الجامعة والوطن١
وكان التعليم الجامعي كله يدور حول الفنون الحرة السبعة، النحو والبلاغة والأدب في مجموعة ثلاثية، والحساب والهندسة والموسيقى والفلك في مجموعة رباعية من أجل تخريج أدباء أو علماء. وكانت كليات الآداب نواة الجامعات، لذلك تُسمَّى اليوم «كلية الآداب والعلوم الإنسانية» إبرازًا لدورها الأساسي وهو دراسة الإنسانيات. وكان من الطبيعي أن تصاحب نشأة الجامعات نشأة الاتجاهات الإنسانية في الآداب والعلوم والفنون. ثم أُضيفَت كليات الحقوق والطب بعد ذلك لتدعيم الدراسات الإنسانية، سواء في علاقة الإنسان بغيره ونشأة القانون، أو في علاقة الإنسان ببدنه من أجل المحافظة على الصحة والوقاية من الأمراض.
وكانت الجامعات في نشأتها في مُدن صغيرة من أجل الاعتكاف والتأمل، وطلبًا لحياة الراحة والهدوء بعيدًا عن صخب المُدن الكبيرة وضجَّة العواصم. هكذا كانت أكسفورد وكمبردج وهارفارد وجوتنجن وتوبنجن وهيدلبرج وهاله وفريبورج. وكانت في معظمها جامعاتٍ خاصةً تقوم على الهبات والأوقاف أو من مصروفات الطلاب. ولكنْ بعد عصر القوميات في الغرب، وسيطرة الدولة على المؤسَّسات التعليمية، نشأت الجامعات في المُدن الكبرى وفي العواصم تلبيةً لحاجات الدولة الزراعية والصناعية والتجارية. نشأت جامعات العواصم الكبرى تدعمها الدولة ماليًّا، وفي نفس الوقت تسيطر عليها وتوجِّهها تعليميًّا. وكلا الاختيارين قائمان حتى الآن؛ الجامعة الخاصة في المدينة الصغيرة، والجامعة الحكومية في المدينة الكبيرة. وإن اختيار موقع جامعة الإمارات في مدينة العين يُلبِّي مطالب الراحة والهدوء، ولكنه في نفس الوقت يُبعدها عن التجمعات السكانية ومراكز النشاط الثقافي والعلمي للمُدن الكبرى.
أولًا: الجامعات الأوروبية
- (١) تحوُّل دُور العبادة إلى جامعات: نشأت الجامعات الأوروبية في عصر تحوَّلَت فيه الثقافة من القديم إلى الجديد، وانتقل فيه العلم من دُور العبادة إلى المدارس والمعاهد. فالجامعة تحوُّل طبيعي من نمط تقليدي في التعليم إلى نمط آخر، حلَّ فيها العلم محلَّ الدين، وأخذ البحث مكان التسليم، وقام العقل بدَوره بدلًا من النقل. فتوارى دَور الصوامع والأديرة وبرز دَور الجامعات والمدارس. ومهما حاولَت المؤسَّسات القديمة الحدَّ من سُلطة الجامعات الجديدة والنَّيل من العلم، والتشكك في البحث، وإضعاف سلطان العقل باسم الدفاع عن القديم والتمسُّك بتراث الآباء والأجداد حمايةً له من انحرافات المُحدَثين، إلا أن مسار التاريخ وتقدُّم العالم كان باستمرارٍ في صفِّ الجامعات، حتى انتصرَت الجامعة الجديدة على دُور العبادة القديمة. ولمَّا بانت أهمية البحث العلمي، عاودت الدُّور القديمة ولحقَت بمناهج البحث العلمي مستفيدةً من دُور الجامعات الجديدة لتأييد العقيدة بطريقةٍ أكثر عقلانيةً وعلميةً وترسيخ قواعد الإيمان.هذا هو تاريخ جامعات السربون وأكسفورد وكمبردج من القرن الثالث عشر الميلادي. ونشأت جامعة هارفارد في القرن السابع عشر لتحقيق الهدفَين معًا؛ تقدُّم العلم، وإعداد الطلاب للوظائف الدينية. ثم أصبحَت بعد ذلك معهد علم فحسب، بعد أن ورث العلم الدين، وقام فَهْم الدين على أساس العلم.٧ فطبقًا لهذا النمط الغربي يمكن تقسيمُ المجتمعات إلى نوعَين بالنسبة لدرجة تطوُّره بالنسبة للعلم؛ الأول: المجتمع الديني الذي يعتمد على حُجَّة السُّلطة؛ سُلطة الكتاب أو النقل. والثاني: المجتمع العلمي الذي يعتمد على البرهان وعلى حُجَّة العقل؛ العقل البرهاني أو العقل العلمي الطبيعي. فتؤكد تجربة الغرب أن التقدم البشري هو في الحقيقة انتقالٌ من المجتمع الديني الأول إلى المجتمع العلمي الثاني.
وقد أعطت جامعاتنا الإسلامية القديمة نمطًا مخالفًا هو تطوُّر طبيعي للمجتمع الديني إلى المجتمع العلمي، فهما ليسا نقيضَين. ففي المساجد نشأت حلقات البحث، وبعقلية التوحيد نشأت العلوم الرياضية والطبيعية. فالمسلم عالِم، والعالِم مسلم، وليس أحدهما ببديلٍ عن الآخر أو بنقيضٍ له. وعلماؤنا الأجلاء؛ البيروني في التاريخ، وابن الهيثم في المناظر، وجابر بن حيان في الكيمياء، والخوارزمي والطوسي في الرياضيات، وابن سينا وابن رشد في الطب، وابن خلدون في الاجتماع … خير شهداء على ذلك.
- (٢) تجسيد الجامعات للثقافات الوطنية: وقد ارتبطت الجامعات بالثقافات الوطنية لمختلف الشعوب، وبرزَت فيها روح الأمم، وظهر في مُفكريها روح العصر، ومسار التاريخ. فبعد انتهاء عصر الإمبراطوريات الكبرى في العصور الوسطى وإبَّان العصور الحديثة، وبروز القوميات المستقلة في الغرب؛ الألمانية والإيطالية والفرنسية والبريطانية والأمريكية، قامت الجامعات وساهمت في بَلوَرَة مفاهيم روح الأمة أو شخصية الشعب، والتاريخ الوطني، والتراث الحي، من أجل تأسيس القومية الجديدة كتصوُّر أو روح. وقد نجحَت الجامعات في ذلك فاستطاعت كل قومية أن تكشف ذاتها من خلال مُفكريها وأدبائها في جامعاتها. والأمثلة على ذلك كثيرة.فقد حملَت الجامعات البريطانية لواء الفلسفة الأنجلوسكسونية منذ فرنسيس بيكون حتى برتراند رَسل، ولم يخرج عن هذا التيَّار إلا دوائر منعزلة صغيرة، مثل أفلاطونيي كمبردج في القرن الثامن عشر. عبَّرت الجامعات البريطانية عن الروح البريطانية التي تتمثل في الاعتماد على الحِسِّ والتجربة، والاعتراف بالعالم الخارجي، وتحليل العقل باعتباره مخزونًا للمحسوسات، ورفض الأفكار الأولية والمبادئ العقلية، [والاعتماد في القانون على الحالات السابقة، والشواهد الجزئية، والقرائن الحِسيَّة دون القاعدة الفقهية أو القانون العقلي].٨
وارتبطت الجامعات الألمانية، سواء عند هيجل أو شلنج أو فشته بالفلسفة الميتافيزيقية، وبمفهوم الوحدة بين الطبيعة والروح أو بين الله والعالم؛ ممَّا كان له أبلغ الأثر في تحقيق الوحدة الألمانية. فلولا فلسفات الوحدة كتعبير عن روح الشعب لظلت الوحدة الألمانية مطلبًا عسير المنال. وبروسيا وحدها كشقيقة كبرى ما كانت تستطيع توحيد شقيقاتها الصغرى؛ بافاريا، وستفاليا … إلخ. ولا كانت زعامة بسمارك قادرةً على تحقيق الوحدة دون ميتافيزيقا الوحدة التي عبَّر عنها الفلاسفة الألمان. وبعد احتلال نابليون لألمانيا استطاع فشته صياغة فلسفة في المقاومة لطرد المحتلِّ دفاعًا عن استقلال البلاد، «أنا أقاوم فأنا إذَن موجود»؛ فالمقاومة تعبير عن الحرية، والاقتصاد القومي الموجَّه تأكيدٌ للاستقلال ورفضٌ للتبعية، والسعادة تكون في تحقيق رسالة الإنسان في الحياة، والمُثُل الأعلى في التاريخ وليست في حياة البذخ والترف وملذات الجسد الحِسيَّة.
أمَّا الجامعات الفرنسية فقد زاوجَت بين الروح البريطانية والروح الألمانية، وجمعَت بين الحِسِّ والعقل، فكلاهما نشاطان متكاملان للنفس، وأصبح المنهج الفرنسيُّ في الفكر منهجًا عقلانيًّا يبدأ بتحليل تجربة نفسية مثل الجهد (مين دي بيران)، أو العادة (رافيسون)، أو الزمان (برجسون)، أو الإدراك (ميرلوبونتي)، أو الخيال (سارتر). أصبح هدف الثقافة الفرنسية التوحيد بين المثال والواقع، بين الروح والطبيعة، بين النفس والبدن، ابتداءً من تحليل التجارب النفسية. وما دامت النفس هي البداية فما أسهل بعد ذلك أن تنموَ نموًّا روحيًّا فتقترب من التصوف النفسي، وتصبح الفلسفة روحيةً خالصةً كما جسَّدَتها عمليًّا جان دارك.
وارتبطت الجامعات السوفيتية بالحركة السلافية المُدافعة عن الثقافة السلافية، باعتبارها الثقافة الوطنية، ضدَّ أنصار التغريب الداعين إلى تقليد الثقافة الغربية؛ ألمانية أو فرنسية. وارتبطت الثقافة بمفاهيم الأرض-الأم، والشعب، وروسيا المحروسة التي لا يقهرها عدو، موطن الأرثوذكسية والفلاح الطيب، وهي الثقافة التي عبَّر عنها الأدباء والفلاسفة الروس، وعلى رأسهم دستويفسكي وتولستوي.
كما ارتبطت الجامعات الأمريكية في بدايتها بروح وثيقة الإعلان عن الاستقلال التي ترتكز أساسًا على حرية الفكر والحفاظ على الوحدة الفيدرالية. وقد طالب جورج واشنطن وتوماس جيفرسون بإقامة جامعات فيدرالية تتولى حراسة مفاهيم الوحدة الأمريكية في ضمائر الأجيال الأمريكية. ثم ارتبطت الجامعات الأمريكية فيما بعدُ بالفلسفات الذرائعية والعملية من أجل تحقيق أكبر قدْر ممكن من النفع، وإحداث أكبر قدْر ممكن من التأثير في العالم.٩وارتبطت الجامعات الإسلامية القديمة بالعلوم الإسلامية النقلية أو العقلية أو النقلية العقلية، وكانت وعاءً للحضارة الإسلامية، سواء ما يتعلق بالعقيدة أو بالشريعة، وإننا حتى اليوم ندين لهذه الجامعات وعلمائها بتصوُّراتنا للعالم وبدوافعنا على السلوك. أمَّا جامعاتنا الحديثة فلم تواصل تراث الجامعات القديمة، ولا هي أحسنَت تبنِّي نُظم الجامعات الغربية القائمة على البحث الحر والرؤى العلمية، واقتصرَت مهمَّتها على النقل؛ إمَّا النقل من الماضي بدعوى الأصالة، أو من الغرب بدعوى المعاصرة.
- (٣) صياغة الجامعات للمشاريع القومية: كانت الأبحاث العلمية في الجامعات مرتبطةً أشدَّ الارتباط بالمشاريع القومية للدول التي نشأت فيها، وأشهر مثل على ذلك هو الاستشراق. فقد نشأ في الجامعات الأوروبية إبَّان التفوق العسكري الأوروبي والسيطرة الاستعمارية على الشعوب الآسيوية والأفريقية، وإبَّان نظريات التفوُّق العنصري الأوروبي. وقد كان الهدف منه جمع أكبر قدْر ممكن من المعلومات عن الشعوب المُستعمَرة من أجل السيطرة عليها وإخضاعها، ليس فقط عسكريًّا بل أيضًا ثقافيًّا وحضاريًّا. ارتبط الاستشراق الفرنسي بشمال أفريقيا؛ تونس والجزائر والمغرب، وبالشام؛ سوريا ولبنان. وتوجَّه الاستشراق الهولندي إلى إندونيسيا والملايو والفلبين. وعكف الاستشراق البريطاني على مصر والسودان والعراق وفلسطين والجزائر العربية.
ولمَّا ورثَت العلومُ الاجتماعيةُ الحديثة، وفي مُقدِّمتها الأنثروبولوجيا الثقافية، الاستشراقَ القديم، وبرزَت الولايات المتحدة كأكبر قوة استعمارية حديثة، عسكرية واقتصادية وثقافية، من أجل الهيمنة الشاملة على العالم؛ ازدهرت هذه العلوم، وارتبطت مراكز الأبحاث والمعاهد والجامعات بأجهزة الاستخبارات الأمريكية والبنتاجون. كما أصبحَت مراكز جمع المعلومات كلها في مراكز إصدار القرار الأمريكية. بل إن كثيرًا من هذه الأجهزة تقوم بتمويل بعض الأبحاث الاجتماعية في عدد من الجامعات.
ولم يختلف الحال في الشرق عنه في الغرب، فقد ارتبطت الجامعات السوفيتية أيضًا بالبحوث الاقتصادية والتاريخية حول حركات الشعوب ومُكوِّنات القوميات من أجل إعادة كتابة تاريخ للعالم من وجهة نظر الأبنية الاقتصادية وأنماط الإنتاج ووسائله؛ ملكية خاصة أو عامة. كما عكفت جامعات اليابان منذ نهضتها في القرن الماضي على القيام بأضخم مشروع قومي لترجمة العلم الغربي ونقله إلى اللغة اليابانية من أجل بناء الدولة الحديثة وبداية عصر الصناعة. وما إن مرَّ جِيلانِ حتى بدأ الإبداع العلمي الياباني متفوقًا على العلم الغربي وأساليب الصناعة فيه. كما توجَّهَت جامعات الصين إلى دراسة ثقافاتها الوطنية وتراثها العلمي، وتقدَّمَت في علوم الطب وفي الفنون. ولا يتمُّ بحث علمي الآن إلا في إطار الخصوصية الحضارية لكل شعب، فالعلوم، خاصةً العلوم الإنسانية، هي بالضرورة علوم قومية.
وفي العالم الثالث، بعد عصر التحرر من الاستعمار والهيمنة الغربية قامت الجامعات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بإعادة دراسة تراثها الوطني وصياغة مشاريعها القومية. وأبرز مثال على ذلك جامعات المكسيك وكولومبيا وشيلي، ومحاولاتها إنشاء علوم اجتماعية وطنية في مقابل العلوم الاجتماعية الغربية. فوضعت مناهج ومفاهيم جديدة بدلًا من المسلمات القديمة عن الريف والحضر، التعليم والأمية، الزراعة والصناعة، أنماط التحديث، القوى الاجتماعية، التراث والتغيُّر الاجتماعي … إلخ. فالتحرر الثقافي والعلمي لا يقلُّ أهميةً عن التحرر السياسي والاقتصادي.
ومنذ فجر النهضة العربية الحديثة قام الجيل الأول بصياغة أضخم مشروع قومي، في عصر محمد علي، من أجل إرسال البعثات إلى الغرب، وترجمة أمهات المراجع العلمية والأدبية، وإعداد كوادر فنية من أجل النهضة الحديثة في الزراعة والصناعة، وإنشاء المدارس الفنية والمعاهد العُليا من أجل تأسيس الدولة الحديثة. ولمَّا تكاتفَت القُوى الاستعمارية على ضرب التجربة وكسرها، عادت صياغته من جديد في جيلنا الحالي إبَّان الثورة المصرية، فأُرسِلت البعثات، وأُنشِئَت الصناعات، وتأسَّسَت المعاهد والجامعات العلمية في إطار مشروع قومي جديد لتوحيد الأمة ونهضتها وتحرُّرها، وإعادة توزيع دخلها بما يحقِّق أكبر قدْر ممكن من العدالة والمساواة، ويقوم على استقلال الإرادة الوطنية. وإن النهضة الإسلامية المعاصرة، وهي التجربة الثالثة في جيلنا لَتواجه هذا التحدِّي من جديد؛ صياغة مشروع قومي إسلامي لنهضة مُرتقَبة تتعلم من التجربتَين السابقتَين، وتكون أسعد حظًّا منهما. وأمامها المشروع الإسلامي الأول الذي قام به المسلمون منذ القرن الثاني الهجري وبعد قيام الدولة الإسلامية، ترجمة كتب الأوائل ونقل تراثهم إلى العربية. وما إن حلَّ القرن الثالث حتى بدأ الإبداع الإسلامي بتأسيس كل العلوم الإسلامية وتأسيس مجتمع علمي رشيد.
- (٤) ريادة البحث العلمي: ومنذ انتصار العلم في عصر النهضة تصدرت الجامعات قضية البحث العلمي، وخرجت معظم الاكتشافات العلمية الحديثة من أروقة الجامعات منذ جامعات بالرمو وبادوا في إيطاليا تحت أثر ترجمات العلوم الإسلامية من العربية إلى اللاتينية، خاصة في العلوم الطبيعية وعلوم الحياة إلى الجامعات الحديثة التي منها خرجت النظرية النسبية لأينشتين، ونظرية الكوانتم للوي دي بروي … إلخ.١٠ ونشأت داخل الجامعات مراكز الأبحاث المتخصصة والمعامل المتقدمة، وأُجريت فيها التجارب العلمية العديدة. لذلك ارتبطت الجامعات بتطور الغرب وبنهضته العلمية الحديثة. ونشأت فيها عمادات بأكملها للدراسات العليا والبحوث العلمية. وصدرت من الجامعات وأقسامها ومعاهدها ومراكزها المتخصصة المجلات العلمية، وتبادلت خبراتها فيما بينها. وفي اليابان قامت مراكز الأبحاث داخل الشركات الصناعية الكبرى بتدعيم الصناعات بما تحتاجه من أبحاث واختراعات، بل أقامت كل شركة مراكز أبحاثها حتى تلغي المسافة بين النظرية والتطبيق، بين الجامعة والمصنع، بين العلم والحياة.
لم تقم الجامعات إذَن على التلقين ونقل المعلومات، فقد كان ذلك من مهام دُور العبادة والأديرة في العصور الوسطى؛ حفاظًا على تراث الآباء والأجداد، والذي لا يتغير بتغير العصور، والذي يعبر عن حقيقة مطلقة أبدية، وكأن البشر لا يخطئون، وكأن الواقع لا يتغير، وكأن رؤية الكون وتفسيرات الطبيعة ثابتة. فالتقليد ليس منهجًا علميًّا ولا طريقًا للمعرفة. ونقل المعلومات ليس علمًا. العلم هو ما يُسْتَنبَط من المعلومات وما يُسْتَنتَج منها، وما يُخْلَق كمعلومات جديدة بناءً على تجارب أو مشاهدات. والراوي ليس عالمًا، وناقل العلم ليس بعالم، والحافظ ليس عالمًا. لا تعمل الذاكرة عمل العقل. مهمة الذاكرة الحفظ والاختزان، ومهمة العقل التفكير والإبداع. فلا الذاكرة تفكر، ولا العقل يحفظ.
ولا يكفي أن تبدع الجامعات الأوروبية وتنقل الجامعات الأخرى عنها، وإلا كانت حضارة واحدة هي المبدعة وباقي الحضارات هي المستهلكة. وقد كان لكل حضارة في التاريخ دورها المبدع، في الصين والهند وفارس ومصر القديمة وبلاد ما بين النهرين وفينيقيا واليونان والعالم الإسلامي، قبل أن يصبَّ ذلك كله في الحضارة الغربية الحديثة.
- (٥) دَور الجامعات في ترشيد المجتمع: لم يقتصر العلم على أن يكون بحوثًا ودراساتٍ داخل مراكز الأبحاث، أو مُطبَّقًا في الصناعات، بل تحوَّل إلى أسلوب حياة وأداة لترشيد المجتمع. فتحوَّل المجتمع العفوي إلى مجتمع علمي، وأصبحَت الجامعات هي مراكز إصدار القرارات. فلا يصدُر قرار اقتصادي أو سياسي إلا إذا قام على دراسة علمية رشيدة. وبالتالي أمكن توفيرُ الجهد والوقت وتفادي النكوص والفشل والعَوْد على بَدْء، والبداية باستمرار من الصفر.١١ العلم إذَن هو الوسيلة لتحويل المجتمع التقليدي وأنماطه الفكرية السائدة كالعفوية والمزاجية إلى مجتمع العلم والعقل، ومن مجتمع العلاقات الفردية والمواجهة الشخصية والأمزجة والانفعالات إلى مجتمع يسوده القانون ويحكمه الفكر ويسير طبقًا للمبادئ، ومن مجتمع العفوية والمصلحة الآنيَّة إلى مجتمع الترشيد والتخطيط.١٢ لذلك استطاع المجتمع العلمي الرشيد التنبؤ بوقوع الظواهر بعد معرفة قوانينها، وتوقُّع المشاكل والإعداد لها قبل وقوعها، واكتشاف حلولها قبل تفاقمها وتحوُّلها إلى أزمات لا حلَّ لها. لا يوجَد «تابو» في العلم أو في المجتمع، في الفكر أو في النُّظم الاجتماعية. يضع العلم كل شيء موضع البحث، بما في ذلك العادات والأعراف والتقاليد، وكل مظاهر الموروث الذي كثيرًا ما يختلط في أذهان الناس مع المقدَّس. وطالما ظلَّ هناك موضوع خارج البحث العلمي باعتباره سرًّا أو مقدَّسًا، فإنه سرعان ما يتحول إلى «تابو» ويصبح مصدرًا للخرافة والجهل أو أداةً للقهر والطغيان. حينئذٍ يستحيل الترشيد القائم على العقل، كما تستحيل المبادرة التي تتطلب الحرية. وسيظلُّ الغرب يزهو باستمرار بأنه مجتمع العقل والعلم، وبأنه وحده هو القادر على التنظيم و«عقلنة» العالم، وأنه هو وحده الذي اكتشف الإنسان الحر العاقل القادر، طالما أن المجتمعات غير الأوروبية ما زالت قاصرةً غير رشيدة لا تعتمد على العقل، ولا تقوم على الاختيار الحر. وما زالت تقبل الوصايا عليها من «التابو» أو ممَّن يستعمله كأداة للسيطرة. إن القصور الذاتي ليس قانونًا للتاريخ، بل هو مجرَّد استمرار لفعلٍ مضى وبدأ في التراخي والذبول. والمجتمعات التي تعيش بالقصور الذاتي سرعان ما تذبل وتموت. ومن ثَمَّ فلا بديلَ عن المبادرة الحرة وترشيد المجتمع حتى يمكن تدريجيًّا الاستغناء عن الخبرات الأجنبية، وحتى يقوم بالترشيد الباحثون المواطنون، فهم أقدر على معرفة حاجات المجتمع وأذواق الناس. وطالما بقيت الجامعة في جانبٍ تقصر مهمَّتها على محو الأمية الثقافية أو إخراج مُدرسين أو مُوظفين أو إداريين، وتترك ترشيد المجتمع للخبرة الأجنبية، كلما اشتدَّت غربة الناس عن عالمهم، وكلما اتَّسعت الهوَّة بين ثقافتهم وبين عصرهم.
- (٦) قدرة الجامعات على النقد الذاتي:١٣ لا يقتصر دَور الجامعات على البحث العلمي وترشيد المجتمع، بل إنها بالإضافة إلى ذلك تتمتع بقدرة فائقة على النقد الذاتي. تقوم الجامعات إذَن بدَور طليعي في نشأة الأفكار الجديدة التي تنادي بالإصلاح وتهدف إلى التغيير نحو الأفضل. ظهرَت من داخل الجامعات التيارات الجديدة التي تتجاوز الأوضاع الاجتماعية الحالية، وقامت بدَور النقد الذاتي لمجتمعاتها ونُظمها، وخرجَت منها المذاهب الجديدة لإعادة بناء المجتمعات. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ ففي الستينيات عندما بدَا الاستعمار عاتيًا ممثَّلًا في حرب فيتنام نشأت الحركات المناهضة للحرب داخل الجامعات، وتكوَّنت حركات السلام داعيةً لإيقاف الحرب، ومطالبةً باستقلال الشعوب وبحقِّها في تقرير المصير. قامت الجامعات، خاصةً علماء الإنسانيات، بفضح المركب الصناعي العسكري الذي يثرى من وراء الحروب وتجارة السلاح، وتكون الشعوب هي الضحية. قام مُفكرو الجامعات وأساتذتها بمحاكمة أمريكا على جرائمها في فيتنام، مثل محاكمة سارتر ورَسل، ومحاكمة إسرائيل على جرائمها في صبرا وشاتيلا، التي قام بها إيتاجاكي في اليابان.
وأيضًا من داخل الجامعات، بدأت حركات المطالبة بالحقوق المدنية للأقليات ضدَّ التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية. كما تكوَّنَت في الجامعات لجان للدفاع عن حقوق المستهلكين ضدَّ استغلال شركات الغذاء الكبرى التي همُّها الكسب دون المحافظة على صحَّة الناس، فاستعملت كل الوسائل المصطنعة للإنتاج الكمِّي للغذاء من المواد المركبة، والتدخُّل الاصطناعي في نموِّ النبات والطيور والحيوان، وهو أحد الأسباب الرئيسية لانتشار السرطان في أكثر من ثُلث المجتمع الأمريكي. ومن داخل الجامعات أيضًا تكوَّنَت «الحركة الخضراء» للدفاع عن البيئة ضدَّ التلوث بعد أن عجزَت قوانين الدولة عن الحدِّ من مخاطر نفايات المصانع التي ترغب في مزيد من الكسب، بصرف النظر عن صحَّة الناس. كما تكوَّنَت داخل الجامعات الأوروبية حركات السلام ضدَّ انتشار الأسلحة الذرية والصواريخ النووية العابرة للقارات؛ دفاعًا عن حقِّ الشعوب في العيش في سلام. وقام علماء الطبيعة أنفسهم بالوقوف أمام مشاريع حرب الكواكب لما تجرُّه على الإنسانية من خراب ودمار. وعندما شعر البعض بضرورة العودة إلى الدين لحلِّ مشاكل المجتمع الصناعي المُتقدِّم ظهرَت الجماعات الدينية في حرم الجامعات الأوروبية ترقص وتغني، تطبِّل وتزمِّر، تحلق الرءوس، وتلبس المسوح، داعيةً للخلاص؛ فالمسيح يعود من جديد، وكرشنا مُنقذ البشر، وبراهما طريق الطمأنينة والسلام!
ولمَّا بدأت حركات الرفض لمُثُل المجتمع كلها ولقِيَم الطبقة المترفة فيه، نشأت حركات «الهيبيز» داخل الجامعات في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية. وظهر «الجينز» المهلهل الأرجل بلا خياطة أو صناعة، والعلم الأمريكي في الخلف أو على الحذاء، وشاع النوم في الطرقات بدلًا من القصور، وظهرت عادة إطالة اللحى والشعور بدلًا من التزين والتجميل، ورفض الاستحمام والعطور باعتبارها قِيَمًا للحياة الناعمة، وإيثار حياة البؤس والشقاء، وعمَّ الغناء في الطرقات بدلًا من المسارح. ظهرَت «الخنافس» بدلًا عن القطط السمان، فحياة الشعوب أصدق من حياة المترفين.١٤وقد اكتمل ذلك كله في مظاهرات الشباب في مايو ١٩٦٨م، من داخل الحرم الجامعية، تنادي بمُثُل جديدة، وقِيَم جديدة، وتعليم جديد، ومناهج جديدة. ونالت بعض ما أرادت في الاشتراك في الإدارة الجامعية، وتغيير مناهج التعليم من العلم المفروض إلى الحوار المفتوح، ومن المحاضرة العامة إلى المناقشة الحرة.١٥ وظهر مُفكرون أساتذة، مثل هربرت ماركيوز، وطلابًا مثل أنجلاديفيز يضعون فلسفةً جديدةً للشباب؛ إشباعًا لرغباته المكبوتة وتأكيدًا لذاته الضائعة، وتحقيقًا لغاياته ومُثُله التي تعبِّر عن حاجاته بدلًا من الحرمان والإحباط هَدرًا للطاقات وإجهاضًا للعقول. إن الجامعة هي المكان الطبيعي لممارسة الحرية والقيام بدَور النقد الذاتي حتى لا تقع الأمة في الازدواجية بين حياتها الخاصة وحياتها العامة، بين السرِّ والعلن، الهمس والصياح، الكلام بين الأصدقاء والحديث الرسمي، حديث القلب، وتمتمات الشفاه وحركات اللسان.
ثانيًا: الجامعات العربية
- (١) ارتباط تاريخ الجامعة بالحركة الوطنية:١٦ في البلاد النامية — بوجه عام — ارتبطت الجامعات بتاريخ الحركة الوطنية. فإذا أخذنا الجامعة المصرية مثالًا على ذلك، وهي أقدم الجامعات العربية، لوجدنا أنها ارتبطت منذ نشأتها بتاريخ الحركة الوطنية المصرية، منذ أن كانت جامعةً أهليةً عام ١٩٠٨م، إلى أن أصبحَت جامعةً وطنيةً في ١٩٢٥م، فقد شهدَت الثورة الوطنية في الأربعينيات. وفيها تكوَّنَت لجنة الطلبة والعمال عام ١٩٤٦م، وقام شبابها بتكوين حركة الفدائيين في القناة عام ١٩٥١م، ثم هبَّت الجامعة دفاعًا عن الحرية والديمقراطية في ١٩٥٤م. وقامت المظاهرات ضدَّ أحكام الطيران عام ١٩٦٨م ترفض الهزيمة، وتطالب بمحاكمة المسئولين عنها. وعندما ظهرت الثورة المضادة في السبعينيات حملَت الجامعة لواء المعارضة منذ ١٩٧١م حتى ١٩٧٦م. وليس بغريبٍ أن يكون النصب التذكاري للشهداء على مدخل الجامعة، وأن يكون على الناحية الأخرى من طريق الجامعة تمثال نهضة مصر. والجامعة والمثال مختارٌ كلاهما من حصاد ثورة ١٩١٩م. لقد حملت الجامعة الأماني الوطنية، ونادت بالاستقلال التام أو الموت الزؤام، ورفعَت شعار وحدة وادي النيل، وهتفَت بسقوط الملك، ونادت بالوحدة الإسلامية. وقامت جامعة الأزهر بنفس الدَّور منذ الوقوف أمام نابليون، ومقاومة الفرنسيين، وتنصيب محمد علي واليًا على مصر، ثم حملَت لواء المقاومة للإنجليز، ورفضَت الاحتلال الصهيوني للقدس. وقامت جامعات مصر كلها، ممثَّلةً في اتحاد نوادي أعضاء هيئة التدريس، برفض تطبيع العلاقات مع العدوِّ الصهيوني، والارتماء في أحضان الغرب، وسياسة الانفتاح الاقتصادي، والمناورات العسكرية المشتركة، والقوانين المُقيِّدة للحريات، والعزلة عن العالم العربي. ولقد كان نصرًا كبيرًا، قُبيل الثورة المصرية، إقرارُ مجانية التعليم، فالتعليم كالماء والهواء. ولقد تمَّ إلغاءُ المصروفات من المدارس الثانوية عام ١٩٥٠م، وبعد الثورة أصبح التعليم حقًّا طبيعيًّا للمواطن. وتمَّ إلغاءُ المصروفات من التعليم الجامعي عام ١٩٦٢م. وكانت جامعة الإسكندرية، التي تأسَّسَت عام ١٩٤١م، أول مَن أيَّدَت الثورة في ١٩٥٢م.١٧ وكان ناديها أول مَن عارض الثورة المضادة، حتى أصبح إحدى دعائم الوعي القومي.وقامت الجامعات العربية بنفس الدَّور الوطني؛ فقامت الجامعة التونسية والجامعة المغربية بدَور الطليعة في التعبير عن مطالب الجماهير التونسية الوطنية والاجتماعية. كما قامت جامعات السودان والخرطوم وأم درمان وجامعة القاهرة (الفرع) بمعارضة كافة نُظم القهر دفاعًا عن الحريات، وتأكيدًا على حقوق الشعب السوداني. وحَمَل نادي اتحاد الخريجين لواء وحدة وادي النيل ثم الدعوة إلى استقلال السودان. وقامت الجامعات في الشام والعراق بدَور رئيسي في معارضة الاحتلال الأجنبي، وفي مُقدِّمتها جامعة دمشق التي تأسَّسَت عام ١٩٢٣م. وتقوم حاليًّا جامعة بيزرت في الأرض المحتلة بمقاومة الاحتلال الصهيوني والتعبير عن مطالب الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة. وبالرغم من هجرة العقول ونزيف الجامعات العربية الذي يتمُّ منذ عقدَين من الزمان، كوَّن الأساتذة العرب في الجامعات الأمريكية رابطةً من أجل الدفاع عن حقوق الشعوب العربية، وفي مُقدِّمتها حقوق شعب فلسطين من أجل التأثير في الرأي العام الأمريكي وتكوين جماعة ضغط على مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأمريكيين في مقابل جماعات الضغط الصهيوني. وإذا كانت الجامعات العربية الحديثة مثل جامعات الخليج قد نشأت بعد الاستقلال، فإن دَورها يظلُّ في المحافظة على هذا الاستقلال، وبداية تكوين حركة وطنية تحميه من الانزلاق نحو التبعية.١٨ وإن ازدهار الجمعيات الطلابية في الحرم الجامعي وتناولها لقضايا الأمة عامةً وقضية فلسطين خاصة، ومهرجاناتها واحتفالاتها بيوم القدس ويوم الأرض ويوم الشهيد، وذكرى وعد بلفور، وضياع فلسطين؛ هو في حدِّ ذاته أحد المؤشرات الإيجابية عن ارتباط الجامعة بقضايا الأمة المصيرية.
- (٢) دَور الجامعة في التغير الاجتماعي: وقد كان للجامعات العربية عامةً والمصرية خاصةً دَور كبير في حركة التغير الاجتماعي حتى قبل الثورات العربية الحديثة؛ فقد حملَت لواء الفكر العقلاني المستنير من أجل إرساء قواعد النهضة المعاصرة، وظهرَت كتابات طه حسين وأحمد أمين وخلف الله وغيرهم من ثنايا الجامعة. كما ساهمَت الجامعات في ذيوع أفكار المساواة والعدالة الاجتماعية وعرض قضايا الغِنى والفقر وحقوق العمال والفلاحين.١٩ وبعد الثورات العربية الحديثة تشبَّع شباب الجامعات بالاشتراكية العربية،٢٠ وتمسَّكوا بمُثُل الحرية والاشتراكية والوحدة التي أصبحَت مثلًا للأمة العربية في الستينيات وذروة الثورة العربية قبل هزيمة يونيو ١٩٦٧م. وبصرف النظر عن بعض مناهج التبرير، وغياب النقد، وأساليب الخطابة دون البرهان، فقد حمل نادي الفكر الناصري لواء المعارضة للثورة المضادة داخل الجامعات في السبعينيات. كما شاركت الجامعات في الانتفاضة الشعبية، في يناير ١٩٧٧م، ضدَّ قرارات ارتفاع الأسعار. وكانت الجامعات الإقليمية عوامل تحديث في الريف بعد أن ظهر العلم بجوار الحقول ووسط جموع الفلاحين.وقد شاركَت معظم الجامعات العربية في التغير الاجتماعي؛ ففي المغرب حملَت الجامعات لواء المعارضة، ونادت بالحريات العامة، وبإعادة توزيع الدخل، وشاركت في مظاهرات الخبز في فبراير ١٩٨٤م. كذلك شاركت الجامعة التونسية ضدَّ قرارات ارتفاع أسعار الخبز والمواد الأولية، في يناير ١٩٨٤م، وسط جموع الشعب، واستعادت حقوقه فيما يتعلق بدعم الخبز. ومن الجامعات العربية في سوريا ولبنان خرجَت معظم اتجاهات النهضة العربية الحالية في اللغة والأدب والثقافة. فالجامعة صدًى للمجتمع وتعبيرٌ عن قضاياه، ودون هذه الوحدة ينقسم الطالب، بل والأستاذ، إلى قسمَين؛ طالب علم في الجامعة، ومواطن مهموم بقضاياه لا يعرف كيف يتناولها خارج الجامعة. وتكون النتيجة أن ينفر الطالب من العلم الذي لا نفع فيه، ويعجز عن تغيير وضعه؛ فيستسلم للأمر الواقع ويفقد قدرته على التغيير. وسواء كان هذا التغيُّر تدريجيًّا أو جذريًّا فكلاهما منهجان في التغيير؛ الإصلاح والثورة، وكلاهما مطروحان في فكرنا الحديث، الأول عند محمد عبده، والثاني عند الأفغاني.٢١
- (٣) دفاع الجامعة عن الحرية والديمقراطية:٢٢ لمَّا كان البحث العلمي يقوم أساسًا على حرية الفكر، وعدم التسليم بشيء على أنه حقٌّ إن لم يثبُت بالدليل أنه كذلك، فإن روح البحث العلمي هذه تنمو ويتحول الذهن الحر إلى الطالب الحر والأستاذ الحر، وتتحول الجامعة بأكملها إلى حصن للدفاع عن الحرية. فالحرية الفردية والديمقراطية السياسية تعبير عن العقل وتجسيد لحقِّ الفرد الطبيعي وأساس العقد الاجتماعي. الجامعة هي المكان الطبيعي الذي تتأكَّد فيه الحريات العامة وتثبُت فيه دعائم الديمقراطية. وقد دخلَت الجامعات العربية في هذا الميدان كلٌّ حسب طاقتها، وفي مُقدِّمتها الجامعات المصرية. فمنذ الصدام بين الجامعة والضباط الأحرار في مصر، في أزمة مارس ١٩٥٤م، أصبح استقلال الجامعات في خطر. وتحوَّلَت الجامعة إلى إحدى مؤسَّسات الدولة، يُعَيَّن رؤساؤها وعمداؤها ورؤساء أقسامها؛ ففقدَت الجامعة حقَّ انتخاب إدارتها، وأصبحَت الإدارة الجامعية ممثِّلةً للدولة؛ أيْ للنظام السياسي القائم عند الجامعيين، وليست ممثَّلةً للجامعيين عند الدولة. كما خفَّت أصوات النقد الذاتي والآراء الحرة، وتحوَّل الفكر الجامعي الوطني في معظمه إلى فكر تبريري خالص. وقد انعكس ذلك على مستوى التعليم، فغاب الصدق في التعبير، كما قلَّ الإبداع الفكري؛ نظرًا لغياب المدارس الفكرية ونقص الحوار بين الآراء المختلفة والنظريات المتباينة. وظهرَت نوعيات جديدة من الأساتذة تنقل العلم ولا تبدعه، تعرضه ولا تتمثله، لا تأخذ مواقف ولا تُبدي رأيًا. كما انعكس ذلك أيضًا على الطلاب فجاءت نوعية مماثلة حافظة للعلم وناقلة له، لا تُبدي رأيًا ولا تأخذ موقفًا. واتفق الطرفان على مصلحة واحدة، الكتاب المُقرَّر أو المذكرة المطبوعة، فالأستاذ ينشر والطالب ينجح، وتضمن الجامعة حُسن سَير النظام ونقل المعلومات. وكُبِّل الطالب بنظام الفصلين حتى يظلَّ يلهث وراء الامتحانات في منتصف العام وفي آخر العام، بصرف النظر عن التحصيل. ثم تكرَّر نفس الشيء في مذبحة الجامعات المصرية، في ١٩٨١م، بفصل سبعة وستين أستاذًا من المُعارضين لاتفاقيات الصلح مع إسرائيل والرافضين لسياسات الانفتاح الاقتصادي، والارتماء في أحضان الغرب، والعزلة عن العالم العربي، والمناهضين للقوانين المُقيِّدة للحريات. ثم عادوا بحكم قضائي من مجلس الدولة مؤكدًا استقلال الجامعات وعدم جواز النَّيل منها بفصل أستاذ مُعارض أو تعيين أستاذ مؤيِّد، حتى ولو كان من رئيس الدولة.
وسارت الجامعات العربية كلها على نفس الطريق؛ فأصبحَت الجامعات المغربية قلعة الدفاع عن الحريات العامة، بالرغم من اضطهاد اتِّحاد طلابها واعتقال أعضائه، وقامت الجامعة التونسية بنفس الدَّور، وكذلك الجامعة السودانية. ولم تتخلَّ بعضُ الجامعات الحديثة نسبيًّا، مثل جامعة الكويت، عن القيام بدَورها المنوط بها؛ فحرية البحث العلمي في النهاية جزء من الحريات العامة.
- (٤) حق الجامعة في الاستقلال الأكاديمي: كنمط مثالي ورؤية ما ينبغي أن يكون، فإن الجامعة لا تستطيع أن تؤدِّي دَورها الريادي في البحث العلمي والحركة الوطنية إلا باستقلالها الأكاديمي الذي يشمل حرية البحث العلمي والاستقلال الإداري؛ أي الحريات الأكاديمية وانتخاب الإدارة الجامعية، ورؤساء الجامعة وعمدائها ورؤساء أقسامها واتحادات طلابها.٢٣ فلا توجَد جامعة تابعة لهيئة أخرى تسيطر عليها، بما في ذلك الدولة، حتى ولو كانت هي التي تمدُّها بميزانيتها.٢٤ فالاعتماد المالي لا يعني التبعية الفكرية أو الإدارية للدولة كنظام سياسي، لذلك سُمِّي فناء الجامعة الرئيسي في وسطها «الحرم الجامعي». ومَن دخَل الحرم الجامعي كان آمنًا، ولا يجوز لأجهزة الدولة أن تدخل الحرم الجامعي، فرئيس الجامعة المنتخب هو المسئول أمام المجالس الجامعية عن أمنها بحرس جامعي مستقل تابع له. والاستقلال الجامعي استقلال تام، وإن كل محاولة لوضعه في إطار نظام الدولة، أو مشروط بضمانات، أو مُستثنًى بحالات؛ فإنها تقضي عليه من الأساس؛ إذ سرعان ما يصبح الاستثناء قاعدة، ويصبح كل بحث وكل رأي يُمثِّل خطرًا على نظام الدولة، وبالتالي تُفرَض الرقابة على الجامعات من خارجها، وتصبح تابعةً للنظام السياسي، في حين أن الثابت لا يتبع المتغير، فالجامعة تُمثِّل البحث العلمي وهو الثابت، في حين أن نظام الدولة مُتغيِّر تبعًا لتوازن القُوى الاجتماعية وصراعاتها. إن الضمان الوحيد للجامعة لا يأتي إلا من خلال المجالس الجامعية وبالنقاش الحر بين العلماء وبمناهج البحث العلمي.٢٥ وأول مظهر للاستقلال الجامعي هي الحريات الأكاديمية، ليس فقط في اختيار مجالسها ومُمثِّليها وأساتذتها وهيئاتها، بل في البحث العلمي دون قيد بالنسبة لموضوعات أو مناهج لا ترضى عنها النُّظم السياسية التي تنبذها الدولة في إحدى مراحل تطورها. فالبحث العلمي لا يقوم، كما قِيل من قبل، على التسليم بالممنوعات «تابو»، بل يضع كل شيء موضع البحث. وإيمانٌ عن برهانٍ خيرٌ من إيمانٍ عن تقليد. لذلك كانت إحدى قواعد العقائد الإسلامية أن إيمان المُقلِّد لا يجوز. إن البحث عن الحقيقة، وليس الوصول إليها، هو أساس الجامعة والغاية من إنشائها، ولا يتوفر البحث العلمي إلا في إطار عام من الحريات، فلا بحث عن الحقيقة، والباحث عنها خائف مُهَدَّد. وتكون الدولة في النهاية هي الخاسرة، ويكون الوطن هو الضائع. وإن أسوأ ما يضر بالجامعة لَهُو التعصُّب للأفكار المسبقة والمسلَّمات التي لم تخضع بعدُ لأصول البرهان.٢٦ بل إن المجتمعات العامية التي تنتقل من مرحلة التقليد إلى مرحلة البرهان لهي أولى بالتمسُّك بالحريات الأكاديمية وإعادة بحث تراثها الماضي ونُظمها الحاضرة بحثًا علميًّا دقيقًا دون تعصُّب أو تسليم. وإن الوعي السياسي والديني ضروري للطلاب؛ نظرًا لأن الدين هو الروح، والسياسة هي البدن، ولا غناء لأحدهما عن الآخر. لا غناء للماضي عن الحاضر، ولا للأصالة عن المعاصرة، ولا للتراث عن التجديد. إن الوعي بكلا المطلبَين يمنع من تحالف المحافظة الدينية مع القهر السياسي، أو أن يُغذِّي كلٌّ منهما الآخر، في حين أن مسار التاريخ هو باستمرار من المحافظة إلى التحرر، ومن التقليد إلى الاجتهاد.٢٧
- (٥) إسهام الجامعة في الإبداع الفكري: لقد كانت الجامعات العربية مصدرًا للإبداع الفكري، وتخرَّج فيها العلماء والمُفكرون والأدباء والشعراء، أسَّسوا مراكز البحث العلمي سواء في العلوم الطبيعية أو الرياضية، وكان لهم إسهاماتهم في تقدُّم العلم وحلِّ مشاكل مجتمعاتهم وبيئتهم. كما درسوا بيئاتهم الجغرافية، ومسحوا أوطانهم العربية، ودرسوا تاريخهم السياسي والاجتماعي والأدبي، ووضعوا موسوعاتٍ ضخمةً اشتهر بها العرب عامةً والمصريون خاصة. كما نشروا تراثهم القديم بعد أن حافظوا عليه في المساجد والبيوت، وساهموا في دراسة اللغة وتبسيط قواعدها، ووضع معاجم حديثة لمصطلحاتها الفنية، ونشأت لذلك المجامع اللغوية الحديثة واتحاد المجامع العربية. ودخلوا في المعارك الفكرية والأدبية حول الشعر والأدب، القديم والجديد، وساهموا في صياغة مفاهيم التقدم والنهضة. لم يكتفوا بنقل المعلومات من القدماء أو من المُحدَثين، بل أبدعوا بعد التحصيل، وخلقوا بعد التعلم. وقد كان الإبداع شيمة القدماء بعدما نقلوا عن الغير وتعلموا منهم، ثم أضافوا عليهم من اكتشافاتهم وإبداعهم. فالنقل وسيلة وليس غاية، والتعلم ما هو إلا أولى مراحل الإبداع.
وشرط الإبداع، بالنسبة للباحث العربي طالبًا وأستاذًا، ثلاث؛ الأول: الوعي بتراثه القديم، بظروفه التي كانت وراء نشأته، وباتجاهاته المختلفة والبدائل الممكنة، مع الوعي بظروفه الحالية والقدرة على إعادة الاختيار بين البدائل بما يُحقِّق صالح الأمة. والثاني: أخذ موقف من التراث الغربي، وردُّه إلى حدوده الطبيعية لاتساع المجال للإبداع الذاتي للشعوب واكتشاف قدراتها المحلية. والثالث: الوعي بقضايا الواقع وتحدِّياته الرئيسية التي فيها يصبُّ التراثان القديم والمعاصر، والقدرة على إيجاد حلول لها بصرف النظر عن المداخل والأُطر النظرية.
- (٦) كوادر الجامعة في الجيش الوطني: لقد استطاعت الجامعات تدعيم الجيوش الوطنية ومدَّها بكفاءات عالية، بجنود جامعيين؛ جنود قادرين على التعامل مع الأسلحة الحديثة والدخول في أعقد الحاسبات الإلكترونية، مضافًا إلى ذلك الوعي النظري الذي يكفل لهم فهم العدو، والوقوف في مواجهة الصهيونية استيطانًا وتوسُّعًا. وقد انتصر هؤلاء الجنود الجامعيون في حرب أكتوبر ١٩٧٣م بفضل هذا الجمع بين العلم والحرب، بين الدراية والشجاعة. لقد كان العلم قديمًا وسيلةً للإعفاء من الجندية، فلا يُجَنَّد العلماء، وهم أَولى بالجهاد، حتى لا يتحوَّل الشيخ إلى مجاهد أو المجاهد إلى شيخ من نوع عمر المختار أو عبد الله النديم أو جمال الدين الأفغاني أو السنوسي أو المهدي، رجل علم وعمل، يجمع بين القول والفعل.٢٨ وبعد ذلك أُنشئ نظام ضباط الاحتياط ليتعلم الجامعيون أثناء عطلة الصيف على مدى ثلاث سنوات العلوم العسكرية، ويتخرجون ضباطًا لا جنودًا، ينقصهم التدريب، وينفصلون عن الجنود. وقد كان هذا النظام بالفعل أحد أسباب هزيمة ١٩٦٧م بوضع الضباط الاحتياط كمقاتلين في الجبهة. ثم أُنشئت الأكاديمية العسكرية وأسلحة المهندسين والأطباء والصواريخ بكافة أنواعها على أكتاف الجامعيين، وطوَّروا الأسلحة الحديثة، واخترعوا أخرى جديدة. لقد كان أحد أسباب ضياع الأندلس قديمًا الاعتماد على الجنود المرتزقة، وقد يكون أحد أسباب خسائرنا المعاصرة عدم تكوين جيوش وطنية تقوم بأداء الخدمة العسكرية كواجب وطني بكوادر وطنية وضباط وطنيين. فالجيش ليس حرفةً أو مهنة، بل هو واجب مُقدَّس للدفاع عن البلاد، ولا يقوم به إلا الجنود الوطنيون، [ولا يتكون من مرتزقة للدفاع عن أشخاص الحكام، بل من مواطنين للدفاع عن التراب الوطني.]
ثالثًا: جامعة الإمارات العربية المتحدة
- (١) الهدف تكوين المُواطن والباحث: جامعة الإمارات العربية جامعة حديثة العهد، فمنذ تأسَّسَت دولة الإمارات العربية المتحدة، في ديسمبر ١٩٧١م، بدأت فكرة الجامعة بعدها بعامٍ كجزء من التصورات العامة لمؤسَّسات الدولة وكأحد مُقوِّماتها. وتقلص التصور من جامعة موحدة للخليج، إعلانًا عن وحدته البيئية والثقافية والحضارية، إلى جامعة موحدة ذات فروع في مختلف دول الخليج وإماراته، إلى جامعة الإمارات في أكبر الإمارات ولمجموع الإمارات.٢٩ [فمنذ البداية انتصرت الإقليمية على القومية، والتصور المحلي على التصور العام]، واستقبَلَت أول القادمين في ١٩٧٧-١٩٧٨م، وكانت أول دفعة في ١٩٨١-١٩٨٢م، وقد تحدَّدَت أهداف الجامعة ومهمَّتها الرئيسية في القانون الاتحادي، رقم (٤)، لسنة ١٩٧٦م، بإنشاء وتنظيم جامعة الإمارات العربية المتحدة ولائحته التنفيذية بناءً على التفاعل مع مجتمعها وتعبيرها عن مشاكله وقضاياه والتي تتمثل في أربعة أهداف؛ الأول: تقدُّم المعرفة ونشرها وحُسن تطبيقها. والثاني: بثُّ الأخلاق الفاضلة وترسيخُها والتمسُّك بها في السلوك. والثالث: الاستناد إلى الإسلام في أصله وقِيَمه ومبادئه وشرائعه. والرابع: تنمية الثروة البشرية وتطوير المجتمع والمساهمة في تقدُّم الأمة العربية.٣٠ أمَّا الأهداف الخاصة أو الجزئية فهي خمسة؛ التعليم والبحث العلمي، إعداد الكفايات من المتخصِّصين، تنمية الدراسات المتعلقة بالحضارة العربية الإسلامية، العناية بالعلم الحديث، تنمية الاتجاهات والأساليب العلمية الحديثة في التربية والتعليم استنادًا إلى الأصالة وبهدف الإبداع.٣١ ولذلك فالجامعة هيئة علمية مستقلة، ذات شخصية معنوية عامة تتمتع بالحريات الأكاديمية. وهي في بيئة عربية إسلامية لها تراثها العربي الإسلامي الذي ما زال موجهًا للسلوك الاجتماعي، وهي في نفس الوقت حضارة للفكر الإنساني وعلى اتصال بباقي مراكز البحث العلمي العربية والأجنبية.٣٢ واضحٌ إذَن من أهداف الجامعة العامة والخاصة أن مهمَّة الجامعة ليست تخريج مُدرسين أو مُوظفين أو مِهنيين، فتلك مهمَّة المدارس التطبيقية أو المعاهد العُليا أو المدارس المِهنية التي لا تقلُّ أهميةً عن الجامعات من حيث رسالتها وغايتها وتلبيتها لحاجات المجتمع. وإن عدم الاعتناء بها في العالم العربي لهو السبب في زيادة العمالة غير المتخصِّصة وندرة العمالة المتخصصة. [لذلك لم تؤدِّ الجامعة دَورها ولم تُحقِّق الهدف المنوط بها، وهو تخريج مواطنين باحثين أو باحثين مواطنين، بل خرَّجَت كَتَبة وموظفين. بل إنها لم تُخرِّج الكوادر الفنية اللازمة للتشييد والتصنيع ولا حتى الإدارة المتخصِّصة. وما زال الاعتماد على الخبرة الأجنبية في الإنتاج والإدارة، وللمواطن رأس المال. ليست مهمَّة الجامعة إعطاء صكِّ مرور اجتماعي للوجاهة الاجتماعية أو للإدارة الحكومية، بل مهمَّتها الأساسية تكوين المواطن والباحث، والبداية بالمواطن لأنه لا بحث بلا مُواطَنة. والباحث الذي لا ينتمي إلى وطن يكون أجيرًا يسعى وراء مَن يدفع أكثر، حتى ولو كان عدوَّ وطنه. وإن دولة حديثة، مثل دولة الإمارات، قادرة على استدعاء كوادر عُليا وعلماء متخصِّصين، وتعاني من قضية ديمغرافية بالنسبة للعمالة الأجنبية التي تُكوِّن ٨٠٪ من مجموع العمالة، ووافدين آسيويين يُكوِّنون ٦٠٪ من مجموع السكان؛ تكون الجامعة فيها أكثر حرصًا على تكوين الباحث المواطن الذي هو دعامة البناء الاجتماعي وأساس الولاء الوطني.]
- (٢) الأساتذة علماء ذوو رسالة:٣٣ تقوم الجامعة على دعائم ثلاث؛ الأستاذ، والطالب، ومناهج التدريس. ولكي تُحقِّق الجامعة هدفها الأول، وهو تكوين المواطن والباحث، فإن أهمَّ دعامة في ذلك هي الأستاذ، الذي يرجع له الفضل في التكوين والإعداد. فالأستاذ مهندس للبشر، وصانع للأذهان. [ليست المواصفات المطلوبة في الأستاذ الجامعي هي الطاعة والولاء للإدارة الجامعية لتنفيذ مُخطَّطها وتصوُّراتها، بل اتِّباع ما يمليه عليه ضميرُه العلمي والواجبُ الوطني. وإن تهديد الأستاذ في رزقه، بفسخ عقده، يجعل بعض الأساتذة، تحت ظروف الحياة القاسية، يُفضِّل التغاضي عن الحقِّ والتنازل عن الواجب. بل لقد غالَى البعضُ منهم في إظهار الولاء وأصبح ملكيًّا أكثر من المَلِك، ويُكثر من المزايدة تملقًا للأذواق، دفاعًا عن المنصب، وحرصًا على الرزق، وطلبًا للحظوة عند أولي الأمر.]٣٤ إن الأستاذ مدرسة فكرية ورأي علمي [ووجهة نظر مستقلة.] وبتعداد الأساتذة تصبح جميع المدارس الفكرية والآراء العلمية والمناهج البحثية ممثلة أمام الطلاب [بحيث يمكنهم الاختيار الحر بعد المفاضلة بينهما دون تكفير مدرسة لأخرى أو تخطئة رأي لآخر. فالأساتذة علماء لا أجراء، يقومون بواجبهم الوطني والعلمي، وهو تكوين المواطن والباحث، ولا رقيب عليهم إلا ضميرُهم العلمي وحِسُّهم الوطني. أمَّا أن يكون تصوُّر الأستاذ أنه أجير عقلي مثل الأجير اليدوي، الوافد العربي مثل الوافد الآسيوي يحتاج إلى كفيل يضمنه في وجوده وسلوكه وتحركاته؛ فإنه فرض للوصايا على العلماء، وهم ورثة الأنبياء. وأيهما أفضل للجامعة؛ الأستاذ الضعيف، أو المتوسط الخائف من الإعلان عن الرأي حتى ولو سأله طالب، والحريص على لقمة العيش، أم الأستاذ العالِم الذي يقول الحقَّ ويجاهر به حتى يكون نموذجًا للطلاب في القول والعمل؟ وأيُّهما أكثر تمثُّلًا للقِيَم الإسلامية في الجهر بالحقِّ وإن الساكت عن الحقِّ شيطان أخرس؟ إن القضاء على استقلال العلماء، منذ إلغاء الأوقاف وتحويلهم إلى موظفين وكَتَبة في الدولة، كان أكبر خسارةٍ للعلم وللوطن على حدٍّ سواء. فَقَد العالِم دَوره وضاعت ثقةُ الناس به ولم يَهَبْه الحكام، وفَقَد الشجاعة والاحترام بينه وبين نفسه.]٣٥
- (٣) الطلاب مواطنون أصحاب قضية:٣٦ والطالب هو العنصر الأساسي الثاني في البنية الاجتماعية بعد الأستاذ وقبل مناهج التدريس والمكتبات العامة والإدارة الجامعية. الطالب هو أساسًا الطالب المواطن صاحب القضية، الملتزم بموقف، والذي ينتسب إلى شعب وينتمي إلى أمة، وليس اللاشيء أو اللاوجود، مَن يأتي لمجرد الشهادة أو الحصول على وثيقة تأهيل اجتماعي للزواج أو للحياة المهنية العامة. وهو أيضًا الطالب الباحث الذي يؤرقه موضوع يريد بحثه، تشغله فكرة ويريد التحقيق من صدقها. الطالب الجامعي هو الذي ارتضى أن يكون العلم رسالةً له، وأن يكون البحث العلمي طريقه. وإن أهمَّ شيء في التعلم هو الدافع أو الباعث على التعليم، فهو الذي يُحرِّك الطالب ويجعله حريصًا على العلم ومواظبًا على الحضور. والعلم اختيار حر وليس فرضًا على أحد. ولا يمكن أن يكون العلم رسالةً للطالب دون أن يكتشف الطالب رسالته. ولا يكتشف الطالب رسالته إلا بعد انتمائه إلى شعب أو إلى أمة أو إلى وطن حتى يمكنه أن يُحقِّق رسالته في موقف وفي لحظة تاريخية بعينها وفي مجتمع بعينه. [أمَّا الطالب الذي لا وطن له ولا أرض، ولا ينتسب إلى أمة أو إلى شعب، وإنما يدين بالولاء إلى رأس المال نقدًا أو بضاعةً أو إلى قبيلةً محكومةً أو حاكمة؛ فإنه لا هُويَّة له. رأس المال لا وطن له. والقبيلة مجرَّد نسب بلا أرض، وعُرْف بلا دولة. وإن الدراسات الإنسانية أكثر من باقي فروع المعرفة لتعاني من هذا الطالب اللامُنتمي المُغترب في العالم والغريب على نفسه.]
والعلم نوع من الجهاد. والطالب عادةً ما يصارع من أجل المسكن والمأكل والملبس والمكتبة، وبالتالي يكون التعليم مكسبًا له وامتيازًا لتفوقه، يُنَال بالجهد، ويتطلب العرق، ويستلزم التضحية. وقد يكون تسهيل كل شيء للطالب وتلبية كل احتياجاته عاملًا سلبيًّا؛ لأنه يحصل على غاية بلا وسيلة، وينال النتيجة بلا مُقدِّمة، ويحصل على العلم بلا جهد، ويأكل الطعام بلا نار تُوقَد. وقد نشأت الجامعات فقيرةً في بدايتها، سواء في العصور الوسطى في الجامعات الأوروبية أو في العالم الإسلامي الممثل في الجامعة الأزهرية. كان الطالب مجاورًا؛ أيْ مجرَّد قاطن بالمسجد، يعيش على الكفاف، ولكن يعكف ليلَ نهارَ على الكتب القديمة يقرأ ويتعلَّم سنوات وسنوات، ولا سبيل أمامه لأيِّ صعود اجتماعي إلا بالعلم. فلا نسب ولا غنى، اللهم إلا المثابرة والجلَد.
- (٤) مناهج التدريس إبداع لا تلقين: إذا كان الأستاذ والطالب هما العنصران الرئيسيان في الجامعة، فإن مناهج التدريس والحياة الجامعية والإدارة هي العنصر الثالث. ويُحدِّد القانون الاتحادي هذه المناهج بتحديده الوسائل المُتَّبَعة لتحقيق أهداف الجامعة، وهي ثلاثة؛ التحديث، أي اتباع الأساليب الحديثة في التعليم، التميز، أي الملاءمة مع خصائص المجتمع وحاجاته، والمشاركة؛ أي المشاركة بين الطلبة والأساتذة.٣٧ لذلك فإن أسوأ ما يضرُّ بالتعليم الجامعي هي طرق التلقين والكتاب المُقرَّر والمذكرات المطبوعة والمحفوظة. فالأستاذ يبغي أضعف الإيمان، يريد السلامة لنفسه، إبقاءً على وظيفته. والطالب لا يتحمَّس لشيء، يريد المعلومات ليحفظها وينقلها ويضعها بدَوره في الامتحان ثم ينساها ويخرج من الجامعة كما دخل.كما تعتمد مناهج التدريس أساسًا على النقد الفكري والاجتماعي وعلى عدم التسليم بشيء على أنه حق إن لم يُثبَت بالبرهان أنه كذلك. فالعقل هو أعدل الأشياء قسمةً بين الناس. ليست مهمَّة الأستاذ المُزايَدة في الإيمان بالتقاليد والدفاع عنها؛ لأن الجامعة أساسًا هي طرح الأسئلة ونقد الواقع. إن دَور الجامعة هو تفتيح العقول، وتنشيط الأذهان. ومهمَّة الأستاذ تفتيح الموضوعات، وإثارة التساؤلات، وإيجاد البدائل، وتحويل اليقين الخارجي إلى يقين داخلي، اليقين النقلي إلى يقين عقلي. وهذا ما يتطلب الانفتاح على ثقافات العصر كلها بلا تميز أو حُكم مُسبق، وعدم الخوف من أيِّ مذهب أو اتجاه أو منهج. فعلم ثابت يقيني برهاني خيرٌ من علم مُزَعزَع يقوم على الخوف والحُكم المُسبق والتعصب.٣٨ونظام المساقات نظام أمريكي صِرف، الغاية منه الإسراع في التعليم وإعطاء العلم بالساعات نقلًا للمعلومات. وهو نظام مكلف يتطلب أن يحاضر أكثر من أستاذ في موضوع واحد، وهو ما يستحيل عمليًّا؛ نظرًا لنقص أعضاء هيئة التدريس. ويقوم على الأبحاث المستمرة والعروض الأسبوعية، وهو ما لا يتوافر بمنهج النقل، بل إن ميزته الوحيدة، وهي حرية الطالب في الاختيار، تتقلص بسوء الإرشاد. [وليس عجَبًا أن يُنقل نظام الساعات المعتمدة في جامعات الخليج كلها حيث تتركز المصالح الأمريكية.]٣٩وما دامت الجامعة تعبيرًا عن بيئة مُعيَّنة، فإن المواد التي تُدرَس بها لا تُنقَل من جامعة أو من بيئة أخرى، بل تنبع من طبيعة المجتمع وخصوصيته. وهو ما سُمِّي في اللائحة باسم «التميز». وذلك يعني ارتباط مواد التدريس بالمشروع القومي للبلاد حتى يتحمَّس لها الباحث المواطن بدلًا من هذا الانقطاع النفسي والفصام الوجداني عمَّا يُقَدَّم له من مساقات مُجتثَّة الجذور. إن تاريخ البلاد وجغرافيتها ومواردها وسكانها ولغتها وثقافتها وأنماط إنتاجها وسياستها تفرض عليها مشروعًا قوميًّا خاصًّا يأخذ كل هذه العوامل في الاعتبار. ويبدو ذلك في موضوعات رئيسية مثل الاستعمار البرتغالي، الصراع بين الاستعمار الهولندي والبريطاني وحسمه لصالح بريطانيا، الاقتصاد الذي يقوم على مورد واحد (أبو ظبي تُمثِّل ٨٦٪ من مساحة الدولة، وتعتمد في ٩٨٪ من إيراداتها على النفط)، البيئة الصحراوية والبحرية كمصدر لموارد بديلة في عصر ما بعد النفط، الزراعة والصناعة كأنماط إنتاج بديلة، هندسة التعدين والصناعات البتروكيماوية … إلخ. ويمكن صياغة مشروع قومي يتمحور حول عِدَّة موضوعات واتجاهات رئيسية، مثل:
- (١)
ماذا تعني الدولة الحديثة والبحث عن أصل تاريخي لها؟ فلا توجَد أمة بلا عمق تاريخي.
- (٢)
السكان والشعب ومفاهيم الوطن والأمة التي من خلالها يتمُّ تربية المواطن على الانتماء والولاء.
- (٣)
اللغة والثقافة والآداب الوطنية التي تحمي المواطن من التغريب وتجعله قادرًا على الإبداع الذاتي.
- (٤)
الدخل القومي ومصادره، وعائدات النفط، مكانها وطرق استغلالها وتحويلها إلى مشاريع مُنتجة داخل البلاد دون بقائها كأرصدة خارجها.
- (٥)
أنماط الإنتاج الأخرى كالزراعة والصناعة لإيجاد موارد بديلة في مرحلة ما بعد النفط.
- (٦)
أشكال الوحدة في الدولة الجديدة ومجلس التعاون الخليجي والبحث عن فلسفة للوحدة توجَد في التوحيد في التراث القومي للبلاد.
- (٧)
الدولة الجديدة في خضمِّ الصراع بين القُوى السياسية الكبرى وتحديد مكان الخطر ومواطنه؛ شرق آسيا، شمال غرب آسيا، أو أوروبا الغربية وأمريكا.
- (٨)
مسار التغير الاجتماعي ومنطلقاته وقُواه، تعريب السكان، وتحويلهم إلى مواطنين، ورعاية الخرِّيجين وتكوين الجمعيات الثقافية من أجل تكوين طبقة متوسطة تربط بين الحاكم والمحكوم.
- (٩)
تحديد المرحلة التاريخية التي يمرُّ بها المجتمع بالنسبة للمرحلتَين السابقة واللاحقة.
هذا المشروع القومي المقترح، أو غيره، ليس فقط أساس صياغة المساقات الجامعية، بل هو الذي يُحدِّد رؤية الدولة لحاضرها ومستقبلها. وعلى هذا النحو لا ينشأ صراع بين مطالب الجامعة وأهدافها من ناحية، وبين رؤية الدولة لها.
- (١)
- (٥) الحياة الجامعية بين الأصالة والمعاصرة:٤٠ إن الحياة الجامعية كعيشة مشتركة بين الأساتذة والطلاب لا تقلُّ أهميةً عن المواد المُقرَّرة والمساقات العامة أو التخصصية. وقد يتعلم الطالب من النشاط الجامعي العام، من الجمعيات العلمية والثقافية ومن المناقشات الحرة في الحرم الجامعي أكثر ممَّا يتعلم من المساق. فالنشاط الجامعي حرٌّ في حين أن المساق مفروض عليه. الجامعة أساسًا هي الجماعة، أي الحياة المشتركة، الجمع من الناس كما هو الحال في الجامع أو المسجد. والكلية أصلًا هي القراءة المشتركة أو القوة الناتجة عن اشتراك الأساتذة والطلاب في نشاط مشترك.٤١ صحيحٌ أن الحياة الجامعية تحتاج حتى ترسي تقاليدها إلى وقت طويل، ومع ذلك فالبداية بها جزء من العملية التعليمية.٤٢ والتقاليد يبدؤها أفراد أو جمعيات ثم تستمر من خلال الممارسة وتصبح كذلك مثل قسم الجامعة تعبيرًا عن الولاء لها، والأغاني المميزة للجمعيات والأقسام، وجرائد الحائط، والمناقشات العامة، والموائد المستديرة، والرأي والرأي الآخر، ليس فقط في موضوعات عامة تُهِمُّ الآخرين، بل في موضوعات خاصة تُهِمُّ الفرد. وإن «ساعة القهوة»، في جامعة هارفارد الأسبوعية، أصبحَت أشهر من مساقاتها الرسمية، حيث يُهرَع إليها كل الطلاب والأساتذة لسماع الحوار الأسبوعي. وإن «المنبر الأسبوعي» الذي يُعقَد في كل قسم في الجامعات الأمريكية حيث يُعقَد فيه الحوار بين الأساتذة والطلاب لَأنفع للجميع من الساعات المُعتمَدة. وقد كان في تاريخنا سوق عكاظ يقوم بنفس الدَّور في الشِّعر.والحقيقة أن جامعة الإمارات تأخذ على عاتقها هدفًا حضاريًّا جليلًا، ألا وهو المحافظة على القِيَم والتراث، ولكنْ دون تحديد المنهج وترك ذلك للعلماء.٤٣ والسؤال الآن: هل يكون ذلك بالتلقين والحجْر على حرية البحث والتعصب والحنق والغضب والكراهية والعداء، أم بالبحث والنظر والاستقصاء والحوار، وهو تقليد علمائنا الأجلاء في الماضي؟ وهل اليقين نقلي أم عقلي، يعتمد على سُلطة النقل أم على سُلطة العقل؟ وهل مهمَّة الجامعة نقل كل علم حديث أم الوعي بالتيارات العاصرة والدراية بمشاكل الواقع ومعرفة قواعد المنهج العلمي؟٤٤ وإذا كان نموذج جامعة الكويت هو النموذج الأول الذي أُنشِئَت عليه جامعة الإمارات، فإن هذا النموذج يعتمد على الضمانات الكافية لحرية الفكر وعلى أن الجامعة هي أساسًا مشروع وطني سياسي قبل أن تكون معهدًا فنيًّا. وعلى هذا النحو يمكن للجامعة أن تخرج عن عزلتها وغربتها عن مجتمعها.٤٥
- (٦) الإدارة الجامعية للجامعيين:٤٦ إن الإدارة الجامعية هي الحامل لتصور الجامعة، والمُحرِّك لها، والمُنفِّذ لسياساتها. [وإن أسمى الأهداف لَتنقلب إلى ضدِّها لسوء الإدارة وغياب ولائها للجامعة، وإن أسوأ إدارة هي التي يتغلَّب فيها الولاء الأيديولوجي على الولاء الجامعي. ففي هذه الحالة تنتهي الجامعة، وتنتهي الأيديولوجية معًا، فالولاء الأيديولوجي المستنير لا ينتشر إلا في جوٍّ جامعي صحيح بالإقناع والحوار، والولاء الجامعي هو في حقيقة الأمر تأسيس لأيديولوجية وطنية تقوم على البحث العلمي والحوار الحر والنقاش المفتوح.]٤٧[ولقد مرَّت على جامعة الإمارات ثلاث إدارات تعطي الأولوية كلها للولاء الأيديولوجي على اختلاف اتجاهاته على الولاء الجامعي. كانت الإدارة الأولى قومية، ظهر ولاؤها الأيديولوجي في اختيار الإداريين ابتداءً من مدير الجامعة حتى موظفيها. وانعكس ذلك على الأساتذة والطلاب ومناهج التدريس والحياة الجامعية. ونظرًا لخطورة الولاء القومي على الكيانات الصغيرة المستقلة وعلى الدول الحديثة، أتت الإدارة الثانية إسلامية. فالإسلام تدعيم للكيان الجديد، وفي نفس الوقت أمان من الذوبان في أممية أوسع. فالوحدة الإسلامية أصعب منالًا وأصعب تحقيقًا من الوحدة العربية. وانعكس ذلك أيضًا على الإدارة والأساتذة والطلاب والمناهج والمُقرَّرات. ولمَّا كان الإسلام المحافظ هو السائد حاليًّا ويتمتع برصيد ضخم عند الناس نظرًا لفشل الحركات العلمانية للتحديث في مجتمعاتنا المعاصرة، وفي نفس الوقت تمتدُّ جذوره إلى ألف عام فقد دخل في صراع مع المنهج الجامعي الذي يقوم على البحث الحر ومناقشة الآراء، الحُجَّة بالحُجَّة، والبرهان بالبرهان بالاعتماد على سُلطة العقل وحده. وقد وصل الصراع إلى حدِّ تكفير كل اجتهاد واستبعاد كل رأي لا يتفق مع الإسلام المحافظ، والتفتيش في الضمائر، وجعل قضية الحجاب والاختلاط قضيةً محوريةً يُصَنَّف الناس طبقًا لها إلى مؤمن وكافر! وجاءت الإدارة الثالثة إقليمية في تصوُّرها تبغي دَورًا متواضعًا للجامعة، ولا تخرج بها عن إطار المهنة التعليمية أو التحديث الغربي. والحقيقة أن الإدارة الجامعية يكون ولاؤها الأول والأخير للجامعة بصرف النظر على الولاء الأيديولوجي. وإن كان هناك مثل هذا الولاء الأخير فإنه يكون بالدرجة الثانية لا بالدرجة الأولى. ويكشف عنه صراحة، ويُعرَض على بساط البحث، ويدخل في حوار متكافئ مع باقي التيارات والمذاهب. فالجامعة للجامعيِّين، إدارةً وموضوعًا ومنهجًا.]٤٨وقد تبدو حدود الإدارة الجامعية ومواطن ضعفها في مظاهر أخرى يلمسها الجميع مثل العمالة الزائدة التي تتخللها بعض التوترات الإقليمية، وأوجه الإنفاق التي تسرف في نشاطات رياضية واحتفالية وتقتر في نشاطات علمية وبحثية. كما يتمُّ إنجاز الأمور في آخر اللحظات دون إعداد مسبق وحسن استعمال الزمن. كما تبدو في الإدارة بعض مظاهر العداء للأساتذة كمنافسين لهم على بعض المصالح أو الذين تنعكس عليهم كذلك بعض الولاءات الإقليمية. وقد يتَّجه بعض الموظفين إلى تملُّق الإدارة العُليا؛ حرصًا على بعض المكاسب الشخصية أو أداءً لخدمات غير جامعية. وكثيرًا ما تُصدر الإدارة قراراتها بطريقة الاتصالات الشخصية والضغوط الأدبية، أكثر منها بناءً على قوانين ونُظم جامعية، فالوحدة الأولى في الجامعة هو القسم، يتلوه مجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة. واحترام القرارات الجامعية بناءً على تدرُّج المجالس جزء من التقاليد الديمقراطية في الجامعة. والقرار الفوقي إنما يُعبِّر في حقيقة الأمر عن بنية المجتمع السُّلطوي أكثر ممَّا يعبِّر عن مصالح الجامعة.٤٩
هذه أفكار الثلاثة عن الجامعة الأوروبية، والجامعات العربية، وجامعات الإمارات بمثابة أفكار رئيسية لخدمة البحث الميداني. وهي مجرَّد افتراضات نظرية تعتمد على شواهد تاريخية قد يتمُّ التحقُّق من صحة بعضها بعد تحليل البيانات. وقد يكون البعض منها بعيدًا عن إيجاد صلة مباشرة بينه وبين الكفاية الإنتاجية لخريجي الجامعة ودَورهم في المجتمع. ولكن قراءات البيانات والتعمق في نتائج التحليلات قد تُؤيِّد بعض هذه الافتراضات الأولية. فالجامعة قبل أن تكون مؤسَّسةً تعليميةً هي تصوُّر وهدف وممارسة. وإن صعُب إيجاد علاقة مباشرة بين هذا الإطار النظري والبحث الميداني المحدَّد وباستمارة استطلاع الرأي ونوعية أسئلتها؛ فان هذا الاطار النظري يكون بمثابة مرآة تعكس الأوضاع العامة في جامعة الإمارات، وبالتالي يمكن قياسُ المسافة بين هذا الإطار النظري وبين جامعة الإمارات، وبين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن.
Driver, CH: The Exploring University, Bobs-merill, Indianapolis, Indiana, USA, 1972.
نقلًا عن د. محمد جواد رضا: الإصلاح الجامعي في الخليج العربي، شركة الربيعات للنشر والتوزيع، الكويت، ١٩٨٤م.
- (١)
تقدُّم المعرفة ونشرها وحُسن تطبيقها.
- (٢)
بثُّ الأخلاق الفاضلة وترسيخُها والتمسُّك بها في السلوك.
- (٣)
الاستناد إلى الإسلام في أصوله وقِيَمه السامية، والدعوة إلى مبادئه وشرائعه كنظام متكامل يرقى بالإنسان إلى أعلى المراتب، ويُحقِّق له الحياة الحرة الكريمة.
- (٤)
تنمية الثروة البشرية وتطوير المجتمع والمساهمة في تقدُّم الأمة العربية» (أضواء على جامعة الإمارات العربية المتحدة، ص١١، إدارة العلاقات العامة والإسكان، قسم الإعلام، صوت الخليج، الشارقة، ١٤٠١ﻫ، ١٩٨١م).
- (أ)
القيام بالوظائف الجامعية الرئيسية؛ التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع بما يكفل التنسيق بينها وتكاملها، وبما يتلاءم مع حاجات البلاد ومطالب تقدُّمها.
- (ب)
إعداد الكفايات من المتخصِّصين، وتنمية شخصياتهم وخصائص القيادة فيهم لتولي مهمَّاتها في قطاعات الإنتاج المختلفة.
- (جـ)
تنمية الدراسات المتعلقة بالحضارة العربية الإسلامية وبأحوال شبه الجزيرة العربية والخليج العربي إحياءً للتراث ووصلًا له بمطالب الحاضر والمستقبل، ومعالجةً لمشكلاتها.
- (د)
العناية بالعلم الحديث منهجًا ومحتوًى وتطبيقًا، والاعتماد عليه في إعداد كفايات المتخصِّصين وفي مواجهة المشكلات بالبحث العلمي.
- (هـ)
تنمية الاتجاهات والأساليب العلمية المدنية في التربية والتعليم والعمل على تنمية الشخصية الإنسانية بين طلابها مستندةً إلى الأصالة الإسلامية العربية، وتمكنهم من الكفاية الإنتاجية والإبداع والابتكار وتوثيق الروابط الثقافية والعلمية مع الجامعات ومعاهد التعليم ومراكز البحوث العربية والأجنبية» (المصدر السابق، ص١١-١٢).
مادة (١): تنشأ في دولة الإمارات العربية المتحدة جامعة عربية إسلامية يُطلَق عليها «جامعة الإمارات العربية المتحدة» وتكون هيئة مستقلة ذات شخصية معنوية عامة.
مادة (٢): جامعة الإمارات العربية المتحدة منارة للفكر الإنساني، ومركز رائد لتنمية الثروة البشرية ونشر الثقافة وتعميق جذورها وتطوير المجتمع مع الحفاظ على عناصره الأصلية وتجلية تراثه.
مادة (٣):
- (أ)
تُعنَى الجامعة بالثقافة والدراسات الجامعية في فروع الآداب والعلوم والفنون، وتعمل على إعداد المتخصِّصين والفنيين في هذه الفروع وغيرها من نواحي المعرفة. كما تعمل على تكوين الشخصية العلمية الإنسانية، مرتكزةً في ذلك على القِيَم الإسلامية والأصالة العربية والتطور العلمي.
- (ب)
تقوم الجامعة على رعاية البحوث العلمية وتشجيعها بُغيةَ خدمة المجتمع وتحقيق التطور العلمي، ويجوز تكليفها القيام بدراسات أو بحوث مُعيَّنة تحقيقًا لذلك.
- (جـ)
تولي الجامعة دراسات الحضارة العربية الإسلامية وشبه الجزيرة العربية والخليج العربي عنايةً خاصة.
- (د)
تعمل الجامعة على توثيق الروابط الثقافية والعلمية مع الجامعات ومعاهد التعليم العُليا، ويجوز لها عقد اتفاقات معها لتسهيل التبادل العلمي والمساعدات بينها في حدود ما يقع ضمن أغراضها. القانون الاتحادي، رقم (٤)، لسنة ١٩٧٦م، بإنشاء وتنظيم جامعة الإمارات العربية المتحدة ولائحته التنفيذية، ص٧-٨.
- (١) التحديث: باتباع الأساليب الحديثة في التنظيم والتخطيط وفي الطرائق والأساليب والوسائل التعليمية.
- (٢) التميز: بالتأكيد على الملاءمة مع خصائص المجتمع وحاجاته.
- (٣) المشاركة: اعتماد مبدأ المشاركة بين الطلبة وأعضاء هيئة التدريس والعاملين بالجامعة» (أضواء على جامعة الإمارات العربية المتحدة، ص١٢، وأيضًا الدليل الدراسي العام، ص١٢، ١٤٠٢-١٤٠٣ﻫ، ١٩٨٢-١٩٨٣م).
- (١)
جامعة الملك سعود (الرياض)، ١٩٥٧م.
- (٢)
الجامعة الإسلامية (المدينة المنورة)، ١٩٦٠م.
- (٣)
جامعة البترول والمعادن (الظهران)، ١٩٦٣م.
- (٤)
جامعة الملك عبد العزيز (جدة)، ١٩٦٦م.
- (٥)
جامعة الكويت (الكويت)، ١٩٦٦م.
- (٦)
كلية الخليج التكنولوجية (البحرين)، ١٩٦٨م.
- (٧)
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (الرياض)، ١٩٧٤م.
- (٨)
جامعة الملك فيصل (الأحساء) ١٩٧٧م.
- (٩)
جامعة الإمارات العربية المتحدة (العين)، ١٩٧٧م.
- (١٠)
جامعة قطر (الدوحة)، ١٩٧٧م.
- (١١)
الكلية الجامعية للعلوم والآداب والتربية (البحرين)، ١٩٧٨م.
- (١٢)
جامعة الخليج العربي (البحرين)، ١٩٨٠م.
- (١٣)
جامعة أم القرى (مكة)، ١٩٨٠م.
ومن هنا فإن الإدارة الجامعية الموضوعية والتي تُهِمُّها المصلحة العامة، والتي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار والتي تنأى بنفسها عن الذاتية والمصالح الشخصية، هي الإدارة التي تضع في اعتبارها الأول أن الوحدة الأولى في بناء الجامعة وجسمها هو (مجلس القسم) فعلًا وعملًا قولًا ومظهرًا، يتلوه (مجلس الكلية) ثم مجلس الجامعة ولجانه المتخصصة، وهي الإدارة التي تحترم القرارات الجامعية بناءً على تدرج المجالس، وإن هذا الاحترام جزء أصيل من التقاليد الديمقراطية في الجامعة وأساس صالح للسَّير في الطريق السوي، وإن البعد ما أمكن عن القرارات الفوقية تكون دائمًا في صالح الجامعة ومسيرتها الصحيحة لتحقيق الأهداف المبتغاة. إن بناء اللوائح الداخلية لكل كلية من كليات الجامعة ضرورة لا غنى عنها تُحدَّد فيها الواجبات والحقوق وأسلوب العمل السليم، ويكون كل عامل على اختلاف تخصُّصه، سواء أكان عضوَ هيئة تدريس، أو إداريًّا أو فنيًّا أيًّا كان موقعه، على بيِّنة بنظام العمل عارفًا بحدوده فلا يتخطاها، ملتزمًا بقوانين الجامعة ونُظمها. وليست العبرة بوجود هذه اللوائح فقط، بل بالممارسة الواعية والمدركة بغير تعصب بما يضمن انسيابية العمل في سهولة ويسر، وبحيث لا تكون هناك هزات أو عقبات على الطريق، وبما يدفع المسيرة نحو الاتجاه الصحيح، ويؤدِّي إلى استقرارية الأوضاع الجامعية في تعاون وتكامل. وفي اعتقادنا أن فرصة مراجعة عمليات التطوير لا يجب أن تكون قاصرةً على المناهج الدراسية فحسب، بل هي مراجعة شاملة لكافة النواحي أكاديمية وإدارية ومعاونة، وقفة نلتقط فيها الأنفاس، ونعيد تقييم حساباتنا نحو غد مُشرق اتجاهًا صوب الأفضل دائمًا (الجامعة والمجتمع، ص٣٨-٣٩).
ويبدو أن الرقيب قد تدخَّل في الخاتمة وغيَّر المقصد من البحث كله؛ وذلك عن طريق عدم الإشارة إلى أيِّ واقع والاقتصار على الكلمات العامة الفضفاضة التي تقول كل شيء ولا شيء، وهو عكس ما قصده قدماء الأصوليين بتحقيق المناط وتخريج المناط وتنقيح المناط في مباحث العلة. فلا نصَّ بدون دافع، ولا خطاب بدون عالم، ولا كلمات بدون أشياء. ومع ذلك فات على الرقيب الشيء الكثير! ويبدو أيضًا عدم اتساق الرقيب مع نفسه وعدم التزامه بمبدأ واحد وبعقلية واضحة منسقة، يحذف ويزيد تبعًا للهوى والمزاج واللحظة والعبارة، فيترك مثلًا التوحيد بين الله والعالم عند الفلاسفة الألمان، وتحوُّل دُور العبادة إلى جامعات. فالتخلف ليس فقط في دَور الرقيب، بل أيضًا في ممارسة الرقابة على نحو عشوائي وغياب مقاييس مُنسَّقة مثل الدين أو السياسة. وقد تدخَّل الرقيب في الخاتمة التي تُبيِّن مقصد البحث كله.