تصدير
تأمُّلات في «تأمُّلات» الإمبراطور الرُّواقي
يَحفِل التاريخ الروماني بأحداثٍ وشخصياتٍ عجيبةٍ لا مثيل لها، مما يجعل هذا التاريخ سِفرًا شائقًا إذا شَرَعتَ في تصفُّحه فليس بوسعك أن تتركه دون أن تُكمِله، بل وتَطلُب المزيد والمزيد من المعرفة به ومُلابَساته وتطوُّراته منذ أن كانت روما حِصنًا صغيرًا على نهر التيبر، ثم صارت عاصمة لإمبراطوريةٍ ضخمةٍ لا سابق لها في التاريخ؛ فهي تُغطِّي كل العالم المعروف آنذاك من حدود الهند وأواسط آسيا شرقًا إلى الجزر البريطانية غربًا.
ومن أعجب الشخصيات التي تُزيِّن سماء ذلك التاريخ الرائع هو مُؤلِّف هذا النص الذي نُقدِّم لترجمته بهذه السُّطور البسيطة.
ولعله من المفيد أن نُلقي نظرةً سريعةً على نشأة الفلسفة الرُّواقية لكي نفهم الأفكار المطروحة في «التأمُّلات».
كان زينون طويل القامة نحيف الجسم شديد سواد الجِلد، رأسه مائل على كتفه. وكان يرتدي الأقمشة البسيطة الرخيصة، ويقنع في مأكله بالقليل من الخبز والتين والعسل والقليل من النبيذ. وكان سلوكه سلوك الرجل الوَقور، وتبدو على هيئته سمات الجِد والانقباض، ولكنه لم يكن يأنف أن يغشى أحيانًا مجالس الأُنس والمرح، فإذا سُئل في ذلك أجاب بأن طبيعة الترمس المرارة، فإذا نُقع بالماء مدة طاب مساغًا. وكان زينون يُؤثِر الصمت على الثرثرة في حين كان الأثينيون يميلون إلى كثرة الكلام. يَرْوون أن زينون قال في ذلك: «إن لنا لسانًا واحدًا وأُذنَين؛ لنعلم أننا ينبغي أن نُنصِت أكثر مما نتكلم.» وكان زينون مُوجَز العبارة، لم يُعنَ في كتابته بفصاحة ولا أسلوب. كان بنشأته يميل إلى السليقة ويحتقر التصنُّع أو التكلُّف على أن خشونة الطبع وغِلظة القول، وسط قومٍ مُغرَمِين بالرشاقة والجمال، لم يكونا ليحُولا بين زينون وبين التأثير في مستمعيه أبلغ تأثير. أجمع القدماء على أن زينون كان على خُلقٍ عظيم، وأن حياته على بساطتها كانت دائمًا قدوةً طيبةً ومثالًا أخلاقيًّا عاليًا. بلغ هذا الحكيم من قوة الإرادة وطول الصبر وضبط النَّفْس والعفة والسيطرة على الهوى، مَبلغًا أدهش مُعاصرِيه؛ فكان الأثينيون يضربون به المثل قائلِين «أَضبَطُ لِنفسِه من زينون!»
عاش زينون حتى بلغ من العمر ٩٨ سنة. ولمَّا مات رثاه الأثينيون رثاءً رسميًّا، وأصدر أُولو الأمر قرارًا أعلنوا فيه أنه استحق تقدير الوطن لخدماته وحَثِّه الشبيبةَ على الفضيلة والحكمة؛ ولذلك منحوه تاجًا من ذهب وقبرًا من مَدافن العُظماء.
ولقد ضرب زينون نفسه القدوة التي تُحتذى؛ لأنه عاش زاهدًا يواصل الليل بالنهار في دراساته وتأمُّلاته التي اعتبرها رسالةً سماويةً كُلِّف بأدائها. ولقد ورد عند ديوجينيس لائيرتيوس هذه الأبيات في وصف زينون:
نحن بالفعل الذين نقول إن كلًّا من زينون وخريسيبوس حقَّقا إنجازاتٍ أكبر مما لو كانا قد قادا الجيوش أو تقلَّدا المناصب أو سنَّا التشريعات؛ لأن السُّنة التي سنَّاها لم تكُ لدولةٍ ما بعينها، وإنما للبشرية أجمعِين؛ ولذا فلماذا لا يكون وقتُ الفراغ مُلائمًا للرجل الفاضل، في خلاله يستطيع أن يهيمن على الأجيال القادمة ويُوجِّهها ويخاطب ليس فقط القلة المحدودة حوله، بل أيضًا كل البشر في سائر الأمم الموجودة الآن والتي ستأتي من بعدُ؟ باختصارٍ شديدٍ أسألك: هل عاش كلٌّ من كليانثيس وخريسيبوس وزينون وَفْق التعاليم التي نادَوا بها؟ وبدون شكٍّ ستجيب أنهم بالفعل عاشوا على النهج الذي قالوا إنه من الواجب اتِّباعُه في الحياة.
من الشائع أن هوميروس لم يمتلك سوى عبدٍ واحدٍ، وكان لأفلاطون ثلاثة، أمَّا زينون مؤسس المدرسة الرُّواقية الصارمة والرجولية فلم يكن لديه ولا عبدٌ واحد.
ويُركِّز الدكتور عثمان أمين على تأثير زينون في الفلاسفة العرب والمُسلمِين ويشير إلى ما حفظه الشهرستاني من حِكمٍ وأمثالٍ كثيرةٍ منسوبةٍ لزينون؛ فقد ذكر الشهرستاني حِكمًا كثيرةً أُثِرَت عن زينون وهي تلائم ما نعرفه من أخلاقه … ونورد هنا بعضها: رأى زينون فتًى على شاطئ البحر محزونًا يتلهَّف على الدنيا، فقال له: «يا فتي، ما يلهفك على الدنيا؟ لو كُنتَ في غاية الغنى، وأنت راكبٌ في لُجَّة البحر، قد انكَسَرَت السفينة وأَشرَفَت على الغرق، وكانت غاية مطلوبك النجاة ويفوت كل ما في يدك؟» قال: «نعم.» قال: «لو كنت ملكًا على الدنيا، وأحاط بك من يريد قتلك، كان مرادك النجاة من يده؟» قال: «نعم.» قال: «فأنت الغني وأنت المالك الآن.» وقيل لزينون: «أيُّ الملوك أفضل: ملك اليونانيِّين أم الفرس؟» قال: «من مَلَك شَهوتَه وغَضبَه.» ونُعي إليه ابنُه فقال: «ما ذهب ذلك عليَّ، إنما ولَدتُ ولدًا يموت وما ولَدتُ ولدًا لا يموت!» وقيل له، وقد كان لا يقتني إلا قوت يومه: «إن المَلِك يُبغضك.» فقال: «وكيف يحب المَلِك من هو أغنى منه؟»
وفي مقامنا هذا لا نملك إلا أن نسلط الضوء في عُجالةٍ على بعض مبادئ الرُّواقية الرئيسة. وأَوَّل هذه المبادئ الذي يُعَد مِفتاحًا لكل الفلسفة الرُّواقية هو مبدأ «العيش وفق الطبيعة»:
-
ad naturam vivere.
-
to kata physin zein.
أفليس هذا كله نذيرًا لنا بأننا لا نعيش وفق الطبيعة؟
النار هي خالقة الأشياء، وهي أسمى عناصر الكون. أمَّا النفس الإنسانية فهي من هواءٍ ساخنٍ؛ فهي متصلةٌ بأسمى العناصر وخالقِ الأشياء أي النار. وأيُّ خللٍ يُصِيب النظام الكوني من الطبيعي أن يصيب النفس الإنسانية، التي هي أيضًا إذا تَعرَّضَت للخلل أصابت النظام الكوني بالخلل. ويتمثل الخلل الذي يُصيب النفس الإنسانية في هزيمة العقل أمام العاطفة والأهواء. هذه الهزيمة المُنكَرة تتجسَّد شرًّا مستطيرًا في تراجيديات سينيكا؛ فعلى سبيل المثال تعشق فايدرا في المسرحية التي تحمل اسمها (أو اسم هيبوليتوس) عنوانًا؛ ابنَ زوجِها الشاب العفيف هيبوليتوس، وعندما يصدُّها وقبل أن تموت تترك رسالة تتهمه لدى أبيه بأنه اغتصبها. عاطفةٌ مستعرةٌ وشَرٌّ مُستطيرٌ حطَّم الأسرة جميعًا والمدينة بأكملها، ثم امتد الشر إلى الطبيعة نفسها حيث خرج من البحر وحشٌ أُسطوريٌّ لا مثيل له أصاب خيول عربة هيبوليتوس بالجنون، فمَزَّقَت الخيول صاحبها إربًا إربًا … كوارثُ طبيعيةٌّ تُصيب النظام الكوني بالخَلل؛ لأن العقل داخل النفس الإنسانية تَلقَّى هزيمةً فادحةً على يد جحافل العاطفة والأهواء الفتَّاكة.
إنها إذن النار الإلهية الخلَّاقة التي تُدمِّر الكون لتخلقه من جديد. هذه النار الإلهية لا يمكن مقارنتها بالنار البشرية التي نستخدمها كل يوم؛ فهي نارٌ مدمرةٌ تحرق الأشياء ولا تُعيد خلقها. ومن هنا كان حرق الموتى — ولا سيما حرق الأباطرة بعد موتهم — جزءًا من طقوس تأليههم؛ إذ يُخلِّصهم الحرق من أدران الجسد، ويطير بروحهم إلى السماء لتتحد مع النجوم التي هي إحدى التجلِّيات للنار الإلهية الخلَّاقة.
-
أشياء مهمة وضرورية فهي خير.
-
أشياء غير مهمة وغير ضرورية فهي شر.
-
أشياء وسط media أو لا هي خير ولا شر؛ أي كما يُترجِمها المُترجِم لنص أوريليوس «لا فارقة» idifferentia إنها أشياء يمكن أن تكون خيرًا ويمكن أن تكون شرًّا. المهم أن نعرف ما هي هذه الأشياء الوسط بالنسبة للرواقيِّين هي: الفقر والغنى، المرض والصحة، الحكم والملك … إلخ.
ومن اللافت للنظر في «تأمُّلات» ماركوس أوريليوس أنها أشبه ما تكون بمُفكِّرةٍ دوَّن فيها هذه التأمُّلات، ربما وهو في خِضَم المعارك وفوق الجبال أو في أعماق الغابات، وربما كان أحيانًا في قصره المُنيف. المهم أنها تأمُّلاتٌ مكتوبةٌ بعيدًا عن قصدية الدرس المتعمق أو الخطاب المُنمَّق وما شابه. ومع ذلك فالمرء يُدهَش من كثرة الإشارات لعيون الكتب والمُؤلَّفات في الأدب الإغريقي واللاتيني؛ فليس الأمر قاصرًا على الرُّواقيِّين السابقِين، بل يشمل كل المدارس الفلسفية والمذاهب الأدبية عند الإغريق والرومان. هذه التعدُّدية في مصادر أوريليوس تَدُل دلالةً واضحةً على عُمق ثقافته وغزارة اطِّلاعه.
أمَّا الترجمة التي نُقدِّم لها فتنِمُّ عن دارسٍ مجتهدٍ للفلسفة وذوَّاقة للأدب. إنه مترجمٌ يحب المادة التي يُترجمها ويعيش المبادئ التي يشرحها؛ لذلك كان أسلوبه في الترجمة مستساغًا، ومع أنه يترجم النص الإغريقي عن الإنجليزية فإنه لم يفقد الكثير من روح النص الإغريقي الأصلي الذي وَضَعتُه أمامي وأنا أُراجع الترجمة.
لقد نجح المُترجِم في أن يصل إلى صيغةٍ شائقةٍ لأفكار الفيلسوف الرُّواقي. وأنا على يقينٍ تامٍّ من أن القارئ العربي سيجد متعةً فائقةً، وفائدةً ملموسةً في قراءة هذا النص الذي يمكن أن نجد فيه العزاء الوافي عما نُقاسِيه في أيامنا هذه.
والله ولي التوفيق.