الإغراء
أقبل أبناء عبد المطلب فهيئوا لأبيهم مجلسه في المسجد غير بعيد من بئره التي كشفت له. وأقبل الشيخ بعد قليل مُشرق الوجه باسم الثغر، فأسرع إليه أبناؤه يلقونه بالتحية ويقرءون عليه السلام. وأقبل عليهم يحييهم ويدعو لهم، حتى إذا أخذ مكانه أشار إليهم فجلسوا من حوله، قال قائل منهم وعلى ثغره ابتسامة فيها حب وفيها دعابة، وفيها غيرة لا تكاد تبين: لم يأت بعد، وما علمناه منذ حين إلا نئوم الضحى. قال الشيخ وابتسم كالمغضب: حسبك! فكلكم قد أدركه الضحى ولما يرفع رأسه عن الوساد. ثم أخذوا في حديث القافلة التي كانت تتهيأ للرحلة إلى الشام، وأخذ أبناء الشيخ يتحدثون إلى أبيهم بما أعد أغنياء قريش من عُروض التجارة لتحمل إلى بصرى وما يليها من بلاد الروم.
قال ذلك في لهجة ملؤها الحنان المقنع، والجد الذي لا يحتمل الجدال ولا يبيح رجع الجواب. وكان الفتى يسمع له راضيًا، تظهر على وجهه آثار الطاعة والثقة. حتى إذا فرغ من حديثه أطرق الفتى غير طويل، ثم رفع رأسه وهمَّ أن يتكلم فلم يجد ما يقول، فنهض مسرعًا حتى خرج من المسجد ومضى أمامه لا يلوي على شيء. وكانت شمس الضحى قد ارتفعت حتى قاربت أن تستوي في كبد السماء، وكانت أشعتها الحارة المحرقة قد أخذت تُلحُّ على الأرض والناس، حتى قهرتها وقهرتهم أو كادت. والفتى ماضٍ في طريقه كأنه السهم لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً، ولا يكاد ينظر إلى أبعد من مواقع قدميه. وإنه لفي ذلك وإذا صوتٌ عذب يأتيه من قريب بهذا البيت:
فيهم أن يقف، ولا يكاد يفعل حتى يأخذه صوتٌ آخر ليس أقل عذوبةً ولا حسن وقع في النفس من ذلك الصوت الأول:
هنالك يقف الفتى ويلتفت صوب الصوت، ولكنه لا يكاد يفعل حتى يمسه صوت آخر فيه نعومة الحرير، وعذوبة الماء النمير:
هنالك وقف الفتى والتفت وهو يقول: ما رأيت كاليوم دعاء ولا إغراء! وقد اتصل طرفه بوجوه ثلاثة حسان، تشرق بها كوى ثلاث في دار فاطمة بنت مُرٍّ الخثعمية. قال الفتى: ما خطبكن: قالت إحدى الفتيات: ما خطبك أنت؟ فيم إرقالك على هذا النحو ولم يَئنْ لشباب قريش أن يروحوا إلى أهلهم؟ وفيم تركت أباك وإخوانك وأترابك في المسجد؟ هلا بقيت كما بقوا وانتظرت كما ينتظرون! قال الفتى في صوت فيه دعابة الطامع ويأس المضطر إلى الإسراع: ما أنتِ وذاك؟ إن أدعهم فلأمر ما. قالت فتاة أخرى؛ إن تدعهم فلتخل إلينا فتحدثنا وتسمع منا ساعة من نهار. قالت ثالثة: هلمَّ يا فتى أقبل، فما هذه ساعة حديث يلقى من الكوى! إن الشمس لمحرقة وإن القيظ لشديد، وإني لأوثر ما كنت فيه من الإرقال آنفًا على ما أنت فيه من الوقوف الآن. قالت إحداهن وكأنها تتغنى:
وهمَّ الفتى أن يأبى، ولكنهن ألححن عليه، ومضين يدعونه ويغرينه حتى استجاب لهن.
وما هي إلا أن دخل الدار وأغلق من دونه بابها، وأقبل الفتيات عليه مبتهجات له رفيقات به: هذه تمسح رأسه، وهذه تمس وجهه، وهذه تأخذ بطرف ردائه، وهو يحاول أن يتقيهن وأن يمتنع عليهن، فلا يجد إلى شيء من هذا سبيلًا. وكانت فاطمة الخثعمية أطول هؤلاء الفتيات قامةً، وأوسمهن وجهًا، وأعذبهن حديثًا، وكانت على جمالها الرائع وحسنها البارع ذكية القلب، نافذة البصيرة، ضخمة الثروة، تعيش في مكة مترفةً ناعمة، من حولها عدد غير قليل من الموالي والأحلاف والرقيق على اختلاف أجناسه وتباين حظوظه من المهارة في الفنون المختلفة التي كان يحسنها الرقيق بمكة في تلك الأيام.
من ذلك اليوم وقع الفتى من نفس فاطمة موقع قطرة الندى من الزهرة الغضة عند إشراق الصبح، فأحبته وتمنته، وكلفت به وحرصت عليه. وقضت أيامًا لا تتحدث إلا عنه، وليالي لا تفكر إلا فيه. وقد تحدث إليها الناس من مساء ذلك اليوم بأن آمنة بنت وهب قد خُطبت له وستزف إليه عما قريب، فرأى الناس على وجهها جزعًا باديًا وحزنًا عميقًا؛ وكانت كثيرًا ما تتحدث إلى أترابها بما تجد من حب وما تحتمل من ألم. ولست أنا الذي شبه موقع الفتى من نفسها موقع قطرة الندى من الزهرة، إنما هي صاحبة هذا التشبيه. فقد كانت تقول لصاحبتها عاتكة بنت سهم: أتعرفين كيف تنعم الزهرة حين يمسها الندى إذا أسفر الصبح؟! فكذلك نعمت حين مسني حب هذا الفتى يوم الفداء. وكانت تقول لها: أتعرفين كيف تشتاق الزهرة إلى قطرة الندى إذا ارتفع الضحى واشتد عليها حر الشمس كلما تقدم النهار؟! فكذلك أشتاق أنا إلى هذا الفتى كلما بَعُد العهد بيني وبينه، وكانت تقول لها: أتعرفين كيف تهيم الزهرة بقطرة الندى إذا أظلها المساء وأقبل الليل، وأحست برد السحر وعرفت أن سقوط الندى قريب؟! فكذلك أنا أهيم بهذا الفتى إذا أشرق الصبح وقرُب غدوُّ قريش إلى مجالسها في المسجد، أو إذا اعتدل النهار وآن لقريش أن يروحوا إلى أهلهم. وكانت عاتكة بنت سهم ترثي لها وتشفق عليها، وربما بلغ منها الرثاء والإشفاق أن تسخر منها بعض الشيء، فكانت تقول؛ ويحك يا فاطمة! إنك لمن قوم بداة جفاة فيهم خشونة وغلظة، وما أعرف أن تجار قريش يخافون على أنفسهم وأموالهم في رحلة الشتاء أحدًا كما يخافون هذا الحي من خثعم. ولولا خوفهم من هذا الحي، وإكبارهم لبأسه وبطشه، لما أيسر أبوك، ولما كان له هذا المال الضخم، وهذا العدد الكثير من الرقيق والأحلاف، ولما اتخذ لك هذه الدار الأنيقة الواسعة في مكة تقيمين فيها كما يقيم أغنى بنات قريش فكيف نبتت هذه الزهرة الرقيقة الأنيقة في تلك القبيلة التي لا تشتاق إلا إلى الدماء! وكانت فاطمة إذا سمعت هذا الحديث ابتسمت عن نفس حزينة وقالت: ما أشد جهلكم يا أهل المدر بما يُظلُّ الوبر من نفوس حية وقلوب رقيقة وأكباد يعبث بها الحب ويعصف بها الغرام.
فلما طال على الفتاة أمر هذا الحب وثقل عليها، رقت لها عاتكة بنت سهم، ورقت لها سلمى بنت خزيم، وقالت لها: أقلي عليك الخطب وهوني عليك الأمر، فليس هذا الفتى إلا غلامًا من قريش له رقة قلوبهم وفيه حبهم للحياة وكلفهم بلين العيش. وقد أصهر اليوم إلى بني زهرة، وما أيسر أن يصهر غدًا إلى خثعم. وما نحسبك أنك تكرهين أن تكوني زوجه الثانية. وما نحسب أنك تخافين أن تغلبك آمنة على قلبه؛ فقد يكون لآمنة جمالها ومكانها من قريش، ولكن لك جمالك، ومالك، ومكانتك من خثعم. فالرأي أن نجمع بينك وبين الفتى، وأن يحس منك حبًّا له وميلًا إليه، فلعل ذلك أن يغريه بالخطبة. وأي شيء أحب إلى أبيه وإخوته من أن يصهروا إلى عظيم خثعم فيأمنوا شياطينها وشياطين مراد، وهذه الأحياء التي تأخذ عليهم طريقهم إلى بلاد اليمن! وكذلك دبر الفتيات أمرهن وجعلن يرصدن للفتى إذا غدا ويرصدن له إذا راح، حتى ظفرن به في هذا اليوم.
واعلم أني مشفقة أن تضيع، فقد تعلقت نفسي بها منذ يوم الفداء. لقد رأيتك مقبلًا إلى المسجد، ورأيتك منصرفًا عنه، ورأيت على وجهك ابتسامةً واحدةً للموت وللحياة جميعًا. لم يكن وجهك مظلمًا حين كنت تنتظر الموت، ولم يزدد وجهك إشراقًا حين ردت إليك الحياة. ولقد ارتسمت في نفسي ابتسامتك هذه فلم تفارقها، ولم أرك منذ ذلك اليوم ولن أراك إلا مبتسمًا. أقم يا فتى! إن وجهك لوضيء وإن جبينك لمضيء، وإن عينيك لتسرعان إلى القلب، وإن صوتك ليسبغ عليَّ حنانًا حلوًا يدنيني منك ويدفعني إليك. أقم! وليكن بيني وبينك طرفٌ من حديث. فمن يدري! لعل هذا الحديث أن ينتهي بك وبي إلى شيء. قال: وما عسى أن يكون هذا الشيء؟ إن شخصك ليثبتني في هذا المكان، وإني لأجد في قلبي شيئًا يدفعني عنه، وإن نفسي لمضطربة بين هذين الداعيين الملحين: يهيب بي أحدهما أن أقم، ويهيب الآخر أن أنصرف قالت: أقم يا فتى، وخلاك ذمٌّ، فما ينبغي وقد دخلت دارنا أن تخرج منها ولما تُصبْ عندنا شيئًا من القِرى. قال: لست ضيفًا ولا طارقًا، وليست الساعة ساعة قرى، دعيني أنصرف الآن كارهًا، وما أظن إلا أني عائد إليك إذا كان المساء. ثم هم أن ينصرف ولكنها أقبلت عليه ورنت إليه بطرف ساحر فاتر أثبته في مكانه، فمسته بيدها مسًّا رفيقًا وقالت: وكذلك يذهب عبثًا ما أنفقت من جهد، ويمضي سدًى ما بذلت من حيلة، وتنصرف ولما يتصل بينك وبيني الحديث، ولما تتصل بين قلبي وقلبك الأسباب! أقم فلا بد من أن أسألك، ولا بد من أن تجيب. انظر إلى هذه الوسائد، لقد هيئت لك منذ اليوم فاجلس. وانظر إلى هذه الجارية! لقد أقبلت تحمل شيئًا من شراب.
ثم دنت منه وأقبلت عليه بوجهها المشرق الجميل، وهي تقول في صوت هادئ عذب أدنى إلى الهمس منه إلى الجهر: هلمَّ، فقد خلت لنا الدار ونأى عنا الرقيب، وقد وهبت لك نفسي فهبْ لي نفسك، ولنقضه يومًا حلوًا سعيدًا. هنالك ارتد الفتى عنها وقد أخذه خوف رفيق وإشفاق هادئ وهو يقول:
قالت: ما أشد ما ترتاع لما لا يروع! إني لأعرف فيك نُسك أبيك. قال: لا روع ولا نسك، ولكن دعيني أنصرف، ولأعودن إليك مع المساء بما ترضين وبما أنا عليه حريص. قالت: أصادقٌ هذا الوعد، أم تَحِلَّة تخرج بها مما نحن فيه؟ قال: بل وعدٌ صادق أنا على صدقه أحرص منك.
نهض ونهضت، ومضى متثاقلًا، وتبعته وهي تقول: لقد صبرت أيامًا وأيامًا، فما يمنعني أن أصبر بعض يوم! اذهب سالمًا وعد موفورًا! فلن أبرح مجلسي هذا حتى تعود!
وما كاد يتجاوز باب الدار حتى مضى في سرعة تشبه العدو، لا يحس وهج الشمس الذي كان يلفح الوجوه، ولا يكاد يرى من حوله شيئًا، قد امتلأت نفسه بما رأى، وامتلأت بما سمع، وجاشت في قلبه الآمال العراض. لقد كان يقيس ما كان يعده أبوه من ثراء بعد طول الرحلة وثقل الجهد وكثرة الاحتمال وفراق الأهل، إلى ما رتبت له فاطمة في غير نأي ولا مشقة، ولا اغتراب ولا فرقة، فكان يأخذه شيء يشبه الدوار حين يرى هذا الفتى وقد أنضاه سفر غير قاصد، ثم عاد مجهودًا مكدودًا ولم يفد إلا دراهم ودنانير؛ وهذا الفتى الذي يسعى في مكة رخي البال موفور النعمة، لم يلق جهدًا ولم يتعرض لأذى، وإنما قال كلمة ليس غير، فإذا هو أكثر قريش مالًا، وأعظمها ثراء، وأعزها جانبًا، إليه حماية قريش حين تأخذ طريقها إلى اليمن.
وأنساه هذا التفكير نفسه حتى مر بدور بني هاشم فلم يُلَوِّ على أحد ولم يقف عند شيء، لولا أن صوتًا ناداه إلى أين يا عبد الله؟ وما هذا المضي إلى غير غاية؟ ولكنه سمع لهذا الصوت فالتفت، فرأى سمراء تسعى قريبة الخطى، كئيبة الوجه، كاسفة البال، فوقف لها حتى دنت منه وهي تقول: لشد ما تسرع في العدو، ولشد ما تذكرني بأخيك! قال: ما أرى أنك تريدين هالة أو فاطمة بنت عمرو؟ قالت: بل إلى فاطمة أريد، فقد مسها منذ حين ما مسني منذ دهر فانصرف عنها أبوك بعض الشيء إلى عرسه الجديدة. ولولا أن لفاطمة فيك وفي إخوتك عزاء عما تجد من هجر عبد المطلب لكان الخطب عليها أثقل ولها أفجع. فأنا أختلف إليها في مثل هذا الوقت من كل يوم لأسليها وأسري عنها، فقد أخذ عبد المطلب لا يروح إلى هالة. وأنت فما أعجلك عن أبيك وعن إخوتك؟ أمشوقٌ أنت إلى آمنة ولما يعتدل النهار؟ قال: إنك لتعلمين ضعف سلطان الشوق علينا آل عبد المطلب، وإن أحدنا ليتحرق شوقًا ويتفطر جوًى فلا يبلغ منه ذلك أن يتحول عن مجلسه أو ينصرف عن وجه قصد إليه. ولكن عبد المطلب قد لقيني منذ اليوم بحديث أعجلني عنه وعن إخوتي، ودفعني إلى أن أسرع إلى الرواح. إنه يريد أن أفصل مع القافلة إلى الشام، فلا بد من أن أتهيأ لذلك وأهيئ له آمنة، وإني لأخشى أن يكون موقع ذلك منها شديدًا. قالت: لا بأس عليك، إن تكن فتًى من قريش فآمنة فتاة من قريش، وما أظنها إلا هيأت نفسها لحياتنا جميعًا، وأخذت نفسها بالصبر على فراق البعل أكثر العام. اذهب مصاحبًا، فلن ترى من آمنة إلا ما يحب أبوك وما ستحب أنت بعد حين وإن كرهته الآن. وكانا قد بلغا بيت فاطمة، فدخلت هي، ومضى الفتى أمامه لم يعرج على أمه ليحييها أو ليقدم إليها بعض العزاء. فلما انتهى إلى آمنة في بيتها قامت إليه طلقة الوجه مشرقة الجبين، وتلقته مبتهجةً بلقائه، ولم تسأله عما أعجله عن قومه. وهل كانت تشك في ذلك أو ترتاب! إنما هو الحب الذي كان يخرجه من البيت وقد خلت دور بني هاشم من الكهول والشباب، ويرده إلى البيت ولما ينهض كهول بني هاشم وشبابهم من أنديتهم ومجالسهم. ولكن آمنة رأت على وجه زوجها شيئًا غير ما كانت قد تعودت أن تراه: رأت حيرة لا تكاد تظهر، وهمًّا لا يكاد يبين. فهمت أن تسأله، ولكنه سبقها إلى الجواب فقال: عزيزٌ عليَّ يا ابنة وهب أن ألقاك بغير ما تعودت أن ألقاك به من البشاشة والبشر، ولكن حياة قريش لا تعرف البشاشة الدائمة ولا البشر المتصل. قالت: فأنت مرتحل إذًا مع القافلة؟ كذلك يريد أبوك، وكذلك يريد إخوتك، وكذلك يريد مكانك من قريش.
ثم كفكفت عبرة كانت تريد أن تنهمر، وردت إلى صوتها ما كان قد فارقه من الثبات والهدوء، وقالت وهي تبتسم في كثير من التجلد والصبر: وهل عزت قريش وأثرت إلا بالرحيل! إنما عز قريش وثراؤها ثمرة لجهد الرجال وصبر النساء: أولئك يشقون بالرحلة المتصلة، وهؤلاء يشقين بالصبر الطويل. وماذا أعددت لهذه الرحلة؟ قال: سنتحدث في ذلك بعد حين، ولكني أريد أن تستقبلي هذا الفراق بصبر لا يشوبه التصبر، وجَلَدٍ لا يشوبه التجلد، وقلب لا يفسد عليه الحزن أمره. انتظري عودتي فلعلي أعود موفورًا موسرًا، ولعل ذلك أن يهيئ لنا حياة أيسر وعيشًا أدنى إلى اللين مما نحن فيه، فلو تعلمين ما ألقى من الأذى وما أرد نفسي إليه من الاحتمال حين أرى جيدك عاطلًا لا تزينه هذه العقود التي تزين أجياد أترابك من نساء قريش، ولو تعلمين ما ألقى من الأذى وما أرد نفسي إليه من الاحتمال حين أرى أنك لا تستمتعين من طيبات الحياة بمثل ما يستمتع به غيرك من نساء بني هاشم! قالت: وما ذاك، وأين يكون الحلى وأين يكون النعيم من هذه الساعات الحلوة التي نقضيها إذا كانت القائلة أو إذا جن الليل! وأخذ الحديث يصفو ويعذب ويرق ويلين بين الزوجين، حتى أنسي عبد الله أمر الرحلة، وأنسى حديث فاطمة وما وعدته وما صورت له من أماني وآمال، ولم يذكر عبد الله إلا هذا الوجه الجميل، وهذه النفس السمحة، وهذا الخلق الرضي، وهذا الحديث العذب يقع من قلبه مواقع الماء من ذي الغلة الصادي. هنالك عاد إلى وجه الفتى إشراقه وبهجته، وعاد إلى قلب الفتى غرامه وحبه. وهنالك انتصر الشباب على الحزن والسرور معًا. ثم أقبل الأصيل فأسبغ على مكة وما حولها رداء خفيفًا من الحزن. وخرج الفتى من عند آمنة راضيًا ناعم البال، ولكن صوتًا بعيدًا يبلغ قلبه فيمسه مسًّا خفيفًا. خرج الفتى ليسعى في تهيئة رحلته، ولكن هذا الصوت البعيد أخذ يدنو من قلبه قليلًا قليلًا:
ومع أن الفتى قد ولى وجهه شطر بني زُهرة ومضى في طريقه إليهم، فقد شغله هذا الصوت عن بني زهرة وعن عُروضهم وتجارتهم، وشغله عن القافلة ورحلتها من غد، وشغله عن نصح أبيه وتشجيع إخوته، وشغله عن كل شيء. ولم لا! لقد كان يدنو منه شيئًا فشيئًا، وكان كلما دنا منه ارتفع واتسع وأخذ عليه كل سبيل، حتى لكأنه كان يسمعه من كل ناحية، وينظر فإذا هو في طريقه لا إلى دور بني زهرة، بل إلى دار فاطمة بنت مُرٍّ. وينظر الفتى فإذا هو أمام الدار، وإذا هو يدخل من الباب، وإذا هو يرى الجارية السوداء تلقاه باسمةً وتحييه قائلة: أسرع يا زين قريش، فقد أبطأت وطال انتظار مولاتي لك وينظر الفتى فإذا هو في ذلك المجلس الذي ترك فاطمة فيه آخر الضحى، وإذا فاطمة قد قامت له وأقبلت عليه، ولكنه لم يفطن لشيء ما كان ليفوته لو أن أمره كله قد كان إليه حقًّا. لم يفطن لهذا الفتور السريع الذي ظهر على فاطمة حين وقع بصرها عليه. على أنه لم يلبث غير قليل حتى أحس هذا الفتور وأنكره؛ فقد تلتقه الفتاة فرحةً بلقائه أول الأمر، ولكنها لم تكد تثبت بصرها فيه حتى هدأ هذا الفرح، ودعته في رفق إلى أن يجلس. وما كاد يستقر في مكانه حتى أقبل عليها جذلان مسرورًا وهو يقول: رأيت أني لم أكذبك ولم أخلفك، وإنما أقبلت مع المساء! لئن كانت الدار قد خلت لنا في الضحى لهي الآن أدنى إلى الخلو. ولئن كان الرقيب قد نأى عنا في الضحى لهو الآن أمعن في النأي. ولئن كان النعيم قد عن لنا في الضحى لهو الآن أدنى منالًا. قالت وقد أطالت النظر إليه والتحديق: ليتك لم تعد، وليتك إذ وعدت أخلفت موعدك! فحدثني ماذا صنعت منذ فارقتني؛ فإني لا أرى في وجهك ما كنت أراه في الضحى من الإشراق، ولا أرى في جبينك ما كنت أراه في الضحى من الضوء، ولا أسمع في صوتك ما كنت أسمع في الضحى من هذه النغمات الحلوة التي كان يملؤها الحنان! إنما أنت الآن فتى من فتيان قريش يبتغي لذةً ومالًا. إن في أحداث الزمان لعجبًا! ما أسرع ما يتغير الرجال! قال: وأين ترين هذا التغير؟ وماذا تنكرين مني؟ لقد كنت بك مشغوفًا في الضحى، وكنت أدافع هذا الشغف، ولقد كنت مقبلًا عليك في الضحى، وكنت أخفي هذا الإقبال. فالآن وقد أرسلت نفسي على سجيتها، وتركت قلبي يعرب عما يجد، ويصور ما يحس تلقينني هذا اللقاء؟! هلم! لقد خلت لنا الدار، ونأى عنا الرقيب وأمكنت لنا الفرصة.
قالت: لقد كنت تفكر في الضحى أو تريد التفكير، وكنت تَرَوَّى في الضحى أو تريد التروية، فالآن دعني أفكر، وهب لي سعة من وقت؛ فإني لا أري ما الذي يصرفني عنك ويخيفني منك. ولو أنصفت نفسك وأنصفتني لانصرفت عني الآن ومضيت فيما كنت فيه من تهيئة رحلتك إلى الشام!
قالت ذلك ونهضت متثاقلة، فمضت حتى اختفت. ولبث الفتى حائرًا لا يدري ماذا يأتي من الأمر، وكأن حجابًا قد أزيل عنه، وأمرًا قد كشف له، فوثب ومضى مسرعًا حتى جاوز الباب وأخذ طريقه إلى بني زهرة. وقضت فاطمة ليلًا ثقيلًا، حتى إذا كان الصبح أقبلت عاتكة تسعى تريد أن تعلم علمها، فرأت فتاة محزونة كئيبة؛ فلما سألتها عن خطبها قالت:
قالت عاتكة: لقد ظننت أن حبكن في البادية كحبنا في الحاضرة، وما كنت أحسب أنه يتجاوز الشباب، ويرقى إلى السحاب!
قالت فاطمة: لا تهزئي، فقد ذهبت آمنة بخير ما كنت أحب!