عن طريق ثنائية النسبي والمطلق، وهو قول طبيعي مزدوج مرة إيجابًا ومرة سلبًا. والرابع القول الطبيعي الذي يقول في الإلهي شيئًا وهو اغتراب عن الموقف الطبيعي.١٦٨ هو قول واحد مرة في الطبيعي إيجابًا وفي الإلهي سلبًا أو في الطبيعي سلبًا وفي الله إيجابًا، مرة استقراء في القول الطبيعي، ومرة استنباطًا في القول الإلهي. أحيانًا يكون قول الإلهي طبيعيًّا من أجل البداية بالحس والمشاهدة والواقع، وأحيانًا يكون طبيعيًّا إلهيًّا مقتنصَ الدلالة، ومنتقلًا من الجزء إلى الكل. لا يوجد قول إلهي مباشر دون المرور بالقول الطبيعي حتى لو كان القول الإلهي على أعلى درجة من التنزيه والتجريد. ويستحيل القول الإلهي دون الطبيعي وقياس الغائب على الشاهد سلبًا أم إيجابًا على نحو عكسي متبادل، الإيجاب للغائب والسلب للشاهد أو الإيجاب للشاهد والسلب للغائب.
وتستعمل باقي العلوم الموروثة لبيان الصلة بين العلمَين مثل الفقه والكلام، الفقه وأصول الدين، الفقه وأصول الفقه، الفقه علم جزئي عملي، والأصل علم كلي نظري.١٦٩ فاعتماد الطبيعي على الإلهي مثل اعتماد الفقه على الكلام (الأصول)، وكأن الطبيعيات ما هي إلا تطبيق للإلهيات. الطبيعيات علم عملي، والإلهيات علم نظري. الطبيعيات إلهيات تطبيقية، والإلهيات طبيعيات نظرية. للفقيه مبادئ يستمدها من المتكلم كوجوب العلم بنص الكتاب أو خبر الرسول أو الإجماع أو القياس. وليس عليه إثبات هذا المبدأ من حيث هو فقيه. العلم الطبيعي له أصول وفروع، كليات وجزئيات. والحديث في الجزئيات يعود إلى الكليات التي يعتمد عليها العلم. العلم علم بالكلي. لذلك كانت الإلهيات العلم الكلي للطبيعيات.
والصانع والعقل في علم كلي، والمبادئ العامة في علم كلي آخر، انتقالًا من الأنطولوجيا إلى الميتافيزيقيا أو الأنطولوجيا الصورية. وهذا هو السبب في البداية بتصنيف العلوم من أجل تأسيس وجهة نظر كلية شاملة للإلهي والطبيعي، للنظري والعملي، للكلي والجزئي. لذلك يتحدث ابن سينا أولًا عن الصانع في علم كلي بطريقة المتكلم الذات والصفات والأفعال، وتحويلًا لها إلى نظرية واجب الوجود في الفلسفة ثم يتحدث ثانيًا عن المبادئ العامة للوجود، تحويلًا للأنطولوجيا الخاصة إلى الأنطولوجيا العامة أو الميتافيزيقيا الخالصة.١٧٠
لذلك يرفض ابن سينا نظريتَي الخلق والفيض معًا. فالخلق من عدم تعطيل لله عن وجوده. فأما التسليم بأن الله كان قادرًا قبل أن يخلق أو أنه ليس غيرَ قادر. والأول يُثبت قِدَم العالم، والثاني يؤدي إلى التعطيل. العالم مخلوق من عدم ولكنه قديم. كان الله وخلق لا أنه كان ثم خلق؛ لأن القول بحدوث العالم على نحوٍ ما قصور. أحداث المتفلسفة الإسلامية ينتهون إلى وقوع التغير في الله ويسميهم ابن سينا المعطلة؛ لأن حدوث العالم يؤدي إلى التعطيل، وجوب واجب الوجود قبل أن يوجد العالم.١٧١ وهذه بالضرورة لا يرضى عنها المتكلمون أشاعرة ومعتزلة. فالله حيٌّ، يخلق أو لا يخلق. لذلك قال ابن سينا بقِدَم الزمان لا الحركة، وأصبح الله مماسًّا للعالم، لا يوجد بين الاثنين مسافة زمنية.١٧٢ واعترض على أنصار نظرية الخلق وألزمهم بوضع زمان قبل الزمان بلا نهاية، حجة جدلية تميل إلى البرهان.١٧٣ والحدوث لا تحتمله أكثر العقول.

أما العقول العشرة فهي نظرية متهافتة، فلكية طبيعية في الأساس ثم استخدمت في الإلهيات على نحو غيبي أسطوري.

وتوحي رسالة «بيان الجوهر النفيس» أنها في النفس وهي في الأجرام العلوية باعتبارها جوهرًا نفيسًا. تبدأ بإحصاء العلوم من أجل الهجوم على علم الكلام وتأسيس العلم الإلهي الطبيعي أو الطبيعي الإلهي، المبادئ والمسائل والموضوعات.١٧٤ يرفض ابن سينا أثر الأجرام السماوية على جرم الأرض كما هو الحال في الفيض أثر الأعلى في الأدنى إلا من خلال علم الجغرافيا. ويلاحظ اشتراك عدد من الأفلاك في عدد من الآثار.١٧٥ ومع ذلك تبقى لغة الفيض التقليدية مثل أن الجرم الأقصى يفيض منه الاستعداد الكلي للمادة الكلية إلى الجسم الكلي والتهيؤ لقبول العقل بالفعل في النفس الإنسانية وهو العلم اليقيني الذي يفيض عنه الجرم الثاني تتميم ما انبعث من الأول كالتشكيل والترتيب والاستعداد لقبول الرأي المحمود الذي تتم به معاشرة أشخاص الناس! أحيانًا يؤكد ابن سينا على الفيض العلمي وأحيانًا أخرى يبين أن العلم الحق لا يؤخذ من الحواس، وأن العلم الطبيعي له حدود من أجل إفساح المجال للعلم الإلهي.١٧٦

يتأرجح أثر الأجرام العلوية على السفلية عند ابن سينا بين العلم والخرافة، بين الحقيقة والوهم. الأول أحكامه نسبية والثاني أحكامه مطلقة. الأول يؤدي إلى الإبداع، والثاني إلى الفيض. قد يكون السبب في ذلك أنه بعد أن تحول علم النجوم إلى علم الجغرافيا تحول علم الجغرافيا إلى علم النفس في علم النفس الفلكي أو علم الفلك النفسي فعاد من جديد إلى علم التنجيم كما هو الحال عند إخوان الصفا. وانحسر علم الفلك الطبيعي من الوعي العلمي.

ويفضل ابن سينا استعمال لفظ الإبداع بدلًا من الخلق والفيض نظرًا لعدم المماثلة بين الجواهر البسيطة الروحانية كالصورة أو غيرها مع المبدع. فالمبدع ليس هو المفيض. الإبداع حالة متوسطة بين الخلق والفيض ولو أن أنصار الخلق يجعلونه أقرب إلى الخلق منه إلى الفيض، وأنصار الفيض يجعلونه أقرب إلى الفيض منه إلى الخلق.١٧٧ ولما كانت البسائط على درجات ظهر الفيض من الله إلى العقل إلى النفس إلى الصورة. هنا يمكن فهم العلاقة بين الله والعالم بتوسط الأجرام السماوية فيكون الفيض أو مباشرة كالنفس والعقل فيكون الخلق.١٧٨ الفرق بين التكوين والإبداع، بين الفساد والفناء أن الأول مقولة الطبيعيين في حين أن الثاني مقولة الإلهيين. فالخلاف في اللغة أولًا وفي التصور ثانيًا. ويظل السؤال قائمًا. هل مراتب الإبداع الأربع متصلة أم منفصلة، في الدرجة أم في النوع؟ إن كانت متصلة، وأن الخلاف بينها مجرد خلاف في الدرجة وليس في النوع فالإبداع أقرب إلى الفيض. وإن كانت منفصلة وكان الخلاف خلافًا في النوع وليس فقط في الدرجة كان الإبداع أقرب إلى الخلق.

وبالتالي يتحول ابن سينا من علم الكلام إلى الفلسفة، ومن الخلق إلى الفيض، والفيض الخلقي إلى الإبداع، الخلق الإبداعي الذي لا يستبعد الفيض أو الفيض الإبداعي الذي لا يستبعد الخلق كما خلط علم الكلام بين الوجود والمعرفة فاستحال الفصل بين وجود الله وطرق إثباته كما هو واضح في نظريات الحدوث والقِدَم والممكن والواجب مما سمح بالتشخيص وإسقاط الإنسانيات على الأفلاك.

يجمع ابن سينا بين الخلق والفيض بوجود مدبر صانع عادل أبدع الهيولى من الصور طبقًا للحكمة، والعدل. فالإبداع من الصور أي من العلم النظري، ويفيض طبقًا لاستعدادها وأمزجتها. ولها غاية وغرض وصفة الحكيم فيها. يجمع ابن سينا بين الاتصال والانفصال، بين الداخل والخارج، بين الخلق والكون، بين العِلَل الصورية والمادية والفاعلة والغائية.

وبالرغم من محاولة ابن سينا الخروج من الاختيار بين الخلق والفيض إلى الإبداع إلا أن بعض التساؤلات العلية ما زالت قائمة حول أثر الأفلاك. لماذا أثَّر القمر على الغاذية، وعطارد على النامية، وزحل على الناطقة، والزهرة على المولدة، والمريخ والشمس على الحركة؟ ولماذا يُعطَى الفلك هذا القدر الضخم من الروحانية والمخاطرة بالشرك؟ الفلك موضوع طبيعي، جزء من العالم، موضوع علم الفلك وهو ما حاول ابن سينا تأسيسَه في عصر البيروني، ولكنه كان ما زال تحت أثر الفيض فاستسلم له. وأحيانًا تتوه القضية ويغمض الاختيار وسط الإلهيات الصورية. فهي جزء من كل، والتركيز ليس عليها بل على بنية الإلهيات كلها.

ثم يبيِّن ابن سينا نسبة واجب الوجود إلى الموجودات وأول الأشياء التي وجدت منه دون استعمال لفظ الفيض صراحة، وكيف تترتب منه الموجودات مبتدئة من الجواهر الملكية العقلية ثم الجواهر الكلية النفسانية ثم الجواهر الفلكية السماوية ثم هذه العناصر ثم المكونات عنها ثم الإنسان، وكيف تعود إليه هذه الأشياء، وكيف هو مبدأ لها فاعلي، وكيف هو مبدأ لها كمالي، وماذا تكون حال النفس الإنسانية إذا انقطعت العلاقة بينها وبين الطبيعة وأي مرتبة تكون مرتبة وجودها.١٧٩
وتتقدم الصورة على المادة في مرتبة الوجود. الصورة مبدأ التفرد طبقًا للنزعة المثالية ابتداء من الكِنْدي.١٨٠ وهي نفس ثنائيات القديم والحادث، المتقدم والمتأخر، الواحد والكثير، الصورة والمادة، الجوهر والعرض، القوة والفعل، التام والناقص، العلة والمعلول، الكلي والجزئي، الواجب والممكن، الفعل والانفعال. وتصور المركز والدائرة هو التصور الموروث من علم الكلام متطورًا إلى الفلسفة من الذات والصفات إلى الجوهر والأعراض. فالواحد يساوق الوجود. بل إن قسمة الأعراض إلى ذاتية وعرضية هو استمرار لقسمة الجوهر والأعراض على مستوى الأعراض.١٨١
والواحد عند الكِنْدي، والواحد الموجود عند الفارابي، والموجود عند ابن سينا يبيِّن مسار الفلسفة من الواحد إلى الوجود، وهو انتقال طبيعي من الرياضة إلى الميتافيزيقا أو من الميتافيزيقا إلى الأنطولوجيا.١٨٢ ولواحق الوجود بالعدد المساواة والمشابهة والمطابقة والمجانسة والمشاكلة والهوهو، وأنواع الكثير من المقابلات لذلك ولواحقه الغيرية واللامقابلة واللامشابهة واللامساواة واللامجانسة واللامشاكلة. فالتضاد هنا عن طريق النفي. كذلك تتدرج الكليات الخمس بين الكل والجزء، بنية منطقية متفقة مع ترتيب الموجودات والفيض الوجودي. ولا يهم عدد الدرجات، ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية. فالترتيب والتراتب يخدم الإلهيات صعودًا وهبوطًا. ما يهمُّ هو التراتب ذاته ومنطقه. وتستمر الثنائيات في الطبيعيات على نحو مثالي عقلي مثل التخلخل والتكاتف، والخلاء والملاء. ويظهر اتحاد المنطق بالطبيعيات في المقولات العشر. وهي نفسها الأعراض التسع حتى علم الأخلاق بردِّه إلى العلم الطبيعي الذي هو علم إلهي مقلوب إلى أسفل.١٨٣
والأجرام العالية ذوات نفوس ناطقة؛ لأن الأجسام مانع عن قبول الفيض الإلهي. والأجسام المركبة أكثر قبولًا للفيض الإلهي من الأجسام البسيطة. لذلك تظهر التأثيرات الإلهية في الأجرام العلوية. ولما كانت أقرب الأشياء من الأمر الإلهي وأول الأشياء قبولًا حتى جرى على لسان أكثر الأمم أن الله تعالى على السماء وعلى العرش وإليه تُرفع الأيدي في الدعاء وهو ما سماه إقبال فلسفة السؤال، الإنسان شحاذًا مادًّا يده إلى الله وكما هو الحال في الدين الشعبي. ولما كان الإنسان، وهو أصغر الجواهر الأرضية وأعدلها وأبعدها عن التضاد، شابه هذه الأجرام العلوية، استعد لقبول الفيض الإلهي. وهذا يدل على أن الأجرام العالية ذوات نفوس ناطقة.١٨٤
وهناك صراع بين القوى السماوية والقوى الأرضية، فكل ما يحدث في هذا العالم ينتج عن مصادمات القوى الفعالة السماوية. فالسماء تتحكم في الأرض. وهو تشخيص كوني لله، انتقالًا من الكلام إلى الفلسفة. وكل ما يحدث من القوى الأرضية لسببَين، فعال وانفعال، إيجاب وسلب، والفعال إرادي أو طبيعي، والانفعال نفسي أو طبيعي. فالطبيعة قاسم مشترك بين الفعال والانفعال، أو الإرادي مثل النفسي.١٨٥
وإحداث القوى السماوية لآثارها على الأرض على ثلاثة وجوه: تلقائية أو شركة مع الأرضية أو الاتفاق والقضاء والتقدير أو تأثير الأرضية في السماوية. وكلٌّ من التلقائية والشركة إما طبائع نفسانية إرادية أو جسمانية طبيعية. والشركة بين القوى السماوية والقوى الأرضية؛ لأن النفوس السماوية تُدرك الجزئيات على نحوٍ لا عقلي لإدراكها أسبابها الفاعلة الطبيعية أو الإرادية الموجبة التي هي لا فاترة ولا جازمة ولا تنتهي إلى القسر. فالقسر إما عن طبيعة أو عن إرادة. والإدراكات لها أسباب توجبها. ولا توجد إرادة بلا إرادة وإلا ذهبت إلى ما لا نهاية، ولا عن طبيعة لأن الطبيعة إرادة لأنها تحدث بعلل هي الموجبات. والدواعي تستند إلى إراديات وسماويات توجب الإرادة. وإذا كانت الطبيعة ثابتة فهي أصل. وإن كانت فرعًا فقد حدثت لأمور سماوية وأرضية. فإذا عرفت الأوائل تم استنباط الثواني منها. ولا شيء يحدث في الأرض اتفاقًا أو مصادفة أو عبثًا.١٨٦

ويبدو في هذا النسق اجتماع الطبيعة والإرادة، الحتمية والحرية، التاريخ والإنسان، الجماعة والفرد، الظرف التاريخي والقرار الإرادي الحر. ليست الحوادث على المستوى الطبيعي، سخونة وبرودة بل على المستوى الإنساني الفردي والاجتماعي. والتغير ليس فقط في ظواهر الطبيعة بل أيضًا في الحياة الإنسانية. ولمَ إنكار تأثير الأرض في السماء وهو أساس الدعوات والعبادات والصدقات، كما أن تأثير السماء في الأرض يمكن معرفته عن طريق معرفة قوانين الطبيعة والمجتمع والتاريخ؟!

الأجرام السماوية هي نقطة التقاء بين الإلهيات والطبيعيات مثل النفس، فيض من العقل والطريق إلى واجب الوجود. المهم هو طبيعة هذه العلاقة، أحادية الطرف، أثر السماء في الأرض أم على التبادل مع أثر الأرض في السماء؟ وهل الأجسام المركبة أكثر قبولًا للفيض من الأجسام البسيطة؟ وأيهما أبسط العلوية أم السفلية؟ وتظهر مصطلحات القرآن، مثل سدرة المنتهى، عرش الرحمن، وبعض مصطلحات الصوفية مثل الهياكل الإلهية.

ويعطي ابن سينا البراهين على وجود العقل المفارق وعلى ترتيب العقول والنفوس السماوية والأجرام العلوية. وهي نفس البراهين على تميز النفس عن البدن، نفس التصور ونفس الاستدلال بصرف النظر عن نقاط التطبيق بالرغم من مسائله عن كيفية عقل ذاته في الأشياء وعقل الأشياء في ذاته. لا يذكر العقل الفعال كالفارابي ربما لأنه أدرك أن العلم الفعلي في الأرض وليس في السماء.١٨٧
ويحرك المحرك الأول على سبيل التشويق إلى الاقتداء بأمره الأول حتى يتشبه العقل به، فكل مرتبة تتحرك بالعشق نحو المرتبة الأعلى حتى تفيض المرتبة الأعلى عليها. الأدنى يقتدي بالأعلى والأعلى يكافئ الأدنى بالفيض عليه. وهي صورة فلسفية للدعاء ثم الاستجابة، الطلب ثم العطاء، العمل ثم الجزاء. وإذا كان لكل جزء محرك مفارق فبالعشق كان الله هو المحرك الأول للعلل، مبدأ الجميع. والمعشوقات ليست أجسامًا ولا أنفس أجسام؛ لأن المعشوق لا يكون إلا مفارقًا بعيدًا كاملًا منزهًا حتى يتم التوجه إليه بالعشق. والسؤال هو: هل يوصف الله بالعشق والالتذاذ حتى لو تم تداركه إلى إدراك الحيز الملائم؟ أحيانًا تتم الاستفاضة في التعبيرات على نحوٍ إنشائي مما يبيِّن أن الإلهيات هي مواجيد وأذواق عقلية.١٨٨

والفاعل القريب للحركة الأولى النفس مما يبرر قربها من الله في مراتب الوجود. وحركة السماء مع أنها نفسانية إلا أنها طبيعية. لذلك أتت في الرتبة الثانية بعد النفس، والثالثة بعد المحرك الأول، ويرفض ابن سينا مقالات القدماء، أن الله خلق النفس ثم اشتغل بتدبير الهيولى وتصويرها فلم يُحسن التدبير ولا أكمل حسْنَ التصوير فتداركها الباري وأحسن تقويمها.

وتظهر لغة الفيض في رسالة «السعادة»؛ إذ تستمد النفس وجودها وعلومها من الفيض الإلهي. والمعاني الكلية الأولية المتعلقة بما يحصل في النفس تحصل إما بتصفح الجزئيات وهي المعرفة الإنسانية أو بفيض علوي عن طريق الإلهام. فالفيض له معنًى دقيق وهو الإلهام، وهي معانٍ صحيحة وموثوق بها، والفيض العلوي والنور الإلهي مصدر ثقتها. وشرط ذلك السيطرة على أهواء النفس والكف عن الانهماك في الجسد حتى لا تنقطع السكينات الإلهية عن صورِه، ويمتنع الفيض الربوبي عن الحلول فيه. فاللذات العاجلة مانعة من الفيض الإلهي. ومَن تأمل حال نفسه بشيء من النية الخالصة الإلهية التي تزكي بها نفسه بقوتها العملية نال السعادة. ومَن انهمك في شيء منها تعذر عليه خلاص النية الإلهية. ويصعب عليه الاتصال بالفيض العلوي الإلهي. لذلك لا يكون الفيض الإلهي لكل الأجسام بل المستعدة لكمالاتها ليس لأن الله يعطى واحدًا ويمنع الآخر لأن الله جواد كريم. وإذا فارقت النفس اتصلت بالفيض الإلهي عند سدرة المنتهى تحت عرش الرحمة. وتنقلب في ذاتها إلى جوهر الفيض الإلهي. فالفيض الإلهي في معارفها وفي أفعالها مستمدٌّ من الجور الإلهي فتقبل على كسب خيرات الدار الإلهية بتقطع البلاد القاصية قصدًا نحو الهياكل الإلهية. لا يؤدي الفيض إلى المعرفة فقط بل إلى نَيل السعادة كما هو الحال عند الصوفية. والسعادة هي البقاء السرمدي في الغبطة الخالدة في جوار مَن له الخلق تبارك وتعالى.١٨٩
يبدو الله في نظرية الفيض أنه الوعي الذاتي، فعل وفاعل ومفعول، عقل وعاقل ومعقول، عشق وعاشق ومعشوق. فهو الوعي باعتباره الذات والموضوع في آنٍ واحد. كل شيء فيه، العالم فيه وليس خارجًا عنه.١٩٠ وهو الدلالة البعيدة للحديث المروي عن الصوفية، صحيحًا أو ضعيفًا «كنتُ كنزًا مخفيًّا» ضد الوعي الذاتي الفارغ، الذات بلا موضوع. فتخارجت الذات في موضوع بعكس ذاتها وتعرف نفسها فيه. الوعي بالذات الفارغة يجعلها تتوالد وتتخلق وتتحقق في موضوع من صنعها وطلقها وخصوبتها. الذات لا تتحقق إلا في موضوع. فالتخارج ضروري للذات حتى تنقسم كما تنقسم الخلية الحية إلى خليَّتَين هما واحد واثنان في نفس الوقت. الذات تتخارج والموضوع يتداخل، الأنا تعيش الآخر، والآخر يعيش الأنا، العالم يتولد عن الله ثم يعود إلى رحمة. وهي عملية معرفية ووجودية في آنٍ واحد. أحب الله أن يُعرف فخلق الخلق، أي خاض الخلق عنه فبه عرفه الناس. الفيض فعل معرفي للذهاب، والمحبة فعل إرادي للإياب. هذا هو معنى الخلق الإبداعي أي الفيض الوجودي.

(ب) واجب الوجود

ويعرض ابن سينا تصورَه الجديد متأرجحًا بين الكلام والفلسفة. فالله هو الواحد وهو الوصف السادس للذات في علم الكلام في مقابل الكثير، طبقًا لأشكال الواحد والكثير في الفلسفة١٩١ وهو المبدأ الأول وهو التعبير الفلسفي الجديد، وهو عالم وقادر وحيٌّ كما هو الحال في الثلاثي في علم الكلام. وهو وجود وحق وخير وهي صفات الفلاسفة.١٩٢
علمُ الله شامل ومحيط، فعل للذات بالرغم من حملة الغزالي على الفلاسفة واتهامهم بإنكار علم الله بالجزئيات. هو عالم لا لأنه مجتمع الماهيات بل لأنه مبدؤها يفيض عنه وجودها. وبلغة الفيض هو واهب الصور. كل شيء منه ولا يشاركها في شيء، مبدأ كل شيء وليس من الأشياء وهو قادر الذات أيضًا. وإثبات قدرة الذات وعقل الذات إثبات للتوحيد بين الذات والصفات مثل المعتزلة، قادر الذات بكله لا بجزئه، بذاته لا بفعله، على العموم وليس على الخصوص، ومن مفاهيم التوحيد أن العلم لا يخالف القدرة والإرادة والحياة. كل ذلك واحد لا يتجزَّأ، وهو حيٌّ، أي أنه لا يفسد. وهو واحد الوجود، أي لا نظير له، متفرد الوجود.١٩٣ وهو معقول وجود الذات، أي أنه مبدأ عقلي يمكن البرهنة عليه، والعقل مساوق للوجود. وهو حق أي أنه لا يزول، وأن وجوده الاعتقاد به؛ لأن الاعتقاد يعترض الوجود كما هو الحال في الدليل الأنطولوجي الشهير. وهو خير، أي أنه كامل مبرَّأ عن الضعف والنقص.١٩٤ ومن الرباعي يختار ابن سينا أنه متكلم لإثبات النبوة.
ويستعمل ابن سينا اللاهوت السلبي الوارد في الكلام والفلسفة. فالباري عز وجل لا حدَّ له ولا رسم؛ لأنه لا جنس له ولا فصل ولا تركب فيه ولا عوارض، لا يتكثر لا بالعدد ولا بالمقدار ولا بالأجزاء للقوام وللحد أو للإضافة. لا يتغير لا بالذات ولا بالعرض.١٩٥ وكل نفي يتبع من النفي السابق استدلالًا. فلأنه لا ينقسم فلا جزء ولا جنس له. ولأنه لا جنس له فلا فصل له. ولأن ماهيته إنيَّته، أي وجوده فلا ماهية يعرض لها الوجود ولا جنس له. لأنه لا مقول عليه وعلى غيره إجابة على سؤال الماهية. ولأنه لا جنس ولا فصل له فلا حد له، ولأنه لا موضوع له فلا ضد له. ولأنه لا نوع له فلا ند له، ولأنه واجب الوجود فلا تغير فيه. ومن ثَم يستحيل حد الله لأنه لا حد له. لا كيفية ولا كمية ولا أين ولا متى ولا ند ولا شريك له نفيًا للأعراض عنه، لا كثير ولا مثل ولا ضد له.

إلهيات ابن سينا تقوم على التوحيد والتنزيه كما هو الحال عند المعتزلة على نحو عقلي خالص. ثم تظهر لغة الفيض والإشراق، لغة الوجدان، بألفاظ الغاية والكمال والشوق والعشق. وتظهر صفات التعظيم الأخرى مثل غاية الجلالة، اللذيذ وهي صفة أقرب إلى المدرك منها إلى المدرك وتعني اللذة العقلية. وله بعض صفات المبالغة مثل فوق التام، البهاء الأعظم، الجلال الأرفع، المجد غير المتناهي.

فالله منطقي لا حدَّ له، وطبيعيًّا الخلق والعناية، وإلهيًّا واجب الوجود، لا برهان عليه وهو برهان على كل شيء. وهل واجب الوجود يحتاج إلى إثبات ما دام اقتضاء نفسيًّا أخلاقيًّا نزوعيًّا غائيًّا، وأن براهين المتكلمين في عالم الأذهان وليست في عالم الأعيان؟

ومع ذلك يظهر لفظ «الله» كثيرًا كاشفًا عن ظاهرة التشكل الكاذب، وكذلك صفة الإلهي والباري مع صفات التبجيل والتعظيم والإجلال، مثل «تعالى»، «تعالى جدُّه»، «تبارك وتعالى».

وإذا كان موضوع «الرؤية» قد ظهر في علوم الحكمة فإنه تطوير لنفس المسألة في علم الكلام: هل تجوز الرؤية؟ إما في باب ما يجوز على الله بعد ما يجب له وما يستحيل عليه، وإما في صفة ليس في محل أي القيام بالنفس لما تتطلبه الرؤية من شيئية وموضوعية في مقابل العين. ينكر ابن سينا الفيلسوف رؤية الله مثل المعتزلة كي يُثبتَها في مكان آخر كصوفي. وهو موضوع وثيق الصلة بالفيض نظرًا للطابع الإشراقي للرؤية.

وحجة ابن سينا في نفي الرؤية في الدنيا وإثباتها في الآخرة أن الإدراك يكون إما لشيء خاص كزيد أو لشيء عام كإنسان. الخاص موضوع للرؤية البصرية، أما العام فليس موضوعًا لها، يمكن إدراك الخاص باستدلال أو بدون استدلال في حين أن المشاهدة بالذات تتم بلا واسطة، الاستدلال بالشاهد على الغائب. إدراك المشاهد هو المشاهدة. وما لا يستدل عليه ويحكم بإنيَّته فليس بغائب. والذات الأحدية لا يمكن إدراكها بل تعرف صفاتها. وأقصى طريق إليها هو الاستبصار على عكس ما يرى الجاهلون الذين لا يدركون تعالي الله. الحق الأول لا تخفى عليه ذاته، ولا يُدرك باستدلال. إنما تجوز على ذاته المشاهدة. هو كمال في ذاته. فإذا تجلى لغيره أغنى ذلك عن الاستدلال. فهو مرئي بلا مماسة ولا مباشرة من الغير. ولو جازت المباشرة لكان ملموسًا أو مذوقًا. وإذا كان في قدرة الصانع أن يجعل قوة هذا الإدراك في البصر بعد البحث جاز أن يكون مرئيًّا بعد القيامة دون تشبيه أو تكييف أو مماسة أو محاذاة، الرؤية بالبصر إذن جائزة بعد الموت دون مباشرة أي محاذاة ومقابلة. وترتسم المقولات في الروح من الفيض الإلهي كما ترتسم الأشباح في المرايا الصقيلة. الفيض هنا مجرد انعكاس الصورة في مرآة النفس.١٩٦

يحاول ابن سينا هنا التحول من الدين إلى الفلسفة مباشرة دون المرور بالضرورة بعلم الكلام وإن كان المعتزلة قد حاولوا نفس الشيء قبل ذلك حفاظًا على التنزيه في موضوع الرؤية. ويبدو ذلك عند ابن سينا خاصة في رسائله أكثر مما يبدو في موسوعاته. ويظهر التشكل الكاذب في مصطلحات الحق الأول، الذات الأحدية جمعًا بين الموروث والوافد في اللغة مثل «الذات الأحدية»، كما تظهر المصطلحات الموروثة مثل الله، الباري عز وجل، تعالى، بل المصطلحات العقائدية مثل الملائكة، الوحي، اللوح، القلم، التنزيل، السموات والأرض، الغيب أو العقائدية الفلسفية مثل الفيض الإلهي، الملكوت الأعلى، الروح القدسية، الروح الملكية، الأحلام. يتضح الدين غير المباشر في المقالتين الثامنة والتاسعة، والدين المباشر في العاشرة. فالمقالة الثامنة في الله أي التوحيد، والتاسعة في العالم أي العدل، والعاشرة في السمعيات أي النبوة والمعاد والإمامة والإيمان والعمل أي العبادات وهي أدخل في الحكمة العملية.

(ﺟ) العلية والعناية

وإذا كان واجب الوجود يشير إلى أصل التوحيد فإن العلية والعناية يشيران إلى أصل العدل بتعبيرات المعتزلة. فالعلية هي التي تربط في نظرية الخلق بين الله والعالم، العلة والمعلول. في مقابل قِدَم العالم. والعناية هي التي تبيِّن اعتناء الله بالعالم طبقًا للتصور الموروث في مقابل تحرك العالم نحو الله بالعشق، التصور الوافد، وما يتضمنه من خلق الأفعال، والحسن والقبح العقليَّين وما سماهما ابن سينا، القضاء والقدر والشر في العالم.

في موضوع العلية تتحول ثنائية واجب الوجود وممكن الوجود إلى ثنائية العلة والمعلول الذي يكشف التقابل بين التصور الطولي الديني والتصور الدائري العلمي.١٩٧ وتظهر ملامح نظرية الفيض بالانتقال من الله إلى النفس إلى العالم.١٩٨ مع أن ابن سينا لا يستعمل لفظ الفيض كما يستعمله الفارابي ولكن مراتب الموجودات داخلة في الإلهيات الصورية دون وضع خاص لها. والعجيب أن يرفض ابن سينا التصور الدائري العلمي دفاعًا عن التصور المستقيم الديني من أجل الوصول إلى علة أولى، ويكسر الدورة المتناهية لإثبات الخط اللامتناهي، وقطع الزمان المتصل الواحد لإفساح المجال للأبدية. ويرفض الحركة المستديرة في المعرفة ويقبلها في الوجود. ويخشى من التصور الدائري العلمي إلى الانتهاء إلى أزلية الحركة، ووضع الوقت كله في الله على وتيرة واحدة دون تغيُّر. وكلها براهين عقلية لإيجاد نسق داخلي للعقل، برهان للحقيقة من الداخل.
ولماذا تقع الحوادث بالحركة وتحتاج الحركة إلى علل باقية؟ ولماذا الثبات أعظم من الحركة؟١٩٩ ولماذا يفسر اختلاف حركات الأدنى بالأعلى. ولا تفسر حركات الأعلى بالأدنى؟ ومن هذا الترتيب يبدو الله على نموذج الاستقراطي اليوناني، العقل والعاقل والمعقول، العشق والعاشق والمعشوق، الفعل والفاعل والمفعول. ومن تحليل تعبيرات مثل «لا يمكن أن»، «ليس يجوز أن» يظهر أن الموضوع اقتضاء، وأن الامتناع أخلاقي.
ومبحث العلل كله نموذج لاستعمال الطبيعيات من أجل الإلهيات من أجل إثبات العلة الأولى، وهو دليل العلية المعروف في الفكر الديني. فالعلل في التراث الفلسفي أربعة: المادية المستمدة من العلم الطبيعي، الصورية من العلم الرياضي، والفاعلة والغائية من العلم الإلهي. العلة الفاعلة للخلق والعلة الغائية للعناية. وأمثلة ابن سينا من الطب. فالطب علمي طبيعي. واتصال الهيولى بالصورة، والصورة بالهيولى من ذاتها بل بصفة صانع مقدس يوصي بالخلق. ويرفض وجود أشياء في الأزل تتحرك بطباعها حركات غير منتظمة لأن الباري أعان طبيعتها ونظمها. يرفض ابن سينا أيَّ خلق أو فيض ينال من قدرة الله أو يشرك معها شيء كالطبائع أو ينال من حسن الصنع.٢٠٠ ويضع ابن سينا الفلاسفة الإلهيِّين في مقابل الفلاسفة الطبيعيِّين. فعند الإلهيِّين ليست العلة فقط فاعلة بل مؤثرة محركة موجودة في حين أنها عند الطبيعيِّين محركة فقط.
وتبدو الفصول الثلاثة الأولى للمقالة الثامنة كلها في إلهيات «الشفاء» في موضوع العلية؛ إذ يبين الفصل الأول تناهي العلل الفاعلة والقابلة لإثبات تناهي العلم من أجل إثبات لا تناهي الله. والثاني يردُّ على المخالفين والشكاك. والثالث يُثبت تناهي العلل الغائية والصورية ويُثبت المبدأ الأول مطلقًا، والتمييز بين العلة الأولى على الإطلاق لتفرُّد الله بها والعلة الأولى المقيدة مع سائر العلل.٢٠١ فالله علة فاعلة وليس فقط غاية وهدفًا إكمالًا للتصور الوافد بالموروث. وفي النمط الرابع في «الإشارات والتنبيهات» البداية بالعلة والمعلول مباشرة دون مبحث الجواهر والأعراض.

ثم تنتقل العلية من مستوى الطبيعة إلى الإنسان بمناسبة التضرع والدعاء. ينقد ابن سينا المشبهة من الفلاسفة الذين يُنكرون العلل والأسباب وهم المتكلمون الأشاعرة. كما يرفض الاتفاق والبخت والمصادفة والعبث؛ لأن ذلك إنكار للتعليل. كما يرفض القضاء والتقدير؛ لأنه إنكار للإرادة الإنسانية. فكلَا الموقفين خطأ ومجموع الخطأين لا يكون صوابًا. يثبت الغائية مع المعتزلة ضد الأشاعرة، ويُعطي تفسيرًا علميًّا للقضاء والقدر ضد التفسير الأشعري الذي يُنكر الأسباب. لا شيء يحدث اتفاقًا أو عبثًا أو قهرًا من إرادة مشخصة بل طبقًا لعلل طبيعية. التقدير هو القدر. القضاء عام والقدر خاص. ليس القضاء أمرًا إلهيًّا مشخصًا بل هو قانون تاريخي. هناك تفسير لما يقع باجتماع الإرادة والحتمية، الفعل الإنساني والفعل الكوني، العلة الإنسانية والعلة الطبيعية.

ومعرفة الحوادث الحاضرة يمكن أن تكون مقياسًا لمعرفة الحوادث المستقبلة، استقراء لقوانين التاريخ. وهذا هو أساس علم أحكام النجوم. وبهذا المعنى يمكن معرفة الغيب. أما اعتماد أحكام النجوم على أمور السماء وحدها دون الأرض فباطل وينتهي إلى التنجيم حتى لو ادَّعى المنجم التجربة أو الوحي أو القياسات الشعرية والخطابية لأنه ينكر البرهان، بالإضافة إلى أنه لا يعرف كل ما في السماء. يكفي الاعتماد على العلل الأرضية. أما السماوية فهي العلل الجغرافية واشتراكهما هي قوانين التاريخ.

والإلهامات والدعوات والعقوبات والصدقات (العبادات) أحد جوانب الصراع بين القوى السماوية والقوى الأرضية والقوى المشتركة خاصة تأثير القوى الأرضية في السماوية. فالدعاء والتضرع ليس مجرد كمال بل فهم لقوانين التاريخ وفعل مضاعف فيها ومعها. الدعاء والتضرع يستدعي القوة المؤثرة كما يستدعي التفكر البيان. وعلى هذا النحو يمكن فهم الاستشفاء وكل فعل خير ينتج أثرًا خيرًا. وهذا هو قانون الاستحقاق على الأرض، أما الشر فإنه عقوبات على الأفعال. وقد ألَّف ابن سينا كتاب «البر والإثم» لتبرير العقاب الإلهي علميًّا بمعنى المشاركة بين القوى السماوية والقوى الأرضية.٢٠٢ إذن ما يقربه الجمهور ويفزع إليه حق. إنما العيب في المشبهة من الفلاسفة جهلًا بالعلل والأسباب. وهو ما يفسر أيضًا قوانين التاريخ وانهيار الأمم ووقوع الهزائم والانتصارات.

وهو السبب في الدعاء والصدقة وحدوث الظلم والإثم. مبادئ كل هذه الأمور تنتهي إلى الطبيعة والإرادة والاتفاق. الطبيعة مبدؤها سابق عليها، والإرادة الإنسانية كائنة بعد أن لم تكن. وكل كائن له علة، وكل إرادة لها علة، وعلَّتُها ليست الإرادة المتسلسلة إلى ما لا نهاية بل إلى أمور من الخارج أرضية وسماوية. والأرضية تنتهي إلى السماوية، واجتماعها يوجب المراد.

يحدث الاتفاق عن مصادمات تعتمد على مبادئ إيجابها تنزل عن الله. القضاء من الله هو الوضع الأول البسيط والتقدير هو ما يتوجه إليه القضاء على التدريج.٢٠٣ يُبرز ابن سينا الجانب العلوي للفعل، ويربطه بعالم السموات كنوع من المثالية الدينية. ففي «سر القدر» إجابة عن معنى قول الصوفية «مَن عرف سرَّ القدر فقد ألحد.» يفسر ابن سينا القدر على هذا النحو العلمي حتى ولو تمت إزاحة حرية الاختيار لصالح الحتمية الكونية. فالتصوف أحد مصادر علوم الحكمة مثل علم الكلام.٢٠٤
والحكمة من ربط العلمَين الطبيعي والإلهي في علم واحد ليس فقط إثبات العلية، أي إثبات التوحيد، بل أيضًا إثبات العناية، أي إثبات العدل. ويستعمل ابن سينا لذلك لفظ الربوبية. فالله الذي يعتني بالعالم هو الرب، وترتيب الموجودات من صنع الربوبية. والعالم الربوبي عظيم جدًّا.٢٠٥ والإبداع بلا عناية يكون تعطيلًا. التعطيل ليس في الصفات كما هو الحال في الاتهام الشائع من الأشاعرة ضد المعتزلة، بل في العناية بالعالم. ويحاجج ابن سينا المعطلة، معطلة الله عن وجوده بحجج جدلية. إن كان الله قادرًا قبل الخلق أن يخلق جسمًا متحركًا في أوقات وأزمنة تنتهي إلى وقت خلق العالم أو يبقى مع خلق العالم ألم يكن قادرًا على خلق الخلق إلا حين ابتدأ؟ وذلك يوجب الانتقال من العجز إلى القدرة، وانتقال المخلوقات من الامتناع إلى الإمكان بلا علة مع أن السماء حيوان مطيع لله تبارك وتعالى. عناية لله سبب وجود الحيوان، كل ما فيه من أعضاء، الحيوان أو النبات يؤدي إلى الصالح. العناية إذن لها تفسير طبيعي علمي.٢٠٦
وإذا كان الله يعتني بالعالم فمن أين يأتي الشر؟ ومَن المسئول عنه؟ الشر على ثلاثة أنواع: أمراض وآلام، ذنوب ومعاصٍ، وقحط وجدب. الأول للبدن، والثاني للنفس، والثالث للطبيعة. الأمراض والآلام مسئولية الإنسان عن جسده. والذنوب والمعاصي مسئولية الإنسان في اتباع العقل وحرية الإرادة. والقحط والجدب مسئولية الإنسان في عدم السيطرة على الطبيعة، وهو لا يتنافَى مع الشرع؛ لأنه استثناء من الخير وليس قاعدة. فهو لا يوجد إلا فيما تحت فلك القمر، وهو عالم أصغر بالنسبة للعالم العلوي. نظام العالم من وضع الله لصالح الإنسان. والثواب والعقاب نتيجة للمعاد بناء على إرادة الإنسان وحرية اختياره وهو طفيف بالنسبة للعناية بالرغم من أن الشرع يعتبر أن مَن قَتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحيَا نفسًا فكأنما أحيَا الناس جميعًا. وهو تطوير لموضوع الصلاح والأصلح عند المعتزلة، وأقرب إلى تبرير الشر ووضعه في إطار أعم من الخير. فالشر عرض وليس جوهرًا، وقتي وليس دائمًا، سلب وليس إيجابًا، ذاتي وليس موضوعيًّا، معرفي وليس وجوديًّا.٢٠٧

وترتبط بالعناية ووجود الشر في العالم الغائية. فطبائع المطبوعات ثلاثة: الأولى العلة الفاعلة وهو الصانع الحكيم الذي ركز عليه الروحانيون والذي أعطى كل شيء كما توجبه الحكمة، صانع عظيم وفاعل حكيم أعطى الهيولى التي أبدعها من الصور ما وجب في الحكمة والعدل. والثانية العلة المادية واستعدادها ومزاجها والتي يركز عليها الماديون. وهي الاستعداد للتخليق والتصوير والتطبيع والتخصيص والتقوية قبل الفيض وبعده، يختلف باختلاف الأمزجة. والثالثة العلة الغائية التي تبرز القصد والعناية، غرض الحكمة من صنع الصانع. ويضل بعض المتفلسفة الذين لا يفهمون الطبيعيات مثل الطب عند الحديث عن الطبائع في العناصر (الماديون) أو في الحكمة كلها (الروحانيون)، وظهور الأمثلة الطبية عند ابن سينا تبيِّن أن العلم الطبيعي أحد مصادر تكوين علوم الحكمة، من الداخل وليس من الخارج.

ويقسم ابن سينا الناس ثلاثة أصناف: المستعدون لعلوم الخوارق وهم الأكثر، والمتفرغون لها وهم الأقل، والصابرون معها وهم أقل الأقل. فالدرجات كمية وليست كيفية مثل مراتب اليقين عند الصوفية علم اليقين حق اليقين، وعين اليقين. وطبقات الناس: العامة، والخاصة، وخاصة الخاصة، ومراتب العلماء: الفقهاء، والمتكلمون، والفلاسفة والتي صاغها ابن رشد بعد ذلك في أنواع الأقاويل الثلاثة: الخطبي والجدلي والبرهاني.٢٠٨
يحاجج ابن سينا الماديِّين لإثبات الحكمة والصنع.٢٠٩ بل إن العلة الغائية هي التي تفترض العلة الفاعلة، من القصد إلى القاصد، مثل جذب الحديد، وإثبات المغناطيس على رأي الماديِّين. فهل خطورة المادية في إنكار المعجزات والوحي؟ وهل يؤدي إثبات الحكمة بالضرورة إلى القول بالخوارق؟ وعلى هذا النحو يكون ابن سينا قد مهَّد لنقد الغزالي للفلاسفة مضحِّيًا بالقاعدة من أجل الندرة. فهل كل مَن ليس أشعريًّا لا يكون فيلسوفًا، وكلُّ أشعري يكون فيلسوفًا؟ وهل إثبات المعجزات أو إنكارها هو معيار الموقف الفلسفي؟٢١٠
وربما يعطى ابن سينا الأولوية للعلة الغائية على باقي العلل. فالعلة الغائية تتقدم سائر العلل. بل إنها علة العلل. وهي نفسها العلة الغائية إن كان الفاعل متأخرًا.٢١١ فهي الباعث والدافع على تحقيق الشيء. هي العلة الفاعلة من الأمام عن طريق الجذب وليس من الخلف عن طريق الدفع كما هو الحال في العلة الفاعلة.٢١٢
وبالرغم من محاولة نظرية الفيض تجاوز عيوب نظرية الخلق، الثنائية الحادة المتصارعة بين العالمَين وما ينتج عن ذلك من آثار سلبية في السلوك مثل الازدواجية، وعدم القدرة على عدة تساؤلات، مثل: كيف تخرج المادة من اللامادة، والمرئي من اللامرئى، والنقص من الكمال، والشر من الخير، إلا أن نظرية الفيض تقع في عيوب أخرى تحاول نظرية القِدَم تجاوزها بدورها وهي نفس التساؤلات وأكثر. كيف تخرج المادة من اللامادة عن طريق التدرج، والاختلاف في الدرجة في الفيض لا يختلف كثيرًا عن الاختلاف في النوع في الخلق؟ كيف يخرج النقص من الكمال والأدنى من الأعلى؟ هل الكمال بطبيعته منهار؟ والكمال لا يزيد فيكون أكثر كمالًا، ولا ينقص فيكون أقل كمالًا.٢١٣

كما تقوم نظرية الفيض على نظرية حتمية آلية للكون كالعلب المتداخلة التي تتخارج مرة بالفيض وتتداخل مرة أخرى بالإشراق، أو كالكوب المتدرج الذي ينفتح مرة بالفيض وينغلق مرة بالإشراق ومن ثَم يغيب الإبداع. الفيض بالطبيعة والكرم، والإشراق بالتأمل دون الفعل. خطورة الفيض التضحية بالعلم في سبيل التصوف، وبالعقل لصالح الإشراق، وبالعالم في سبيل الله، وبالتالي الوقوع في الأشعرية الصوفية التي ما زالت سائدة حتى الآن في الوعي الفلسفي التاريخي.

وتؤدي نظرية الفيض إلى التبعية المطلقة للأدنى للأعلى طبقًا لمراتب الشرف والكمال في تصور هرمي للعالم يصبح في الوعي التاريخي أساس البيروقراطية، والتصور الرأسي للعالم الذي تكون القمة فيه أكثر قيمة وقدرة وسيطرة على القاعدة مما يؤدي إلى مجتمع القهر والتسلط لا فرق بين الرئاسة في الكون والرئاسة في المجتمع. ويكون السؤال أين الأصل وأين الفرع؟ الطبيعة أم المجتمع؟ وكيف يكون التغيير، من الكون إلى المجتمع أم من المجتمع إلى الكون؟ من الفكر إلى الواقع أم من الواقع إلى الفكر.٢١٤ تُوحي نظرية الفيض بالعبودية في الكون. فعلاقة المراتب علاقة الرئيس بالمرءوس، المخدوم بالخادم، الأعلى بالأدنى، عبادة المعادن قبولها للنفس والصورة. وهو في الحقيقة تشبيه. كما أن عبادة النبات حركته مع الهيولى، وعبادة الحيوان خدمة للإنسان، وعبادة الإنسان فيما أوجبه الله، الأمانة والشرف في النطق.

نظرية الفيض تصور شعري خالص لله والطبيعة والإنسان من منظور الوحدة بلغة إنسانية فياضة بتجاوز لغة الفلسفة والعلم إلى المجاز الأدبي. فالطبيعة تسبح وتسجد وتركع. وقد تتحول الصورة الفنية إلى أسطورة دينية وملحمة كونية.

ليس عيب الفيض الموقف الشرعي، الوساطة بين الحق والخلق وتأليه الكون بل الخروج على استعمال اللغة بسبب الاغتراب عن العالم، وتوهم أن اللغة الإنشائية المستعملة في الفيض والتي تعبر عن مواجيد النفس لغة العودة إلى الموقف الطبيعي وتحليل اللغة، وهو ما حاوله أبو حيان التوحيدي كأديب الفلاسفة بالرغم من مواقفه الصوفية كفيلسوف الأدباء.

فعلم الله المحيط ليس اعتقادًا بل هو مطلق الاصطلاح. لا يمكن الوصف ذاتيًّا مع الجهل بالموصوف موضوعيًّا وإلا كان الأمر مجرد عرفان، ذاتية فارغة بلا موضوع.٢١٥ تكشف لغة الفيض عن عالم التمني، الرغبة في المثال والواقع، في الله وفي العالم، في الآخرة والدنيا، في الحسنيَين معًا، فالإيمان تجربة إنسانية، يعود الكلام إليها، مثل الوحدانية التي لا تقبل الشركة وتصور واجب الوجود أوصافًا وصفاتًا. تحليل اللغة هو السبيل إلى العود إلى التجارب الذاتية قبل اغترابها في الكون وتشخيصها وتشييئها وتكلسها في موضوع يتحول إلى صنم عبر التاريخ.٢١٦ اللغة في نظرية الفيض مجاز لا حقيقة، صورة فنية وليست موضوعًا حسيًّا، إنشاء لا خبر.٢١٧
الله إذن عند ابن حيان لفظ يمكن تحليل استعمالاته اللغوية النفسية تحليلًا أصوليًّا لا عقائديًّا يكشف عن استعمالاته للتعبير عن حالات الاستحسان والانبهار والفرح أو الحزن والألم والأسى، مثل «الله … الله»، «يا الله»، وإذا أراد الإنسان أن يقنع بقراره ويؤكد على صدقه فإنه يُقسم «بالله» أو يعبر عن حالات التعجب أو الاستنكار.٢١٨ فالتعبيرات الدينية هي جزء من تاريخ الأدب الشعبي، وتحليل لغة الحياة اليومية، لا يشير إلى شيء في الخارج بل يعبر عن مواجيد النفس وانفعالاتها كما هو معروف في النظرية الانفعالية أو الأمرية في اللغة.
١  ج٢، ١٤، ٢٠–٢١٣، ج٣، ١٤، ١٩٠.
٢  الرسائل، ج٢، ٨، ٣٢١–٣٣٨؛ والموضوع الثاني في كمية الحركات، الرسائل، ج٣، ٨، ٣٣٢–٣٤٣.
٣  رسائل، ج٣، ٩، ٣٥٦–٣٥٩.
٤  هذه المقدمات هي:
  • (أ)

    الفاعل المختار هو الذي يقدر على الفعل والترك متى شاء.

  • (ب)

    كلُّ فاعلٍ حكيم مختار فعْلَه في فعله غرضٌ.

  • (جـ)

    الغرض عناية سابقة في علم الصانع قبل إظهار صنعته ومن أجله يفعل ما يفعله؛ فإذا بلغ إلى غرضه قطع الفعل، وأمسك عن العمل.

  • (د)

    كلُّ حكيم صانع إذا علم علمًا يقينيًّا أنه لا يبلغ إلى غرضه في فعله فإنه لا يعمل شيئًا ولا يطلبه.

  • (هـ)

    محرك الأفلاك والكواكب فاعل مختار حكيم قادر.

إذن العالم سيخرب يومًا ما ج٣، ٨، ٣٣٨–٣٤٠.
٥  «في بيان الضرر لمن يعتقد أن العالم قديم غير مصنوع.» الرسائل، ج٣، ٨، ٣١٠–٣٤١؛ في بيان مقدمات عقلية ضرورية تدل على أن العالم محدث مصنوع، ج٣، ٨، ٣٣٤–٣٣٦.
٦  الرسائل، ج٣، ٩، ٣٤٥–٣٤٨، ج٣، ٩، ٣٢٨-٣٢٩.
٧  ج٣، ٩–٣٥٩–٣٦٥.
٨  ج٣، ٩، ٣٤٨–٣٥٣.
٩  والجوهر وهو العرض، العلة والمعلول، البسيط والمركب، اللطيف والكثيف، المشف والمعتم، النير والمظلم، الساكن والمتحرك، العالي والسافل، الحار والبارد، الرطب واليابس، الخفيف والثقيل، النافع والضار، الخير والشر، الثواب والخطأ، الحق والباطل، الذكر والأنثى.
١٠  وأيضًا المقادير في الخط والسطح والجسم، والأزمان، الحاضر والماضي والمستقبل، والعناصر: الممكن والممتنع والواجب، والحكمة: الرياضية والطبيعية والإلهية.
١١  وهى: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان: النار والهواء والماء والأرض، والأخلاط: الصفراء والدم والبلغم والسوداء، والأمان: الربيع والصيف والخريف والشتاء، الجهات: المشرق والمغرب والشمال والجنوب، والأوتاد: الطالع والغارب والأرض والسماء، والأعداد: الآحاد والعشرات والمئات والألوف، والرياح: التيمن والجربيار والبور والصَّبا، وأيام العمر: الصِّبا والشباب والكهولة والشيخوخة، رسائل ج٣، ١، ١٧٩-١٨٠، ١٩٩. وانظر أيضًا دراستنا: ثنائية الجنس أم ثنائية الفكر، هاجر، كتاب المرأة، سيناء للنشر، القاهرة، ١٩٩٣م ص٣٥–٥١.
١٢  ١ = الجسد.
٢ = اليمين واليسار.
٣ = ثلاث طبقات.
٤ = أربعة أمزجة، أربع طبائع، أربعة عناصر.
٥ = خمس حواس، خمس طبائع، أول عدد دائر.
٦ = ست جهات، أول عدد تام، عدد سطوح المكعب.
٧ = سبع قوى فعالة، أول عدد كامل، عدد الكواكب.
٨ = ثمانية أمزجة، أربعة مفردة وأربعة مزدوجة، مناسبة في الموسيقى.
٩ = تسع طبقات لتركيب الأبدان، أول عدد مجذور، طبقات الأفلاك.
١٢ = ثقبًا للحواس، أول عدد زائد، عدد البروج.
٢٨ = أعمدة الظهر، عدد تام، منازل القمر.
٣٦٠ = عرقًا، عدد درج بروج الفلك، أيام السنة، الرسائل، ج٢، ٨، ١٩٧، ج٣، ٢، ٢٠٠-٢٠١، ج٣، ١، ١٨٣-١٨٤.
١٤  وهى: الصورة والهيولى، النور والظلمة، الجوهر والعرض، الخير والشر، الإثبات والنفي، الإيجاب والسلب، الروحاني والجسماني، القلم واللوح، العقل والفيض، المحبة والغلبة، الحركة والسكون، الوجود والعدم، النفس والروح، الكون والفساد، الآخرة والدنيا، العلة والمعلول، المبدأ والمعاد، الفيض والبسط، الرسائل ج٣، ٢، ٢١٠–٢٠٣.
١٥  مثل المتحرك والساكن، الظاهر والباطن، العالي والسافل، الداخل والخارج، اللطيف والكثيف، الحار والبارد، الرطب واليابس، الزائد والناقص، النامي والجماد، الناطق والصامت، الذكر والأنثى.
١٦  مثل الحياة والموت، النوم واليقظة، الصحة والمرض، اللذة والألم، النعمة والبؤس، السرور والغمة، الفرح والحزن، الصلاح والفساد، النفع والضرر، الخير والشر، السعادة والمنحسة، الإقبال والإدبار.
١٨  مثل: الصورة والهيولى والمركب منهما، الجواهر والأعرض والمركب منهما، الروحاني والجسماني والمركب منهما، الخط والسطح والجسم، الطول والعرض والعمق، الماضي والحاضر والمستقبل، وفى الأعداد الزائد والناقص والتام، وفى العناصر الواجب والمستحيل والممكن، وفى المكونات الحيوان والمعادن والنبات، وفى الحركات من الوسط وإلى الوسط وعلى الوسط.
١٩  الرسائل ج٢، ٢، ٢٠٤.
٢٠  الكواكب المتحيرة: زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد. والأجسام الطبيعية: الفلك والهواء والماء والنار والأرض. وأجناس الحيوان: الطير، السائح، المشار برجلين، المشار بأربع، المنساب على بطنه. وأجزاء النبات الخمسة: التمر، والزهر، والورق، والعروق، والأصل. والأشكال الفاضلة في إقليدس: الناري (أربعة أسطح مثلثة)، والأرضي (سطوح ومربعات)، والمائي (ثمانية سطوح مثلثة)، والهواء (عشرون قاعدة مثلثة)، والفلكي (ثماني قواعد مخمسات). والنسب الموسيقية: جزء مثل وأجزاء وضعف، الضعف والجزء، الضعف والأجزاء. والرسل أولو العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، الرسائل ج٣، ٢، ٢٠٨.
٢١  المسدسات: البروج اثنا عشر، ستة ذكور وست إناث، ست نهارية وست ليلية، ست شمالية وست جنوبية، ست مستقيمة وست معوجة، ست في حيز الشمس، وست في حيز القمر، ست بالنهار وست بالليل، ست فوق الأرض وست تحت الأرض. وأيضًا مقترنات ومتقابلات، ومربعات، ومثلثات، ومسدسات. وأحوال الكواكب ستة: الأوج، والشرف، والهبوط مع الرأس ومع الذنب، والحضيض، الرسائل ج٣، ٢، ٢٠٥-٢٠٦.
٢٢  حروف العربية (٢٨)، الحروف أوائل السور حسب الأعداد (١٢)، عدد مفاصل البدن (٢٨)، في اليمين (١٤)، في اليسرى (١٤)، في العمود الفقري (٢٨)، أعلى الصلب (١٤)، أسفله (١٤)، ريش جناح كل طير (١٤)، فقرات ذنب الحيوان الطويل (١٤)، حروف مضغمة (١٤)، حروف غير مضغمة (١٤)، معجمة (١٤)، غير معجمة (١٤)، منازل القمر (٢٨)، شمالية (١٤)، جنوبية (١٤).
٢٣  فصل في بيان نضد العالم وأنه كروي الشكل، ج٣، ٢، ٢٠٩–٢١١.
٢٤  ج٣، ٩، ٣٤٨–٣٥٣.
فيض كمال نقص كمال نقص إشراق الله العقل النفس الكلية (العقل المنفعل) الهيولى الأولى الدوائر والأفلاك.
٢٥ 
ج٣، ١، ١٧٥–١٨٥.
٢٦  ج٣، ١، ١٨٥–١٨٩.
  • (١)

    الوجود: كيفية سريان الجود في الموجودات.

  • (٢)

    البقاء: كيفية سريان البقاء في الباقيات.

  • (٣)

    الدوام: كيفية سريان الدوام في الدائمات.

  • (٤)

    كيفية سريان التمام في التامات.

  • (٥)

    الكمال: كيفية سريان الكمال في الكاملات.

  • (٦)

    الحياة: كيفية سريان الحياة في الأحياء.

  • (٧)

    العلم: كيفية سريان العلم في ذوي العلم.

  • (٨)

    القدرة: كيفية سريان القدرة في ذوي القدرة.

  • (٩)

    الرياسة: كيفية سريان الرياسة في ذوي الرياسة.

  • (١٠)

    الربوبية: كيفية سريان الربوبية في ذوي الأرباب.

  • (١١)

    الوحدة: كيفية سريان الكثرة من الوحدة المحضة.

٢٧  الرسائل ج٤، ٨، ١٩٩–٢٠٤، ٢٧٧. ج٢.
٢٨ 
  • (١)

    القوى الحساسة الحيوانية (٤).

  • (٢)

    القوى الناطقة (١٥).

  • (٣)

    القوى العاقلة الخيرة (٣٠).

  • (٤)

    الحكمية المستبصرة (٤٠).

  • (٥)

    القوى الملكية المؤيدة (٥٠).

  • (٦)

    القوى الناموسية الممهدة للمعاد. المفارقة للهيولى في آخر العمر.

  • (٧)

    المعراج.

٢٩  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الثاني، التوحيد ص٦٠٠–٦٠٤.
٣٠  هي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والمصورة والنامية. ج٣، ١، ١٩٢–١٩٥.
٣١  وهو ما ظهر في الغرب باسم المذهب الحيوي Animism Vitalism.
٣٢  الرسائل، ج٣، ١٤، ٢٣-٢٤.
٣٣  الرسائل، ج٣، ٨، ٣٤٢-٣٤٣. فصل في بيان مشاهدة العلماء والحكماء العارفين المستبصرين الذين هم أولياء الله المصطفون الذين يرون صانع العالم بعين البصيرة، ج٣، ٨، ٣٣٦، ٣٣٨، ج٣، ٩، ٣٦٢.
٣٤  الرسائل ج٢، ٦، ١٣٥-١٣٦.
٣٥  الرسائل، ج٢، ٥، ١٢٤، ١٣٠، ج٦، ١٣٤، ج٧، ١٥٦، ج٥، ج٣، ٩، ٣٧١–٣٧٣.
٣٦  الرسائل، ج٢، ٧، ١٧٨، ج٢، ٨، ١٨٠–١٨٢، ١٩٧، ٢١١–٢٢٢، ٣٠٠، ١٩٦–٢٠٣.
٣٧  طائر يقعد بالقرب من المياه، فإذا انشقت وغاصت حزن على انسيابها.
٣٨  النار أصفى من الهواء، والهواء أصفى من الماء، والماء أصفى من التراب.
٣٩  الياقوت أصفى من البلور، والبلور أصفى من الزجاج، والزجاج أصفى من الخزف، والذهب أشرف من الفضة، والنحاس أشرف من الحديد، والحديد أشرف من الرصاص.
٤٠  الرسائل، ج٢، ١٨١، ١٩١، ج٢، ١، ٩-١٠، ج١، ٤، ١٦٦–١٦٨، ج٢، ٢، ٥٣.
٤١  ج٢، ٨، ١٧٩-١٨٠، ١٨٤–١٩٢.
٤٢  وهو ما يسميه برجسون «التطور الخالق» في الفلسفة الغربية.
٤٣  الرسائل، ج٣، ٩، ٢٥٢–٢٥٦.
٤٤  الملائكة نازلون لقبض الأرواح وموت الأجساد، أعداد لا تُحصى على الدواب. مَلِكُهم بيده راية سوداء مكتوب عليها «لا اله إلا الله»، ج٤، ٨، ٢٠٦.
٤٥  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الأول، المقدمات النظرية ص٦٢٤–٦٢٦.
٤٦  ج٤، ٨، ١٩٨.
٤٧  الرسائل، ج٢، ٩، ٣٥٦–٣٥٩.
٤٩  زحل سلبي، سواد ونتانة ووعورة وثقل. المشتري إيجابي، روحاني، ملائكة، أنبياء اعتدال، حفظ النظام، اعتدال الطبع. والمريخ سلب، قهر وغلبة وعز، وسلطة وحديد وحروب وفتن. والزهرة إيجاب، حسن العالم وزينته، واعتدال النبات، النساء والخدم، العشق والمحبة والتزين، الحلي والخواتم، وتعدُّد الألوان. وعطارد إيجاب، العلم والإلهام، والكتاب، والعمال وجباة الأموال والصناع. والقمر إيجاب، الكون والفساد والفضة واللون الأبيض وأصحاب العمارة وبالزراعة، الرسائل ج٤، ٨، ٢١٣–٢١٥.
٥٠  ج٣، ٩، ٣٧٦-٣٧٧، ٣٨١–٣٨٣، فصل في المبادئ الروحانية والجسمانيات ومراتبها ج٣، ١، ١٨٧–١٩٦. ج٣، ١، ١٨٧-١٨٨.
٥١  وهي (أ) دائرة الأثير وهي نارية منها يكون النضج والغذاء، حمراء. (ب) دائرة الزمهرير من تحتها أزرق للبرد والرطوبة (ج) دائرة الهواء وهي معتدلة للتغذية سماوية اللون (د) دائرة الماء ملحة أو عذبة (ﻫ) دائرة الأرض، التراب الأسود. ج٤، ٨، ٢٢٥–٢٣٠، ٢٣٥–٢٤٣.
٥٢ 
الإنسان الفلك
سبع قوى روحانية حاسة سبع روحانيات، الكواكب
القوى الخمس الكواكب الخمس
الناطقة العاقلة الشمس والقمر
النفس والعقل عقد تام، الرأس والذَّنَب
مفاصل الجسد وأعضاء البدن وعروقه درجات صعود الفلك ووجوهه
أفعال المفاصل أفعال قوى النفس في الكواكب والبروج
اتصال النفس بالبدن اتصال النفس الكلية بالفلك
٥٤  تسعة جواهر وتسعة أفلاك، اثنا عشر ثقبًا واثنا عشر برجًا، قوى النفس وقوى الأفلاك، سبع قوى في الجسد، سبع الكواكب السيارة، سبع قوى جسمانية وسبعة كواكب ذوات نفوس وأجسام.
٥٥  ج١، ٤، ١٦١، ج٤، ١٠، ٢٧٣–٢٨٢.
٥٦  السجستاني في «الينابيع» والكرماني في «راحة العقل».
٥٧  توجد نظرية الفارابي متناثرة في «التعليقات»، «عيون المسائل»، «المسائل الفلسفية»، «فصوص الحكم»، «زينون»، «الدعاوى القلبية»، «السياسات المدنية»، «آراء أهل المدينة الفاضلة».
٥٨  ثلاثة أرباع المسائل في الإلهيات.
٥٩  فصوص الحكم (٦١ فصل)، الإشراق (٤٢)، الإلهيات (١٩)، الوجود والمنطق (٢).
٦٠  «وإن كان مرتع بصرك في ذلك الجنات ومذاقك من ذلك الفرات كنت في طيب ولم تدهش.» (فص ١٣)، «انفذ إلى الأحدية تدهش إلى الأبدية. وإذا سئلت عنها فهي قريب.» (فص ١٤). «فانظر هل ما تقبله مشاعرك وتمثله ضمائرك كذلك لا تجده.» (فص ١٩) «لك أن تلحظ عالم الخلق فترى أمارات الصنعة، ولك أن تعرض عنه وتلحظ عالم الوجود المحض.» (فص ١٧، ١٨).
٦٢  الموجود الأول ص١–٢١ ويضم خبرَين صغيرَين عن كيفية صدور الموجودات عنه، مراتب الموجودات ص١٦–٢٠. وهو أدخل في الجزء الثاني وهي نظرية الفيض. وتحتوي على تسعة أقوال (٢) نظرية الفيض ابتداء من الموجودات الثواني ص٢١–٤٤ وتحتوي على عشرة أقاويل (٣) النفس ص٤٤–٧٠ وتحتوي على ست فقرات (٤) الاجتماع ص٧١–١١٧ وتحتوي على إحدى عشرة فقرة.
٦٣ 
المبادئ الستة الأجسام الستة
الأول الأجسام السماوية
الثواني الحيوان الناطق
العقل الفعال الحيوان غير الناطق
النفس النبات
الصورة المعادن
المادة العناصر الأربعة
٦٤  الفارابي: التعليقات ص٢٤-٢٥. عيون المسائل ص٣-٤. فصوص الحكم (١)، المجموع ص١١٥–١٢٥. زيتون الكبير اليوناني (١١). الدعاوى القلبية (١)
٦٥  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الثاني، التوحيد ص٤٠٩-٤٢٦، الفارابي: عيون المسائل (٥)، فصوص الحكم (١١-١٢) ص١٣٣–١٣٥. زينون (٢-٣).
٦٦  وهذا هو الذي تحوَّل في الفلسفة الغربية إلى الوعي بالذات وأصبح مطلب الفلاسفة جميعها منذ «اعرف نفسك بنفسك» لسقراط حتى ظاهريات هوسرل مرورًا بأوغسطين والقديس بونافنتورا وديكارت وكانط وهيجل وفيورباخ وشترنر وباور وشتراوس وبولتمان.
٦٧  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٢–٧؛ السياسات المدنية، ص١٣–١٧.
٦٨  الفارابي، عيون المسائل (٤، ٥) فصوص الحكم (٧–١٠)، المجموع ص١٣٢، ١٤٠، الدعاوى القلبية (١١)، زينون (٢)، السياسات المدنية، ص١٣–١٥.
٦٩  دافع عن التصور الحركي هيجل وكيرجارد ورينان وبرجسون وتياردي شاردان في الفلسفة الغربية.
٧٠  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الثاني، التوحيد ص٦٠٠-٦٦١.
٧١ 
نفي الصفات الإنسانية إثبات الصفات الإلهية
(١) الإنسان معقول، وليس المعقول منه معقولًا بالفعل بل كان بالقوة ثم صار بالفعل الله معقول، والمعقول منه معقول بالفعل وليس بالقوة ثم صار بالفعل.
(٢) ليس المعقول هو الذي يعقل المعقول هو الذي يعقل
(٣) ليس العقل هو المعقول العقل هو المعقول.
(٤) نحن نعقل لا لأن جوهرنا عاقل يعقل لأن جوهره عاقل
(٥) ما نعقل ليس هو الذي تجوهرنا به ما يعقل هو ما تجوهر به
٧٢  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص١٠–١٣.
٧٣  وهذا هو الذي يسمى في علم النفس في الغرب Wishful Thinking، الفارابي: عيون المسائل (٥) التعليقات (٤٨، ٤٣) الدعاوى القلبية (١).
٧٤  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٧–٩، ١٣–١٦؛ السياسات المدنية، ص١٣-١٤.
٧٥  «فاللذة التي يلتذ بها الأول لذة لا نفهم نحن كنهها، ولا ندري مقدار عِظَمها إلا بالقياس والإضافة إلى يسير ما نجده نحن من اللذة عندما نظن أن إدراكنا ما هو عندنا أجمل وأبهى إدراكًا أتقن إما بإحساس أو تخيُّل أو علم عقلي. وإذا كنا نحن عنده هذه الحال يحصل لنا من اللذة ما يظن أنه فائق لكل لذة في العِظَم ونكون نحن عند أنفسنا مغبوطين بما نِلْنا من ذلك غاية الغبطة. فقياس علمه وإدراكه الأفضل والأجمل إلى علمنا عنه. وإدراكنا الأجمل والأبهى هو قياس سروره بذاته واغتباطه بنفسه إلى ما ينالنا منه عند ذلك من اللذة والسرور والاغتباط بأنفسنا وإن كان لا نسبة لإدراكنا نحن إلى إدراكه ولا لعلومنا إلى علومه. وإن كانت له نسبة فهي نسبة ما يسيرة. فإذن لا نسبة للذَّتِنا وسرورنا واغتباطنا لأنفسنا إلا ما للأول من ذلك. وإن كانت نسبة فهي نسبة يسيرة جدًّا. فإنه كيف تكون نسبة لما هو جزء يسير إلى ما هو مقداره غير متناهٍ في الزمان، ولما هو أنقص نقصانًا كثيرًا إلى ما هو في غاية الكمال. وإذا كان ما يلتذُّ بذاته أكثر ويسرُّ به ويغبط به اغتباطًا أعظم فهو يحب ذاته ويعشقها أكثر. فإنه بيَّن أن الأول يعشق ذاته ضرورة ويحبها ويعجب بها عشقًا وإعجابًا نسبة إلى عشقنا لما نلتذُّ به من فضيلة ذاتنا كنسبة فضيلته هو وكمال ذاته إلى فضيلتنا نحن وكمالنا الذي نعجب به من أنفسنا. والمحب منه هو المحبوب بعينه والمعجب منه هو المعجب بعينه. فهو المحبوب الأول، والمعشوق الأول.» السياسات المدنية ص١٥–١٧.
٧٦  التعليقات (٤٤، ٢٥، ٧١)، زينون (٢).
٧٧  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص١٠-١١.
٧٨  السابق، ص٢–٧؛ السياسات المدنية، ص١٣–١٧.
٧٩  الفارابي: التعليقات (١).
٨٠  «الأسماء التي ينبغي أن يسمى بها الأول هي الأسماء التي تدل في الموجودات التي لدينا ثم في أفضلها عندنا على الكمال وعلى فضيلة الوجود من غير أن يدلَّ شيءٌ من تلك الأسماء فيه هو على الكمال والفضيلة التي جرت العادة أن تدلَّ عليها تلك الأسماءُ في الموجودات التي لدينا وفى أفضلها بل على الكمال الذي يخصُّه في جوهره … وهذه الأسماء، أما فيما لدينا فإنها تدل على فضيلة وكمال تكون إضافة إلى شيء آخر خارج عنه جزءًا من ذلك الكمال حتى تكون الإضافة جزءًا من جملة ما يدل عليه بتلك الأسماء بأن يكون ذلك الاسم أو بأن تكون تلك الفضيلة وذلك الكمال قوامه بالإضافة إلى شيء آخر. وأمثال هذه الأسماء قد نُقلت وسمي بها الأول، قصدنا أن يدل بها على الإضافة التي له إلى غيره بما فاض منه من الوجود. فينبغي ألَّا نجعل الإضافة جزءًا من كماله ولا أيضًا نجعل ذلك الكمال المدلول عليه بذلك الاسم قوامه بتلك الإضافة جزءًا من كمال ولا أيضًا تجعل ذلك الكمال المدلول عليه بذلك الاسم قوامه بتلك الإضافة، بل ينبغي أن ندلَّ به على جوهر وكما نتبعه ضرورة تلك الإضافة تابعة لما جوهره ذلك الجوهر الذي دل عليه بذلك الاسم.» آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٢٠–١٢.
٨١  «والأسماء التي ينبغي أن يسمَّى بها هي الأسماء التي يدل من الموجودات التي لدينا على الكمال وفضيلة الوجود من غير أن يدلَّ شيء من تلك الأسماء منه على الكمال الذي يخصه هو في جوهره … وأيضًا فمتى اتفق في اسم من تلك الأسماء أن كان يدل عن بعض ما لدينا على فضيلة وكمال خارج جوهره فينبغي أن يجعل ما يدل عليه ذلك الاسم من الأول كمال وفضيلة في جوهره …» الفارابي، السياسات المدنية، ص١٩-٢٠. انظر أيضًا دراستنا: الاغتراب الديني عند فيورباخ، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨٧م، ص٤٠٠–٤٤٥.
٨٢  solvitur in Excelsis «هذه الأسماء، أما فيما لدينا فإنها تدل على فضيلة وكمال جزء ذاته، وهو الإضافة التي له إلى شيء آخر خارج عنه حتى تكون تلك الإضافة جزءًا من جملة ما يدل عليه ذلك الاسم وبأن تكون تلك الفضيلة وذلك الكمال قوامه بما هو مضاف إلى غيره …» وأمثال هذه الأسماء متى نُقلت وسُميَ بها الأول قصدًا إلى أن يدل بها على الإضافة التي له إلى غيره بما فاض منه الوجود. وينبغي ألا تجعلَ الإضافة جزءًا من كماله الذي دل عليه بذلك الاسم ولا على أن ذلك الكمال قوامه بتلك الإضافة بل ينبغي أن يجعل ذلك الاسم دالًّا على جوهره وكماله، وتجعل الإضافة تابعة ولاحقة لذلك الكمال وعلى أن قوام تلك الإضافة بجوهره وبذلك الكمال الذي له وتحصل الإضافة تابعة ولاحقة لذلك الكمال اضطرارًا لما جوهره ذلك الجوهر الذي ذكره … «الفارابي، السياسات المدنية، ص٢٠-٢١»، وكثير من الأسماء التي يشارك فيها غيره يتبين فيه أن ذلك الاسم يدل أولًا على كماله هو ثم ثانيًا على غيره بحسب مرتبته من الأول … وكثير من الأسماء المشتركة التي تدل على جوهر الأول وعلى وجوده فإنها إذا دلت على غيره فإنما تدل على ما يتمثل فيه من الشَّبه في الوجود الأول. إما شَبه كثير أو شَبه يسير فتكون هذه الأسماء تقال على الأول بأقدم الأنحاء وأحقها وتقال على غيره بأنحاء متأخرة. ولا يمنع أن تكون تسميتها الأول لهذه الأسماء متأخرة في الزمان عن تسميتها بها لغيره فإنه بيَّن أن كثيرًا منها إنما سمينا به الأول على جهة النقل من غيره إليه وبعد أن سميناه غيره في زمان ما، ولأن الأقدم بالطبع وفى الوجود لا يمتنع أن يكون متأخرًا في الزمان ولا يلحق ذلك الأقدم. فإنه لما كانت عندنا أسماء كثيرة تدل على كمالات مشهورة لدينا وكان كثير منها أنا نستعملها دلالة على تلك الكمالات من حيث هي كمالات لا من حيث هي تلك الأنواع من الكمالات، وكان من السببَين أن لا كمال أفضل منه أولى بذلك الاسم ضرورة وكلما شعرنا نحن بكمال في الموجودات أتم جعلناه أحق بذلك الاسم إلى أن يرتقي بالعلم الذي هو نهاية الكمال فجعله هو المسمى الأول بذلك الاسم بالطبع ثم يجعل سائر الموجودات حالها من ذلك الاسم أحوال مراتبها من الأول في ذلك مثل الوجود ومثل الواحد. وبعضها يدل على نوع من الكمال دون نوع. فمن هذه الأنواع ما هو في جوهره الأول بأفضل الأنحاء التي يكون عليها ذلك النوع ومرفوعًا في الوهم إلى أعلى طبقات ذلك النوع حتى لا يبقى وجهٌ من وجوه النقص أصلًا. وذلك مثل العلم والعقل والحكمة. ففي أمثال هذه يلزم ضرورة أن يكون أولى وأحق باسم ذلك النوع وما كان من أنواع الكمالات يقترن به نقص وخسة ما في الوجود ثم كان إفراده عما يقترن به يزيل جوهره على التمام فإنه لا ينبغي أن يسمى باسم ذلك النوع من الكمال. فإذا كان كذلك فهو من أن يسمى بالأسماء التي يدل على خسة الموجود أبعد. السياسات، ص٢١-٢٢.
٨٣  «فإذا اعتبرت عالم الخلق فأنت صاعد وإن اعتبرت عالم الوجود المحض فأنت نازل. تعرف بالنزول أن ليس هذا ذاك، وتعرف بالصعود أن هذا هذا.» الفارابي، فصوص الحكم (١٧)، ص١٣٩.
٨٤  السابق، (١٢، ١٧-١٨)، ص١٣٤-١٣٥.
٨٥  الفارابي، التعليقات (٢٥).
٨٦  الفارابي، نصوص الحكم (١٣)، ١٨، ص١٣٥، ١٣٩-١٤٠.
٨٨  الفارابي، السياسة المدنية، ص١؛ آراء أهل المدينة الفاضلة، ص١٦–١٩. وهذا هو نفس موقف المثالية الغربية منذ ديكارت حتى هوسرل منذ الدليل الأنطولوجي عند ديكارت وهيجل حتى نشأة العالم في الشعور Ursprung der Welt عند هوسرل.
٨٩  وذلك مثل حالة الإحسان في الأخلاق المسيحية التي هي أقرب إلى الذات منها إلى الموضوع، القصد وليس الشيء.
٩٠  هذا أيضًا هو موقف أفلوطين، وهيجل، وفشته وشلنج. الفارابي، السياسات المدنية، ص١٠-١١.
٩١  الفارابي، عيون المسائل (٥)، ص٧٢-٧٣؛ التعليقات (٧٣-٧٤).
٩٢  الفارابي، التعليقات (١٠-١١)؛ عيون المسائل، ص٧١–٧٣؛ المسائل الفلسفية، ص٩٣-٩٤؛ زينون (٣).
٩٣  الفارابي، فصوص الحكم؛ المجموع، ص١١٥-١١٦، ١٢٦–١٣١، ١٣٤-١٣٥.
٩٤  الفارابي، السياسات المدنية، ص١٨-١٩.
٩٥  لسنج، تربية الجنس البشري، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٧٧م.
٩٦  وهذا أيضًا موقف ليبنتز.
٩٧  تركز المسيحية وعقائد الشيعة على هذا العنصر الدرامي في السقوط والرفع، الخطيئة والفداء.
٩٨  الفارابي؛ التعليقات (٢)؛ زينون (٣)؛ عيون المسائل (١٠).
٩٩  «ولا يتعجب فإنَّا تخيلنا المشتهى اللطيف …» الفارابي: زينون (٣).
١٠٠  الفارابي؛ التعليقات، ٢٣، ٣٣؛ السياسات المدنية، ص٢٤-٢٥.
١٠١  الفارابي، السياسات المدنية، ص١٠-١١؛ عيون المسائل (١٠).
١٠٢  «العقل الفعال هو الذي ينبغي أن يقال إنه الروح الأمين وروح القدس، ويسمى بأشباه هذين الاسمين من الأسماء، ورتبتُه يسمى الملكوت.» الفارابي، السياسات المدنية، ص٢؛ الدعاوى القلبية (٣)؛ زينون (٣).
١٠٣  الفارابي، السياسات المدنية، ص١-٢، ٥، ٢٢-٢٣.
١٠٤  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٢١–٢٣، عشر فقرات، خمس في الموجودات السمائية (١، ٥–٨)، وأربع في الأرضية (٢–٤٣، ٩-١٠)، وواحدة مشتركة (٤).
١٠٥  السابق، ص٢٦–٢٨.
١٠٦  السابق، ص٢٨–٣٠.
١٠٧  وذلك على النحو الآتي:
١٠٨  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٣٠–٣٢.
١٠٩  الفارابي، السياسات المدنية، ص٣١-٣٢.
١١٠  يفرق هوسرل بين الشعور النائم والشعور اليقظ. كما يفرق برجسون بين الوعي المتعب والوعي المستريح.
١١١  هذا مثل بعض النظريات المعاصرة في الغرب في نشأة الكون وافتراض كواكب لم يصل إلينا ضوءُها بعدُ.
١١٢  الفارابي، السياسات المدنية، ص١-٢، ٥، ٢٢-٢٣.
١١٣  الفارابي، السياسات المدنية، ص٣١–٣٥.
١١٤  السابق، ص٣٥–٣٩.
١١٥  الفارابي، زينون (٢٣–٢٩)؛ التعليقات (٥٥–٥٧، ٦٦).
١١٦  وهذا يُشبه التخارج عند هيجل.
١١٧  مثل علاقة الذات بالموضوع في الشعور عند هوسرل.
١١٨  الفارابي، عيون (١٠)؛ التعليقات، ٣٨، ٥٨، ٦١، ٦٥، ٦٧، ٧٦.
١١٩  وقد نبه برجسون على هذا التمييز بين الزمان الطبيعي والزمان الشعوري في الفلسفة الغربية.
١٢٠  الفارابي، عيون المسائل، ص٧٠–٧٣.
١٢١  الفارابي، التعليقات (٧٦، ٧٨)؛ المسائل الفلسفية، ص١٠٨–٣٠١؛ الدعاوى القلبية (٤–٦).
١٢٢  كما هو الحال عند شلنج.
١٢٣  الفارابي، عيون (١٠-١١).
١٢٤  الفارابي، عيون المسائل (١٧)؛ السياسات المدنية، ص٤-٥، ١٠-١١.
١٢٥  الفارابي، السياسات المدنية، ص٤-٥، ١٠-١١.
١٢٦  الفارابي، عيون المسائل (٧٠).
١٢٧  وهذا هو رأي اسبينوزا في أن النفس صورة البدن.
١٢٨  الفارابي، التعليقات (٣١، ٢٢، ٨٦)؛ الدعاوى القلبية (٤)؛ عيون المسائل (١٠، ٦٩-٧٠).
١٢٩  وقد انتشرت هذه النظرية في الغرب منذ ديكارت وثنائيته الشهيرة حتى الحسيين الإنجليز وهوبز لوك وهيوم، والفرنسيين مثل كاندياك وشاركوه، والألمان مثل قند وأفيناريوس وابنجهاوس وماخ وما نقده لينين في كتابه الشهير «المادية والنقدية التجريبية».
١٣٠  الفارابي، التعليقات (٣٢، ٤٧، ٤٩-٥٠، ٥٤)؛ عيون المسائل (١٠، ٦٩).
١٣١  وهذا هو رأيُ المدرسة الفزيولوجية في الغرب المعاصر مثل بيشا في فرنسا، أن النفس مجموع وظائف الأعضاء.
١٣٣  وهو ما يسمى حاليًّا العلم والتقنية.
١٣٤ 
النفس الموضوع
(١) الناطقة الجميل والقبيح
(٢) المخيلة الضار والنافع
(٣) الحواس الخمس الملذ والمؤذي
١٣٥  وهذه هي تفرقة هوسرل بين الانطباع الحسي والإدراك أو بين الشعاع من الخارج إلى الداخل والشعاع المقابل من الداخل إلى الخارج في نظرية الشعاع المزدوج.
١٣٦  يشبه ذلك نسق كانط في نقد العقل الخالص في الفرق بين صور الحس، ومقولات الذهن، ومثل العقل. ويستعمل ديكارت الأفكار الفطرية كدليل على تمايز النفس عن البدن.
١٣٧  الفارابي، التعليقات (٥١، ٥٣)؛ السياسات المدنية، ص٢–٥، ١٢-١٣.
١٣٨  هذا ما سماه هوسرل دائرة الإرادة.
١٣٩  هذا هو تعبير كانط.
١٤٠  الفارابي، عيون المسائل (٧–١٠).
١٤١  الفارابي، التعليقات (٤-٥، ٢٨).
١٤٢  هذه وظيفة الحدس عند برجسون.
١٤٣  هذه الثنائية المتعارضة بين الحس والعقل تمثل أيضًا مسار الوعي الأوروبي منذ القرن السابع عشر.
١٤٤  الفارابي، السياسات المدنية، ص٢–٥، ١٢-١٣؛ التعليقات (٣٢، ٤٥)؛ عيون المسائل (٧–١٠، ٢١، ٧٤-٧٥).
١٤٥  الفارابي، السياسات المدنية، ص٢–٥، ١٢-١٣.
١٤٦  المبادئ الستة: الأول، الثواني، العقل الفعال، النفس، الصورة، المادة، وتقابلها الأجسام الستة: الأجسام السماوية، الحيوان الناطق، الحيوان غير الناطق، النبات، المعادن، العناصر الأربعة.
١٤٧  الفارابي، السياسات المدنية، ص٧–١٠، آراء أهل المدينة الفاضلة ص٢٤-٢٥.
١٤٨  الفارابي، المسائل الفلسفية (٣٥)؛ التعليقات (٣١)؛ آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٣٤-٣٥.
١٤٩  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص٣٨–٤٢.
١٥٠  الفارابي، الدعاوى القلبية (٧)، «ولا يمكن أن يُوجِد في الأمور الطبيعية شيئًا باطلًا.» السياسات المدنية، (ص٩-١٠).
١٥١  الفارابي، زينون (٢٣-٢٩)؛ التعليقات (٥٥–٥٧، ٦٦).
١٥٢  الفارابي، المسائل الفلسفية (٣٨، ١٠٦)، ص١٤٤، ١٠٨؛ الدعاوى القلبية (٤)؛ عيون المسائل (١٠).
١٥٣  وقد تم هذا الخلط في العلوم الإنسانية في الغرب في القرن التاسع عشر.
١٥٤  كما هو الحال عند هوسرل في تعريف «البداية الجذرية».
١٥٥ 
الفارابي، السياسات المدنية، ص٩-١٠، ٣٢–٣٧.
١٥٦  تتكون إلهيات «الشفاء» من عشر مقالات، أطولها الثالثة (٦٨ص)، ثم التاسعة (٦٠)، ثم الخامسة (٥٨)، ثم الأولى (٥٢)، ثم السادسة (٤٤) والثامنة (٤٤)، ثم الثانية (٣٣) ثم الرابعة (٢٩)، ثم السابعة (٢٢) وأصغرها العاشرة (٢١).
١٥٧  أكبر الفصول الثالثة (١٠فصول)، ثم الخامسة (٩)، ثم الأولى (٨)، ثم الثامنة والتاسعة (٧)، ثم السادسة والعاشرة (٥)، ثم الثانية (٤)، ثم الرابعة والسابعة (٣).
١٥٨  الأولى (ص٢٧)، الثانية (٨٥)، الأولى (٢١ فصلًا)، الثانية (٣٨)، التلخيص قبل ص٢٥١ وبعدها نقل مباشر.
١٥٩  ابن سينا، عيون الحكمة، ص٤٧–٦٠، بسم الله الرحمن الرحيم، ص٤٧، الله وليُّ تسهيل سبيلنا إليه بتوفيقه، ص٦٠.
١٦٠  النمط الأول: تجوهر الأجسام (١١٦ص)، (مسائل ١٢).
النمط الثاني: جهات الأجسام (١٧١)، (مسائل ١٥).
النمط الثالث: النفس (١٥٧)، (مسائل ١٢+٤).
النمط الرابع: في الوجود وعِلَله (٦٥)، مسائل (٦).
النمط الخامس: في الصنع والإبداع (٤٩)، مسائل (١٠).
النمط السادس: في الغايات ومبادئها في الترتيب (٤٦)، مسائل (٣).
النمط السابع: في التجريد (١٦)، مسائل (٨).
النمط الثامن: في البهجة والسعادة (١٠)، مسائل (٧).
النمط التاسع: في مقامات العارفين (١١)، مسائل (٧).
النمط العاشر: في أسرار الآيات (١٨)، مسائل (٥).
١٦١  إشارة (٦٧)، تنبيه (٦٢)، وهم وتنبيه (١٧)، تنبيه (١٠)، زيادة تبصرة (٤)، فائدة، تنبيه وإشارة، إشارة وتنبيه، زيادة تحصيل، تذكرة أو تنبيه، مقدمة أخرى (٢)، هداية وتحصيل، حكاية، تكملة لهذه الإشارة، تكملة وإشارة، أوهام وتنبيهات، نصيحة، تذكرة وتنبيه، إشارة وتنبيه، تتميم، تبصرة، زيادة وتنبيه تذكير، استشهاد، نكت، مقدمة، خاتمة ووصية (١).
١٦٢  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (١)، ص٣٢–٣٤.
١٦٣  السابق، ص٤-٥، الجوهر النفيس، ص٢٦١.
١٦٤  «وللعلم أسماء عديدة: الفلسفة الأولى؛ لأنه العلم بأول الأمور في الوجود، وهو العلة الأولى، وأول الأمور العامة، وهو الوجود والوحدة وهو الحكمة، أفضل عالم بأفضل معلوم أي العلم اليقيني بالله تعالى، ثم معرفة الأسباب القصوى للكل، وهو المعرفة بالله، وهو علم الأمور المفارقة للمادة في الحد والوجود» (الإلهيات: (١)، ص١٥). ومهما تعددت التعريفات، العلة الأولى، الوجود، الوحدة، الحكمة، السبب الأقصى، المعرفة بالله، العلم بالأمور المفارقة فإن المضمون واحد. وكثيرًا ما تسمى الأشياء من جهة المعنى الأشرف والغاية، السابق، ص٢٣.
١٦٥  ابن سينا، النجاة، ص٢٠١.
١٦٦  وقد عُرف منطق هيجل بهذا الإيقاع الثلاثي مثل الوجود والماهية والصيرورة.
١٦٧  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (١)، ص٦.
١٦٨ 
ابن سينا، الجوهر النفيس، ص٢٦٥–٢٦٩.
١٦٩  يعني ابن سينا بالمتكلم عالمَ أصول الفقه والأدلة الشرعية الأربعة نظرًا لأن علم الأصول علم واحد بشقَّيه، أصول النظر وهو علم أصول الدين، وأصول العمل وهو علم أصول الفقه.
١٧٠  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (١)، ص١٠٤–١١٠، ١٢٦–١٣٣؛ الجوهر النفيس ص٢٦١–٢٦٣.
١٧١  هم معاصرو ابن سينا مثل أبي القاسم الكرماني.
١٧٢  فصل في أنه يلزم على قول المخالفين أن يكون الله تعالى سابقًا على الزمان والحركة بزمان، النجاة ص٢٥٦-٢٥٧.
١٧٣  فصل في أن المخالفين يلزمهم أن يضعوا وقتًا قبل وقتٍ بلا نهاية وزمانًا ممتدًا في الماضي بلا نهاية، وهو بيان جدلي إذا استعصى حال البرهان، النجاة ص٢٥٧–٢١٨.
١٧٤  تشمل الرسالة ستة فصول:
  • (أ)

    قسمة الأجسام إلى بسيط ومركب.

  • (ب)

    أصول الأجسام الكلية والجزئية.

  • (جـ)

    مبادئ الطبيعيِّين من الإلهيِّين.

  • (د)

    مبادئ الطبيعيِّين من الطبيعيِّين.

  • (هـ)

    القوى الطبيعية (من أجل إثبات العناية والتدبير والحكمة).

  • (و)

    الفلك عند الطبائعيِّين (خرافة الفيض). ابن سينا: بيان الجوهر النفيس، جامع، ص٢٥٨–٢٧٩.

١٧٥  زحل يؤثر في البرد والجمود واليبوس والتغير والاستحالة والتخيل والتذكر والتوهم والتفكر في الطبيعة وفى النفس. والمشتري يؤثر في الكمال والآيات والاعتدال والاستعداد لقبول قوى الحسن، والمريخ يؤثر في الحرارة والتغير والاستعداد لقبول القوة الغضبية الحركية الزائدة. والشمس تؤثر في الكمالات المزاجية والاستعداد لقبول القوة الطبيعية الحركية الزائدة. والزهرة تؤدي إلى البرودة والاستعدادات المتولدة. وعطارد يؤدي إلى اليبس والاستعدادات النامية. والقمر يؤدي إلى الرطوبة الطبيعية والاستعدادات الغاذية.
١٧٦  «خاتمة مهمة جدًّا»: كما أن الشمس البيضاء تسود، والحركة التي لا توصف بالحرارة تسخن زحل وهو غير بارد وكذلك غيرهما. ومن هنا يتبين أن العلم الحق لا يؤخذ من الحواس كما هو شأن كثير من الناس الذين انخدعوا عن الثوابت بخداع المشعر الحاس وقوة الوسواس، اللهم جنِّبنا العذاب وثبِّتنا على الهداية، آمين» السابق، (ص٢٧٩).
١٧٨  «وبعد أن عرفت أن الفلك ليس من عالم الكيان وأنه موجود على سبيل الإبداع والاختراع وأنه لا ضد لصورته.» السابق، (ص٢٧٦).
١٧٩  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (١)، ص٢٧-٢٨.
١٨٠  السابق، ص٨٠؛ النجاة ص٢١٤–٢١٦. وذلك على عكس توما الأكويني الذي جعل المادة مبدأ التفرد.
١٨٢  فصل في مساوقة الواحد للموجود باعتبارٍ ما، وأنه بذلك يستحق لموضوعيته هذا العلم، النجاة، ص١٩٨٩م، فصل في بيان الأعراض الذاتية والقريبة، ص١٩٨-١٩٩، فصل في بيان أقسام الموجود وأقسام الواحة، ص١٩٩-٢٠٠.
١٨٤  ابن سينا، السعادة، ص١٤-١٥، ١٧–١٠.
١٨٦  ابن سينا، الشفاء؛ الإلهيات (٢) ٤٣٦–٤٣٨.
١٨٧  من الصيحات التي كان يمكن للأفغاني إطلاقها: أعجب لشعب جاهل عاجز يؤلِّه العقل الفعال.
١٨٨  ابن سينا، النجاة، ص٣٤٦–٣٧٩؛ الشفاء؛ الإلهيات (١)، ص٣٥٨–٣٦٢.
١٨٩  ابن سينا، السعادة، ص٢-٣، ٧-٨، ١٣، ١٧–٢٠.
١٩٠  هو ما سماه هوسرل قالب الشعور ومضمون الشعور Noême, Noèse. وقد اتهم هذا الموقف بأنه مذهب الأنا وحدي Solipsism لحضور الموضوع في الذات، ابن سينا، الشفاء؛ الإلهيات (١)، ص٣٥٧-٣٥٨؛ النجاة، ص٢٤٣.
١٩١  من العقيدة إلى الثورة، المجلد الثاني، التوحيد، ص٢٠٤–٢٣٨.
١٩٢  السابق، ص٤١٨–٤٢٤.
١٩٣  ابن سينا، الشفاء؛ الإلهيات (١)، الأصل الثاني، المقالة الثالثة ص٩٧–١٠٣؛ في معرفة المبدأ الأول للوجود كله ومعرفة صفاته، السابق، ص٣٢٧–٣٧٠؛ النجاة، ص٢٤٩–٢٥١.
١٩٤  ابن سينا، عيون الحكمة، ص٥٨-٥٩. الفصل الرابع: في الصفات الأولى للمبدأ الواجب الوجود. الخامس: كأنه توكيد وتكرار لما سلف من توحيد واجب الوجود وجميع صفاته السلبية على سبيل الإنتاج. السادس: في أنه تام بل فوق التام وخير مفيد كل شيء بعده، وأنه حق وأنه عقل محض ويعقل كل شيء، وكيف ذلك وكيف يعلم ذاته وكيف يعلم الكليات وكيف يعلم الجزئيات، وعلى أي وجه لا يجوز أن يقال يُدركها. السابع: في نسبة المعقولات إليه، وفى إيضاح صفاته الإيجابية والسلبية لا توجب عن ذاته كثرة، وأن له البهاء الأعظم والجلال الأرفع والمجد غير المتناهي، وفى تفصيل حال اللذة العقلية، الشفاء الإلهيات (١)، ص٣٤٣–٣٧٠. في أن ما لم يجب لم يوجد، في كمال وحدانية واجب الوجود وأن كل متلازمَين في الوجود متكافئَين فيه، فلهما علة خارجة عنهما في بساطة الواجب، في أن الواجب تام وليس له حالة منتظرة، في أن واجب الوجود بذاته خيرٌ محض، في أن الواجب حقٌّ بكل معانى الحقيقة، في أن نوعَ واجبِ الوجود لا يقال على كثيرين؛ إذ لا مثل ولا ضد، في أنه واحد من وجوه شتى، في البرهان على أنه لا يجوز أن يكون اثنان واجب الوجود، أي أن الوجود الذي يوصف به ليس هو لغيره وإن لم يكن من جنسه ونوعه، في إثبات واجب الوجود، النجاة، ص٢٢٦–٢٣٥.
١٩٥  ابن سينا، رسالة الحدود، تسع رسائل، ص٧٨-٧٩، عيون الحكمة، ص٥٨-٥٩.
١٩٦  ابن سينا، القوى الإنسانية، ص٦٦–٧٠، ٦٣.
١٩٧  فصل في أنه لا يمكن أن تكون الممكنات في الوجود بعضها علة لبعض على سبيل الدور في زمان واحد وإن كانت عددًا متناهيًا، النجاة، ص٢٣٥-٢٣٦. فصل آخر في التجرد لإثبات واجب الوجود وبيان أن الحوادث تحدث بالحركة ولكن تحتاج إلى عِلَل باقية وبيان أن الأسباب القريبة المحركة كلها متغيرة، السابق، ص٢٣٦–٢٤٠. فصل في إثبات انتهاء مبادئ الكائنات إلى العلل المحركة لحركة مستديرة، السابق في ٢٤٠–٢٤٣. لما كانت عناوين الشفاء للفصول من الناشر وعناوين النجاة من ابن سينا كانت عناوين النجاة أدق.
١٩٨  وهي مثل العقل الثلاثة عند كانط. ابن سينا، النجاة، ص٢٣٥–٢٧٨. في حالة تكون الأسطقسات عن العلل الأولى طبقًا لمراتب الموجودات، ص٢٨٠–٢٨٤.
١٩٩  هيجل ودارون وهويتهد وبرجسون من أنصار الحركة وكذلك محمد بن كرام بجعل الله محلًّا للحوادث، فصل في دوام الحركة، النجاة، ص٢٥٢–٢٥٥، ٢٥٧–٢٧١؛ الشفاء، الإلهيات (٢)، ص٣٧٣.
٢٠٠  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (١)، ص١٨٣ (٢)، ص٢٥٧.
٢٠١  الفصل الأول: في تناهي العلل الفاعلية والقابلة، الفصل الثاني: في شكوك تلزم ما قيل وحلُّها. الفصل الثالث: في إبانة تناهي العلل الغائية والصورية وإثبات المبدأ الأول مطلقًا. وفصل القول في العلة الأولى مطلقًا وفى العلة الأولى مقيدًا، وبيان أن ما هو علة أولى مطلقة علة لسائر العلل. الشفاء، الإلهيات (١)، ص٣٢٧–٣٤٣.
٢٠٢  «وقد عملنا في هذا الباب كتاب البر والإثم فتأمل شرح هذه الأمور من هناك وصدِّق بما يُحكَى من العقوبات الإلهية النازلة على مدن فاسدة وأشخاص ظالمة، وانظر إلى الحق كيف يُنصر» (ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (١)، ص٤٣٨–٤٤٠).
٢٠٣  فصل في المبدأ والمعاد وبقول مجمل وفى الإلهامات والدعوات المستجابة والعقوبات السماوية وسائر الأحوال ومنها الكلام على التنجيم ومنها الكلام على القضاء والقدر، ابن سينا، النجاة، ص٢٩٩–٣٠٣.
٢٠٤  ابن سينا، سر القدر، جامع، ص٢٤٥–٢٤٩، وربما له رسالتان بنفس العنوان، الحكمة المشرقية، ص١–٢٥.
٢٠٥  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (٢)، ص٣٦٥-٣٦٦.
٢٠٦  السابق، ص٣٨٠-٣٨١، النجاة، ص٢٥٧-٢٥٨، الإلهيات (١)، ص٣٢٠٥، ٤٣٨-٤٣٩.
٢٠٧  وهو نفس موقف ليبنتز، ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (١)، ص٢٣–٢٥.
٢٠٨  ابن سينا، الجوهر النفيس، ص٢٧٢–٢٧٥، ٢٦٤-٢٦٥.
٢٠٩  وذلك مثل قول فولتير: لا حكمة دون حكيم، ولا صنعة دون صانع.
٢١٠  ولضلال بعض المتفلسفة يطلب سببها من العناصر كما يطلب أن يتخيل كل ما يقال في الحكمة. وكلا المطلبين محال، السابق، ص٢٧٣.
٢١١  وذلك مثل فشته وكانط. فصل في أقسام العلل وأحوالها، ابن سينا، النجاة، ص٢١١–٢١٣. وهو يعادل المقالة السادسة، الفصل الأول في إلهيات الشفاء.
٢١٢  «والغاية بما هي شيء فإنها تتقدم سائر العلل، وهي علة العلل في أنها علل وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر في الشيئية عن الغاية؛ وذلك لأن سائر العلل إنما تصير عللًا بالفعل لأجل الغاية وليست هي لأجل شيء آخر. وهي توجد أولًا نوعًا من الوجود فتصير العلل عللًا بالفعل. ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول والمحرك الأول في كل شيء هو الغاية» (ابن سينا، النجاة، ص٢١٢).
٢١٣  انظر دراستنا: التفكير الديني وازدواجية الشخصية، قضايا معاصرة ج١، في فكرنا المعاصر، دار الفكر العربي، ١٩٧٦م، ص١١١–١٢٧.
٢١٤  انظر دراستنا: الأيديولوجية والدين، السابق، ص١٢٨–١٤٦.
٢١٥  «وعلى ذكر الله تعالى بمَ يحيط العلم من المشار إليه باختلاف الإشارات والعبارات، أهو شيء يُلصق بالاعتقاد، أم هو مطلق لفظ بالاصطلاح، أم هو إيماء إلى صفة من الصفات مع الجهل بالموصوف، أم هو غير منسوب إلى شيء بعرفان» (التوحيدي، الهوامل والشوامل، ص٥٥). وأما سؤالك بمَ يحيط علم الخلق من المشار إليه بقولنا علم الله باختلاف الإشارات والعبارات مع سائر ما ذكرت فغير معترف بشيء منه، ولا يقول أحد إنه يحيط علمه بشيء من هذا، ولا يلصق به كما ذكرت ولا يعترف أيضًا بهذه النعوت به، السابق، ص٥٩.
٢١٦  «لمَ قال الناس لا خير في الشركة» (السابق، ص٦٤–٦٦). ما معنى قول الناس هذا من الله، وهذا بالله، وهذا إلى الله، وهذا على الله، وهذا من تدبير الله، وهذا بتدبير الله، وهذا بإرادة الله، وهذا بعلم الله؟
٢١٧  «إن جميع ما يُطلق على الله، تعالى ذكره، من هذه المعاني وما يُنسب إليه من الأفعال والأسماء والصفات إنما هو على المجاز والتسمُّح وليس يطابق شيء من حقائق ما نتعارفه بيننا بهذه الألفاظ شيئًا مما هناك» (السابق، ص١٠٨-١٠٩). ولستُ أُطلق شيئًا من هذه الحقائق في الله عز وجل إلا مجازًا فإني لا أقول إن لفعله ابتداء ولا نهاية ولا له استعانة بشيء فنطلق عليه الباء، أعني أن ما يقال هذا بتدبير الله ولا تدبير هناك ولا حاجة به إلى هذا الفعل ولا غيره. وكذلك أقول في سائر الأفعال المنسوبة إليه، وكذلك أقول في الأسماء والصفات التي أطلقت رخص فيها صاحب الشريعة وإنما اتبع فيها الأثر، وامتثل باستعماله الأمر، وإلا فمَن ذا الذي يطلق حقيقة الرحمن الرحيم وغيرهما من الأوصاف على الباري المتعالي عن الانفعالات. وإنما الرحمة انفعال للنفس تصدر بحسبها أفعال محمودة بيننا. وليس هنالك شيء من هذه المعاني والحقائق ولكن لما كان الإنسان قدير الجهد والوسع ليس عليه ما لا يفي به تعالى كمثل السميع العليم والجبار العزيز وأشباهها. وأنا أعتقد أن الشرع خاصة أطلق لنا هذه الأسماء والصفات. ولو خلينا ورأينا بشيء من هذه الأسماء والأفعال والحروف منسوبة إلى الله تعالى نظرنا فيه: فإن كان مطلقًا في الشريعة أطلقناه ثم تأملنا مراد قائله فإن كان خيرًا وحكمة وعدلًا تركناه ورأيه. وإن لم يكن كذلك ولا لائقًا بإضافة إليه أبطلناه وزيفناه وكذَّبنا قائله ونزَّهنا بارئَنا الواحد المنزه المتعالي عن هذه الأوصاف الباطلة، السابق، ص١٠٩-١١٠ «لمَ إذا أبصر الإنسان صورةً حسنة أو سَمِع نفحة رخيمة، قال: والله ما رأيت مثل هذا قط، ولا سمعت مثل هذا قط. وقد علم أنه سمع أطيب من ذاك وأبصر أحسن من ذاك. أما بحسب اللغة أو مقتضى اللغة فهو غير حانث ولا مخطئ؛ لأن شيئًا لا يماثل شيئًا بالإطلاق. فأما من جهة أخرى وهي جهة طبيعية فإن الحس سيال. فقول الإنسان حسب الحاضر وحضور الذكر أو غيبته …» السابق، ص١٣٩.
٢١٨  وهذا هو الذي يسمى في الغرب الحديث Psycho-linguistics.