من النقل إلى الإبداع (المجلد الثالث الإبداع): (٢) الحكمة النظرية: المنطق – الطبيعيات والإلهيات – النفس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

خامسًا: النفس الخالدة

والنفس الخالدة هي النفس الإلهية بعد تميزها عن البدن وارتقائها من الحس إلى العقل إلى الإرادة. ومن الطبيعي أن تكون خاتمة الإلهيات في النفس وبدايتها الأخلاق في النفس.

وتشمل النفس الخالدة قسمان: الأول البراهين على خلود النفس وتميزه عن البدن. والثاني أمور المعاد وإثبات البعث والملائكة والعرش واللوح والقلم.

(١) خلود النفس

وقد أثبت الحكماء خلود النفس وتميزها عن البدن بعدة براهين ذائعة ومشهورة عند الكِنْدي وإخوان الصفا وابن سينا بالرغم من اتهام الرازي بالقول بتناسخ الأرواح.

(أ) النوم والرؤيا (الكِنْدي)

ولا تظهر النفس الإلهية كثيرًا عند الكِنْدي. فالتباعد بين الله والنفس يجعل الكِنْدي ممثلًا للفلسفة العلمية بعيدًا عن الإشراق بالرغم من رسالة ماهية النوم والرؤيا، ودور الخيال في الاتصال بالعقل الفعال. ويدل ارتباط العقل بماهية النوم والرؤيا على التصاقهما معًا، وظهور «الفنطاسيا» كأداة للمعرفة الإشراقية. وتبدو لغة الاتحاد والاتصال دون نظرية إشراقية متكاملة.

ويظهر الدين صراحة في رسالة «ماهية النوم والرؤيا» في إضافة الرؤيا إلى النوم وليس إلى اليقظة كما فعل أرسطو. الموضوع إسلامي واللفظان قرآنيان شائعان من سورة يوسف مثل باقي موضوعات الرسائل الفلسفية الأقرب إلى الإسلامية منها إلى اليونانية.

وتقدمة المعرفة هي معرفة الأشياء قبل وقوعها وارتباط ذلك بالتنبؤ والنبوة والرؤيا. فالنفس ترمز بالأشياء قبل كونها وتنبئها بأعيانها. الرمز تمثل في اليقظة، وقد كان شائعًا في الثقافات القديمة. ويحاول الكِنْدي في النصف الثاني من الرسالة الإجابة على أربعة أسئلة: لماذا نرى الأشياء قبل كونها؟ لماذا نرى أشياء بتأويل أشياء دالة على أشياء قبل كونها؟ لماذا نرى أشياء بتأويل أضدادها؟ لماذا نرى أشياء فلا تقع ولا يمكننا تأويلها ولا تقع أضدادها بتة؟

والفانطاسيا أو التوهم قوة ما بين القوتين الحسية والعقلية أو القوة المصورة. فالحس يدرك صور الأشياء محمولة في مادتها ولكن الصورة تدرك صور الأشياء كما هي دون مادتها ومع غيبة حاملها المادي في الحس الظاهر.١ القوة الحسية تعمل في اليقظة. والمصورة تعمل في النوم واليقظة معًا. والاستغراق في الفكر يجعل الإنسان أكثر تجردًا من الحس وأكثر قربًا من الصورة، وهم الخاصة في مقابل العامة. والقوة المصورة تدرك النفس المجردة بواسطة الدماغ (المخ مباشرة) أي المركز العصبي. القوة الحسية ناقصة، والقوة المصورة كاملة. فصور النفس أكمل من صور اليقظة. والآلة الأولى معرضة للقوة والضعف. لذلك كنت أنقص من الآلات الثانية.

وقد يوحي هذا التحليل بتصور بيولوجي فزيولوجي للنفس الطبيعية ولكنه في الحقيقة بداية علمية من أجل إفساح المجال للوحي والنبوة، وهو البعد الجديد للحضارة الإسلامية، الوحي في صياغته العلمية وبيئته الثقافية القديمة. وبالرغم من أن لفظ «فانطاسيا» تعريب عن اليونانية إلا أنه لا شأن له باليونان من حيث المعنى. وهو أقرب إلى نظرية في الخيال.

وينتهي الكِنْدي إلى تحديد العلاقة بين قوة الذات ورؤية الموضوع في صيغة قوانين علمية على النحو الآتي:
  • (١)

    إن كانت النفس قوية على قبول الرمز الصادق فهي الرؤية الرمزية الصادقة.

  • (٢)

    إن كانت الآلة ضعيفة على قبول الرمز جاءت الرؤية مضادة مثل رؤية الميت وقد طالت مدته.

  • (٣)
    وإن ضعفت أكثر كانت الرؤية لا نظم لها، مجرد خليط، أضغاث أحلام. كما يحدد الكِنْدي العلاقة بين رؤية الموضوع ومنطق البرهان على النحو الآتي:
    • (أ)

      الرؤية المنبثة في أعيان الأشياء كالفكر الصحيح الذي يبدأ بمقدمات صادقة تؤدي إلى الحقائق.

    • (ب)

      الرؤيا الرمزية كالفكر الظني، مرة مطابق للحقيقة ومرة مخالف لها.

    • (جـ)

      الرؤيا الكاذبة التي تنبئ بالضد كالفكر الذي يسير على مقدمات غير صادقة فتؤدي إلى ضد الحق.

    • (د)

      الرؤيا كأضغاث أحلام كالفكر المختلط، سقط الكلام ونكس القول.

(ب) تناسخ الأرواح (الرازي)

وضد ثنائية النفس والبدن، والدنيا والآخرة، والفناء والبقاء اتُّهم الرازي بالقول بتناسخ الأرواح.٢ ولا يوجد في نصوص الرازي ما يؤيد هذا الاتهام إلا في نص «السيرة الذاتية» في معرض الدفاع عن سقراط وعن نفسه وعن شخص الفيلسوف سواء كان هذا أو ذاك أو عن نمط مثالي للفيلسوف. ويبدو أنها قصة مقحمة إما عن سوء نية لتشويه آراء الرازي أو عن حسن نية. وقد هوجم الرازي لثلاثة آراء: القول بالقدماء الخمسة، والقول بالعقل وإنكار النبوات، والقول بتناسخ الأرواح. وهو نسق واحد. فالعلاقة بين إنكار النبوات وتناسخ الأرواح علاقة المعلول بالعلة. إذ ينتج إنكار النبوات من تناسخ الأرواح دون تفرقة بين نبوة صادقة ونبوة كاذبة. والقول بالقدماء الخمسة ردُّ فعل على ثنائيات الله والعالم، النفس والبدن، الوحي والعقل، المرسل والمرسل إليه. قد يكون ذلك أثر الفكر العلمي الدائري على الفكر الديني الطولي، أثر الطب على الحكمة، والعلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية، وإعطاء الأولوية للسماء على الأرض.
ويرفض الفارابي القول بتناسخ الأرواح. فالنفس الإنسانية حادثة ومخلوقة في البدن. ولا توجد النفس قبل البدن وتكرارها على أبدان كثيرة ثم مفارقة النفس للبدن والعودة إليه.٣

(ﺟ) إثبات خلود النفس (إخوان الصفا)

ويركز إخوان الصفا على إثبات وجود النفس ضد منكريه. فمن ضمن الخطابات الخمسة الموجهة في الدعوة إلى الله خطاب إلى المشاركين في أمر النفس المتحيرين في أقاويل العلماء فيها. وهو أطولها مما يدل على أهمية موضوع النفس عند الإخوان. فمَن هم هؤلاء الذين يشكون في أمر النفس ويتحيرون في أقاويل العلماء فيها، من الداخل أم من الخارج، من الموروث أم من الوافد؟ ربما يكون ردًّا على جالينوس في قوله إنه لا يدري ما جوهر النفس باعتباره طبيبًا وليس حكيمًا. وربما هو قول مشابه من الداخل ليس أعلم من جالينوس عبَّر عنه القرآن وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. وهي إجابة أقرب إلى روح العلم الذي لا يتطرق إلى ما هو خارج موضوعه ومنهجه. يخاطب الإخوان أهل العلم الفاضلين عن أمر النفس والمعرضين عن معرفة جوهره دون تحديد لهم، هل هم بعض العلماء الذين يعتبرون النفس خارج موضوع العلم؟ كما أن اختلاف آراء الفلاسفة ليس عيبًا أو قدحًا فيهم. فالحوار والمراجعة والتحقق هو السبيل لحل الخلاف في مسائل اجتهادية ظنية. واختلاف الأئمة رحمة بينهم، وشرعية الخلاف حق مكفول. الكل راد، والكل مردود عليه.٤
ويمكن رصد حجج المنكرين للنفس والردود عليها على النحو الآتي:
  • (أ)

    الجسد هو المحسوس، وما غاب عن الحواس لا يمكن معرفته. والرد عليها أنه يمكن ردها إلى المحسوس قياسًا للغائب على الشاهد بالرغم مما في هذه الحجة من ضعف نظري لاختلاف المستويَين بين المادي والمعنوي.

  • (ب)
    الإحساس بوجود الذات والإنسان ولا يعلم عن نفسه شيئًا. والرد على ذلك أن هذه تجربة وجود لا تُثبت أو تنفي جوهرًا مستقلًّا.٥
ويعطي الإخوان أدلة عديدة على وجود النفس وإثبات جوهريتها. على النحو الآتي:
  • (أ)

    النفس مع الجسد جوهر آخر ملبوس. وهو دليل ضعيف أقرب إلى الصورة والمثل منه إلى الدليل المنطقي البرهاني.

  • (ب)
    تجربة النوم واليقظة التي تُثبت وجود وحدة للحياة في كلتا الحالتين وهو دليل أقوى خاصة في أحلام النوم واليقظة.٦
  • (جـ)

    معرفة الماضي والمستقبل وليس فقط الحاضر عن طريق الحواس مما يدل على امتداد النفس عبر الزمان والتغير.

  • (د)
    معرفة الباري ذاتًا وصفاتًا عن طريق معرفة النفس، فالله حال في النفس.٧ لذلك روى القدماء «مَن عرف نفسه فقد عرف ربَّه» تحويلًا لسقراط من المستوى الأفقي إلى المستوى الرأسي.
  • (هـ)
    النفس أقرب الأشياء إلى الإنسان، إدراك الذات قبل معرفة الغير. وإدراك الذات بهيمية لا تحتاج إلى إثبات. لذلك قال سقراط «اعرف نفسك بنفسك».٨
ولأن قومًا من أهل الجدل يُنكر النفس يستطرد الإخوان من جديد لبيان جوهر النفس. ويقدمون دليلَين جديدَين. الأول: أن بدن الحيوان له جوهر ولكن في حالة الموت تفقد الجثةُ كلَّ شيء. والدليل ليس فزيولوجيًّا، بل لأن الحيوان غير مسئول، لا حساب ولا عقاب. والثاني: بكاء الناس على موتاهم وحزنهم على فراق النفوس، وهو حزن على الإنس والوجود والعمل والمشاركة والرؤية، وليس على النفس ولا على البدن، بل إن أحدًا لا يرى البدن لأنه يتحلل. وقد يفترض المادي بأن النفس في الدماغ لأن الفكر لا يكون إلا بوسط الدماغ. والرد على ذلك أن فعال النفس لا تحتاج إلى آلات مثل المنامات ولكن فعلها حرة لا تحتاج فيها إلى أدوات جسدانية ولا آلات جسمانية وهي رؤيتها في المنامات.٩ ويحاور الإخوان منكري وجود النفس والمنامات ورؤية الله. فالإنسان ليس هو هذا المشار إليه، أي الجسد كما يقول أحد المتكلمين، وليس صاحب بنية مخصوصة أو مزاج معلوم أو تأليف ما. فهناك اختلافات بين البشر ترجع إلى النفس وليس إلى البدن. فالنفس هي الروح التي تعطي الإنسان فرديته ومسئوليته. والجدل إنكار ومحاجة وليس برهانًا يؤدي إلى إنكار العقل والبداهات.١٠
وتتطلب معرفة النفس سبعة مباحث هي:
  • (أ)

    ما الغرض من كونها مع الجسد ثم مفارقته؟ وهو موضوع أن الإنسان عالم صغير.

  • (ب)

    أين تكون بعد المفارقة؟ وهو موضوع البعث والقيامة.

  • (جـ)

    أين كانت قبل رباطها؟ وهو موضوع مسقط النطفة.

  • (د)

    ما كيفية رباط النفس مع الجسد؟ وهو موضوع رسالة تركيب الجسد.

  • (هـ)

    كم أجناس النفوس في العالم؟ وهو موضوع العالم إنسان كبير.

  • (و)

    هل النفس عرض؟

  • (ز)

    هل النفس شيء؟ وهو موضوع رسالة البرهان.

ويجيب الإخوان على هذه الأسئلة السبعة في رسائل سبع مما يدل على مركزية موضوع النفس عند الإخوان. وتقوم الأسئلة والأجوبة على تصور ثنائي تقليدي، ثنائية النفس والبدن وتمايزها، وبقاء النفس بعد فناء البدن ووجودها قبله، واستعمال بعض الألفاظ الشيئية مثل ربط وحل، وربما سيادة التصور المسيحي لخطيئة السقوط بجناية أولى في عالم الأرواح مما يُبرر الخلاص بالمسيح أو بالرسل أو بالنبوات.١١ ومع ذلك فالنفس تعشق الجسد كما تعشق المرأة الرجل.

وتقوم هذه الأسئلة والأجوبة على تصورات مسبقة تقليدية، ثنائية النفس والبدن، بعض المصطلحات المسيحية مثل اللاهوت والناسوت نظرًا لارتباط الإخوان بتاريخ الأديان، الخطاب الأخلاقي المليء بالمواعظ.

وبعد إثبات وجود النفس يُثبت الإخوان خلودها كما هو الحال في رسالة «في بيان اعتقاد إخوان الصفا ومذهب الربانيين». وهي رسالة بسيطة عادية لا تميزهم بشيء. فخلود النفس معروف عند جميع المتكلمين والفلاسفة والصوفية وفي كل الديانات والملل. تبدو فيها النزعة الفردية الإشراقية القائمة على الثنائية المتطهرة وضرورة اغتراب الفرد عن الجماعة حتى يمكن أن يصل إلى المعرفة والسعادة كما يصف ابن باجه بعد ذلك في «النوابت».

النفس جوهر سماوي نوراني حي، علاقة فعالة حساسة ودراكة لا تموت بل تبقى مؤيدة ملتذة متألمة.١٢ ولا يعطي الإخوان براهين عقلية وأدلة منطقية على خلود النفس كما هو الحال عند ابن سينا.١٣ وكلها تشبيهات وقصص وتأويلات ورموز أكثر تأثيرًا وأقوى إقناعًا، مثل الدعوة إلى ركوب سفينة نوح مع الإخوان وهي سفينة النجاة، وصورة الملابس البيضاء فوق بدن وَسِخ؛ دم وبول وغائط وقاذورات، مما يستدعي تنظيف البدن أولًا ضد النفاق واختلاف الباطن عن الظاهر. وهو أسلوب شعبي أدبي مؤثر في حياة الناس، يجذب الناس إلى قراءة الرسائل وتبنِّي مواقفها ورؤيتها.١٤ ويصور الإخوان في قصة شعبية حال بقاء النفس مع البدن وفراقها له. بها ظاهر وباطن مثل موسى والخضر، والرؤيا درجة من درجات النبوة، والتعاون في الدنيا والفرار إلى الآخرة مثل رسالة الطير لابن سينا.١٥
ويؤوِّل الإخوان كلَّ العادات الشعبية والتاريخ المحلي لإثبات خلود النفس. فالجهاد والشهادة تعنيان تخليص النفس من البدن ومن ثَم يكون العدو الأعظم هو الجرمانية أي المادية التي تقول بالجرم أي بالمادة والجسم. وهو معنى الحديث الذي يُشكك في صحته المعاصرون، الرجوع من الجهاد الأكبر جهاد العدو إلى الجهاد الأصغر جهاد النفس. والبكاء على الموتى ليس على الجسد الموجود بل على الروح المفارقة. ويفسر الإخوان عديدًا من الممارسات الاجتماعية ومراسيم وطقوس الموت بناء على خلود النفس، مثل زيارة قبور الصالحين والأولياء والخيار لطلب الغفران واستجابة الدعاء. وهي أقرب إلى العادات الشعبية لا تُثبت فناء البدن أو خلود النفس.١٦
ويشير الإخوان إلى حكماء الهند الذين يقولون بإماتة البدن لإحياء النفس، وحرق الأبدان لخلاص النفوس مع أن الإسلام يحترم الأبدان، صحة وعافية وقوة في الحياة، وغسلًا وكفنًا وطيبًا في الموت. وماذا عن جمال البدن الإنساني؟ وهل يتطلب بقاء النفس وصلاحها التمثيل بالبدن؟١٧
ويعيد الإخوان قراءة تاريخ الأديان كله من منظور نفسي لإثبات خلود النفس، تأويل موسى وعيسى كبقاء النفس. فقد نقد السيد المسيح اليهود بأنهم ركنوا إلى الدنيا والبدن، وتركوا الآخرة والروح؛ فالمسيح قام بالخلاص، خلص النفس من البدن. ويستشهد الإخوان بكثير من أقول السيد المسيح من الإنجيل، لا فرق بين صحيح وموضوع فكلها أناجيل منتحلة أي إبداعية خلقها الوعي المسيحي للجماعة الأولى.١٨

وتذكر نصوص حرة للأناجيل لأن الأناجيل كذلك ولأن كل استشهاد بنص كذلك. والقرآن نفسه قص على لسان الأنبياء لإعادة بناء الموقف وليس رواية تاريخية صرفة.

وتدل معجزات السيد المسيح على خلاص الروح من البدن وليس إزاحة علل الأبدان. وهي معجزات عند الحواريين أيضًا. والمسيح يُصلَب من جديد عشرات المرات من أجل تطهير النفس وخلاصها من البدن. فالصلب يعني خلاص اللاهوت من الناسوت.١٩ واستشهاد علي واستشهاد الحسين أيضًا لنفس الغاية. ويستعمل الإخوان قصص الأنبياء للدلالة على أن البشرية في سجن وقد آن الأوان للخلاص. كانت البشرية نيامًا في كهف آدم وهي الجنة ثم خرجت منها مما يدل على أن الشيطان له دور إيجابي. وقد آن الأوان للعودة، وهي أسطورة السقوط والخلاص، الذهاب والإياب في المسيحية. ويُؤوِّل تاريخ الأنبياء كله على أنه تاريخ النجاة، سفينة نوح، موسى وفرعون … إلخ.٢٠
وتتم قراءة الفلسفة اليونانية كلها أيضًا لإثبات خلود النفس خاصة أفلاطون. فالخلاص بالموت لتحرير النفس، والفلسفة تعلم الموت. وهذه دلالة أسطورة الكهف وهيكل عاذيمون لرؤية الأفلاك والعراج إلى السماء. وتتم قراءة سقراط وفيثاغورس وأرسطو لنفس الغرض، أرسطو المنتحل الإشراقي لا فرق بين فلاسفة اليونان وأنبياء القرآن، أفلاطون وآدم.٢١
كما تتم قراءة الفلسفة الشرقية، فارس والهند أيضًا لإثبات خلود النفس. فظلمة أهرمن لرؤية النيروان وإشراق النور منه في مسخة فريمون. وتُروَى حكاية عن فارسي حكيم وزير خيشوان، ملك الهياطلة في مواجهة فيروز ملك الفرس وخدعة الحكيم بالتضحية بالبدن، قطع الأيدي والأرجل، خداعًا لفيروز، والتشفية في الصحراء، وقبول الصلح والإذعان؛ لأن خيشوان قطعه لأنه نصح بالصلح.٢٢

وكل قراءة تأويل. والحقيقة لقد نقد المسيح ركون اليهود إلى البدن والعالم ليس لتقتيل البدن أو للزهد في الدنيا بل لإيجاد التعادل بين النفس والبدن، بين الدنيا والآخرة طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل حتى أتى الإسلام فحقق التوازن بين العالمَين. ولا توجد نصوص مضبوطة اعتمد عليها الإخوان بل كلها قَصٌّ فنيٌّ من الآدب الشعبية. ولا يهم الإخوان التحريف في المسيحية والانحراف في العقائد والتبديل فيها فتلك نظرة فقهية كلامية، ما يهم هو مدى انفتاح الحضارة الإسلامية في القرن الثالث على تاريخ الأديان شرقًا وغربًا.

والحقيقة أن التفكير في خلود النفس ينشأ في حالة اكتفاء البدن كما هو الحال عند اليونان. فالفلسفة والبحث عن الإشباع العقلي هو أحد مظاهر الأرسطقراطية، تحقيقًا لمطلبَي البدن والنفس، والزمان والخلود، المادة والصورة. وقد ينشأ تعويضًا عن مآسي البدن عند الفقراء والمغتربين والنوابت والمفلوكين من أجل أن يعيش الإنسان في الدنيا سعيدًا حتى ولو بالوهم والخيال. وهو الموقف الصوفي بعد أن عزَّت المقاومة الفعلية وانتهت إلى طريق مسدود، باستشهاد الأئمة وثبات الحكم الجائر. وتقوم على ثنائية متطهرة. إذا تعثر جانبٌ منها حدث التعويض في الجانب الآخر. وقد يكون هذا الموقف دائمًا لغياب بديل آخر، وقد يكون موقفًا حتى يقوى الحق وتعود المقاومة ويظهر الإمام. إذ لا تكفي المقاومة الروحية، وإنقاذ الذات دون العالم، بل يتحول الواقع إلى مثال كما يتحول المثال إلى واقع. وشهادة الناس يوم أحد حرب ومقاومة وليست إفناء للبدن وبقاء للنفس. كما أن غزوات الرسول جهاد وحرب وليست فناءً للبدن وخلاصًا للنفس. وشهادة الحسين لمقاومة الظلم وليست لخلاص النفس من البدن. وقد تساعد الثقافة الشعبية الفارسية الهندية القديمة والتي كانت الوعاء الثقافي للتجربة الصوفية. إذ تقوم الثقافة الإسلامية على الالتزام بالعالم والعمل فيه والتضحية بالنفس والاستشهاد دفاعًا عن الحق وليس الهروب منه أو التخلي عنه.

ويظل السؤال هو: هل خلود النفس في المكان أم في التاريخ، في الزمان المكاني أم في القلوب والذاكرة كنبراس للأجيال القادمة؟ فهناك عدة تساؤلات حول هذا الخلود الفردي المكاني الزماني. فأين تستقر النفوس الإنسانية في الأرض أم في البرزخ أم في السماء؟ وهل تنتظر منذ خلاصها من البدن إلى يوم البعث والنشور، وماذا تفعل في هذا الانتظار الطويل؟ هل تتغير وتزيد معارفها وتتذكر؟ هل هي جزئية فردية أم تصبح جزءًا من النفس الكلية على طريقة ابن رشد؟ هل تكون بمفرها أم مع غيرها، الأخيار مع الأخيار والأشرار مع الأشرار لو أمكن معرفة ذلك قبل صدور الحكم؟ هل تنفعل، تفرح وتتألم إذا رأت الأحباب أو الأعداء؟ هل تعيش في الزمان أم في الخلود؟ وهل هناك زمان قبل البعث وبعد مفارقة النفوس للأبدان؟ هل للنفوس وجود موضوعي يراها أصحاب طب الأرواح تتحقق على نحو مادي أم هي الوعي الذاتي الخالص الذي يبقى في الفرد والجماعة والتاريخ؟ ولماذا تعود الأجسام ذاتها على نحو مثالي إلا لاحترام البدن والفردية.

وتجنبًا لكل هذه التساؤلات الخلود هو استمرار الحياة بعد الموت وانتصار العدل على الظلم في عالم لا يُظلم فيه أحد. هو تحوُّل للوعي الفردي إلى وعْي جماعي، والإبداع الشخصي إلى إبداع حضاري. فبعد أن يوجد الإنسان في هذا العالم يمكن أن يخلد ويضمن استمراره في المستقبل بالعمل والإنتاج. فالخلود اكتساب وليس موهبة، حق مكتسب للفرد وليس هبة عامة للناس جميعًا بلا استحقاق، ممكن وليس ضروريًّا، في النهاية كنتيجة وليس في البداية كمقدمة، بالعمل والفعل والشهادة وليس بالدليل العقلي وثنائية النفس والبدن.

وقد اتفق الحكماء على أن النفس جوهرٌ خالد باقٍ. وقد يمنع اليقين في ذلك من الكدح في الدنيا. إنما تسعى النفس التي استبعدتها الشهوات الغالبة والعقيدة الرديئة والأفعال القبيحة والمعوقة لها إلى الصعود إلى معانق الفلك ومخارق النجوم، وعالم الأرواح، ومقعد الصدق، ومقام الأمن، ومحل الكرامة، ومراد الخلد، وبلد الأبد، ومعاني الصمد. فالدليل على خلود النفس دليلٌ عملي وليس دليلًا نظريًّا، السعي والكد والكدح في الدنيا لتحقيق بقائها في الدنيا والآخرة، في الحياة وبعد الموت.٢٣
ثنائية النفس والبدن مثل ثنائية الله والطين أو الله والعالم. لذلك احتاج البدن إلى الحياة عن طريق النفس. وتبقى النفس ولا يدخل عليها فسادٌ أو بِلًى في حين يبلَى الجسد ويفنى. وما دامت النفس ليست جسمًا ولا عرضًا فليس لها نفس لبساطتها. وتصل إلى جنة الخلد دون حاجة إلى علم العالم السفلي.٢٤
والنفس الجزئية مستمدة من النفس الكلية لا هي بعينها ولا منفصلة عنها. كما أن الجسد جزءٌ من جسد العالم لا هو كله ولا منفصل عنه.٢٥ وذلك مثل علاقة الوعي الفردي بالوعي العام أو الخلود الفردي بالخلود العام. والنظر في حال النفس بعد الممات مبنيٌّ على الظن والوهم أو قياس للغائب على الشاهد. ويمكن إثباته بالبرهان العقلي والاستدلال المنطقي بالإضافة إلى الإيماء الحسي. ففي كل محسوس ظلٌّ من المعقول وليس من كل معقول ظلٌّ من المحسوس. فالعقل خليفة الله في هذا العالم.
وقد تساءل القومسي: هل المعاد حقٌّ أو تواطؤ من الأقدمين؟ وأجاب بأن المعاد أثبتُ في النفس وأرسخ في العقل وأعلى بالذهن وليس راجعًا إلى التواطؤ والتشاعر أو مردودًا إلى مجرد الاصطلاح. وقد أتت به الكتب القديمة والأسفار الصحيحة والشرائع الصادقة. وبنيت عليه الأذهان الجديدة وشهدت له الفِطَر السليمة، ودَعت إليه العقول الراجحة. والنوم شاهد على المعاد. فالنوم هو الموتة الصغرى قبل الموتة الكبرى.٢٦

والإنسان جسد وروح، بدن ونفس. وأعلى رتبة في البدن سرير الملك. والفرد والسلطان على الأجساد. وأعلى رتبة في الروح الصفاء. في الدنيا الجسد سلطان، وفي الآخرة النفس سلطان. وكلاهما عقلية السلطان وأيديولوجية السلطة والغلبة.

والنفس أشرف العلوم؛ لأن بها لقاءَ الله في الدنيا والآخرة. وشرفُ العلم من شرف موضوعه. ومَن يدرس علم النفس ينَل السعادتَين في الدنيا والآخرة. والهدف من دراسة النفس أنها مصدر الخير والشر، تجعل العيب في الإنسان وليس في المجتمع.

ثم تتحول الأخلاق الفلسفية عن الفضائل، العفة والشجاعة والحكمة إلى الأخلاق الدينية، الإيمان والتوكل والإخلاص والصبر والقضاء والقدر والطاعة والخوف والرجاء والزهد، وهي مقامات الصوفية.

(د) براهين خلود النفس (ابن سينا)

وفي «رسالة في السعادة والحجج العشرة على أن النفس الإنسانية جوهرٌ، وأنها لا تقبل الفساد، وفي استمدادها من الفيض الإلهي، وفي أن الأجرام العلوية ذوات أنفس ناطقة، وفي أحوالها عند مفارقتها» يبدو ارتباط السعادة بالنفس، والأخلاق بالمعرفة. والعنوان طويل مقسم إلى قسمين الأول البداية بالجزء، والثاني إثبات أن النفس الإنسانية جوهر للدلالة على أن المقصود والنهائي هو استمدادها من الفيض الإلهي.

ويقدم ابن سينا عشر حجج على أن النفس جوهر، وهي: إدراك المعقولات، ليس لها محلٌّ، إدراك المتضادَّين، النفس فعل (إيجاب)، النفس انفعال (سلب)، في الزمان ضعف الأبدان وقوة النفس، طواعية البدن وممانعة النفس (اعتمادًا على علم النفس الطبيعي)، عدم مفارقة أجزاء الجسم للجسم ومفارقة النفس له، إدراك الصور الهندسية والعددية التي لا تنقسم، هي محل للعلم، تعقل ذاتها وغيرها. والنتيجة النهائية لهذه الحجج العشر أن النفس لا تقبل الفساد، وهي نتيجة متفقة مع الموروث النصي. لذلك جاء أسلوبها صوفيًّا وفي نفس الوقت عقلي يبغي الإيضاح.٢٧
والحديث عن النفس باعتبارها كيفًا وليست كمًّا، جوهرًا مفارقًا للبدن، ليس لها محلٌّ كأنها صورة مصغرة لله. ومن ثَم تتم معرفة الله قياسًا للغائب على الشاهد أي قياس الله على النفس.٢٨ وتدرك المعقولات وليست المحسوسات كما هو الحال في الاستقراء المعنوي عند الأصوليين خاصة الشاطبي. فالنفس حامل للمعاني. ويظهر لفظ الإنسان صراحة وكأن النفس ما هي إلا صورة مصغرة للإنسان.

ويستعمل ابن سينا عدة براهين على تميز النفس عن البدن كمقدمة لإثبات خلودها. فليس شيء من أجزاء البدن يجمع هذه الإدراكات والأفعال. فالأُذُن لا تسمع والعين لا تُبصر، ولكن النفس هي مجموع هذه الإدراكات والأفاعيل الإلهية. وقد يكون هذا دورًا: إثبات مفارقة النفس وتمايزها عن البدن بالمعارف الإلهية، وإثبات المعارف الإلهية بإشراق النفس. تعتمد النتيجة على المقدمة ثم تعتمد على النتيجة.

والإنسان يرى في نومه، ويسمع أشياء، ويُدرك الغيب في المنامات الصادقة. وهو برهان على أن جوهر النفس لا يحتاج إلى البدن. فإذا كان كاملًا بالعلم والحكمة والعمل الصالح، انجذب إلى الأنوار الإلهية وأنوار الملائكة، وفاضت عليه السكينة وحققت له الطمأنينة، ويشاهد النعيم الذي خلقه الله في السموات من الحور العين، مرتبة المتوسطين. وقد اتفقت على صحة أحوال الأرواح البشرية بعد المفارقة عن الأجسام والمهاجرة إلى دار الآخرة والوحي الإلهي والآراء الحكمية، لا فرق بين دين فلسفة.٢٩
والعلم الإلهي أحد أدلة خلود النفس ومعادها. وهو الدليل الذي يذكره الفلاسفة في المعاد الروحاني. يُثبت ابن سينا جوهرًا عقليًّا مفارقًا للأجسام، يقوم للنفوس البشرية مقام الضوء للبصر ومقام الينبوع. إذا فارقت النفوس الأجسام اتحدت به. والجوهر العقلي في الأطفال خالٍ من كل صورة عقلية توجد فيه المعقولات البديهية من غير تعلُّم ولا تروية، بالتجربة أو بفيض إلهي، ومتصل بالنفس المنطقية. إذن تبقى النفس بعد الموت خالدةً متعلقة بالجوهر الشريف، وهو العقل الكلي. وهو ما يسمى بالعلم الإلهي بلغة الشريعة. النفوس باقية وتسعد بالبقاء.٣٠
والإنسان عند ابن باجه وسطٌ بين الموجودات، بين الفناء والسرمدية. وهي نفس الثنائيات المتطهرة بين المحسوس والمعقول، والإنسان أقرب الموجودات إلى الروحانيات، الموجودات المتوسطة موجودة دائمًا في الكون. فالنبات متوسط بين الجماد والحيوان متوسط بين النبات والإنسان. لذلك كان الإنسان قادرًا على الحركة إلى أعلى وإلى أسفل. فالإنسان حرية. الإنسان الطبيعي متوسط، والإنسان الميتافيزيقي سرمدي. وماذا عن الإنسان المنطقي؟ هنا يظهر الإنسان كمقولة، نوع الإنسان، صورة الإنسان، والسؤال هو: ما هو الكائن الأعلى من الإنسان. الذي يتحرك الإنسان إلى أعلى إليه؟٣١

(٢) المعاد

وقد اتفق الفلاسفة والحكماء على ذم الدنيا والإقرار بالمعاد وجزاء الأعمال.٣٢ بصرف النظر عن اتجاههم وآرائهم في أقسام الحكمة.

(أ) إثبات البعث (إخوان الصفا)

ومن الطبيعي أن تأتيَ رسالة «البعث والقيامة» بعد رسالة العشق، الرسالة السابعة من القسم الثالث النفسانيات والعقليات. فالبعث مرتبط بخلود النفس، وخلود النفس مرتبط بالنفس وتميزها عن البدن. لذلك كانت العقائد نتيجة طبيعية لتحليل النفس مما يدل على طابعها الذاتي وكأن مسار الفكر من الخارج إلى الداخل أي من الجسد إلى النفس ثم من الداخل إلى أعلى، أي من النفس إلى البعث. لذلك كان موضوعها ماهية البعث والقيامة وكيفية المعراج.

ومن هنا لزمت معرفة النفس والروح أولًا قبل إثبات خلود النفس لإثبات القيامة، وحشر الأجساد ولإثبات البعث. ومعرفة النفس قبل معرفة الحقائق، والمقدمات تسبق النتائج، والذات قبل الموضوع. والجهل بالنفس يجعل الإنسان يتجه إلى البدن. وإذا عرفها اتجه إلى الآخرة والمعاد. وهذا ما عرفه الحكماء وأوصوا به المريدين. وبعد معرفة النفس والمعاد يزول الخوف من الموت.٣٣ وقد تحدَّى الله اليهود بتمنيهم الموت لحرصهم على الحياة.

والتمييز بين النفس والبدن مقدمة لمعرفة النفس من أجل معرفة المعاد. ويقدِّم الإخوان حجة لغوية، النفس مؤنث والجسد مذكر اعتمادًا على لغة القرآن مع أنه يمكن كما هو الحال في لغة المحبين الإشارة إلى المؤنث بالمذكر وإلى المذكر بالمؤنث. كما يستعمل الإخوان حجة تشبيهية، النفس روحانية نورانية، والبدن جسدي ترابي. وهي ليست تعريفات بل تشبيهات تقوم على الثنائية المتطهرة المتعارضة. وتعلق الله بالعالم مثل تعلق النفس بالبدن، وتعلق الحاكم بالمحكوم، علاقة الإيجاب بالسلب. والسؤال هو: ألَا توجد معرفة للنفس تؤدي إلى الدنيا ومعرفة للجسد تؤدي إلى الآخرة، فالضد يؤدي إلى الضد كما أن الشبيه يؤدي إلى الشبيه؟

ثم يتبين شرف العلوم، وأن الغاية منها النجاة، وأن العلماء هم أهل الورع والإيمان بالآخرة عن يقين وبصيرة وليس عن تقليد ورواية. فأمور البعث والقيامة محجوبة عن اثنين، إبليس؛ إذ لا يطلع عليه أحد إلا مَن رضي الله عنه، مع أن إبليس يستعمل العقل والقياس، وأهل التقليد بلا برهان، وهي ممكنة فقط لأولياء الله. ويستطيع أولياء الله الصالحون رؤيةَ الله كما يقول المسيحيون عن ظهور العذراء للمؤمن وليس للكافر، مع أن رؤية الله عليها خلاف بين المتكلمين بين الإثبات والنفي، بالعين أم بالقلب، في الدنيا أم في الآخرة، في حين أن رؤية العالم وبؤس البشر وجمال الطبيعة ليس عليها خلاف. معرفة الآخرة أم معرفة الدنيا، الاغتراب أم الالتزام؟

ولا تُعرف هذه العلوم إلا من أهلها، أهل الصنعة والصناعة وهم الإخوان وكأنهم وحدهم ورثة الأنبياء. وغيرهم يعرفون بالاجتهاد والاعتماد على النفس. وهل المعرفة هدمٌ لنظرية العلم وإدخاله في منطقة السر والعلم الخاص الذي لا يمكن إلا التلميح به؟٣٤
وأشرف العلوم معرفة الله ووحدانيته، ثم الخلق والمعاد. وكأن العدل والحرية والعقل والإيمان والعمل والإمامة ليست أيضًا من العلوم الشريفة. ويشمل المعاد أمورَ البعث والقيامة بكل ما يُقرن بها من ميزان وصراط وبعث وقيامة وحشر وحساب وجزاء. وتتضخم النتيجة، أمور المعاد، على حساب المقدمة، خلود النفس والشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون. أشرف العلوم معرفة المعاد؛ لأنها معرفة النهاية ومذكورة في القرآن بأسماء شتى لا يعلم تأويلَها إلا الله.٣٥ وأمور المعاد في نسق العقائد من السمعيات وليست من العقليات كالتوحيد، ومن ثَم فهي ظنية وليست يقينية. ولماذا تتفاوت العلوم في الشرف ولا تكون كلها شريفة؟ ولماذا لا تتكامل العلوم من حيث المعرفة وليس من حيث الموضوع؟ ولماذا يكون تحليل البراز والدم أقل شرفًا من تحليل قوى النفس وإثبات خلودها لإثبات أمور المعاد ما دام لا فرق بين علم الأبدان وعلم الأديان؟

والناس في الآخرة على مذهبَين الأول منكر، فالإنسان بعد الموت كالحيوان والنبات وهو رأيُ الدهريين. ولا حرج من تفسير الدهر بمعنى قوانين الحياة والطبيعة وسنن الكون. والثاني مقر باللسان دون تصور بالقلب أو معرفة بالعقل، مجرد إيمان وتسليم بأقوال الأنبياء عن طريق التقليد أو مقر باللسان بالإضافة إلى الإحساس بالقلب والمعرفة بالعقل، وهم أهل البرهان.

والمنكرون للآخرة منكرون أيضًا للبعث والقيامة وكل ما يتعلق بها من حشر ووقوف وحساب ووضع موازين وجواز على الصراط.٣٦ والدافع على ذلك الشك لعدم معرفتها موضوعيًّا قبل معرفة النفس ذاتيًّا. فهي أمور نفسية وليست أمورًا موضوعية. كما أنه علمٌ صعب يتم الإذعان له تسليمًا، ويؤخذ من الملائكة إلهامًا.٣٧ ولا يستطيع البرهنة عليه إلا أصحابُ النفوس الزكية وليس المبتدئ في العلوم الحكمية. وشرط البراهين الفلسفية تهذيب النفس ووعي الشعور، وعدم الغضب للآراء والمذاهب والارتياض في العلوم الحكمية.
والمنتظرون للآخرة إما حدوثها في الزمان، في المستقبل، موضوعيًّا وعلى نحو حسي أو كشفًا ذاتيًّا على نحو نفسي. والأول يستحيل فلا يعلمه أحدٌ في حين أن الثاني ممكن لأنه تجربة ذاتية. الآخرة ليست في الموضوع بل في الذات، ليست في الخارج بل في الداخل، ليست في المكان بل في الزمان. الآخرة مفهوم إضافي بالنسبة إلى الدنيا، وقياس الغائب على الشاهد نفيًا. ويمكن الاعتماد على حجة لغوية. فالدنيا من الدنو أي القرب، وليس الإسقاط. والآخرة من التأخر وليس العلو. فالدنيا أولى بتقلبها من الآخرة مثل الإنسان والله، الزمان والخلود. وهناك حجتان أخريان لإثبات القيامة والبعث. الأولى لغوية، قام يقوم والهاء للمبالغة أي قيام النفس من وقوعها، والبلاء والبعث انبعاثها من جديد.٣٨ والثانية حجة حسية، التأمل في حال النفس والجسد والحياة والماضي وإدراك أن كل شيء زائل، فيثبت النقيض من النقيض.
ومن حيث الدلالة، الدنيا حياة النفس مع الجسد والآخرة حياة النفس مع عالم الأرواح. وتترك النفس الجسد لسببين. الأول عرضي داخلي مثل الأعراض أو خارجي مثل القتل. والثاني طبيعي مثل الهرم. والموت حتم قبل خراب الدكان.٣٩ لذلك لزم العمل. فالموت دافع على العمل.٤٠

وهناك آراء في الحدوث والمعاد وهي الآراء التي تساعد النفس على اليقظة. فالاعتقاد الصحيح منبهٌ للنفس وليس شيئًا كما هو الحال في العقائد اليهودية مثل الاختيار، والمسيحية مثل التجسد، منبهًا إياها على الآخرة.

أهمية الحدوث أنه يفسح المجال للبعث. فالعقيدتان مرتبطان. الأولى في البداية، والثانية في النهاية، الأولى مقدمة والثانية نتيجة. ويعني الحدوث الوجود من لا شيء، والانتهاء إلى لا شيء، وبقاء العالم حتى يُبعث من جديد. ومن ثَم يفقد العالم وجوده وكيانه في البداية وفي النهاية كما تفعل المسيحية في الإنسان في حصاره بين الخطيئة في البداية والخلاص في النهاية وكأنه لا يوجد قانون طبيعي لإبقاء العالم من داخله بدلًا من ارتكازه على عدم أو وجود غير ذاته. فمَن يعتقد بالحدوث يكون قلبُه معلَّقًا بربه، مستندًا إلى ما هو أبقى واغترابًا عن العالم. أما مَن يعتقد باستقلال العالم فإنه يعرض عن ربه في موقف طبيعي من العالم. فقد يكون للحدوث أثرٌ سيِّئ في السلوك. ينتج عنه الكسل وعدم الاعتناء بالعالم، والاغتراب خارجه، وتحويل الموضوعية إلى ذاتية فارغة، من الطبيعة إلى النفس، وتدمير العالم نتيجة الحدوث موضوعيًّا، والقضاء على الفعل فرديًّا، وإنكار العقل والإرادة اللذَين يُسيِّران الإنسان في العالم، وقيام هذا العالم على أساس غيره، وجودًا وعدمًا.٤١
والمعاد هو الاعتقاد الثاني الصحيح، من الخلق إلى المعاد، ليس فقط من البداية إلى النهاية بل مسار التقدم والارتقاء. الحياة ارتقاء من الأنقص إلى الأكمل، سقوط وخلاص على المستوى الأفقي وليس على المستوى الرأسي. وللمقرين بالمعاد علامات أربع. الأولى استواء الأماكن والأزمان وتغاير الأمور والأحوال، أي الهوية في المكان والزمان والأحوال الشعورية. ليست الخصوصية في الواقع بل في الفكر. فالمؤمن لا يهمه المكان والزمان ولا الأحوال لا في الخارج ولا في الداخل. وهذا أقرب إلى حالة السكينة والفناء الصوفي، رؤية العالم بعين الوحدة كما يقول الصوفية. والثانية الاستجابة لدعاتهم بشرط معرفتهم لأنهم من اختيار الله. والثالثة عدم التعلق بالأسباب، والاستسلام للقدر بالرغم من إقرار الشريعة بضرورة الأخذ بالأسباب. والرابعة الخلاص من جهنم الروحانية، طبقة أهل الأهواء والجهالات. فالعذاب روحاني كما قال ابن سينا فيما بعد، أمة وراء أمة طبقًا للصورة القرآنية. ويستعمل الإخوان القصص الفلسفي. فقد جرى حوار بين ولي من أولياء الله وعباده الصالحين الناجين من ناحية وآخر من الهالكين المعذبين من ناحية أخرى. كلاهما في وهم النعمة والرضا بالسلامة بناء على فعل ما اعتقد. نعمة الهالك في محاربة أعدائه والمخالفين له في مذهبه حتى لو قال لا إله إلا الله. يدعوهم أولًا ثم يحاربهم ثانيًا. فإن لم يقدر يدعو عليهم ويلعنهم في الصلاة تقربًا إلى الله. فإن لم يصبهم شيء فعلى الأقل يهدأ نفسيًّا. فالذاتية بديل عن الموضوعية. ويستعمل سلاح الدين ضد الأعداء. ويحكم الناجي عليه بأنه معذب النفس ويستسلم للقدر، ويصبر على حكم الله لا يريد لأحد سوءًا، ولا يُضمر لهم غلًّا، ولا ينوي لهم شرًّا. نفسه في راحة وأمان، ويرضى بدين إبراهيم. وهي قصة ترمز إلى ثنائية الظاهر والباطن، الصراع بين الفقهاء والصوفية، بين التنزيل والتأويل.٤٢ قد يرى البعض أن النعيم فعلي وأن العذاب للروع والتخويف.

والعلم بالبعث بطرق خمسة. الحواس والسمع والأخبار، الفكر والروية والتأمل والعقل الغريزي، والوحي والإلهام موهبة من الله للأنبياء وحدهم، وأخيرًا القياس والاستدلال للحكماء. وأكثر الناس يؤمنون بالمعاد تقليدًا كعميان، يدُ كلِّ واحد على كتف الآخر، يسيرون كالقطار، فإن لم يوجد قائد تاهوا كلهم. ويبدو في هذه الطرق الخمسة أن الحكماء أعلى من الأنبياء، وأن المعرفة التاريخية أعلى من المعرفة الحسية، وأن العقل الغريزي يقوم على الوحي والقياس، وأن العقل عقلان: عقل غريزي وعقل استدلالي. والإخوان وحدهم هم ورثة الأنبياء، وهم الحاملون لعقائد البعث والقيامة. إن استعصى وجودهم فبالاعتماد على الجهد الذاتي وعلى تدبير النفس. وإن استعصى ذلك فبالمنطق والبرهان، وهو طريق الحكماء، طريق المنطق والاستدلال. وعن طريق القياس يكون البعث إما للأجساد وحدها أو للنفوس وحدها أو للأجساد والنفوس معًا. عندما يبطل الاحتمالان الأولان يصح الاحتمال الثالث كما هو الحال في السبر والتقسيم عند الأصوليين.

وهناك ثلاثة تصورات للبعث طبقًا لمستويات الثقافة. الأول التصور الشعبي الذي يقوم على أن الدنيا شرٌّ، والجسد شهوة مما يستدعيان المقاومة حتى ينال الإنسان الخير والثواب في الآخرة، ويتجنب العقاب طبقًا للثنائية المتطهرة. وهو التصور الشعبي للجهال والنساء والصبية والعوام ومَن لا ينظر في حقائق العلوم ولا يعرفها. فالإنسان ليس إلا هذا الجسد المحسوس، والبعث إعادة هذا الجسد على نفس الحال. يحشر ويحاسب من جور السلطان، وحسد الإخوان، وعداوة الجيران، ومقاساة غيظ الأقران. البعث مجرد مفارقة النفس للجسد واستقلالها بذاتها وتفردها ومشاهدتها واللحاق بالصالحين. يحق لهم عمل الخير، وترك الشر، واجتناب المعاصي، وفعل الطاعات، وأداء الأمانات، وترك الخيانات، والوفاء بالعهود، وصحة المعاملة والنصيحة فيها، وحسن الخلق، صلاحًا لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم في الدنيا حتى الممات. يتم بعث الأجساد عن طريق ردِّ النفوس إليها. والغرض منه المجازاة ولا مصلحة للشرير فيه خوفًا من العقاب، ورغبة الخير فيه طمعًا في الثواب. فإثبات البعث أو إنكاره يتوقف على أخلاق الإنسان في الدنيا خيرًا أم شرًّا.

والثاني: رد النفوس إلى أجساد أخرى أكثر روحانية كما هو الحال في تناسخ الأرواح في حالة الثواب. وهو تصور أفضل وأقرب إلى الحق، وفيه صلاح معتقديه.

والثالث: النفوس في الأجساد في الدنيا امتحان، خلق وإبداع وتحرر، والمعاد روحاني وهو تصور غير صائب وإن كان يؤدي إلى اختلاف درجات العلم والصلاح والعمل. فالدنيا تحرر من حكام خمسة: الفلك الدوار، والطبيعة المركوزة في الجبلة، والناموس وأحكامه وحدوه، والسلطان الجائر، وأخيرًا شدة الحاجة إلى المواد التي بها قيام الجسد. هذا هو المأزق البشري. الأول تحرر من الضرورة الكونية، والثاني من الطبيعة المادية، والثالث من الدولة وقوانينها، والرابع من النظام السياسي، والخامس من حاجات البدن. فهو تحرر من جميع أنواع السلطات المادية والدينية والسياسية.٤٣
والبعث له ثلاثة معانٍ: الأول: الأجساد للعوام. والثاني: بعث النفوس الجهلة من الغفلة وإحياؤها من موت الجهالة للخواص، والثالث: بعث الأنبياء الأول ليس له معنًى حسي بالضرورة بمعنى حشر الأجساد وإحياء العظام وهي رميم بل يمكن أيضًا بعث النفوس وبعث الأمم.٤٤ وبعث النفوس إلى بارئها أفضل من تعبها بعودتها إلى أجسادها. ويمكن ردُّ هذه المعاني الثلاثة إلى معنيَين فحسب. الأول رد النفوس إلى الأجساد وكما يتصور الجهال. والثاني النفوس وقيام الأرواح وكأن النفس لم تفنَ حتى تبعث وكأنها نفس خالصة بلا جسد.٤٥

وتبلغ ذروة خلود النفس في مشاهد القيامة، الذات عندما تعي ذاتها كذات وموضوع كنفس وبدن، كفرد وعالم في قصة فلسفية في رسالة «البعث والقيامة» عن ملك وأبنائه الستة. وتقوم على التشبيه بين سياسة النفس للجسد وسياسة الصانع أو المهندس للمدينة. وكلاهما من تدبير الله. ويجهل أصحاب التشريع أي الفقهاء كيف تدبر النفس الجسد، وكيف يدبر الله النفس. وترمز المدينة هنا إلى العالم كله وليس إلى المدينة الفاضلة مما يكشف عن مدى قرب النفس إلى الله. فالله هو المهندس الأعظم، والمعلم الأكبر وتحته مهندسان تلميذان النفس وربما النبي أو الحكيم. وفي هذه الحالة تكون المدينة المجتمع وليس الكون. النفس ساكن في الجسد وليست بانيَّتِه في حين أن الله باني العالم وليس ساكنًا فيه. والأبناء الستة مختلفون. الأول: أباح لهم الملك كل شيء إلا أن يكون أحد في مثل مرتبته. ثم عزه الناس فطلب فسقط وهرب وندم ونام مع الناس إلى يوم الجمعة. وهي مرتبة آدم. والثاني: حليم وقور شكور. ولَّاه أبوه بعض مملكته‎. لم يسمع الناس له لأن كان يُشبه زحل. صبر ثم شكا فغضب الأب ورماهم في الماء فحزن الابن ونام. وترك إلى يوم الجمعة مما يدل على قسوة الأب ضد المعارضة ودون معرفة سبب الرفض وعدم الطاعة. وعجز الابن عن الحوار مع أبيه والدفاع عن شعبه وهي مركبة نوح. والثالث: خير فاضل عالم محجاج لم يسمع له الناس، برج المشتري لارتباطه بالدين. بنى لأبيه هيكلًا، ونذر له قربانًا، وعمل مناسكَ ونادى في الناس، وتُرك أيضًا نائمًا إلى يوم الجمعة. بقيَ بناؤه في النفوس دون فهم والاقتصار على ظاهر الهيكل دون معرفة باطنه. يقومون بالمناسك دون فهم، توجهًا لا شعوريًّا من صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. وهي مرتبة إبراهيم. والرابع: جَلْدٌ قويٌّ، جريء مقدام، برج المريخ. وقع عصيان ومبارزة. غلبهم ثم بقي وحيدًا كالغريب، يدعو فلا يُجاب، يأمر ولا يُهاب مع أنه لا يوجد ملك يقتل شعبه. وهي مرتبة موسى. والخامس: هادئ رشيد، طيب رقيق، برجه الزهرة. أطاعتْه القلة ثم وثبوا عليه وأخذوا القميص الذي خاطتْه أمُّه فاستنفر عليهم أبوه بجنوده وأيَّده بروح منهم فتحكَّم في لاهوتهم قصاصًا لمَّا تحكَّموا في ناسوته. وهي مرتبة السيد المسيح. والسادس: مختلف عن الباقين، من اختيار الملك. رسالته إيقاظ باقي الأنبياء فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا. برجُه عطارد، قبل يوم الجمعة، أي أنه قبل ختم الأنبياء وله الحكم والقضاء. وهي رتبة محمد. ستة أبناء وقد يكون الأب هو السابع حتى يكتمل العدد الرمزي.

وهكذا يتحول قصص الأنبياء إلى فلسفة في التاريخ. وهي مراحل الأنبياء الست أولي العزم، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد على ما هو معروف في الفكر الشيعي خاصة عند السجستاني ودون ذكر للإمام السابع الغائب، مرحلة المستقبل بعد المراحل الماضية. وهو تحول أيضًا لحديث الأيام الستة، لكل يوم دين ابتداء من الأحد حتى الجمعة خاتم الأنبياء، وفي اليوم السابع استراح الرب، جمعًا بين التراثين الإسلامي واليهودي. ولا فرق بين التاريخ والكون، بين البشر والفلك فالمصير واحد. وظيفة الدين تخويف الناس وترويضهم، ولكن سرعان ما يتحول إلى قرابين ومناسك ظاهرية بلا روح، أشكال بلا مضمون كما هو الحال عند الفقهاء. ومن ثَم يفشل الدين التقليدي في التغير الاجتماعي وينام أصحابه ودعاتُه حتى يأتيَ يوم الجمعة وينهض الدين الفلسفي، خاتم النبوة، ويرث ملكَ الأخوة عبادُ الله الصالحون، عودًا إلى نخبة الأمة خاصة وأن القصة كلها تعتمد على استعمال قوة الملوك دون الشعوب.٤٦

(ب) المبدأ والمعاد (ابن سينا)

ويظهر المعاد في «الشفاء» كموضوع الفصل السابع والأخير من المقالة التاسعة «فصل في المعاد»، ويستأنف في المقالة العاشرة في الفصل الأول «في المبدأ والمعاد»، وفي الفصل الثاني «في إثبات النبوة» وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه. فالمعاد مرتبط بالنبوة كما هو الحال في علم أصول الدين، وكلاهما بعدَا التاريخ، الماضي في النبوة، والمستقبل في المعاد، البداية والنهاية. فهو فصل عام يشمل الإلهامات والنبوات والدعوات المستجابة والعقوبات وأحوال النبوة وأحكام النجوم.

ويُعرف المعاد بطريقين: طريق الشرع (السمعيات) وطريق العقل (العقليات). العقل تصديق للنبوة وهو طريق الحكماء الإلهيِّين، طريق القياس والبرهان وإن كانت الكيفية مجهولة. فالشرع مصدر من مصادر المعرفة كالفلسفة العقلية. ويسميه ابن سينا الشرع كما سيفعل ابن رشد ويسميه الشريعة وليس الدين أو الوحي أو النبوة تأكيدًا على النظرة الشرعية وكأن الفلسفة تعقيل للشرع وليس للعقيدة كما هو الحال في علم الكلام. وطريق العقل في إثبات المعاد الروحاني تؤيده النبوة. والحكماء لا يهتمون إلا بالمعاد الروحاني ولا ينكرون حشر الأجساد كما اتهمهم الغزالي. يثبت المعاد الجسماني سمعًا في حين يثبت المعاد الروحاني عقلًا. لقد هاجم الغزالي الكلام في «إلجام العوام»، والمعتزلة في «الاقتصاد في الاعتقاد»، والحكماء في «تهافت الفلاسفة»، والباطنية في «المستظهري أو فضائح الباطنية». ولم يهاجم الأصول في «المستصفى» أو المنطق النظري في كتبه المنطقية الثلاثة أو المنطق العملي الأخلاقي في «ميزان العمل» أو التصوف في «الإحياء» وهو نفس موقف حكماء الإشراق.٤٧

ويثبت المعاد أيضًا على نحو طبيعي. فالمعاد أي المصير ضرورة بالطبع، وكلٌّ ميسرٌ لما خلق الله. البعض للجنة والبعض للنار. تقتضي الحكمة نوعًا من الجبرية المطلقة في نظام الكون بما في ذلك أمور المعاد. هنا تبتعد الحكمة عن الاعتزال. المعاد ظاهرة طبيعية، مصير الكائنات الحية. والسؤال هو: هل المعاد الطبيعي حكم موضوعي على الطبيعة أم إسقاط ذاتي من الرغبة في تجاوز الموت واستمرار الحياة؟ ونظرًا لسيادة الخير على العالم ينتهي مصير البشر جميعًا نهاية سعيدة، فالكل في الجنة، ورحمة الله واسعة.

وتتعرض رسالة «المبدأ والمعاد» ليس فقط للمعاد بل أيضًا إلى المبدأ. فالمعاد يفترض الخلق، والنهاية تتطلب البداية. والرسالة إجابة على أربعة أسئلة بطريقة الفتاوى، السؤال والجواب. كما يتكرر نفس الموضوع في «الأضحوية» وفي بعض الرسائل النفسية. ويبدو العالم في مكان تحيط به الأفلاك طبقًا للثقافات الوافدة القديمة. والعالم الإنساني عالمان: دنيا وآخرة، عمل وجزاء، فناء وبقاء. وهناك دورة بين العالمَين، من الجنة إلى ذلك العالم إلى هذا العالم ذهابًا وإيابًا، ومن هذا العالم إلى ذلك العالم مرورًا بالبرزخ إلى الجنة إيابًا.٤٨
فالموضوع مكاني وليس زمانيًّا في حين أن العالم يوجد في الزمان وليس في المكان. العالم ينشأ في الشعور لحظة الوعي به، ويتحول إلى قضية وجود الإنسان في العالم ووجود العالم فيه.٤٩ وهو ما عناه الحكماء من أن أداة التحول من الذهاب إلى الإياب العقل وما جاء به الرسل مما يدل على وحدة الحقيقة والشريعة والحكمة والنبوة.

وقد توحي هاتان الحركتان، الذهاب والإياب بالتناسخ والبرزخ مفهوم صوفي بالرغم من أنه لفظ قرآني.

والسؤال هو: هل المعاد تعويض عن الدنيا ومآسيها أم أنه استمرار لهذه الحياة من خلال الفعل والأثر؟ هل هو وظيفة سلبية أم إيجابية؟ وطبقات الناس ومراتبهم في العمل، بين مَن يعمل ومَن لا يعمل، في العمل الصالح وليس في الثروة والسلطان هل هي استمرار للدنيا أم تعويض عنها في الآخرة؟ إن المعاد نموذج لمعنى في الذهن وليس له وجود في الخارج. هو بعد المستقبل في حياة الإنسان كما أن النبوة بعد الماضي، والعمل الفردي والجماعي، المواطن والدولة بعد الحاضر.

والسؤال الأول عن العلة المادية: من أي موضع جئنا من هذا العالم، من فوق فلك الزهرة إلى فلك البروج، وحدُّ العالم من فوق الفلك المستقيم إلى تحت مرتبة العلم وهو العقل؟ ويرد ابن سينا: مجيئنا من الله، حظيرة القدس، قدس القدوس، فوق العالم العلمي والعقلي. هذا العالم دار عمل، وذاك العالم دار جنة، والجنة دار المحسنين. جئنا من الجنة إلى ذلك العالم، ومن ذلك العالم إلى هذا العالم. ومنه نذهب إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى ذلك العالم، موضع الحساب والعقاب الأبديَّين، للوصول إلى الصور الموافقة لأرواحهم إلى الجنة على عكس صور اللذة في الدنيا بحسب الطبع وقيد الطبيعة، ويتحولون إلى قيد العقل وما جاء به الرسل.

والسؤال الثاني عن العلة الغائية في الحياة: لأي شيء جئنا؟ ويرد ابن سينا: مجيئنا إلى هذا العالم لم يكن باختيارنا وإرادتنا رغمًا عنَّا. قهرًا نأتي وقهرًا نخرج.٥٠ غاية المجيء الطهارة والتمحيص والامتحان والاختبار والرسالة. وتكون الطهارة للنفس. والتوجه إلى المعاد بالعمل الشرعي والعلم الإلهي أي باتفاق الشريعة والحكمة. طهارة الجسد بالماء، وطهارة النفس بالعلم الذي هو أساس العمل. فكل مَن أتى بعمل شرعي يصل به إلى العلم الإلهي كي يعلم حقيقته ويقينه فإنه يخلص عند مفارقة الدنيا سجن المؤمن.
والسؤال الثالث عن العلة الغائية بعد الموت: حين الخروج عن هذا العالم إلى أين المرجع؟ ويرد ابن سينا: كل إنسان يخرج من هذا العالم تتلقاه ملائكة الرحمة أو العذاب فيحملونهن إلى البرزخ، قبر النفس.٥١ فإن كانت مؤمنة فتحت أبواب الجنة، وإن كانت غير مؤمنة فتح باب النار. سفل البرزخ علو العالم، وحدُّ سفل العالم علو البرزخ. والهدف من الشرائع عمل الإنسان من دار العمل إلى دار البرزخ. وبالقوة السابقة تكون حركته في البرزخ، وبالثامنة يفارق البرزخ، وبالتاسعة يحاسب، وبالعاشرة يصل إلى المعاد، حيث آدم وأولاده.

والسؤال الرابع عن الجهة والكيف ما حالنا بعد مفارقة الدنيا؟ الوجود في البرزخ إيقاظ في لذات روحانية وصور مصاحبة من هذا العالم من العلم والعمل في الخير والشر، محكمة ذاتية، متفرغة متميزة. وتكون في البرزخ كالنطفة في الرحم، والبذر في الأرض، ينبت على ما في الأصل الذي جاءت من ظهر الأب حتى إذا اتصلت بها القوة السابعة صارت إلى كون آخر. ويجد الكافر عذابًا بمعاينة الصور المستنكرة المكروهة طبقًا لعمله.

والحقيقة أن المجيء إلى العالم قهرًا والخروج منه قهرًا هو شرط الحرية. فالحرية فهم الضرورة. ومع ذلك الإنسان حرٌّ لأن الحرية تنشأ في لحظة الوعي بالوجود، والموت أحد أبعاد الحرية. وما أوله جبر وآخره جبر يكون وسطه إمكانية وحرية. ولماذا يدخل المؤمنون كارهين تحت العقل؟ وهل العقل قيد وإجبار وإكراه من العقال أم من التنظيم؟ وهل الشرائع كره أم طبيعة أم تعوُّد؟ وفي كل الحالات تدل الإجابات على نزعة هندية صوفية للخلاص من الدنيا، سجن المؤمن. والمحاكمة ذاتية، محاكمة الضمير لذاته، في الداخل وليس في الخارج. فلا دليل على وجود البرزخ في المكان بل هو وعي الإنسان بذاته في الزمان.

والقصد من ذلك كلِّه تحوُّل الدين إلى فلسفة، والعقائد إلى نظريات جمعًا بين العقل والأسطورة، والتعبير عن الموروث بلغة الوافد، وعن عقائد الإيمان بمصطلحات اليونان، وتتبادل مصطلحات الشرع مثل الملائكة والبرزخ مع مصطلحات الفلسفة وقوى النفس، فتكون الغلبة لهذه مرة، ولتلك مرة.

وقد كتب ابن سينا رسالة «الأضحوية» مرة ثانية في المعاد، رسالة إلى شخص معين، شيخ أمين يبدو أن له فضلًا على ابن سينا في معرفته الصوفية. يظهر فيها الأسلوب الأدبي والقصد الصوفي الرمزي. والبنية جدلية محكمة. البداية بالتاريخ، والنهاية بالفكر. البداية بالآخر، والنهاية بالذات. الفصل الأول «ظاهرياتي» يبحث في الماهية. والفصلان الثاني والثالث عرضٌ للآراء السابقة ونقدُ الباطل منها. والفصلان الرابع والخامس عن الإنيَّة المنفصلة عن البدن والتي توجد بدون البدن ولا يوجد البدن بدونها مما يثبت خلود النفس، وهو أطول العناوين. والفصلان السادس والسابع عن المعاد وطبقات الناس بعد الموت والنشأة الثانية، وهو الموضوع الرئيسي للرسالة بعد أن تم التمهيد له بموضوعين: الآراء السابقة وتمايز النفس عن البدن. وهو موضوع ديني كلامي خالص له ما يشابهه في السمعيات وبمقولات الكلام مثل المؤمن والكافر والعاصي.

تُنكر الأقلية المعاد، وتُثبته الأغلبية. والمثبتون له إما للبدن أو للنفس أو لكليهما. وإثبات المعاد للبدن وحده لا يدل على شيء إلا بالنسبة إلى العمل في الدنيا بين برٍّ مُثاب وفاجر معاقب إلى الأبد في قسمة ثنائية أو بين مؤمن مثاب وكافر معاقب إلى الأبد، وبينهما درجة متوسطة وهي المؤمن الفاسق، متروك لمشيئة الله إلى الأبد أو معاقب دون خلود. والخلود المتروك للمشيئة إما للثواب دون العقاب أو دون ثواب وعقاب. والمثبتون للمعاد للنفس والبدن المسلمون والنصارى. والمسلمون فِرَقٌ ثلاث في النفس، إما روحانية أو جسم لطيف أو العقاب والثواب للنفس والبدن عقلي وحسي. وعند النصارى المعاد روحاني فقط للثواب والعقاب. أما القول بالمعاد للنفوس وحدها فالاختلاف في تعريف النفس إما جسم أو جوهر نوراني مخالط لجوهر مظلم وهو البدن، أو تناسخ وكرور في الأبدان، أو احتباس في العالم العنصري وانفلات منه، أو استكمال لجوهرها وخلوصها من الطبيعة، وهو موقف الحكماء الفاضلين. والجوهر النوراني المخالط لجوهر البدن المظلم هو موقف المجوس أو الثنوية أو المنوية. وعند الثنوية السعادة في النور، والشفاء في الظلمة. والقول بالتناسخ إما كرور النفس في الأجساد النباتية والحيوانية أو في الحيوانية فقط أو في الإنسانية فقط، إما للنفس الشقية حتى تسعد أو للنفس الشقية والسعيدة. الأولى في الأبدان المتعبة والثانية في الأبدان المستريحة.

ويلاحظ على هذه القسمة أن الفلاسفة مثل النصارى يقولون بالمعاد الروحاني والثواب والعقاب الروحانيَّين، وأن الخلاف في الخلود مشترك بين القول بالمعاد للأبدان وحدها وللنفس والبدن وحدهما. ولا يوجد فرق في القائلين بالمعاد للنفوس وحدها بين الفرقة الأولى القائلة بتجسيم النفس، والثانية المعتبرة إياها جوهرًا نورانيًّا. ففي كلتا الحالتين النفس جسم والخلاف في القسمة والنور. ولا فرق بين الفرقة الثالثة القائلة بالتناسخ، والرابعة القائلة بالاحتباس في العالم العنصري والانفلات منه، والخامسة القائلة باستكمال جوهرها وخلوصها من آثار الطبيعة وهو رأي الحكماء الفاضلين.

وينقد ابن سينا المعاد بالأبدان وحدها كما ينقد التناسخ. لا ينفي حججه ولا ينقد الرأي القائل بمعاد النفس وحده أو بمعاد النفس والبدن معًا. ويعتمد على حجة الشرع مما يدل على أن الرأي من الموروث وليس من الوافد وكردِّ فعل على الحكماء ومخالفتهم تعصبًا، وإنكار وجود النفس أو الروح أصلًا بصرف النظر عن تحديد هويتهم، حشوية حرفية مادية من المزايدين في الإيمان. فقد صرح الشرع ببعث الأموات فظن الناس أن المقصود هو البدن. وقد يكون الشرع موجهًا إلى خطاب العامة؛ لأن الجمهور غير قادر على تصور التوحيد العقلي الخالص مثل العرب العاربة أو العبرانيِّين الأجلاف غير القادرين على تصور المجردات واعتبارها معدومات. لذلك أتى التوحيد تشبيهًا للبعض وتنزيهًا للبعض الآخر لأنه يأتي عامًّا للناس جميعًا على اختلاف مراتبهم في العلم. ولا يأتي خاصة لمرتبة بعينها عامة أو خاصة. ولم يَرِد في القرآن نصٌّ صحيح أو غير صريح لإثبات هذا الرأي. وإذا كان التوحيد تشبيهًا فالأولى لغيره من العقائد أن يكون كذلك.

ويظهر الدين المباشر كحجة عقلية لإبطال أن المعاد بالبدن وحده. فمعرفة أن المادة الموجودة للكائنات لا تفنى بأشخاصها إذا بعثت من وضوح الفعل الإلهي الأزلي في العلم الطبيعي والإلهي. كما يعتمد المعاد على نتائج العلم الإلهي، أن الفعل الإلهي واحد لا يتبدل من واجب الوجود. وإذا كان البعث للبدن وحده حالة الموت فهل يبعث المجدوع والمقطوع يده في سبيل الله على هذه الصورة؟ وهذا قبح لا يجوز في حق الله. وإن كان سبب التناسخ الله والملائكة فهم باقون. وقيل إنها أذنبت فعوقبت بسجنها في البدن أو هربت من سخطها إلى البدن. وإذا تم ذلك بتقدير إلهي أو تدبير سماوي فالأبدان الإنسانية والحيوانية غير الإنسان داخلة في ذلك التقدير والتدبير. فلا يمنع أن تسكن النفس في الأبدان الإنسانية. ولا يمكن أن يكون التناسخ عن طريق البخت والاتفاق لأن ذلك يُبطل الحكمة الإلهية.٥٢
وتتدخل الثنائية المتطهرة بين الدين المباشر والتشكل الكاذب. فالملائكة مقياس للنفس مرة إلهيًّا ومرة إنسانيًّا مثل المعاني الثابتة والصور الروحانية والمبدأ الأول للوجود كله والملائكة الربانية وحقائق الأجرام السماوية والعنصرية. كلها عوالم مجازية للعالم العقلي وعلى موازاته. بناؤها روحاني رباني لطيف مقدس. ولا يمكن قياس الخير واللذة التي تخص جواهر الملائكة على الخير واللذة التي تخص جواهر البهم والسباع. والنفس الإنسانية لا محالة من الجوهر الملكي إن كانت مستكملة لأنها صورة عقلية مفارقة مثل صورة الملائكة، إلا أننا لا نحس بهذه اللذة ونحن في الأبدان. لذلك لا تتم السعادة الأخروية إلا بخلاص النفس من البدن وآثار الطبيعة وتجردها، كاملة الذات، ناظرة نظرًا عقليًّا إلى ذات الله وإلى الروحانيِّين الذين يقومون بعبادته وإلى الملأ الأعلى. وما ينزه النفس عن أدران الطبيعة العبادة الإلهية واستعمال ما تدعو إليه الشريعة النبوية. فإنها حصن النفس وجنتها من هذه الآفة.٥٣

والعجيب هو قول الحكماء بالتناسخ وفي نفس الوقت بالمعاد الروحاني. فالتناسخ يعني بقاء الأرواح والأبدان في دورات متعاقبة بين الحياة والموت طبقًا للأعمال. قد يقصد حكماء الهند؛ إذ لم يَعُد اللفظ يشير إلى حكماء اليونان وحدهم.

وترتبط أمور المعاد ببعض الموضوعات السمعية في علم الكلام مثل القلم واللوح والعرش والكرسي والملائكة ارتباطها بالنبوة وبنظرية الفيض وبالنفس. فقد حصل من تعقل العقل الأول لله العقل الثاني، ومن تعقل الثاني والثالث حتى العقل العاشر. وحصل من تعقل ذاته ممكن لذاته، جوهر جسماني هو الفلك الأقصى وهو العرش. والعقل الأول عقل للفلك الأقصى ومطاع له. وحدث من العقل الثاني عقل ونفس وجسم. والجسم هو الفلك الثاني فلك الثوابت وهو الكرسي، وتعلق النفس الثانية بهذا الفلك. ويحصل من كل عقل ونفس وجسم حتى العقل العاشر، ويحصل منهم العالم العنصري. والحركة شوقية تتحرك النفس بها، النفس الكلية الفلكية شوقًا وعشقًا إلى العقل الأول. فإذا بذل الإنسان الجهد في التزكية العملية واكتسب ملكة الاتصال بالفيض الإلهي أي بالجوهر العقلي الذي يكون الفيض الإلهي بواسطته يسمَّى في لسان الشرع ملكًا وفي لسان الحكمة العقل الفعال.٥٤

ويتم الانتقال من النفس الفردية إلى النفس الكونية، من الطبيعيات إلى الإلهيات من خلال الإشراقيات إلهامًا من أعلى إلى أسفل أو صعودًا من أسفل إلى أعلى. وتتحول النزعة العقلية العلمية عند أرسطو إلى إغراق في السمعيات والوجدانيات ويسمى علم العقائد لغة الشرع، وتعود الفلسفة إلى أصول الدين بعد أن كانت قد خرجت منه. لا تهم التصورات بل صياغة العواطف الإيمانية عقليًّا، ويكشف التشكل الكاذب موضوعات واحدة، بلغة الفلسفة مرة وبلغة الشرع مرة أخرى. فالفلك الأقصى بلغة الشرع العرشي. الخلاف في الأسماء لا في المسميات. والجسم هو الفلك الثاني، فلك الثوابت‎، وهو الكرسي بلغة الشرع. والعقل الفعال هو الملك في لسان الشرع، لا فرق بين أن يكون العقل الفعال بعد الله أي العقل الأول وأن يكون هو الله أو العقل العاشر الذي يتصل بكوكب الأرض.

حاول ابن سينا تحويل التشبيه في أمور المعاد إلى تنزيه عن طريق نظرية العقول والتشكل الكاذب ولكن بقي التشبيه ربما لسيطرة الأشعرية وعن طريق التأويل الرمزي الروحي الصوفي وليس العقلي الأدبي التصويري المعتزلي البلاغي. لذلك تظهر مصطلحات الصوفية ويظهر النبي وكأنه أحد مجاذيب الصوفية في حالة الغشية ثم الصحو.

وهل عرش الرحمن من وراء هذه الجنان؟ هل هو في مكان؟ وكيف الوراء؟ هل هي مقامات أم مجرد أسماء حسب المعنى والتركيز، وهي متشابهة ومترادفة؟ لا حل إلا التأويل وتذوق الصورة الفنية للعظمة والعلو والقدر.

وتظهر في المعاد بعض موضوعات العدل مثل الاستحقاق والشفاعة والقضاء أو ما يرمز إليها مثل اللوح والقلم والعرش. تبدو الحتمية الكونية عند ابن سينا في إثبات القضاء تأويلًا للقلم والتقدير تأويلًا للوح، وتحويل القضاء والقدر إلى سببية شاملة ترجع إلى السبب الأول، القضاء من الله إلى الكون رأسيًّا، والقدر من الكون إلى الكون أفقيًّا. فبعض الأسباب في مراتب خمسة حتى القدر.٥٥

وكيف يكون اللوح ملكًا روحانيًّا وهو مكتوب عليه؟ كيف تكون الذات موضوعًا؟ كيف يتحول مراد الملك لوحًا إذا كان الوحي لوحًا من مراد الملك للروح الإنساني بلا واسطة؟ ويتم الاتصال بالباطن عن طريق قوى الإدراك. إذ يعرض للقوى الحسية شبيه الدهش وللموصي إليه سبيل الغشي ثم يتسرَّى عنه. وهي صورة الألواح في التوراة.

والقلم ليس آلة جمادية. واللوح بسيط مسطح، والكتابة نقش مرقوم. بل القلم ملك روحاني، والروح ملك روحاني، والكتابة تصور تلقائي. يتلقَّى القلم ما في الأمر من المعاني، ويستودعه اللوح بالكتابة الروحانية فينبعث القضاء من القلم، والتقدير من اللوح. ويشمل القضاء مضمون الأمر الواحد، ويشمل التقدير مضمون التنزيل بقدر معلوم. ومنها يسنح للملائكة في السموات ثم يفيض إلى ملائكة الأرض ثم يحصل المقدر في الوجود. فكل ما كان وكل ما لم يكن له سبب. وتستند الأسباب الخاصة إلى الترتيب، والترتيب يستند إلى التقدير، والتقدير إلى القضاء، والقضاء ينبعث عنه الأمر، ثم يعود من الرأس إلى الإرادة الإلهية.٥٦
١  هذا ما قاله أيضًا كانط في «الشيمائية» «الترنسندنتالية»، وجان بول سارتر في «المخيلة» و«الخيال». وله جذوره أيضًا في العصر الوسيط والعصور الحديثة خاصة عند ديكارت واسبينوزا.
٢  واتُّهم أيضًا أحمد بن حابط، وأحمد بن بانوش تلميذه وأبو بكر الخراساني والقرامطة من الإسماعيلية وغالية الرافضة، كما يذكر ابن حزم في «الفصل» أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجساد المتصورة بالصور البهيمية إلى الأجساد المتصورة بصور الإنسان إلا بالقتل والذبح، ومن ثَم لا يجوز ذبح شيء من الحيوان البتة، رسائل الرازي ص١٠٥، السيرة الذاتية، ص١٠٥. ويذكر ناصر خسرو أن الرازي في تعلق النفس الكلية بالهيولى وتخليصها منها أن نفوس الأشرار التي صارت شياطين تتجلى لبعض الناس في صور الملائكة، وتأمرهم بالذهاب إلى الناس وإخبارهم بحضور الملك وإبلاغ الرسالة حتى وقع الاختلاف بين الناس وقتل الكثير نتيجة التدبير لنفوس الشياطين، رسائل الرازي، ص١٧٨.
٣  الفارابي، «الدعاوى القلبية»، فقرات ٨-٩.
٤  انظر دراستنا: «حق الاختلاف»، هموم الفكر والوطن، ج١؛ الذات والعصر والحداثة، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨م، ص٢٢٩–٢٣٨.
٥  رسائل، ج٤، ٧، ١٨١–١٨٦.
٦  وهي حجة ديكارت لإثبات الفكر.
٧  هذا هو موقف سقراط وأوغسطين وبونافنتورا وأنسيلم وديكارت في الفلسفة الغربية.
٨  الرسائل، ج٤، ٧، ١٩١–١٩٥.
٩  وذلك مثل ردِّ برجسون على فشنر وفوند وشاركوه. ويمكن أن يكون موضوع النفس موضوعًا لرسالة جامعية، ج٤، ٥، ٨٤–٨٦.
١٠  السابق، ج٤، ٥، ١٠١–١٠٤.
١١  وذلك مثل ثناية النفس والبدن عند الفلاسفة العقليِّين مثل ديكارت.
١٢  الرسائل، ج٤، ٨، ٢٤٣.
١٣  السابق، ج٤، ٣، ١٥–١٨، ٢٩-٣٠.
١٤  الأشكال الأدبية أو الأدب الشعبي عند إخوان الصفا يمكن أن يكون موضوع رسالة للدراسات العليا.
١٥  يقص الإخوان حكاية جزيرة مثالية ركب البعض منها البحر فرماهم إلى جزيرة أخرى مناقضة أهلها قردة، وبها طيرٌ كالرُّخِّ يأكلون القردة. أَنِس القردة الناس وعاشوا معهم. ثم رأى أحدهم في المنام أنه عاد إلى بلده وهو يظن أنه يقظ. وقرر بناء مركب والتعاون على ذلك والمغادرة. وخطف الطيرُ رجلًا وطار به وألقاه على سطح بيت فوجد منزله وأهله. وحزن الآخرون على فراقه وهم لا يدرون حتى سعادته. وذلك مثل الفيلم الشهير «مليون سنة قبل الميلاد». ويمكن اعتبار رسائل إخوان الصفا مثل ألف ليلة وليلة من الأدب الشعبي على مستوى الفلسفة.
١٦  السابق، ج٤، ٣، ٢٢–٣٠، ٣٧، ٣٩-٤٠.
١٧  وذلك أيضًا مثل اليابان المعاصرة وطقوس الشهادة والبطولة وراء للعار أو أداء للواجب.
١٨  التصوف والمسيحية، والتشيع والمسيحية يمكن أن يكونَا موضوعَي رسالتين في الدراسات العليا، لدراسة الصلة بين الأدب والدين، Dramatization of God ونقد الفارابي لتصورات «الإله المذبوح»، وليس بين المسيحية والسنة نظرًا للجهاد وتأكيد العالم عند أهل السنة.
١٩  وقد كان ذلك بدايات تفكير هيجل الأولى في أعمال الشباب.
٢٠  عند ماسنيون الصلب حقيقة مستقلة عن المسيحية تتجلَّى في ديانات أخرى كما تجلَّت في صلب الحلاج.
٢١  الرسائل، ج٤، ٣، ٢٩-٣٠، ٢٢-٢٣.
٢٢  مثل قصيدة أمل دنقل «لا تصالح».
٢٣  السابق، ج٢، ٣٨-٣٩، ١١٤-١١٥.
٢٤  السابق، ج٣، ١١١-١١٢، ١١٩.
٢٥  السابق، ج٢، ١١٤.
٢٦  التوحيدي، المقابسات، ص١٦٥–١٦٨، ٣٤٣-٣٤٤، ٣٥٧-٣٥٨.
٢٧  وتُشبه هذه الحججُ حججَ الفلاسفة العقليِّين ديكارت واسبينوزا ولبينتز ومالبرانش، وكأن الفلسفة الحديثة هي عودٌ إلى الفكر الإسلامي.
٢٨  كما هو الحال عند أوغسطين.
٢٩  ابن سينا، معرفة النفس، ص١٨٤–١٨٩.
٣٠  ابن سينا، قوى النفس، ص١٧٦–١٧٨.
٣١  ابن باجه، تدبير المتوحد، ص١٢١–١٢٦.
٣٢  السابق، ج٤، ٦، ١٢٤.
٣٣  وذلك مثل برنشفيج الذي لا يخاف الموت وجابريل مارسل الذي يرتعش منه. العقلاني المؤمن في مواجهة الوجودي المتأزم.
٣٤  الرسائل، ج٣، ٧، ٢٨٧–٢٩٠، ٣٠٢.
٣٥  وهو ما يسمى في الغرب علم المستقبليات. انظر دراستنا «علم المستقبليات»، دراسات فلسفية، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨٧م، ص٥٥١–٥٩٩.
٣٦  ربما المقصود جهم بن صفوان من المتكلمين؛ لأن المعتزلة والفلاسفة يؤوِّلونها.
٣٧  كما هو الحال في شعار المسيحية في العصر الوسيط «أو من كي أعقل»، انظر كتابنا «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ١٩٦٨م.
٣٨  هذا هو رأي تولستوي في رواية «البعث».
٣٩  وهذا هو رأي الوجوديين مثل مارسل وهيدجر.
٤٠  وهذا هو رأي سيمون دي بوفوار في «كل البشر فانون».
٤١  الرسائل، ج٣، ٧، ٢٩٥–٢٩٨.
٤٢  السابق، ج٣، ٧، ٣١٢–٣١٤.
٤٣  السابق، ج٣، ٧، ٣٠٢–٣١٠.
٤٤  مثل رواية «البعث» لتولستوي عن نهضة روسيا بعد احتلال نابليون ومثل حزب البعث العربي الاشتراكي لبعث الأمة العربية.
٤٥  الرسائل، ج٣، ٧، ٢٩٩–٣٠٢.
٤٦  السابق، ج٣، ٧، ٣١٥–٣١٧.
٤٧  ابن سينا، الشفاء، الإلهيات (١)، ص٤٢٢–٤٣٢، ٤٣٥–٤٤٣؛ النجاة ص٢٩٠–٢٩٨؛ الإشارات والتنبيهات (٢)، ص٢٠٧–٢٠٩.
٤٨ 
ابن سينا، رسالة المبدأ والمعاد، ص٢٥١–٢٥٥.
٤٩  وهو معنى البيتين من الشعر لمحمد إقبال.
أرى الكافر حيرانًا
له الآفاق تيه
وأرى المؤمن كونًا
تاهت الآفاق فيه
٥٠  وهو معنى قول عمر الخيام.
لبثت ثوب العيش لم أستشر
وحرت فيه بين شتى الفكر
٥١  ابن سينا، رسالة المبدأ والمعاد، ص٢٥١–٢٥٥.
٥٢  السابق، ص٤٤-٤٥.
٥٣  السابق، ص٥٣، ٥٦، ٨٤-٨٥، ٩٠، ١١٦–١١٨، ١٢٠.
٥٤  ابن سينا، معرفة النفس، ص١٨٩-١٩٠، ١٩٨.
الفيض الكون الحكمة الشرع
الله
العقل الأول
العقل الثاني العقل الفلك الأقصى العرش
العقل الثالث
العقل الرابع
العقل الخامس النفس الفلك الثاني الكرسي
العقل السادس (فلك الثوابت)
العقل السابع
العقل الثامن الجسم
العقل التاسع
العقل العاشر العقل الفعال الملك
العالم العنصري
٥٥ 
وهو جمع بين الحتمية الكونية والحرية الإنسانية مثل اسبينوزا.
٥٦  ابن سينا، قوى النفس، ص١٧٦–١٧٨، ٦٦–٦٩.