الحالة الثقافية والاجتماعية في الشام ومصر بعد سقوط بغداد
نضجت العلوم والآداب والفنون في العصر الفاطمي والعصر الأيوبي — كما رأينا — وكانت هذه الحركة الثقافية الرفيعة امتدادًا للحركة الثقافية في العصر العباسي، وقد تنافس الخلفاء والملوك والأمراء في نشر العلم وبناء دوره، وتشجيع أصحابه، واقتناء كتبه، وتأسيس خزائنه، وفتح مدارسه ومعاهده، والإكثار من دور القرآن والحديث خاصة، وكان الخلفاء والملوك والأمراء يرعون هذه الحركة بأنفسهم، ويشيدون المعاهد برعايتهم، ويقتنون الكتب لخزائنهم والخزائن العامة، ويجزلون العطاء للكُتَّاب والمؤلفين والخطاطين والنساخين، ويرعون طلاب العلم بالإنفاق عليهم، ولما جاء عهد المماليك استمرت هذه الحركة؛ لأنهم كانوا على الرغم من بعدهم عن العروبة يؤمنون بالإسلام ويخلصون له، ويتحمسون لعلومه وآدابه ولغته، وقد أبقوا لنا مدارس كثيرة في الشام ومصر والحجاز ما تزال شاهدة على حرصهم الشديد على نشر العلم وتعميمه، ولم يَخْلُ عصر أحدهم من إشادة مدرسة أو بناء جامع فيه مدرسة أو خزانة كتب، أو تأسيس كُتاب للأطفال، أو دار قرآن للأيتام، أو دار حديث للطلاب، وقد أُلفت كتب كثيرة في تاريخ هذه المعاهد والمدارس وأحوالها، وبخاصة في العصرين الأيوبي والمملوكي، ومن أشهر هذه الكتب كتاب «الدراس في المدارس» لابن حجي الحسباني وهو مفقود فيما أعرف، وكتاب «تنبيه الدارس» للقمي، وقد نشره المجمع العلمي العربي بدمشق، ومختصره للعلموي، و«مساجد دمشق» لابن عبد الهادي، وقد نشرته.
ومما هو جدير بالذكر أن بعض المماليك كان على جانب عظيم من العلم والمعرفة والفضل، فكان طبيعيًّا جدًّا أن يشجع العلم وأهله، ويهتم بإشادة المدارس وعمارة بيوت العلم أمثال الملك المنصور قلاوون، فقد بنى في مصر بناء ضخمًا اشتمل على «بيمارستان» مستشفى ومدرسة، ومكتبة، وجعل في البيمارستان عدة غرف واسعة مفروشة بالأسرة للمرضى الفقراء والأغنياء على السواء، وجعل فيه غرفًا خاصة بالنساء، وسمَّى فيه عدة أطباء وكحالين وممرضين ومدرسين يدرسون فنون الطب والكحالة، وجعل إلى جانبه معملًا كيماويًّا جهَّزه بكل أنواع المعدات والآلات الطبية، وبنى إلى جانبه خزانة كتب ضخمة فتح أبوابها للجمهور، وملأ خزائنها وأدراجها بالنفائس من مخطوطات الطب والعلم والأدب والدين من كل فن، وعهد إلى جماعة من أهل العلم بالإشراف عليها ومساعدة روادها وطلاب العلم، وجعل إلى جانب ذلك مدرسة واسعة، سمَّى فيها المدرسين والفقهاء على المذاهب الأربعة، وبنى إلى جانب ذلك مكتبًا لتعليم الأطفال، ودار قرآن لتعليم القراءات، وميتمًا واسعًا لتربية الأيتام، ولا تزال آثار هذه الجامعة العظمى شاخصة إلى أيامنا هذه تشهد لبانيها الملك الصالح العادل العالم بالفضل والخير وحب الإصلاح.
ومن المماليك الأفاضل البارعين بعلوم العربية والدين: الملك الناصر بن قلاوون، فقد كان مثل أبيه، ورووا أنه كان بارعًا بعلوم الفقه والحديث والأصول، كما كان عارفًا بالآداب العربية وعلومها، وكان يجلب العلماء إلى مجلسه ويناقشهم في مسائله، ويقرب أفاضلهم، ويجزل عطاءهم، وهو الذي بنى كثيرًا من دور العلم، وهو الذي أعاد إلى المؤرخ العالم الجليل إسماعيل بن علي المشهور بأبي الفداء مملكة حماه، وما ذلك إلا لفضله، وقد خلَّف لنا كثيرًا من دور العبادة والتدريس، ومن أعظمها: مسجده المعروف بالجامع الجديد في القاهرة، وبنى جامعًا آخر بجانب جامع أبيه العظيم في شارع النحاسين بالقاهرة، كما بنى دار العدل العظمى وعددًا كبيرًا من المدارس في كثير من المدن الشامية والمصرية.
ومما هو جدير بالملاحظة أن الديار المصرية والشامية كانتا حافلتين منذ القديم بمعاهد العلم من مدارس ودور كتب، ومن أشهر هاتيك المعاهد في القديم: دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله في سنة ٣٩٥ﻫ وحمل إليها الكتب من خزائن القصور الملكية والمساجد القديمة، ووقف عليها ما تحتاج إليه، وعهد بإدارتها إلى جماعة من أهل الفضل يتعهدونها، ويعملون على تثقيف الناس فيها، سواء بمحاضراتهم يلقونها فيها، أو بمناظراتهم بين المترددين إليها، وقد ظلت هذه الدار عامرة بالعلم وأهله حتى دخل صلاح الدين إلى مصر وحوَّلها إلى مدرسة للشافعية.
ومن آثار الفاطميين في مصر أيضًا: خزانة كتب الخليفة العزيز بالله، فقد كان محبًّا للعلم حريصًا على تثقيف الناس، ولذلك بنى دارًا عظيمة ملحقة بقصره، جمع فيها كثيرًا من المؤلفات القيمة في الأدب والتاريخ والحكمة والفلسفة والفقه، وقالوا: إن عدد كتبها بلغ نحوًا من مليون وستمائة ألف كتاب، وذكروا أنه كان من بينها كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي، ونيف وثلاثون نسخة متقنة، منها نسخة عليها خط المصنف، كما كان فيها نيف وعشرون نسخة من «تاريخ الطبري»، ونسخة من كتاب «الجمهرة في اللغة» لابن دريد، وكان العزيز بالله يتردد إليها ويتحدث إلى قيِّمها، ويناقشه في مسائل العلم وأحوال الكتب.
هذا وقد وقف الأمراء والمماليك كثيرًا من دور العلم والعبادة منذ عهد صلاح الدين في الشام ومصر، وقد أكثرَ هو نفسه من بناء هذه المعاهد في مصر والإسكندرية والقدس ودمشق وحلب وحماه، وخلفه أبناؤه ورجال أسرته فساروا على غراره، ولما جاءت دولة المماليك بعدهم أكثروا من بناء المدارس كثرة واضحة حتى قال المقريزي في خططه: إن مدارس المماليك في الشام ومصر قد بلغت نحوًا من سبعين مدرسة ومعهدًا للتدريس، ويقال: إن مثل ذلك العدد كان في الأصقاع والولايات التابعة لهم.
وهكذا ازدهرت المدارس، وارتفع شأن العلم في عصر المماليك على الرغم من انحطاط شأن العرب السياسي، فلما جاء الأتراك العثمانيون، واحتلوا الشام ومصر تأخرا من الناحية الثقافية، وبخاصة الناحية الأدبية بشكل بارز، فقد نكب الأدباء والشعراء وتفرقوا في البلاد، وفشت الجهالة وعلى الأخص حين وقعت الفتن والحروب بين الأتراك وبقايا المماليك، فتأخر الأزهر، وانحطت مدارس الشام الكبرى، وهدم أكثر معاهد العلم، وظلت حالة الجهل متفشية في عهد السلطان محمد الثالث، ففي سنة ١٠٠٤ﻫ بعث إلى مصر محمد باشا واليًا عليها؛ فاهتم بالمعاهد الدينية، وأحيا شعائرها، وأعاد بناء «الجامع الأزهر» إلى ما كان عليه، وجعل فيه وظائف يومية من العدس المطبوخ تفرق على الطلبة الفقراء، كما رمم المشهد الحسيني، وأخذ الأزهر منذ ذلك الحين يستعيد نشاطه الفكري، كما شرع رجاله يعنون بنشر العلم والتأليف والوعظ والإرشاد، واستمرت هذه الحالة حتى جاء نابليون وأوجد تلك النهضة المعروفة التي سنتحدث عنها فيها بعد.
•••
أما عن الحالة الاجتماعية: فقد بلغت في مصر أثناء العصر الفاطمي وأوائل العصر الأيوبي درجة رفيعة في الحضارة والرقي والسمو الاجتماعي حتى صارت زعيمة البلاد الشامية والحجازية، وكانت ثروتها نعم المعين لها على نشر هذه الحضارة وتعميم أسباب العلم، ولكن انشقاق الأيوبيين بعد وفاة زعيمهم صلاح الدين وانقسامهم وتقسيمهم مملكة صلاح الدين الواسعة الممتدة من مصر إلى الشام والموصل واليمن والحجاز قد ضعضع تلك الدولة، فاختل التوازن الاجتماعي حينًا من الدهر بعد هذه التجزئة، واضطرب حبل الأمن، وباضطرابه اختلت القيم الأخلاقية، وكثرت الدسائس في البلاط الملكي وفي قصور الأمراء، ووصلت هذه الدسائس والفتن إلى صفوف الوجهاء وطبقات الشعب، ولم يأتِ القرن السابع للهجرة إلا وأسرة صلاح الدين قد جعلت بأسها بينها، فضعفت عصبيتها، واختل نظامها، ورأت أن تستمد قوة من بعض العناصر الأجنبية كالشركس والروم والأتراك والصقالبة ممن دخلوا في الدين الحنيف، وأخذوا يتحينون الفرص لاستعادة سلطانهم المفقود عن طريق الدس أو الاحتيال أو إيقاع الفتن بين صفوف رجال الأسرة الحاكمة أو بين الشعب وطبقاته.
وقد كان لهؤلاء الأجانب أثرهم القوي في الحياة الاجتماعية، وخصوصًا حين قوي أمرهم، وأضحى الملوك والأمراء الأيوبيون ألعوبة في أيديهم يصرفونهم كما يشاءون، كما أضحى الشعب مدفوعًا إلى تقليدهم والاقتباس من أحوالهم وأخلاقهم، على أن هؤلاء المماليك الأجانب كما أثروا في أهل البلاد، قد تأثروا بهم واقتبسوا كثيرًا من أخلاقهم وأوضاعهم، وأحبوا البلاد التي نزلوا فيها، ونذروا على أنفسهم الدفاع عنها من الغزاة الذين أرادوا القضاء عليها كما قضوا على العراق وفارس، والحق أن هؤلاء المماليك كانوا حماة بلاد الشام ومصر من أن يفعل بها المغول ما فعلوه في إيران والعراق، وبخاصة بغداد قلب الإسلام وعروس بلاده، ولهؤلاء المماليك الفضل الأكبر في الإبقاء على سلامة البلاد وإنقاذها من شرور الصليبيين الذين أرادوا أن يفرضوا نظمهم وقوانينهم وأحوالهم الاجتماعية على البلاد، ولكن المماليك أقصوهم وردوهم شرَّ رد.
ولا يسعنا الأمر أن نترك الحديث عن أبناء الشعب على الرغم من قلة المعلومات التي لدينا عنهم في هذه الحقبة، وأغلب الظن أنهم كانوا مسوقين كالقطعان، يعملون على تقليد أمرائهم من الأيوبيين والمماليك؛ لأنهم في نظرهم قد غدوا القدوة الصالحة، على الرغم مما هم فيه من السوء وفساد الخلق، إلا من رحم ربك، وسلَّمه الحظ إلى مالك كريم النفس علَّمه الدين والخلق وبعث به إلى حلقات الذكر أو مدارس العلم فتهذبت نفسه وسما عقله، وقد كان لهؤلاء المماليك تقاليد وأحكام وشارات يتميزون بها عن غيرهم، كما كان بطبقتهم أنظمة خاصة بها، وكان لهم طبقات؛ فطبقةٌ شاراتُها صور بعض الحيوانات كالأسد والفهد والنمر والصقر والطاووس، وطبقة شاراتها صور الزهور كالزنبق والأقحوان والياسمين والقرنفل، وطبقة شاراتها صور بعض الأدوات الحربية كالسيوف والسناجق والكئوس والمغافر، وكان لكل طبقة قرطق خاص تلبسه ومناطق معينة تتخصص بها في ألوان جميلة مختلفة اختصت كل طبقة بلون خاص.
ومما هو جدير بالذكر أن كثرة هؤلاء الأمراء من الأيوبيين ثم من المماليك كانت تميل إلى نشر الرخاء بين طبقات الشعب، وإلى تعميم أسباب الحضارة فازدهرت مصر والشام في عهدهم، وارتقتا من الوجهة الاجتماعية رقيًّا ملحوظًا، والسبب في ذلك — على ما نرى — هو أن هؤلاء الأمراء من أيوبيين ومماليك كانوا يحبون أن يجاروا الخلفاء الفاطميين والعباسيين الذين ورثوا أرضهم وملكهم، ومن المعلوم أن مصر بلغت في عهد الفاطميين درجة شامخة في الحضارة والرقي الاجتماعي، فقد كان للفاطميين في القاهرة دور وقصور ومدارس ومعاهد ومكاتب وخانات وحمامات وأسواق وإسطبلات، حشوها بالكثير من مظاهر الرقي والترف من أقداح البلور الصافي، والصحوف الفضية والذهبية والبلورية الفاخرة، والأواني الخزفية والخشبية، والأقمشة البارعة من حريرية وقطنية وكتانية وصوفية، ومن عدد الخيل والحرب … وما إلى ذلك من ضروب الحضارة والرقي، ومن الطبيعي جدًّا أن يكون الأيوبيون ثم المماليك قد توارثوا هذه الحضارة عن أسلافهم من أملاك هذه الديار، وأن يتمتعوا بها في حياتهم الاجتماعية، كما أنهم كانوا قدوة للخاصة والعامة في ديارهم، يقلدونهم في أعمالهم، ويتخذون طريقتهم قدوة لهم، ويظهر أن الترف قد بلغ حدًّا بعيدًا في أيام المماليك؛ لأن مصر والشام كانتا أرضًا غنية تجتمع فيهما أسواق العالم من الشرق والغرب، وتتوافد إليهما التجار من كافة أصقاع الدنيا؛ ولهذا نجد الناس قد تفننوا في البذخ والترف والشراء، فقد رووا أن المماليك قد رصَّعوا عصائب شعور نسائهم وثيابهن وخفافهن بالجواهر واللآلئ، كما رصَّعوا آنية شرابهم وطعامهم بالذهب والحجارة الكريمة، واتخذوا من مجالس شرابهم ولهوهم آنية وتماثيل ودمى من الذهب المرصع بالحجارة الكريمة واللؤلؤ، ولبسوا الثياب المزخرفة، وتمنطقوا بالشال الهندي، وتسربلوا بالحرير، وافترشوا الدمقس والخز والديباج والمخمل، واستعملوا آلات الشطرنج والنرد المصنوعة من الذهب والفضة والآبنوس والعاج والعود، ووُجد في خزائن بعضهم من أصناف الثياب والحلي والرياش والأثاث ما يقدر بملايين الدنانير.
وقد استتبع هذا الأمر أن فشت بينهم كثرة من الأمراض الاجتماعية التي تنتج عن الترف الزائد كشرب المكسرات، وتدخين الحشيش، وفعل الموبقات، والتفنن في المنكرات، حتى اضطر الملك بيبرس سنة ٦٦٥ﻫ في القاهرة، حين عزم على القيام بإحدى غزواته الحربية، أن ينظم داخليته، ويصدر مراسيم بإبطال تدخين الحشيش وإبطال ضمانه، ويأمر بإراقة الخمور، وإبطال المنكرات وتعفية بيوت المنكرات، ومنع الحانات والخواطي في المحلات العمومية بمصر والشام جميعًا حتى قال بعض الشعراء:
ومنهم الإمام نجم الدين أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة المصري الشافعي (؟–٧١٠ﻫ)، وكان محتسبًا في القاهرة، وله كتاب سماه «الرتبة في الحسبة»، وقد ضمَّنه بحوثًا قيمة، وقد فُقد فلم نعثر على ذِكر له في فهارس الخزائن.
ونحن إذا رحنا نعدِّد الآثار الباقية أو التي فُقدت مما كتبه المصريون أو الشاميون في انتقاد الوضع الاجتماعي أثناء هذه الفترة جئنا بالشيء الكثير، فقد كثرت التآليف؛ لكثرة المحتالين وأهل الذمم الفاسدة، ومن شر هؤلاء المحتالين: محتالو الصيادلة، فقد ذكر صاحب نهاية الرتبة في الباب السابع عشر في الحسبة على الصيادلة: أكد تدليس هذا الباب والذي بعده — أي باب تدليس العطارين — كثير لا يمكن حصر معرفته على التمام، فرحم الله من نظر فيه وعرف استخراج غشوشه فكتبها في حواشيه تقرُّبًا إلى الله، فهي على الخلق أشد خطرًا من غيرها، فالواجب عليهم أن يراقبوا الله تعالى في ذلك، وينبغي للمحتسب أن يخوفهم ويعظهم وينذرهم العقوبة والتغرير، ويعتبر عليهم عقاقيرهم في كل أسبوع، ثم سرد طائفة من أنواع حيلهم وعشوشهم الخبيثة، وختم هذا الفصل بقوله: وقد أعرضت عن أشياء كثيرة في هذا الباب لم أذكرها؛ لخفاء غشها، وامتزاجها بالعقاقير، ومخافة أن يتعلمها من لا دين له فيدلس بها على المسلمين.
وبعد، فتلك هي نبذة من أحوال الناس الاجتماعية في العصر الذي نؤرخه، وهي، كما ترى، أحوال غلب عليها الشر، وسيطرت عليها الدناءة في الغالب، ولذلك كثر المصلحون ودعا الداعون إلى الخير واتباع نهج الفلاح.