تمهيد
(أ) زيتونة وسنديانة.
ربما كانت هذه الاستعارة هي أصدق وصف لحياة «عادل سليمان قرشولي»، وإنجازه الأدبي والثقافي، ورسالته التي كرَّس لها جهوده ووهبها وُجوده، هذا الشاعر السوري الأصل الذي يعيش ويوجد نفسه يُعامَل ممنعمل ويُعلِّم ويبدع، ويشارك مشاركة فعالة في الحياة الشعرية والثقافية في مدينة «ليبزيج» الألمانية منذ ما يقرب من أربعين عامًا متصلة.
إنه شجرة زيتون في دمشق، وشجرة سنديان تضرب جذورها في ليبزيج، والشجرتان اللتان تتعانق أغصانهما وتتشابك في الضُّلوع، تُلقيان ظلالهما النديَّة فوق مدينتين، وأدبين، ولغتين، وتراثين، وحضارتين، وتقيمان جسور المودة والحوار والتفاهم والتقارُب بين شاطئين يبدو للنظرة الضيقة وحدَها، كأنما لا يمكن أن يلتقيا أبدًا، أو كأن لعنة «كولريدج» المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا» ستظل تلاحقهما بغير أمل في لقاءٍ أو عناق.
(ب) شجرة زيتون في أرض الطفولة، وشجرة سنديان في المهجر.
الأولى تمدُّ جذورها في دمشق، في أعماق الطفولة، والحلم، والذكريات، والشوق.
والثانية تنشر ظلالها في «ليبزيج»، مدينة الكتب، والعلم والفكر، والموسيقى، والهواء الموبوء بدخان المصانع وغبار الفحم.
زوج مختلف مؤتلف معًا في وجدان الشاعر الذي ما فَتِئَ — على مدى أربعة عقود من الزَّمان — يُزاوج بين القطبين الأخضرين، ويتسلَّق الجِذعين الراسخين في صميم كِيانه، ويبذل كل ما يستطيع لإتمام الزفاف بين الثلج ودفء الشمس، في محاولة دائبة لتحسُّس الطريق إلى «الآخر»، ورأْب الصَّدْع أو الشَّرْخ الذي يُباعد بينهما ويعذبه ويمزقه ليل نهار: «آه أيها الشوق، لا تخنق البراعم في الضلوع المتشعبة الغصون.»
وتناديه أصواتُ اللهفة والحنين من ذلك البلد البعيد، فيلهث داخل الشبكة الواسعة التي أحكم خيوطَها البلد الآخر، وهو يتحسس الطريق إلى حضن الأم. ويظل البلد البعيد هو الوطن الذي تتشبَّثُ أشواقه وذكرياته بجذورها الضاربة في حواريه الضيقة، وأزقَّتِه المتعرجة وملاعب طفولته وصباه، وأيام شبابه الباكر بأحزانه وأفراحه وكفاحه في سبيل لُقيمات خبزٍ تملأ الجوف، ولُقيمات من خبز الشعير الذي بدأ ينضج تحت شمسها. ويبقى البلد الأجنبي، الذي جاء إليه بإرادته الحرة وفوق جبينه أحلام خضراء، هو الوطن الذي استطاع — بعد الكدِّ والمرارة، والتحدي والمعاناة في تخطي أسواره الشائكة — أن يرسِّخ فيه جذوره، ويستظل فيه بنعناعة حبه الذهبية الخضراء، وينتزع الإعجاب والاحترام والاعتراف والتكريم أيضًا من الآخر العنيد المتصلِّب، الذي لم ينجح كلَّ النجاح في تخطي أحكامه وتحيُّزاته المسبقة ضدَّ الشرقيِّ والعربي بوجهٍ خاص.
وليس معنى هذا الكلام عن «الكل» و«العالم» أن شاعرنا قد أصبح — وبخاصة في إنتاجه المتأخر — كوزموبوليتانيًّا (مواطنًا عالميًّا) فاقدَ الجذور، أو إنسانًا معلَّقًا في الفراغ كما افترضَ ابن سينا. إنه يحب «الشجرة التي تسكنها العصافير» — أي السنديانة — في شتاء ليبزيج، مثلما يحب النَّسمةَ المنعشة في أُمسيات دمشق تحت ظل شجرة الزيتون. ودمشق لا تغيب أبدًا عن باله، فهو يحمل على لسانِه وفي مسامِّ جسده وروحه طعمَ طفولته في شوارعها وحاراتها و«غوطتها»، كما يحمل غبار أزقتها الضيقة، المتمسِّكة بجدائل الجبل الهرم، على نعلِ حذائه، وهو حين يزورها زيارة قصيرة للمشاركة في ندوة ثقافية أو مهرجانٍ مسرحي يؤرِّقه ويهتف به الحنينُ إلى سنديانة ليبزيج التي تقاوم الشتاء، أو إلى النعناعة الخضراء الذهبية التي تنتظر أن تظلَّه بظلها الحنون. وأي غرابة في هذا وهو الذي يتمسك بجذور هُويته لا يفرط فيها لحظة، كما يتشبَّث بالجذور التي مدَّها في تربة الحضارة المكتسبة واللغة والأدب اللذَيْن وجد فيهما السكن والوطن؟ أليس «الجسْر» أيضًا — إلى جانب الزيتونة والسنديانة — استعارةً معبرة عن معنى حياته، ومغزى إبداعه المتواصل إلى اليوم؟!
الأمر بطبيعة الحال أعقَدُ مما نقول ونتصور، والفن — والشعر بوجهٍ خاص — من الرهافة والدِّقة والصعوبة والخفاء، بحيث يتعذر أن يكون مجردَ مرآة عاكسة لحياة صاحبها بصورةٍ مباشرة، ومع ذلك فقد اعتمدت في هذا الكتاب، الذي أعتبره مجردَ مدخلٍ متواضع إلى حياة عادل قرشولي وشعره، اعتمدت في المقام الأول على شِعره المكتوب بالألمانية، واستقرأت من نصوصه مراحلَ تطور فكره واتساع آفاق رؤيته وشمول نظرتِه — لا سيَّما في آخر دواوينه — إلى ماهيَّة الشعر والعالم والإنسان، وكذلك ماهية «الرسالة أو المهمة» التي حمل عِبْئها، كما سبق أن قلتُ، بجدارةٍ وكبرياء، ولذَّة ومتعة لم تنجُ من التوتر والقلق والعذاب، لتصل في النهاية — وهذا هو حدْسي ورجائي — إلى الطمأنينة والرِّضا بالتحقق والنضوج.
لقد بدأ في كتابة شعره بالألمانية في مطلع الستينيات، بعد رحلةٍ مضنيةٍ وشاقةٍ في بحور اللغة الألمانية، وتعمقٍ لا نظير له في دروب أدبها السفلية والعلوية، وفي نصوص أدبائها وشُعرائها القدامى والمُحدَثين والمعاصرين. أحسَّ منذ أن بدأ دراستَه في ليبزيج أنه دخل معركة تحدٍّ وإثبات للذَّات الفردية والجماعية، وأن عليه أن يكسبَها وينتصر فيها مهما كان الثمن، كما شعَرَ، منذ ذلك الحين، بأنه قد فقَدَ ظله الذي لازَمَه منذ مولده عندما فقد المخاطَب العربي الذي كان يتوجَّه إليه بشعره، واكتشف أن فقدان اللغة معناه أن يعيش بغير ظلٍّ ولا هُوية. ولكيلا تصل أزمة الهوية إلى أقصى حُدودها، وجد نفسه مضطرًّا للكتابة باللغة التي يتكلَّم بها الناس، وتنطق بها الأحداث الجارية مِن حَوله، أي وجد نفسه أمام أحد اختيارين لا بديلَ عنهما:
(ﻫ) لم يقتصر إبداع عادل قرشولي على الشعر الذي عاشَ له، واحتل نقطة المركز من دائرة حياته وعَطائه. فهو كاتبُ مقال سياسي، وناقد أدبي، وباحث مَسْرحي معروف بدراساته عن مسرح بريشت بخاصة وآفاق تلقِّيه في العالم العربي، ومُحاور قدير تتسم محاوراته التي يزخر بها العديد من الصحف والمجلات الألمانية والعربية بالموضوعية والدقَّة والعمق، ومترجم أمين، من اللغتَينِ وإليهما، لعددٍ كبير من المسرحيات والقصائد لكتاب وشعراء معاصرين ومرموقين، فضلًا عن همه واهتمامه الدائم بالأحداث والقضايا العربية، ومبادرته لتعرية الخداع والتزييف الإعلامي الذي أحاط وما يزال يُحيط ﺑ «سيناريو» حرب الخليج والعدوان المتجدد لدولة الإرهاب الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب، وموجات العداء للأجانب في ألمانيا، ودفاعه عن الحق والحقيقة في مواجهة الأحكام المُغرِضة والتحيُّزات المسبقة التي تروِّجها أجهزة إعلامية كاسحة ومتآمرة وموجهة ضد العرَب والمسلمين بوجهٍ عام (راجع الفصل الأخير من هذا الكتاب). ولما كانت القائمة المختصرة بأهم مؤلفاته ودراساته الواردة في خِتام الكتاب ستلقي بعض الضوء على هذه الجهود المتميزة والمشرفة، فلا بأس من ذِكر طرف منها في هذا التمهيد السريع.
أما عن ترجمة الشِّعْر، فقد نقل إلى الألمانية عددًا كبيرًا من القصائد — التي لم يبلغ إلى علمي أنها نُشرت في كتاب — لمجموعة من الشعراء العرب المتميزين؛ من أهمهم: أدونيس، ومحمود درويش، وسميح القاسم وغيرهم، كما ترجم إلى العربية قصائدَ رائعة لأستاذه وراعيه جورج ماورر، نشرها مع مقدِّمة طويلة عن شخص «ماورر» وشعره، تحت عنوان إحدى القصائد الملحمية المطولة للشاعر «ما هو خاص بنا» (١٩٨١م)، كما نقل إلى العربية أيضًا مجموعةً من قصائد بعض أصدقائه وزملائه في الدراسة — ولم يبلغ إلى علمي أيضًا أنها نُشرت في كتاب — ومن أهمِّهم: صديقه الشاعر «فولكر براون»، الذي نقل له كذلك إلى العربية مسرحيته الشعرية «تشي جيفارا أو مدينة الشمس» ١٩٨٦م.
وقد أجرى الشاعر مجموعةً من الحوارات الهامة والشاملة عن بريشت، والبريشتية، والمسرح الملحمي وبريشت في المرآة العربية في عددٍ من المجلَّات العربية المخصصة للثقافة المسرحية مثل: مجلة الحياة المسرحية (السورية، ١٩٨٠-١٩٨١م)، ومجلة فضاءات مسرحية (التونسية، ١٩٨٦م)، والعالم الثقافي (المغربية، ١٩٩٤م)، وذلك مع السيد مصطفى عبود، والسيدة خيرة الشَّيباني، والدكتور عبد الرحمن بن زيدان.
ويطيب لي أخيرًا أن أذكر أن الشاعر قد ترجم إلى الألمانية — بالاشتراك مع زوجتِه المستعربة الفاضلة السيدة ريجينا قرشولي — مجموعةً من المسرحيات العربية، لنخبة من الكتاب والشعراء العرب، وهي مجموعةٌ نتمنَّى أن تظهر في أقرب وقت في سوق الكتاب الألماني، وفوق خشبة المسارح في المدن الأوروبية المختلفة، وهذه هي المسرحيات مع تواريخِ ترجمتِها: رأس المملوك جابر، لسعد الله ونوس (١٩٧٣م)، وعلي جناح التبريزي وتابعه قفة، لألفريد فرج (١٩٧٦م)، والمفتاح ليوسف العاني، والعصافير تبني أعشاشها بين الأصابع، لمعين بسيسو (١٩٧٩م)، ومؤسسة الجنون، لسميح القاسم (١٩٧٩م)، وديوان الزنج، لعز الدين المدني، والرفيق سمعان، لجلال خوري، وأهل الكهف ٧٤، لمحمود دياب، وعلى رصيف المقاومة، لحمدة خميس (١٩٧٩م).
(و) رأينا كيف كافح عادل قرشولي طوال العقود الثلاثة التي سبقت قيام الوحدة الألمانية في سبيل أن يغرس جُذوره، ويمدَّ جسوره في اللغة والأدب والثقافة الجديدة عليه، بحيث أصبحت وطنه وسكنَه، وشعر وهو يشارك فيها ويبدع بها أنه يعيشُ في بيته. لم يخطر على باله أبدًا أن ينسب إبداعَه إلى الأدب الذي يُسمَّى بأدب المهاجرين أو اللاجئين أو أدب العمال الأجانب. فلما تحققت الوحدة بين الشطرين، وبدأ البحث العلمي في الاهتمام الجاد بأدب المهاجرين، نشِبَ الخلاف حول إنتاجه: هل ينتمي إلى هذا الأدب الأخير كما رأى معظم النقاد والباحثين من ألمانيا الغربية، أم هو جزء لا يتجزَّأُ من الأدب الألماني الذي نشأ في ظل الحكم الاشتراكي في ألمانيا الديمقراطية السابقة؟ وأثار موقف أولئك الباحِثِين غضبَ الشاعر وسخطه، إذ وجد أنهم لم يهتموا إلا بجانبٍ واحدٍ من إنتاجِه الشديد التنوع، وأنهم أغفلوا الاعتراف به، والحفاوة التي لقِيَها في ألمانيا الشرقية السابقة كشاعر وعضو فعَّال في اتحاد الكتاب بها، منذ الثمانينيات، إغفالًا تامًّا، مع أنه لم يصنِّف نفسَه ولا صنَّفه أي ناقد في تلك الفترة الطويلة داخلَ دائرة أدب المهاجرين أو أدب الأجانب، كما أنه اعتبر نفسه واعتبره الجميعُ عضوًا بارزًا في جسد الحركة الشعرية والنقدية في ذلك البلد الذي سمَّى نفسه «البلد الأفضل». ولا يقلل من هذه الأهمية أن أصله الأجنبيَّ قد لعب دورًا لا يُستهان به في إنتاجه الشعري الذي يدور حول الغربة في الوطن أو حول الوطن في الغربة، وأن اسمَه لم يُذكر مرة واحدة — كما تقول الباحثة السابقة الذكر في أُطروحتها (ص١٢١) — في أي معجم أدبي أو تاريخي للأدب القومي نُشر في ذلك البلد الأفضل.
والواقع أن تصنيف الأديب و«إدراجه» في خانةٍ محددة لا يخرج عنها لا يمكن أن يَجلبَ معه إلا الظلم له ولأدبه. وأحسب أن الحقيقة التاريخية والموضوعية تقول بأفصحِ لسانٍ وأوضح بيان: إن المعوَّل في كل الأحوال على قيمة الأدب نفسه بما هو أدب؛ فالأدب هو الأدب. والأدب الجيد هو الذي يبقى، ولا ضيرَ عليه أن يوصف بأنه أدبُ أجانب أو بأنه جزء من الأدب القومي. وأعتقد أن هذا يَصدُق على كتاباتِ عدد لا حصرَ له من المهاجرين الأجانب، بلغات أخرى ليست هي لغتهم الأم، لا سيَّما باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وأعتقد أيضًا أن إعجابَ القراء بالشعر الذي نُشر له، وأُعيد طبعه أكثر من مرة في مدينة ميونيخ بعد إتمام الوحدة الألمانية «مثل ديوانيه: لو لم تكن دمشق (١٩٩٢م)، وهكذا تكلم عبد الله (١٩٩٥م)، اللذين أصدرتهما دار نشر أكسيون آيس» هو الدليل الواضح على الاهتمام بالشعر الصادق في ذاته، بغضِّ النظر عن اسمِ صاحبه، أو اسم البلد، أو خطِّ الطول الذي جاءَ منه.
•••
لقد ظل زملاؤه وأصدقاؤه في فرع اتحاد الكتاب بمنطقة ليبزيج — طوال العقودِ الثلاثة السابقة لقيام الوحدة الألمانية — يعتبرونه واحدًا منهم. ولم يكن تعبيره الشعري — بصوره الشرقية والعربية المُذْهلة — هو وحدَه مصدر إعجابهم به، بل إيمانه القوي الصادق بالتكامل الإنساني والوحدة الجوهرية التي تجمع شتى الثَّقافات والحضاراتِ والبشر، إلى جانب اعتزازه بأنه مواطنٌ في ثقافتين وحضارتَين، وتمسكه الدائم بهويته السورية والعربية. وعندي أن إنتاجه الشعري والنَّثري بالألمانية هو جزء لا يتجزَّأ من مجموعِ الإنتاج الأدَبي في ألمانيا الشرقية السابقة، بشرط أن نفهم من هذا أنه يَنتمي لأدب الناقدين والمحتجين، لا أدب المجارين والممالئين الذين يُؤْثرون السلامة، فيصمتون أو يقولون آمين (راجع الفصل الثاني من هذا الكتاب).
(ز) تنوعت ألوان التكريم وصور الثناء على إبداع شاعرِنا، ودوره الأدبي والثقافي بوصفه «وسيطًا» وبنَّاء للجسور. ويكفي أن نتذكر التقرير الذي كتبه راعيه الطيب «ماورر» في مَطالع الستينيات عن شعره المبكر، وقال فيه: «إن لغته غنيةٌ بالصور المذهلة التي تشبه باقةَ زهور طازجة، قُطفت من فورها.»
ويمكننا أن نذكر عشرات التعليقات النقدية على دواوينه وبحوثه، والإشكالات المرتبطة بحياته وإنتاجه (كالكتابة بلغتين والانتماء لثقافتين وتراثين)، بالإضافة إلى «الوثائق» المتعلِّقة بحصوله على جائزة الفن التي قدمَتْها له مدينة ليبزيج في سنة ١٩٨٥م، وجائزة «أدالبير فون شاميسو» التي منحَتْها له الأكاديمية البافارية للفنون (١٩٩٢م)، وإلى «الشهادات» التي أدلى بها بعض أصدقائه — الذين يُعدُّون اليوم من كبار الشعراء — سواء في تقييمهم لأحد كتبه، أو غداة ترشيحه لعضويَّة فرع اتحاد الكتاب الألمان في محافظة ليبزيج «قبل انتخابه منذ سنتين بالإجماع رئيسًا له»، أو لإحدى الجوائز السابقة.
لنقرأ معًا هذه السطور من «الوثيقة» التي تُليت أمام جمعٍ حاشدٍ من المثقفين، قبل تسليمِه الجائزة البافارية في مدينة ميونيخ: «إن شعر — المُحتفَى به — يَجمع بطريقة موفقة وبارعة بين الشرق والغرب في صور مألوفة وغير مألوفة، ومقالاته رؤًى نقدية نافذة لعالم يزداد على الدوام اضطرابًا، ويُهدَّد فيه الفردُ بالضياع. وأعماله تنطق بالكمال الشكلي والغِنى الفكري الذي يميز الشاعر الحقيقي، كما تعبِّر أيضًا عن حكمة مواطن عالمي.»
ولعل أروع شهادة قُدمت عنه في معرض الحديث عن ديوانه الأخير «هكذا تكلَّم عبد الله» وبمناسبة عيد ميلاده الستين، هي التي عبر عنها بحبٍّ وصدقٍ نادر صديقه الشاعر الشاب توماس بيمه:
«إن قرشولي يقول لنا بغيرِ ادعاء، ولكن بإصرار: انظروا كم هي جميلة لغتكم التي أصبحت لغتي، وهو يُخجل كلَّ الذين فقدوا ثقتهم بألمانيتهم، ولم يعودوا يستخرجون منها ما تحتوي عليه من غِنًى وجمال. إن هذا العمل (أي الديوان السابق الذكر) هو صدفة سعيدة للأدَب، وهِبة من ربَّات الفن التي لا تمنح رجلًا تخطى نصف عمره كلَّ هذه الطاقة الإبداعية، إلا فيما ندر.»
•••
(ﺣ) ويبقى عادل قرشولي — مع نخبة من أدبائِنا العرب الذين يعيشون في لندن وباريس، ويكتبون بالإنجليزية أو الفرنسية — ظاهرةً فريدة في المشهر الأدبي والثقافي العام في ألمانيا وأوروبا والعالم العربي. وقد عرضنا في الصفحات السابقة لمشكلة انتماء إنتاجه للأدَب الألماني المحلِّي أو القومي، أو أدب المهاجرين والأجانب، وأجَبْنا على هذه المشكلة، أو بالأحرى شبه المشكلة؛ بإيماننا الحاسم بأدبية الأدب وإنسانيته وشموله وعالميته. ويبدو أن المسألة لم تُحسم بمثل هذه السهولة عند شاعرنا العربي-الألماني؛ إذ جعلته يخوض صراعًا طويلًا، ويدخل في تحدٍّ قاسٍ ومرير ﻟ «الآخر» وثقافته حتى استطاع أن يحقِّق في ذاتِه الشعرية والإنسانية ذلك «العناق» الذي عَنْون به واحدةً من أهم دواوينه: «عناق خطوط الطول ١٩٧٨م»، وأن يجعل من شخصِه وشعره جسرًا عربيًّا حيًّا ممدودًا نحو «الآخر العربي» بالمحبة والسلام والمروءَة والحقيقة، على الرغم من كل شيء، على الرغم من الحملات الدعائية الضارية، والحصار الإعلامي الغربي الزائف والمزيِّف ليلَ نهار، وتسليط ربيبته دولة الإرهاب إسرائيل على إخوتنا وأبنائنا في الأرض السليبة، وعلى وجودنا ومستقبلنا كله.
يقول شاعرنا في أحد الحوارات التي أُجريتْ معه: «كانت الألمانية بالنسبة لي لغة مصطنعة أو مكتسبة، وأنا أميل أحيانًا لوصف قراري بكتابة القصائد بالألمانية بأنه كان قرارًا طائشًا، ومع ذلك فقد كان قرارًا قدريًّا لا مفرَّ منه. لقد عرفت من سيرة حياتي أن دوري هو دورُ الوسيط. وإذا كان للأدب أن يؤدِّيَ دور الوسيط، فلن يمكنه أن يفعل ذلك إلا بالاتِّجاه من الداخل للخارج، وبالنظر إليه في كليَّتِه لا من جهة كونه دعوةً أو نداءً، أو تحريضًا على تبني قضية معينة.» ثم يطلُّ على رحلة حياته وكفاحه ويقلِّب بين يديه حصادَها الناضج، فيقول في حديثه الهامِّ مع السيدة ليلى حوراني (بجريدة السفير، في يوم الجمعة الرابع عشر من شهر يوليو عام ٢٠٠٠م): «أنا شخصيًّا لم أعُد أخاف الآخر؛ لأنني رأيت أنني قبلت بتحدِّيه، وتمكنت على صعيدٍ شخصي من أن أواجهه، بل وأن أكسب هذا التحدِّي في مَجالاتٍ كثيرة. إذا عممت تجربتي في هذه المساحة، أقول: ليس علينا أن نخاف الآخر؛ لأنني على ثقة بأن لدينا من التراكمات الإبداعية ما يمكن أن يصمد لعملية التنافس مع الآخر. نعم لو لم يكن إبداعنا محاصرًا على كل الأصعدة، لكُنَّا استطعنا أن ندخل بدون خجَل ساحة المنافسة العالمية.»
والكلام — كما يقال — لا يحتاج لتعليق. إنه يجسِّد ويؤكد وجود ذلك «الحاضر/الغائب» الذي لم نكن في يومٍ من الأيام أشد حاجةٍ إليه منَّا في هذا الوقت الذي تسحقنا فيه طاحونة تواطؤِ الآخر مع ربيبته العدوانية، وتجاهله وصمته المريب، ذلك هو الثقة بأنفسنا.
(ط) من طبع الشعراء، والممسوسين بإلهام من ربات الفن ألا يرضوا عن أنفسهم. أحيانًا ينظر الواحد منهم وراءه «بغير غضب»، وربما بشيءٍ من الرضا أو الغبطة بنجاحٍ حققه أو إنجازٍ أتمَّه. لكن الصوت لا يلبث أن يناديه ويؤرِّق سكون لياليه حتى آخر نفس في صدره «لا لم تحقق حتى الآن ما كنتَ تحلم به وتتمناه» هذا شيء طبيعي ومألوف يجربه كل من أصابَتْه لعنة الفن والإبداع، أو بالأحرى نعمته. ومع أن ذلك الصوت لا يتوقف أبدًا عن فتح الجروح وكيِّ الجلد والروح، فإنني أعتقد أن من حق شاعرنا — ومن حقِّنا أيضًا معه — أن ينظر إلى الوراء وإلى الإمام — بعدَ طول المشقَّة والعناء، وبالرغم من كل العقبات والمرارات — بقدرٍ غير قليل من الطمأنينة والرضا، ومن الامتنان والحمد والعرفان بعد كل شيء. وها هو ذا اليوم يتحسَّس بيده — أو بيد حكيمه العاقل الملهم عبد الله — نبضَ الكون الذي يخربه الظلم، ويفترسه التعصُّب، يصرخ مع المعذبين والمضطهدين، ويهمس مع العشاق والمحبين، وينشر سجادة كلماته على طريق الأمل، ويدق بإصرار على أبواب الحقيقة، منتظرًا في صبرٍ وبلا يأس أن يردَّ عليه صوت واحد، يقول له: ادخل! لو تردد يومًا هذا الصوت في سمعِه، لو أحسَّ بنبضه يسري في دمه وجِلده وعظمه، هل سيكون في الوجود مَن هو أسعدُ منه؟ أليست هذه الدعوة إلى رحاب الحقيقة هي الجزاء الأوفى عن ليالي الأرَق، والقبلة الدافئة فوق الجبين المرهق والعيون المُتعَبة، والبلسم الشافي للجروح التي لا تنفك تفتَحُها سكين البحث عن مقطع له رنين الإيقاع الحلو، أو عن كلمةٍ يفوحُ منها عطر الحقيقة والصدق؟ (راجع قصيدة عزاء للذات، من ديوانه «عناق خطوط الطول»، ١٩٧٨م، ص٢٠.)
(ك) وأكرِّر في النهاية أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون مجردَ مدخل أولي إلى حياةِ شاعرنا وإنتاجه الزاخر، ودوره المرموقِ في مدِّ الجسور والجذور، ومواجهة جُدران الجهل والتجاهل والصَّلَف والغرور بما فُطرنا عليه من الصبر والتسامح، والشجاعة والحكمة، والثقة التي تشتد حاجتُنا إليها اليوم أكثرَ من أي وقتٍ آخر في تاريخنا القديم والوسيط والحديث. والكتاب في النهاية تحيَّةُ حبٍّ وتقديرٍ وعرفان بقلم واحد من أحباب الشاعر وأصدقائه وعارفي فضلِه الذين يعيشون في العالم العربي وعلى ضفاف النيل.
عبد الغفار مكاوي
كحرير من دمشق (١٩٦٨م)، عناق خطوط الطول (١٩٧٨م)، وطن — أو موطن — في الغربة (١٩٨٤م)، لو لم تكن دمشق (١٩٩٢م، وهو يضم قصائد مختارة من دواوينه السابقة)، ثم تاج إبداعه الشعري وذروته «هكذا تكلم عبد الله» (١٩٩٥م).
Hãndler, Friederike; Adel Karosholi, Leben und Werk eines deutschs-chreibenden Autots nicht deutscher Sprache, Dresden, Mai (1999).
Heiduezek, Werner; Also Sppeck Abdulla oder die augenblicklichen Leiden des neuen K-DAZ, Dezember 1999.