الحاضنة
وهي ترى هذا كله خاشعة خاضعة، مؤمنة مذعنة، لم تختر منه شيئًا، ولا تستطيع أن تغير منه شيئًا. وهي قد وطنت نفسها أو وطنتها الأحداث على أن تكون أمةً طيعة تخدم سادتها في نصح أو في غش، ولكنها تظهر لهم الطاعة والخضوع على كل حال. وهي محزونة النفس كاسفة البال، لا تبتسم إلا متكلفة ولا ترضى إلا متصنعة، ولا تطمئن إلى هؤلاء الذين من حولها ينظرون إليها نظرات مهما يملأها العطف والرفق، فهي نظرات السادة الذين يملكون ويستعلون، ويستطيعون أن يتصرفوا فيها كما يحبون، كما يتصرفون في الأشياء: لهم أن يبيعوها وإن لم تؤثر أن تباع، ولهم أن يهبوها وإن لم تحب أن توهب، ولهم أن ينقلوها من يد إلى يد، ومن مكان إلى مكان، ولعلها أن تكون مؤثرةً لهذه اليد التي بسطت عليها، منكرة لهذه اليد التي يراد أن تنقل إليها. ولعلها أن تكون قد ألفت هذا المكان الذي استقرت فيه وكرهت غيره من الأمكنة. ولكنها لا تستطيع أن تريد أو لا تستطيع أن تنفذ ما تريد. وأي قيمة للإرادة إذا عجز صاحبها العجز كله عن أن ينفذها ويجري أحكامها! إنما الإرادة العاجزة أقبح صور الذل، وأشنع ألوان الرق، وأبغض ما يلقى الإنسان في الحياة.
فلتفارق صفيها دهرًا طويلًا أو قصيرًا، كما تفارق الأم طفلها دهرًا طويلًا أو قصيرًا. ولتصبر على هذا الفراق. وهل خلق الرقيق إلا للصبر والاحتمال!
وينفق الصبي عند الظئر ما شاء الله أن ينفق من وقت، لا يزور أمه ولا حاضنته إلا لمامًا. وكلتاهما تسعد بهذه الزيارة القصيرة، وكلتاهما تشقى باستئناف الفراق، وكلتاهما تذعن لما لا بد من الإذعان له.
ثم يعود الصبي الناشئ من البادية إلى مكة، فيقيم إقامةً ملؤها الرحمة والعطف بين هذه القلوب الكريمة التي تحبه وتحنو عليه: قلب أمه الحرة المحزونة، وقلب حاضنته الأمة الفتاة، وقلب جده الشيخ الوقور. كلهم سعيد بالعطف على هذا الطفل والرعاية له، والطفل ناعمٌ بعطفهم عليه ورعايتهم له.
ثم ترحل أم الطفل به إلى يثرب لتزيره أخواله من بني النجار، فترحل الحاضنة معهما، وينعم الطفل بحنان هذين القلبين الكريمين. حتى إذا بلغ يثرب رأى أرضًا لم يكن قد رآها، وقد قدر له مع ذلك أن يقيم فيها حيًّا وأن يقيم فيها ميتًا، وقد سبقه أبوه إلى زيارتها، وقد سبقه أبوه إلى أن يؤثرها له دارًا تئويه.
هنالك رأى الطفل قبر أبيه. وهنالك لعب الطفل مع أطفال مثله سيكونون له أصدقاء وأنصارًا حين يجد الجد، وحين يبلغ الكتاب أجله، وحين يتم في الأرض ما قدر في السماء. حتى إذا قضى الطفل وأمه وطرًا من زيارة الأرض الموعودة، عاد بين أميه الكريمتين إلى موطنه بمكة. ولكن قضاء الله يجب أن ينفذ، وحكمة الله يجب أن تبلغ، وإرادة الله يجب أن تكون.
وكذلك أديت الأمانة إلى الأرض، وذهب عبد الله وذهبت آمنة بعد أن أدياها. وأصبح الطفل كما أراد الله له أن يكون يتيمًا قد فقد أمه وفقد أباه، وليس له من يئويه إلا الله الذي قد وعد بإيوائه وكفالته، وحفظه وحمايته من العاديات.
لقد خلص الطفل لحاضنته من دون الناس. فلتقف عليه نفسها كلها، لتقف عليه حبها كله، ولتخلص له كما خلص لها. وانظر إليها تعود بالطفل إلى جده وأعمامه وحيدًا فريدًا، ليس له من يرعاه أو يكلؤه إلا قلبها العظيم الكريم.
من ذلك الوقت أصبحت للطفل أمًّا، رعته صبيًّا وشابًّا، فرغت له ولم تشغل عنه بأحد ولا بشيء. حتى إذا بلغ سن الرجال واتخذ له أسرة، وأوى زوجه خديجة بنت خويلد، نظر إلى هذه الأمة التي نشأته ونعمته بحبها وحنانها، فأعتقها ورد لها حقها الكامل في الحياة الحرة الكريمة. هنالك اتخذت لها زوجًا من أهل يثرب كان مقيمًا بمكة، فعاشت معه ما شاء الله أن تعيش، ورحلت معه إلى يثرب، حتى إذا مات عادت إلى ابنها الأول ومعها ابنها الثاني أيمن بن عبيد، فعاشت في كنف هذا اليتيم وعاش معها ابنها سعيدين ناعمين.
ثم يتم الله نعمته على هذا اليتيم، ويختاره لما قدر له من الكرامة واحتمال الأعباء الثقال، فلا تشغله نعمةٌ ولا محنة ولا راحةٌ ولا جهاد عن أمه هذه. وانظر إليه يتحدث عنها إلى أصحابه فيقول هذه الكلمة التي ملؤها البر والحنان والوفاء: «إنها بقية أهل بيتي!» وانظر إليه حريصًا على أن تحيا وتنعم بالحياة، حريصًا على أن ألا يكون حظها من السعادة في هذه الدنيا أقل من حظ غيرها من الحرائر، انظر كيف يلتمس لها الزوج فيقول لأصحابه: «من سره أن يتزوج امرأةً من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن.»
هنالك أسرع مولاه زيد فاتخذها له زوجًا.
وتشرب أم أيمن من هذا الماء، وتنفق أم أيمن بعد هذه الشربة أعوامًا طوالًا، فيها الشدة واللين، وفيها البؤس والنعيم، وفيها الجهد والعناء، ولكنها لا تعرف الظمأ ولا تحسه ولا تشكوه، وكيف يظمأ من شرب ماء الخلود!
أسرعي الآن يا أم أيمن إلى يثرب؛ فإن ابنك ينتظرك فيها، قد أمن بعد خوف، واطمأن بعد قلق.
وتبلغ أم أيمن المدينة، فيلقاها ابنها حفيًّا بها عطوفًا عليها، وتلقاه هي بما عودته أن تلقاه به من هذا الحب السمح والعطف الباسم.
وتقضي معه أيامها في المدينة، لا تكاد تفارقه إلا حين لا تستطيع أن ترافقه. انظر إليها يوم أحد وقد شهدت الحرب مع المسلمين، وإنها لتطوف بالماء تسقي الجرحى ومن مسهم الجهد. ولم لا وقد عرفت حر الظمأ وبرد الري! ومن يدري! لعل هذه القطرات التي كانت تصبها في أفواه الجرحى قطرات قد مستها رحمة الله ففقدت جوهرها الفاني، واستحالت إلى هذا الجوهر الخالد الذي شربت منه أم أيمن حين تدلت إليها الدلو من السماء! وانظر إليها وقد شهدت خيبر مع ابنها تواسي المسلمين وتمنحهم من عطفها ورعايتها ورحمتها فضل ما يمتلئ به قلبها الساذج الكريم! وانظر إليها في أيام السلم تغدو على ابنها وتروح إليه، فيلقاها مبتسمًا دائمًا، مبتهجًا دائمًا، مداعبًا لها من حين إلى حين. تسأله مرة أن يحملها، فيقول لها: «أحملك على ولد الناقة» فلا تفهم منه، فتقول: يا رسول الله، إنه لا يطيقني ولا أريده. فيقول متضاحكًا: «لا أحملك إلا على ولد الناقة!»
وكان ابنها يمزح ولكنه لم يكن يقول إلا حقًّا. وكان يحب أن يداعبها ويعبث بها في رفق؛ فهو يقول ذات يوم: «غطي قناعك يا أم أيمن.» وتلقاه يوم حنين قبل الموقعة، فتريد أن تدعو للمسلمين بخير فتقول: «ثبت الله أقدامكم.» فيقول ابنها: «اسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان!»
وقد سمع لها الله فثبت أقدام المسلمين. وقد امتحنها الله فاختار ابنها أيمن وآثره بالشهادة يوم حنين.
إيه أيتها الأم الرءوم؛ إنك لتمنحين ابنك وصفيك اليوم شيئًا جديدًا لم تمنحيه من قبل، إنك لتبذلين في سبيل الله وفي سبيله دم ابنك العزيز. ولكنك تلقين الثكل صابرة آملة راضية، كما لقيت الظمأ من قبل صابرة محتملة واثقة. ولئن فقدت أيمن يوم حنين، إن لك لخلفًا منه في ابنك أسامة بن زيد، أثير النبي وحبيبه، وقائد جيش المسلمين بأمر النبي وإن كان بعد لحدثًا ناشئًا. هذا جيش ابنك أسامة مرابطًا يتأهب للرحيل. وهذا ابنك وصفيك في بيته قد ثقل عليه المرض، وفتحت له أبواب السماء وأقبلت عليه الملائكة أفواجًا تحمل إليه روح الله ورحمته وتبشره بجوار الله. انظري! لقد اختار الله لنبيه جواره الأعلى، وصعدت نفسه الكريمة إلى حيث أريد لها أن تكون مع الصدقين والشهداء والصالحين وأصفياء الله وأنبيائه. ماذا؟! إنك لتبكين! وما يبكيك يا أم أيمن؟ قالت لمن ألقى عليها هذا السؤال: أي والله! لقد علمت أن رسول الله ﷺ سيموت، ولكني إنما أبكي على الوحي إذا انقطع عنا من السماء.
نعم، لقد قبض ابنك وانقطع الوحي، وستحملين ذلك دهرًا.
ستشهدين خلافة أبي بكر، وستشهدين خلافة عمر، وستبكين مرة أخرى حين يموت عمر، وستسألين عن هذا البكاء فتقولين: «الآن وهي الإسلام.» وستستقبلين خلافة عثمان وقد طال صبرك على انقطاع الوحي، وشوقك إلى أخبار السماء، وسيسعى إليك الملك رفيقًا بك عطوفًا عليك، وسيقبض نفسك الكريمة إلى حيث تسعد بجوار ابنك الكريم!