مقدمة الطبعة الأولى
«الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» سجل لتاريخ مصر الحديث عن الدين
والثورة إبَّان الفترتين الرئيسيتين في عمر الثورة المصرية؛ الأولى
فترة الثورة وحُلم الستينيات (١٩٥٢–١٩٧٠م)، والثانية فترة الثورة
المضادة وواقع السبعينيات (١٩٧٠–١٩٨١م). لذلك كان من ضمن الاختيارات
للعنوان «الثورة والثورة المضادة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م». وهو أقرب إلى
الكتاب الوثائقي يقصُّ بداية الثورة ونهايتها في مصر في غمرة الأحداث
التي عصفت بها. وقد كُتب معظمه للصحافة داخل مصر وخارجها، وبالتالي غلب
عليه الأسلوب الخطابي، واتَّسم بالنبرة العالية. كانت الغاية مخاطبة
الجماهير العربية في مصر وخارجها والتوجُّه لها مباشرةً
بالنداء.
وقد كُتب معظمه في الفترة ١٩٧٦–١٩٨١م، أيْ على مدى خمس سنوات في
عنفوان الثورة المضادة في مصر، وبعد قانون الاستثمار في ١٩٧٤م وبداية
الانفتاح الاقتصادي، وبعد انتفاضة يناير ١٩٧٧م، والمعاهدة المصرية
الإسرائيلية في مارس ١٩٧٩م، ومقاومة التطبيع ابتداءً من ١٩٨٠م، ثم
مذبحة سبتمبر ١٩٨١م، وأخيرًا اغتيال الرئيس في أكتوبر من نفس العام.
كُتب في غمرة الأحداث التي مرَّت بمصر إبَّان التحول عن ثورتها التي
هزَّت وجداننا القومي وقناعاتنا الأولى.
ويتكوَّن الكتاب من جزأين؛ الأول «في الثقافة الوطنية»، والثاني «في
اليسار الديني». وكان قد أُعلن عنهما من قبلُ أنهما يُمثِّلان قضايا
معاصرة، الجزءان الثالث والرابع. ولكني لم أشأ استبقاء العنوان القديم
الذي صدر منه جزءان سابقان؛ الأول «في فكرنا المعاصر»، والثاني «في
الفكر الغربي المعاصر» والذي يعبِّر عن الأحداث التي مرَّت بمصر بعد
هزيمة ١٩٦٧م وإلى ١٩٧١م. وبالتالي أكون قد شهدتُ على عصري مرَّتَين؛
الأولى في «قضايا معاصرة» في الستينيات في فترة ما بعد الهزيمة في ١٩٦٧م،
١ والثانية في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» في
السبعينيات في فترة الثورة المضادة في مصر ١٩٧١–١٩٨١م.
وفي كلتا الفترتين، حاولتُ الجمع بين العلم والوطن، وأن أمارس دَوري
كعالم ومواطن كما كان يفعل الفقهاء القدماء؛ فلا فرق عندي بين الجامعة
والوطن، ولا بين البحث العلمي والالتزام السياسي. وقد استغرق ذلك من
العمر ما يقرب من السنوات العشر على فترتَين. فما كان يُعقل والمنزل
يحترق، والأرض مُحتلَّة، والاستقلال الوطني ضائع، والحريات مُنتهَكة،
والتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء في اتساع، والأمة مُجزَّأة
يحارب بعضُها بعضًا، والهُويَّة مُهدَّدة، والجماهير لا مبالية … أن
أواصل «التراث والتجديد»، وهو مشروع العمر الذي يؤصِّل مآسي العصر
ويتعرف على أسبابها وطرق مواجهتها في التراث القديم باعتباره مخزونًا
نفسيًّا عند الجماهير والمُكوِّن الرئيسي لثقافتنا الوطنية.
٢
ولمَّا لم يكُن في العمر بقية، وكان مشروع «التراث والتجديد» هو
الأبقى على المدى الطويل، فقد آثرتُ أن أكتفي بهاتين الشهادتين على
أحداث العصر، والتي كلفَتني عشر سنوات من التوجُّه المباشر من خلال
الصحافة إلى جماهير الشعب، وأن أخصِّص ما بقي من عمر لمشروع «التراث
والجديد»، وإصدار أجزائه تباعًا بعد أن تأخر الجزء الأول «من العقيدة
إلى الثورة» أكثر من خمسة عشر عامًا بسبب أحداث العصر،
٣ وأصبح السؤال الآن: متى يتمُّ إنجازُ هذا المشروع بجبهاته
الثلاث؛ موقفنا من التراث القديم، وموقفنا من التراث الغربي، وموقفنا
من الواقع أو نظرية التفسير إذا ما استنفد الجزء الأول من الجبهة
الأولى رصيد العمر؟
لذلك يصدُر هذا الكتاب ولم يعد في العمر بقية لشهادة ثالثة على أحداث
العصر القادمة. وأترك ذلك لأجيال أخرى تقوم بها أكثر شبابًا وحماسًا،
بل أكثر وعيًا وإدراكًا. وبإصدار هذين الجزأين أقول: وداعًا للصحافة.
٤
وقد أهديتُه إلى «أحزاب المعارضة المصرية»، فقد كتبتُ معظم مقالات
هذا الكتاب وأنا أعمل معها، خاصةً مع حزب «التجمع» الذي تعلَّمتُ منه
الكثير، حوارًا مع قياداته الفكرية، وعملًا مع كوادره الحزبية،
واتصالًا بجماهيره الثورية.
حسن حنفي
القاهرة، نوفمبر ١٩٨٧م