أولًا: علمان أم علم واحد؟
إذا كانت الحكمة ثلاثة طبقًا للقسمة التقليدية عند ابن سينا في موسوعاته الثلاث، وكان المنطق آلة للعلم ومقدمة للعلوم كلها، تبقى حكمتان الطبيعية والإلهية. والسؤال هو هل هما علمان أم علم واحد؟ في الظاهر علمان وإلا لما انقسمت الحكمة إلى حكمة طبيعية وحكمة إلهية، ولما انقسم العلم إلى علم طبيعي وعلم إلهي عند إخوان الصفا في قسمتهم الرباعية وعند ابن سينا في قسمته الثلاثية.
هو خطاب واحد بلغتِه ومصطلحاته وقسمته وثنائياته وموضوعاته؛ مثل الجوهر والعرض، العلة والمعلول، الزمان والمكان، الكم والكيف، الصورة والمادة، الحركة والسكون. يُشير طرفٌ إلى الطبيعة مثل العرض والمعلول والمكان والكم والمادة والحركة، وهو الطرف الأضعف. ويشير الطرف الثاني إلى ما بعد الطبيعة بلغة الوافد أو الإلهيات بلغة الموروث إلى الجوهر والعلة والزمان والكيف والصورة والسكون وهو الطرف الأقوى. وهي مفاهيم متضايفة، يُحيل كلُّ طرف إلى الآخر، مثل الصغير والكبير، الأعلى والأدنى، الأب والابن، السيد والعبد، النفس والبدن. لا يُذكر طرف إلا ويُذكر الطرف الثاني ضرورة طبقًا لمفهوم الالتزام في منطق الألفاظ. إذا استعملت لغة التناهي فهي الطبيعيات، وإذا استعملت لغة اللاتناهي كانت الإلهيات. هو خطاب واحد، مرة إلى الحد الأدنى فهي الطبيعيات، ومرة إلى الحد الأقصى فهي الإلهيات. وهما علم واحد عن طريق النفي المتبادل. فكل إثبات لصفات الطبيعة هو نفي لها في الإلهيات. وكل إثبات لصفات الإلهيات هو نفي لها في الطبيعة. وما أسهل في المنطق من قلب النفي إلى إثبات والإثبات إلى نفي في القضايا الكلية. إثبات الصفات الطبيعية. ونفيها عن الله بدافع التنزيه، وإثبات الصفات الإلهية ونفيها عن الطبيعة بدافع التعظيم والإجلال. الأول منطق الواقع والثاني منطق المثال.
وهما علم واحد ليس فقط على المستوى المعرفي اللغوي المنطقي بل أيضًا على المستوى الموضوعي الأنطولوجي؛ إذ لا يمكن وجود الطبيعيات دون إحالتها في أحد مراحل العلم الطبيعي إلى إلهيات، فهي مخلوقات تُحيل إلى خالق، ونتيجة تتطلب مقدمة، وفرع له أصل، ومعلول له علة. لذلك ارتبط الاسمان باسم واحد، الطبيعة وما بعد الطبيعة. فالطبيعة حدٌّ أوسط بينهما. لذلك كانت الطبيعيات مقدمة للإلهيات في علم الكلام. والأدلة على وجود الله تفكير في الطبيعة، في الجوهر والعرض، والجزء الذي لا يتجزأ، والحادث والقديم، والممكن والواجب، البداية بالشاهد قبل الغائب، وبالطبيعة قبل ما بعد الطبيعة، وهو ما حدث أيضًا في علوم الحكمة عندما تتقدم الحكمة الطبيعية الحكمة الإلهية، الطريق صاعد وليس نازلًا، والبداية بالجزئي قبل الكلي، وبالمحسوس قبل المعقول.
وإذا تم القفز إلى الإلهيات مباشرة فإنه لا يمكن الحديث عن الله وصفاته وأفعاله دون الحديث عن الطبيعيات؛ فالعلم والكلام للبشر عن طريق الوحي ورسالات الأنبياء. وهو علمٌ حسيٌّ تجريبي عن طريق السمع والبصر. ولا يمكن الحديث عن الخالق دون المخلوق وعن الله دون العالم وإلا فما معنى الخلق أو الفيض أو حتى القِدَم واشتراك الله والعالم في صفة القِدَم. فإثبات الخالق إثباتٌ للمخلوق كما أن إثباتَ المخلوق إثباتٌ للخالق. وهذا واضح أيضًا في نظرية الفيض خاصة وصدور العقل عن الواحد، والنفس عن العقل، والمادة عن النفس. فلا يرتبط العلمان عن طريق الدلالة كما هو الحال في نظرية الخلق بل عن طريق مراتب الوجود. الخلاف بين العلمين اختلافٌ في الدرجة وليس في النوع.
وهما علمٌ واحد نظرًا لوجود العناصر المتوسطة بينهما في مراتب الوجود، مثل عالم الأفلاك والأجرام السماوية الذي أصبح موضوع علم أحكام النجوم والذي رفضه الكِنْدي والفارابي وقبله إخوان الصفا. هي العوالم العلوية التي تشارك العالم والله في آنٍ واحد. تشارك العالم في المادة والحركة وتشارك الله في الصورة والثبات. كما أن الإنسان وجودٌ متوسط بين العلمَين. فهو بالبدن جزءٌ من الطبيعيات، وبالنفس جزء من الإلهيات عن طريق الاتصال بالعقل الفعال. النفس مجموع القوى الحيوية النباتية والحيوانية، موضوع للعلم الطبيعي. والنفس مجموع القوى الناطقة جزء من العلم الإلهي. وتلك ميزة إخوان الصفا والفارابي في وضْع رؤية إنسانية عامة لعلوم الحكمة. فغاية الإنسان الكمال عند القدماء والمحدثين، الاكتمال والتحقق، ليس في السماء فقط بل على الأرض أيضًا، في الأخلاق والسياسة، في الفرد والمجتمع. الكمال هو تحقيق الخيرات والفضائل والحسنات، واستبعاد الشرور والنقائص والسيئات. والسبيل إلى ذلك ليس فقط المعارف العقلية، التأملية الاستبطانية بل أيضًا المشاهدات الحسية والمعرفة الإحصائية بالواقع الاجتماعي والسياسي. ليست السعادة والشقاء فقط ما أعدته الفطرة بل ما اكتسبه الإنسان من نفسه ومن الأوضاع الاجتماعية. لا يوجد سعيدٌ بالفطرة أو شقيٌّ بالفطرة كما هو الحال في العقائد الأشعرية المتأخرة، «السعيد مَن سَعِد في بطن أمِّه، والشقيُّ مَن شَقيَ في بطن أمِّه» بل هناك جهدٌ وعمل وكدٌّ وسعيٌ متواصل في العالم. السعادة والشقاء في النهاية وليست في البداية.
ويربط المنطق بين العلمَين، الطبيعي والإلهي؛ فالمقولات الطبيعية أو الإلهية إنما تصدر من العقل، والعقل إحدى قوى النفس، والنفس عالم الشعور. عالم الأذهان هو مصدر عالم الأعيان الذي ينقسم بدوره إلى عالَمَين، العالم المحسوس والعالم المعقول؛ فالنفس أو العقل عند الفارابي عنصرُ ربط بين العلمَين. وهما مبدآن غير جسمانيَّين. وعلاقة النفس والعقل بالأجسام السماوية مثل علاقتهما بالإنسان. النفس والعقل عنصران مشتركان بين الفلك والإنسان. هل هذا تشخيص للطبيعة أم اعتزاز بالحياة العقلية وبالنفس سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ. وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.
أجناس الموجودات في علوم التعاليم. فالموجود نسق رياضي. والرياضيات أول أجناس الموجودات. علم التعاليم بهذا المعنى أول العلوم، علم الأعداد والأعظام. وأول أجناس الموجودات يقينًا بعيدًا عن الشك هي الأعداد والأعظام، الحساب والهندسة. أي علم التعاليم بجودة الترتيب وإمكان التأليف وحسن النظام. ثم تنقسم في داخلها إلى علوم تعاليم صورية؛ كالحساب والهندسة والموسيقى والفلك، وإلى تعاليم مادية مثل المناظرة والأكر المتحركة والأثقال والحِيَل، وبعض العلوم بالجمع مثل علوم المناظر وعلوم الأكر المتحركة وعلوم الأجسام السماوية، وبعضها بالمفرد مثل علم الموسيقى وعلم الأثقال وعلم الحِيَل. وعلم الموجودات هو العلم الطبيعي. توجد فيه أجناس الموجودات الأربعة والجزئيات. ويكون علم التعاليم له بمثابة الأوائل، أي أنه يمكن التحكم في الطبيعة بالرياضة. وأجناس الأشياء المحسوسة هي الأجسام السماوية ثم الأرض والماء والهواء والنار والأحجار والمعادن على سطح الأرض وفي عمقها، بالإضافة إلى النبات والحيوان غير الناطق والحيوان الناطق. ويمكن الارتقاء من مبادئ علم طبيعي إلى مبادئ علم طبيعي آخر معروفًا أكثر حتى الانتهاء إلى المبادئ الأولى لكل العلوم تكون هي المبادئ الأولى لكل الموجودات.
المطلوب أولًا المبادئ الأربعة واليقين منها سواء في مبادئ الرياضة أو في مبادئ الطبيعة. إذ يتداخل العلمان، أوائل العلوم وأوائل الموجودات كما تتداخل مراتب المعرفة والوجود سواء على المستوى الطبيعي أو على المستوى الإلهي.
وقد تتطابق مبادئ التعليم ومبادئ الوجود وقد لا تتطابق. فإن لم تتطابق فلأن مبادئ الوجود أكثرُ غنًى واتساعًا من مبادئ التعليم. الطبيعة أوسع رحابًا من العقل. وقد تكون مبادئ التعاليم أكثرَ اتساعًا لصوريتها من مبادئ الوجود. فالعقل والخيال أرحب من الواقع والحس. قد تكون الأولوية لمبادئ الوجود على مبادئ التعاليم. وهي أولوية معرفية وليست وجودية. الطبيعة تتقدم العقل وجوديًّا، والعقل يُدرك الطبيعة معرفيًّا. وقد يكون ترتيب مبادى التعاليم سببَ معرفة مبادئ الوجود، فالمعرفة شرط الوجود.
ويتم الانتقال من النظر في الأجسام الطبيعية صعودًا إلى الأجسام السماوية والبحث عن مبادئها كأجسام طبيعية ليس كعلم رياضي هذه المرة وكأن الأفلاك تدخل في العلمَين معًا، الرياضي والطبيعي. فيتم اكتشاف مبادئ لا هي طبيعية ولا هي غير طبيعية بل موجودات أكمل من الطبيعة ولكنها ليست أجسامًا ولا في أجسام. وهنا ينشأ النظر في علم ما بعد الطبيعة كوسيط بين علم الطبيعة وعلم التعاليم.
بعض العلوم تقوم على المبادئ الأربعة مثل العلوم الطبيعية، والبعض على ثلاثة فقط دون المادة مثل الرياضيات والميتافيزيقا. فهل يمكن أن تقوم علوم على مبدأَين أو مبدأ واحد؟ ولماذا لا تكون هناك مادة لا متعينة مثل الهيولى الأولى؟
والمبدأ الأول هو الموجود الأول نظرًا للوحدة الأولى بين التعاليم والموجودات. والموجود الأول لا جنسَ له أصلًا، ولا تنطبق عليه مبادئ الموجودات الأربعة. «الله» فكرة محددة، تدفع إلى التنزيه والتعالي المستمر وليس علةً فاعلة أو صورية أو غائية. وهي علل أشرف من العلة المادية كما هو الحال في علم أصول الدين.
وهناك طبيعيات متنوعة، ومداخل عديدة للعلم الطبيعي، يتداخل فيها التاريخ مع البنية وتتبادل فيها البنية مع التاريخ. هناك على الأقل ثلاثة مستويات للعلم الطبيعي لا تتعاقب بالضرورة في الزمان.
-
(١)
البداية بالمحسوس، ووصْف الطبيعة الحسية ابتداءً من الجسد سواء كان جسدَ الحيوان أو جسدَ الإنسان ثم انتقالًا إلى النفس ثم إحالة متبادلة بين الإنسان والطبيعة، أي الإنسان في العالم. والعالم إما العالم الطبيعي أو العالم الإنساني الاجتماعي السياسي، فلا فرق بين الجسد والمدينة، الجسد للفرد والمدينة جسد الجماعة. كما تفتح النفس آفاق المعرفة والأخلاق. وقد مثَّل ذلك إخوان الصفا أولًا ثم الكِنْدي والفارابي وابن سينا ثانيًا.
-
(٢)
البداية بالطبيعة الخارجية العلوية، علم أحكام النجوم، الكون الطبيعي وأثره على العالم الإنساني، وهي الأشكال المتعددة للعلم سواء علم التنجيم أو علم الفلك. وهو أيضًا إسقاط من الإنسان على الكون العريض، واتجاه الشعور نحو السماء، النجوم بعد اتجاهه نحو الأرض، الحيوان والنبات والمعادن، وقد مثَّل ذلك إخوان الصفا والفارابي والتوحيدي وابن سينا.
-
(٣)
الطبيعيات العقلية التي تحذو حذوَ الأقسام الخمسة للعلم الطبيعي الوافد: السماع الطبيعي، السماء والعالم، الكون والفساد، الآثار العلوية، النفس. وقد مثل ذلك أيضًا الكِنْدي وإخوان الصفا، والفارابي وابن سينا. وهي الطبيعيات التي تقوم على الثنائيات الشهيرة: المادة والصورة، والجوهر والعرض، المعلول والعلة، الكم والكيف، الحركة والسكون والتي تسمح في النهاية بالانتقال من طرف إلى طرف، وبالتحول من الطبيعيات إلى الإلهيات. وواضح دخول إخوان الصفا في الأنواع الثلاثة من الفكر الطبيعي مما يفسر غلبة طبيعياتهم على باقي العلم الطبيعي في علوم الحكمة.
والسؤال هو: هل تُحلل الرسائلُ الطبيعيةُ السبعَ عشرةَ رسالة حفاظًا على وحدتها وقصدها ومستواها ومحورها وبؤرتها، أم تدرس الموضوعات المتكررة مثل الجسد والنفس عبر الرسائل لبناء الموضوعات؟ ويمكن الجمع بين الطريقتين جمعًا بين التكوين والبنية، بين الحركة والثبات.