الحالة الإدارية في الشام ومصر وشمال إفريقية بعد سقوط بغداد ووقوعها تحت السيطرة العثمانية
من المعلوم أن إدارة البلاد في الشام ومصر قد بقيت في العصر الأيوبي على النمط الذي كانت عليه في العصر الفاطمي، فإن الأيوبيين كانوا قومًا أصحاب دولة حديثة غلبوا قومًا هم أصحاب دولة عريقة في النظام والإدارة، ولذلك كان طبيعيًّا أن يحافظ هؤلاء على أسلوب الإدارة القديمة إلا ما اقتضته طبيعة السياسة الجديدة من إقصاء بعض العناصر الحاكمة أو الطرق المخالفة لمذهب الدولة الجديدة، فأقصوا الموظفين الشيعيين، وغيروا خطط القضاء، وأحلوا المذهب الشافعي محل المذهب الفاطمي.
وكان السلطان أو نائبه في أيام الأيوبيين هو الحاكم المطلق المتصرف بشئون البلاد، وكان إلى جانبه في القاهرة أو إلى جانب نائبه في الشام جماعة من الموظفين والقضاة يساعدونه في إدارة البلاد من النواحي المدنية أو القضائية، وكان الملك العادل نور الدين محمود قد أنشأ في دمشق حين تملكها دارًا ضخمة سماها «دار العدل»، كان يجلس فيها للفصل في القضايا الواقعة بين الناس وللقيام بالأعمال الإدارية والإصلاحية، ولما احتل السلطان صلاح الدين ديار مصر بنى لنفسه فيها «دار عدل» للنظر في المظالم والعمل على إحقاق الحقوق، وكان يجلس في تلك الدار في أيام مخصوصة ومن حوله قضاة المذاهب الأربعة، ومعهم صاحب بيت المال وأمراء الجيش، ومن ورائهم جمهرة من أرباب الوظائف الكبرى، والحرس وموظفي الإدارة، وكانت الظلامات والقصص تتلى عليه فيراجع القضاة وكبار الموظفين، ويناقش القضية معهم ثم يحكم فيها، وهكذا كان يفعل نوابه في الأقاليم في دُور العدل التي شادوها على غرار داره، وكانت للأمراء والملوك الأيوبيين عناية شديدة وحرص زائد على إحقاق الحقوق، ورفع الظلم عن المظلومين، وكان للمحتسب في عهدهم شأن كبير؛ فهو الذي يفتش عن أهل المنكر والمفسدين وأهل الغش، ويؤدبهم ويقمع مفاسدهم، ويعمل على مراقبة الطرق وتنظيفها وتوسيعها، والحكم على أهل المباني المتداعية بإزالتها، وكان محتسب القاهرة يجلس في جامعي القاهرة والفسطاط يومًا بعد يوم، ويبعث نوابه ووكلاءه إلى الشوارع والمنعطفات يفتشون أحوال المدينة، وأوضاع الباعات والسوقية، ويقدمون إليه التقارير عما رأوا من المنكر فيزيله، وكان صاحب الشرطة يعاونه، كما كان القاضي يعاونه في تنفيذ العقوبات، وإقامة التعزيزات، وتأديب أهل المنكرات، وكان صاحب الشرطة أيضًا من كبار رجال الدولة وأكثرهم نفوذًا وجاهًا، وكان له مقرٌّ خاص يجلس فيه ويبعث أعوانه ووكلاءه لإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام.
ومن الوظائف الإدارية الرفيعة لديهم: وظيفة الحاجب، وهو الموظف الكبير الذي يتولى أمر باب السلطان أو النائب فلا يأذن لأحد في الدخول عليه إلا إذا استأذنه.
ويلي مقدمي الألوف طبقة «أمراء الطلبخانات» ولهم وظائف معينة هي: إمارة الدواتدار الثانية، ونيابة القلعة، ونيابة الآخور السلطاني، وتليهم طبقة «أمراء العشراوات» وعدتهم خمسون، ثم طبقة أمراء الخمسات وعددهم ثلاثون، ومنهم: أمير الطبر، وشادُّ القصر، وشادُّ الأحباس والوقوف، وشادُّ دور الضرب، وشادُّ الأسواق، هؤلاء هم كبار موظفي الدولة المماليك العسكريون.
أما كبار موظفي الدولة الدينيون: فهم رجال الوظائف الدينية، ورأسهم «قاضي القضاة» وهو أكبر رجال الدين مكانة، وعليه مدار مصالح الأمة، ويليه «القضاة» الأربعة، وأجلُّهم مكانة الشافعي ثم الحنفي ثم المالكي ثم الحنبلي، ويليهم «النواب» وهم الذين ينوبون عنهم في القضاء، ويحكمون في الأقاليم والمقاطعات، وقد بلغوا في القرن التاسع نحوًا من نيف ومائة نائب، ويليهم «نقيب الأشراف» وهو أجلُّ السادة الأشراف وأعلاهم مكانة، وبه يرتبط مشايخ الصوفية وأرباب الطرق والزوايا.
ومنها: وظيفة حاجب الخزانة الشريفة، التي كانت تحتوي على عدة خزائن وصناديق مملوءة بالحلي والجواهر والأواني من ذهب وفضة وأمتعة حسنة.
ومنها: وظيفة صاحب السلاح خانة، التي كانت تحتوي على جميع آلات الحرب وعدده، وما يتعلق بها.
ومنها: وظيفة صاحب الأهراء والشون، وتحتوي على الحبوب والأتبان المخزونة، وما إلى ذلك.
ومنها: وظيفة صاحب الشكاركاه، وهي تتعلق بطيور الصيد وحيواناته وأسلحته وما شابه ذلك.
ومنها: وظيفة صاحب الشراب خانة، وهي تتعلق بالأشربة والسكر والحلواء والعقاقير والفواكه وما شابه ذلك.
ومنها: وظيفة صاحب الطشت خانة، وهي تتعلق بالملبوسات الملكية والأقمشة والكسوات وما يتعلق بها.
ومنها: وظيفة صاحب الفراش خانة المتعلقة بالبسط والمفروشات والخيام والأسمطة والقناديل والسرادقات وما شابه ذلك.
- أولاها: المملكة المصرية، وحاضرتها القاهرة المعزية، وهي مقر الخليفة والسلطان وكبار رجال المماليك، وفيها الديوان الشريف، ومنه تصدر كافة التعيينات، وتسير الجيوش، وتُنظم الغزوات والفتوح.
- وثانيتها: المملكة الشامية، وبها كافل الديار الشامية وهو الذي ينوب عن السلطان، وله عظمة تحاكي عظمته، وتحت يده آلاف من المماليك؛ قسم منهم ملكه الخاص، وقسم ملك للدولة، وعلى رأس هؤلاء المماليك جميعًا مملوك يسمى «أمير كبير»، ومملوك يسمى «حاجب الحجاب»، وتُقسم هذه المملكة إلى عدة مراكز في كل مركز والٍ ينصِّبه الكافل.
- وثالثتها: المملكة الكركية، وتشتمل على بلاد الكرك وقلعتها وما حولها، ويتولاها في العادة «أتابك» العساكر.
- ورابعتها: المملكة الحلبية، وهي تلي المملكة الشامية في العظمة، وكافلها من أعظم الكفال، ويعاونه في الإدارة ناظر الجيش ونائب القلعة وأربعة قضاة وأمير كبير، وتقسيمها الإداري هو نفس تقسيم المملكة الشامية.
- وخامستها: المملكة الطرابلسية، وكافلها من أعيان الكفال، ويكون فيها أربعة قضاة وأمير كبير.
- وسادستها: المملكة الحماوية، وتكون في الغالب تابعة للمملكة الطرابلسية، وتقاسيمها هي تقاسيم طرابلس.
- وسابعتها: المملكة السكندرية، وتكون في تراتيبها وتقسيماتها وموظفيها كالمملكة الطرابلسية.
- وثامنتها: المملكة الصفدية، وتكون في تقاسيمها كالمملكة الطرابلسية.
- وتاسعتها: المملكة الغزاوية، وكافلها مقدم العساكر، وترتيبها الإداري هو ترتيب المملكة الصفدية.
أما أرض مصر: فقد كانت مقسمة إلى أربعة وعشرين قيراطًا، يختص السلطان منها بأربعة قراريط، والمماليك والأجناد يختصون بعشرة، والباقي وقدره عشرة موزع بين الأهلين جميعًا، وقد ساءت حالة الأجناد قبيل تولي السلطان لاجين، فإن كبار المماليك كانوا يستولون على الأراضي ولا يعطون الأجناد إلا الشيء القليل من غلالها أو ثمن غلالها.
هذا ما كان عليه الأمر في أيام المماليك، فلما استولى العثمانيون تبدلت الأمور تبدلًا كليًّا، وفقدت مصر استقلالها، وفقد الشام استقلاله، وأضحيا خاضعين للباب العالي في الأستانة؛ يُرسل إليهما الولاة، ويتحكمون فيهما على الشكل الذي رأينا في القسم السياسي.
- أولاها: سلطة الباشا، وهو الوالي المرسَل من قبله.
- وثانيتها: سلطة الوجاقات — أي الفرق العسكرية — وهي مؤلَّفة من الأجناد والعساكر العثمانية التي تقيم في مصر وسائر القطر، وهي ستة وجاقات وهي: (١) وجاق المتفرقة للمراسم وهم نخبة من حرس السلطان. (٢) وجاق الجاويشية لجمع الخراج والضرائب. (٣) وجاق الهجانة. (٤) وجاق التفكجية وهم أرباب البنادق المحاربون. (٥) وجاق «الانكشارية» وهم عامة الأجناد الأخلاط. (٦) وجاق العرب وهم الأجناد العرب من سكان البلاد، وعلى كل وجاق «آغة» و«كيخية» و«دفتردار» و«خزندار» و«رزنامجي»، ومن رؤساء الوجاقات يتألف مجلس شورى الباشا.
- وثالثتها: سلطة المماليك الذين استبقاهم السلطان سليم من بقايا المماليك السابقين حفظًا للتوازن بين الباشا والوجاقات، وقد قسم السلطان سليم الديار المصرية إلى اثنتي عشر «سنجقلية»، يحكم كل واحدة منها سنجق من المماليك يسميه الديوان — أي مجلس شورى الباشا التركي.
وقد نتج عن هذا التقسيم الإداري الجديد أن اضطربت البلاد وقاست ويلات، ولكن الباب العالي أصر على تنفيذه فنفذ، وبذلك استطاع الأتراك السيطرة على البلاد وحكمها حكمًا مباشرًا.
أما أرباب الإقطاعات القديمة: فقد ظلوا في الشام ومصر بعد الفتح العثماني على الحالة التي كانوا عليها من قبل في أيام المماليك، وقد ظهرت في أيام الأتراك العثمانيين في كلا القطرين أسر حكمت بعض المقاطعات حكمًا استقلاليًّا، مثل أسرة «الشهابي» و«المعني» و«الحرفوش» وغيرهم، وكان زعماء هذه الأسر يجمعون الأموال من الأهلين، ويقدمون بعضها إلى الوالي التركي، وبعضها إلى الباب العالي، ويحتفظون لأنفسهم بحصة الأسد، وكثيرًا ما كان يغضب الوالي التركي على أحد أصحاب الإقطاعات فيبعث إلى فرقة من «الانكشارية» أو الأجناد «القبوقول» فيحرقون داره، ويسبون أهله، ويقطعون الشجر في بلاده حتى يخضع للوالي.
أما جباية الأموال فكانت على غير قاعدة، ولا في سبيل الفائدة العامة، وكان همُّ الولاة والقضاة وسائر الحكام أن يجمعوا الضرائب والفرائض من الأهلين على اختلاف طبقاتهم بالقوة، وإذا ما رفع أحدهم صوته أو اشتكى خنقوه أو قتلوه أو نفوه أو صادروه، والويل كل الويل لمن يجرؤ على العصيان، ومخالفة أمر أولي الطاعة والسلطان، فإنهم حاكمون بأمرهم وبأمر السلطان ظل الله على الأرض، وصاحب الكلمة المطلقة، الذي لا يُسأل عما يفعل، وله وحده الطول والحول والقوة.
ولقد قاست بلاد الشام ومصر ويلات شدادًا لسوء إدارة ولاتهما وفساد الحكم فيهما.