سابعًا: نظرية القِدَم
إذا كان الكِنْدي فيلسوف الخلق، وإخوان الصفا والفارابي وابن سينا فلاسفة الفيض، فإن الرازي الطبيب هو فيلسوف القِدَم. أما ابن رشد فإنه يضعه مجرد احتمال اختاره بعض الفلاسفة تفاديًا لعيوب الخلق مثل احتمال الخلق وعلى محلٍّ جدلي بحجج عقلية ونقلية مشهورة دفاعًا عن الفلسفة ضد هجوم الغزالي عليها.
لم يَقُل ابن رشد إذن بقِدَم العالم إلا على ثلاثة أنحاء. الأول بيان أنه احتمال وارد في علم العقائد، وأن الخلق بالمعنى الأشعري ليس هو الاحتمال الوحيد، وأنه يمكن إيجاد براهين عقلية ونقلية على القِدَم. يقول ابن رشد هنا بقِدَم العالم كقول جدلي في مقابل قول جدلي آخر وليس قولًا برهانيًّا. والثاني دفاعًا عن الفلاسفة ضد الغزالي، وأن القول بالقِدَم ليس أقل احتمالًا من القول بالحدوث، وأن القول بالحدوث ليس أقل عرضة للنقد من القول بالقِدَم. وهو أيضًا قول جدلي وليس قولًا برهانيًّا. والثالث دفاعًا عن أرسطو؛ لأن القول بأزلية العالم كان مجرد مثل يُضرب في المنطق بالنسبة للمقدمات المشهورة والذائعة، وقسمة المقدمات إلى خلقية وطبيعية ومنطقية، والطبيعية مثل قولنا هل العالم أزلي أم لا. وهو ما لاحظه الفارابي من قبل في «الجمع بين رأيَي الحكيمَين».
ويقوم هذا الاختيار على التصور الواحدي للعالم، أننا أمام عالم واحد طبيعي إلهي أو إلهي طبيعي. وهو نفس اختيار أصحاب الطبائع من المعتزلة، معمر وثمامة والجاحظ والنظام وهو نفس اختيار الصوفية القائلين بوحدة الوجود «سبحان الذي خلق الأشياء وهو عينها» كما قال ابن عربي في توحيده بين الحق والخلق. وربما هو المغزى من الرواية المنقولة عن المقابلة العرضية بين ابن رشد حين قال عن ابن عربي «إنه يشاهد ما أعلم» وقول ابن عربي عن ابن رشد «إنه يعلم ما أشاهد».
(١) القدماء الخمسة
هذه القدماء الخمسة هي: الباري، النفس الكلية، الهيولى الأولى، المكان والزمان المطلقان. وهو تنويع على نظرية الفيض ومراتبها الأربعة بعد إسقاط العقل وزيادة المكان والزمان. وهي اضطرارية؛ لأن القِدَم والضرورة متلازمان. ويعني الاضطرار هنا اضطرار الفيض؛ فالقِدَم قراءة توحيدية له. ويظل السؤال كيف يكون الله والنفس اضطرارَين لو كانت الهيولى والمكان والزمان اضطرارية؟ أليست أفعال الله والنفس أفعالًا حرة؟
وهناك تمييز في القدماء الأربعة باستثناء الله بين المطلق والنسبي، النفس الكلية والنفس الجزئية، الهيولى الأولى والهيولى الثنائية، المكان والزمان المطلقان في مقابل الزمان والمكان النسبيَّين. المطلق قديم والنسبي محدث. وهو حلٌّ أصولي يقوم على التمييز بين العام والخاص.
والفرق بين القِدَم والفيض أن القِدَم يضع القدماء الخمسة على نفس المستوى، الله والنفس والهيولى والمكان والزمان في حين أنها في الفيض على التوالي، الله ثم العقل ثم النفس ثم المادة.
وتتبع النفس الله لأنها من كيفية واحدة. ويتبع المكان والزمان الهيولى؛ لأن الهيولى متصورة بالتركيب. ولما كانت متمكنة فهي في حاجة إلى مكان. واختلاف الأحوال عليها يقتضي الزمان. فالزمان هنا آخر يقين في القدماء الخمسة، المتأخر والمتقدم، الأحدث والأقدم. وأحيانًا يكون الترتيب على نحو تصاعدي: الهيولى، والزمان، والمكان، والنفس، والباري. النفس والعقل من مستلزمات الوجود الحسي. فهل تُشبه النفس الكلية العقل في الفيض أو العقل الكلي عند ابن رشد؟ وكيف يأتي المكان قبل الزمان، والزمان له أولوية على المكان وأقرب إلى النفس؟
(٢) هل العالم قديم؟
وفي نفس الوقت الذي يُروَى فيه عن الرازي القول بالقدماء الخمسة يظهر نقدُ الرازي لقِدَم العالم. وتبدو حججُه على حدوثه أشبه بأدلة المتكلمين على دلالة الصنع على الصانع، والإتقان على الحكمة والتدبير والعلم، وكأن الرازي يجمع، لو صحت الرواية، بين القِدَم والعناية، ويُنكر فقط الخلق من عدم. وهو احتمال لا يستبعده ابن رشد ويجده متفقًا مع العقل والنقل. كما يرفض الرازي أدلةَ قِدَم العالم عند أرسطو، قِدَم الحركة بإثبات قِدَم المحرك الأول؛ لأن الجسم والمحرك حادثان. العالم يصدر عن صانع حكيم إما بالطبع أو بالإرادة. وعند الفلاسفة الطبع أكثر تنزيهًا من الإرادة التي غلبت. كان قصد الرازي مخالفة أرسطو كما لاحظ ابن سينا وابن رشد. كما يقول بتناهي الحركات وحدوث الزمان والأجسام وتناهي العالم وحدوثه. ويردُّ على مَن قال بقِدَمها ولا تناهيها. وقِدَم الهيولى لا ينفي الخلق بل هو أحد تصورات الإبداع دفعة واحدة لا بالتركيب الواقع، أن العالم تركيبٌ من تلك الأمهات التي هي الهيولى المطلقة. فقد ركب الباري العناصر الخمسة منها (الأربعة والأفلاك). كما أن قِدَم النفس الكلية واشتياقها إلى الهيولى وهبوطها فيها وتشبُّثها برهانٌ قاطع على حدوث العالم. فالعالم نتيجة تعلُّق النفس بالهيولى وتصورها فيها. القِدَم يضاف إلى الاشتياق، العلم مضاف إليه التصوف.
لم يَعِش التصور الواحدي للعالم طويلًا، واستبعد منذ البداية سواء في علم أصول الدين أو في علوم الحكمة. لذلك لم يحفظ التاريخ مؤلفات أصحاب الطبائع من المعتزلة، معمر وثمامة والجاحظ والنظام، وابن الراوندي والرازي. ولم تبقَ إلا الردود عليهم. فالدولة أقوى من خصومها. ومؤرخو السلطان لا يُدوِّنون التاريخ إلا تدعيمًا للصراع السياسي، ودفاعًا عن النُّظم السياسية وإضفاء الشرعية عليها.
يبدو الرازي أحيانًا من أنصار التصور الثنائي للعالم بالرغم مما نُقل عنه من القول بالقدماء الخمسة. يرفض الرازي أن يكون الدليل على وجود الطبيعة أفعالها وقواها المنبثقة في العالم الموجبة للأفعال. ووضع دليلًا بديلًا يُثبت به حدوث العالم عن طريق العناية الإلهية والتدبير الإلهي كما هو الحال عند ابن رشد. ويعطي الرازي أدلة تُثبت أن الطبيعة لها مدبر، مثل: كيف تؤدي الطبيعة إلى فعلين متضادَّين، حركة وسكون في آنٍ واحد؟ وإذا كانت الطبيعة لا تخترع الأجسام لأنه غير معقول يكون الله قادرًا على ذلك وهو الحي القادر. إذن العالم يصدر عن صانع حكيم إما بالطبع أو بالإرادة، وعند الفلاسفة الطبع أكثر تنزيهًا من الإرادة التي غلب عليها التصور الأشعري، فالله صانع قادر رحيم بالطبع مما يؤدي في النهاية إلى التمايز عن نظرية الخلق المادة إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
القول بالجواهر الخمسة القديمة حتى ولو صحَّت الرواية عند الرازي لا يعني قِدَم العالم. هي قديمة والعالم محدث، ولا تعارض بين الاثنين.
يبدو أن الرازي يرفض المفهومَين المتعارضَين للطبيعة: الأول أن لها حكمةً وغاية لإفساح المجال لإثبات وجود الله كائنًا حيًّا مريدًا عاقلًا. والثاني أنها غير حكيمة ولا قصد لها؛ لأن ذلك ضد الحكمة الإلهية. كما يرفض أن تكون الطبيعة فوق الفلك أو دونه. كما يرفض القول بأن العالم واحد، عنصر لا نهاية له لغياب العلة، وحجة الفلاسفة أنه لا تثبت سنبلة في صحراء واسعة تقوم على عدم التمايز بين الأشياء، وتفترض أن العالم واحد. وما المانع في وجود عوالم لا نهاية لها وراء الخلاء؟
ولكن هل يمكن تجاوز نظرية القِدَم؟ يمكن للعالم الطبيعي والفيلسوف الطبيعي أن ينتهيَا إلى أن قِدَم العالم يقضي على كل ثنائيات الخلق المتقطعة، وثنائيات الفيض المتواصلة إلى وحدة العالم الطبيعي والقضاء على كل مظاهر الاغتراب فيه ومنه. فالعالم عالم واحد، يبحث العالم الطبيعي فيه لمعرفة قوانينه. والعمل فيه اعتمادًا على الذات، والخلود فيه بالذكرى والعمل الصالح دون ما حاجة إلى ازدواجية الفكر والسلوك والتي تؤدي إلى النفاق والرياء.
يمكن تطوير نظرية القِدَم، ونقل القدماء الخمسة من الطبيعة الكونية إلى العلوم الاجتماعية. فالهيولى الأولى تصبح الشعب أو الأمة، والزمان هو التاريخ، والمكان الأرض والحركة التقدم، والنفس الوعي، والباري الثقافة. وبالتالي تتحول الطبيعيات الإلهية أو الإلهيات الطبيعية إلى إنسانيات صريحة بعيدًا عن التكلس والتحجر، عودًا إلى علم العقائد القديم.
- (أ)
الكعبي رئيس معتزلة بغداد (٣١٩ﻫ).
- (ب)
الفارابي (٣٣٩ﻫ): كتاب الرد على الرازي في العلم الإلهي.
- (جـ)
ابن الهيثم (٤٣٠ﻫ) نقض على أبي بكر الرازي المتطبب رأيه في الإلهيات والنبوات.
- (د)
ابن حزم (٤٥٦ﻫ) كتاب التحقيق في نقض كتاب العلم الإلهي لمحمد بن زكريا الطبيب.
- (هـ)
ابن رضوان الطبيب المصري (٤٦٠ﻫ): الرد على الرازي في العلم الإلهي وإثبات الرب.
- (و)
ناصر خسرو (٤٨١ﻫ) رد عليه في «زاد المسافر» و«بستان العقل».
- (ز)
ابن ميمون (٦٠١ﻫ) نقد الرازي في أحد فصول «دلالة الحائرين»، وأشار إليه في رسالة إلى شموئيل بن يهوذا بن طيفون مترجم الكتاب إلى العبرية. «وضاع الأصل العربي وبقيت الترجمة العبرية وبها عبارة من كتاب العلم الإلهي الذي ألفه الرازي هو له، إلا أنه عديم الفائدة؛ لأن الرازي كان طبيبًا فقط».