مقدمة
إذا شئت أن تملك سيطرةً على الألم فافتح كتابه المبارك وأَوغِلْ فيه، ولسوف يتسنى لك بغَدَق فلسفته أن ترى كل المستقبل والحاضر والماضي، ولسوف تُدرِك أن كلًّا من الفرح والتَّرَح لا يعدو أن يكون دُخانًا.
نفسٌ كبيرة، تنسل كل يومٍ من ضجيج الجيش ومن عجيج المعسكر على ضفاف الدانوب، لكي تُدوِّن خواطرها، في مُنبلَج الصباح، وتُسجِّل خلجاتها وتُقيِّد أوابدها، وتَفرغَ بعض حينٍ من حُكم العالم لكي تُؤكِّد حُكمها لنفسها!
ذلك هو ماركوس أوريليوس (١٢١–١٨٠م) الفيلسوف الرُّواقي ورأس الإمبراطورية الرومانية، المُلقَّب ﺑ «الفيلسوف على العرش»؛ إذ تَحقَّقَت فيه، إلى حدٍّ كبيرٍ، صورة الحاكم الفيلسوف التي تمثلها أفلاطون في جمهوريته، وكان «الحاكم المُطلَق» على العالم المُتحضِّر كله آنذاك، وبلغ من الحكمة والأستاذية ما لم يبلُغْهُ أحدٌ من معاصريه، وكان مثالًا لرقَّة القلب، وللعدالة التي لا يشوبها شيءٌ اللهم إلا السماحة الزائدة، على حدِّ قولِ جون ستيوارت مِل.
(١) لِمَ الكتابة؟!
فلماذا إذن يكتب ماركوس وقد انتفت لديه نية النشر؟!
وفي غياب القارئ ماذا يبقى من غرضٍ للكتابة؟!
يبقى الكثير. الكتابة ارتقاءٌ من الخصوصية إلى العمومية، تحقيق لما هو كامنٌ في العقل، وتحديدٌ لما هو غائم، وتثبيتٌ لما هو هائم، بل هي بحثٌ عن المجهول من خبايا النفس، ومعرفةٌ بما هو ضائعٌ في تضاعيف الذات.
لَستُ أعرف بالضبط ما أنا أُفكِّر فيه؛ ربما لذلك شَرَعتُ في كتابته.
(٢) لِمَ التَّكرار في التأمُّلات؟
(٣) ماركوس أوريليوس الفيلسوف
الرُّواقية فلسفةٌ عمليةٌ، تُعلِّمنا كيف نَتحلَّى بالثبات ونَتحمَّل المحنة ونخرج من رماد الفشل. نَشأَت الرُّواقية بعد أرسطو وامتدت قرونًا في الحقبة الهلينستية وما بعدها؛ ومن ثَمَّ فقد كانت الرُّواقية، شأنها شأن المذاهب التي أَعقَبَت أرسطو، فلسفةً عمليةً بالدرجة الأساس؛ إذ كانت، كأخواتها، وليدة اضطراباتٍ وفِكْر أزمة.
وفي فترات الأزمات الاجتماعية والسياسية العنيفة يُلِح الجانب العملي للفكر وتعلو نبرته وتحتد، وينتزع الصدارة من الجانب النظري الذي يتراجع إلى الخلفية، وكثيرًا ما يبدو كأنه وُضِع وضعًا لكي يدعم المذهب العملي ويَلُمَّ شعثه ويَسُدَّ ثُلْمتَه. وكثيرًا ما تبقى الثمار العملية يانعةً نضرةً، وتعيش عمرًا ثانيًا بعد أن يَزهَق المذهب النظري وتَتقوَّض أركانه.
يقول ثورو: «أن تكون فيلسوفًا لا تعني أن تكون لديك أفكارٌ حاذقة، ولا حتى أن تُؤسِّس مدرسة، بل أن تحب الحكمة بحيث تحيا وفقًا لإملاءاتها، حياةَ بساطةٍ واستقلالٍ وسماحةٍ وصدق. أن تكون فيلسوفًا هو أن تحل بعض مشكلات الحياة، لا حلًّا نظريًّا فقط، بل عمليًّا أيضًا.»
وكان ماركوس ملكًا وحاكمًا قديرًا، يدير شئون إمبراطورية تمتد عرضًا من الفُرات إلى المحيط الأطلسي، وتمتد طولًا من جبال اسكتلندا الباردة إلى رمال أفريقيا المُتلظِّية، ولكن موقفه من المُلك كموقفه من الحياة العسكرية: المُلك عبءٌ وابتلاء، ولكنه لا يُعفيك من الفضيلة، بوُسعك أن تحيا حياةً فاضلةً حتى في قفص البلاط: «حيثما أمكن لإنسانٍ أن يعيش أمكنه أيضًا أن يعيش حياةً صالحة، ولكن عليه أن يعيش في قصر — إذن بوُسعه أن يعيش في القصر حياةً صالحة» (التأملات: ٥-١٦). «احذر أن تَتقَيصَر أو تَتلطَّخ بالأُرجوان …» (٦-٣٠). «قَدَرُ الملوكِ أن تفعل الخير وتُذَمَّ عليه» (٧-٣٦).
القيادة العسكرية والحكم المدني كانا عبئَين اضطلع ماركوس بحملهما بمهارة واقتدار، امتثالًا للواجب الاجتماعي وليس شغفًا بالقيادة والمُلك. أمَّا الفلسفة فإنه لَيَنتَحي إليها ببوصلةِ روحه، ويَعُدُّها أُمَّه إذا كانت الوظيفة هي زوجة أبيه. كانت الفلسفة ملاذه وراحته، كَيْما يحتمل القصر ويحتمله القصر. الفلسفة هي الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يَخفِرنا في مُغترَب وجودِنا.
لعلها فرصةٌ لمدح التناقض!
تُوفِّي ماركوس في معسكره على جبهة الدانوب في السابع عشر من مارس عام ١٨٠م، وقد ناهز التاسعة والخمسين، تاركًا في خاتمة التأمُّلات أذانًا برحيله: «أيها الإنسان الفاني، لقد عِشتَ كمواطنٍ في هذه المدينة العظيمة. ماذا يُهم إذا كانت هذه الحياة خمسة أعوام أو خمسين؟ على الجميع تسري قوانين المدينة. فماذا يخيفك في انصرافك من المدينة؟ إن من يَصرِفك ليس قاضيًا مستبدًّا أو فاسدًا، إنها الطبيعة ذاتها التي أتت بك. إنها أشبه بمدير الفرقة الذي أشرك ممثلًا كوميديًّا في الرواية وهو يَصرِفه من المسرح.
– ولكني لم أُمثِّل مشاهدي الخمسة، مثَّلتُ ثلاثةً فقط.
– حقًّا، ولكن في الحياة قد تكون ثلاثةُ مَشاهدَ هي الرواية كلها.
استئناف الحياة إنما يُحدِّده الكائن الذي ركبك أول مرة والذي هو الآن يفنيك، وما لك من دور في أيٍّ من العلتَين، اذهب بسلامٍ إذن؛ فالربُّ الذي يصرفك هو في سلامٍ معك» (التأملات: ١٢-٣٦).
(٤) ظِلٌّ من التأمُّلات
-
الذات الخالية من الانفعالات قلعةٌ وحصنٌ ومُنتجَع.
-
«الآخر» قريبك في العقل، ولا يأثم إلَّا عن جهلٍ منه بما هو خير، إذن علِّمْه أو احتَمِلْه.
-
لا تَنبَتَّ عن إخوانك في البشرية فتكونَ وَرَمًا على جسم العالم.
-
ألَّا تَصيرَ مثلَ الذي أساء إليك … ذلك هو خيرُ انتقام.
-
«التغيُّر» أنطولوجيًّا … أسلوبٌ للطبيعة في عملها. فلْتألَفْه مثلما تألَف وجودك.
-
العقل مبثوثٌ كالهواء في كل مكانٍ طَوعَ من يريد أن يتشرب به.
-
اللحظة الحاضرة هي مُلكك النهائي. اقبض على اللحظة. أطياف الماضي وهواجس المستقبل تجتمع على التهام الحاضر الذي لا نملِك سواه.
-
لا تُعلِّق سعادتك على آراء الآخرِين فيك ولا تضع هناءك في أيديهم. ذلك «استرقاقٌ» طوعيٌّ و«مصادرة» حياة و«نفي» خارج الذات. وما كُنتَ لِترضى أيًّا من ذلك لو كنت تعرف اسمه الحقيقي.
-
لكل شيءٍ في الطبيعة دَوره في حبكة «الكُل»، حتى النائم وحتى المُخرب، حتى مُخلَّفات الطبيعة وعوارضها الضارَّة هي نواتجُ بعديةٌ للنبيل والجميل.
-
فعل الخير ثواب ذاته.
-
أَحِبَّ قَدَرك: قدَرُ الإنسان هو رفيقه وحاديه معًا. القَدَر يحدو العقلاء ويُجرجِر الحَمقَى.
-
اصطَبِغ بالأفكار الصائبة حتى تُصبِح فيك طبيعةً وسوية. مبادئك الرُّواقية هي عُدَّتك في الطوارئ.
-
طول الحياة غير فارق. لا جديد. إذا بلغت الأربعين فقد رأيت كل شيء، وقد أَفرغَت دنياك طَرافتَها. الموت فِعلُك الطبيعي الأخير، فلتُنجِزْه ولْتُتقِنْه.
-
لا تكن دُميةً تُحرِّكها خيوطُ الرغبة.
-
العالم وطنك، والبشر إخوتك، «وخَير البلاد ما حَملَك.»
-
لا تُزايِد على المُدرَكات بما ليس منها. الأذى لا يأتيك إلَّا من ذاتك. الأشياء بريئةٌ وخاملةٌ ومحايدة. ليست الأشياء ما يَكرُبك بل فكرتك عنها.
-
ناوِر العقبات، واتخذ منها وقودًا لفضيلتك، واسْعَ إلى مَقاصِدك بتحفُّظٍ يُخفِّفُ عنك صدمة الإخفاق.
-
لا مجد لك بمعزل عن مجد قومك. ما لا يُفيد السِّرب لا يُفيد النحلةَ. لا مجد لنحلةٍ في خليةٍ منهارة.
-
الزَّهو بالخُلُو من الزهو هو أَثقلُ ضروب الزَّهو وأصعبها على الاحتمال. أثقل الغُرورِ التواضُعُ الزائف.
-
خُذ نظرةً من فوق لِترى الأشياء بحجمها الحقيقي كما تتراءى في أعيُن الأفلاك.
هذا غيضٌ من فيض «التأمُّلات» التي دوَّنها ماركوس أوريليوس في أَضابيرَ كَتَب عليها «إلى نفسه»، ولدينا ما يدل بقوةٍ على أنه لم يَقصِد بها أن تكون كتابًا يُقرأ أو مذهبًا فلسفيًّا يُشيَّد ويُذاع على الناس؛ فهي في أغلب الأحيان شخصيةٌ للغاية ومُوجَّهةٌ إلى الداخل، وهي كثيرة التَّكرار، ولا ينتظمها نسقٌ مُعيَّن، وهي في بعض الأحيان اقتباساتٌ مشفوعةٌ باسم صاحبها، وفي أحيانٍ أخرى اقتباساتٌ غيرُ مشفوعةٍ باسم، وهي غامضةٌ مبهمةٌ في غير موضعٍ لا نعرف فيها ماذا يقصد ومن يعني وإلامَ يشير، مما يدل على أنه يكتب حقًّا لنفسه، ولا يُملي على سكرتيره اليوناني أبولونيوس.
•••
مُؤتَنِسًا بخلوته، وبعقله الثري ونفسه الرحبة، راح ماركوس أوريليوس يخط على صحائفه: «قل لنفسك حين تقوم … تمادَيْ في إيذاء ذاتك أيتها النفس … إنهم يطلبون منتجعاتٍ لهم … كن مثل رأس الأرض في البحر … تأمَّلْ مَليًّا كيف يُزاح كل ما هو قائم … لكأنما أُلقِي على الأشياء حجابٌ كثيفٌ … طريق الطبيعة قصير، نقِّب في ذاتك … الأشياء واقفةٌ خارجنا … أتقن الموت …»
هذا كلامٌ أكبر من زمنه، ونَغمٌ أَفسحُ من عُوده. ليست «إلى نفسه» هذه الصحائف بل «إلى الأجيال» جميعًا. سأُدبِّر لها سببًا وأَحفظُها من عوادي الضَّياع؛ لتكون لمن خَلْفَه مثلما كانت له.
الكويت في ١ / ١٢ / ٢٠٠٨م