مقدمة عامة عن الاضطهاد العنصري وخرافاته١
من البديهي أن الناس لا يتشابهون كليةً في المظهر، فهناك تنوعات مختلفة في الصفات الظاهرية الطبيعية، تنتقل جميعها، أو بعضها من الأب إلى الابن. أما ما نسميه «أجناسًا بشرية» فليست إلا مجموعات بشرية متفقة نسبيًّا في تلك الصفات الطبيعية الظاهرية. ولا تختلف هذه الأجناس في المظهر فقط، ولكنها تختلف عادةً في مستويات التطور والتقدم، فبعضها يتمتع بكل خيرات المدنية المتقدمة، على حين تخلف البعض عن هذا المستوى بدرجات متفاوتة، وهذه الحقيقة هي المنبع، والأصل لنظريات التفرقة العنصرية في كل مراحل تطورها.
ومن ناحية أخرى نجد في «العهد الجديد» مسألة أخوَّة بني الإنسان في العالم تتعارض تمامًا مع وجهة النظر الواردة في العهد القديم.
والحقيقة أن أكثر الأديان لا تبالي بالاختلافات الجسمانية الفردية، وتعد الناس جميعًا إخوة متساوين في نظر الله.
وكانت المسيحية — وإن لم يشمل هذا كل المسيحيين — تعارض التفرقة العنصرية منذ البداية، فقد قال القديس بولس: «لا يهودي، ولا يوناني، ولا عبد، ولا حر؛ فإنهم جميعًا واحد في المسيح يسوع» وقال أيضًا: «لقد خلق «الله» من دمٍ واحدٍ جميعَ الأمم؛ لكي يعيشوا فوق سطح الأرض.»
ويمكننا، أيضًا، أن نتذكر أن واحدًا من الملوك المجوس الثلاثة كان زنجيًّا، وقد عارض البابا بيوس الحادي عشر النظريات العنصرية. وفي عام ١٩٣٨ دمغ الفاتيكان كل الحركات العنصرية على أنها خروجٌ على العقيدة المسيحية روحًا ومذهبًا، وأكثر من هذا فإن دور الكنيسة والقديسين في إسداء البركات السماوية تشمل الأجناس البيضاء، والصفراء، والسوداء اللون، كما أن الحواريين الاثني عشر كلهم كانوا من العنصر السامي، وكذلك كانت العذراء مريم أم يسوع المسيح.
ويتخذ الإسلام موقفًا مماثلًا للمسيحية؛ فالمسلمون لم يُظهروا إطلاقًا أيَّ تعصب عنصري أو عدم تسامح مع أية مجموعة بشرية.
كذلك كان الإغريق القدامى منذ ألفي عام يعتبرون كل الناس ما عداهم «برابرة»، ويقول هيرودوت: إن الفرس بدورهم كانوا يعتقدون أنهم أرقى كثيرًا بالنسبة لمن عداهم من البشر.
وقد حاول الفيلسوف اليوناني أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م) أن يبرر طموح الإغريق لسيادة العالم وزعامته، فنادى بنظرية أكد فيها أن جماعات معينة تولد حرة بالطبيعة، وجماعات أخرى تولد لكي تكون عبيدًا. (وسنرى فيما بعد أن هذه النظرية قد استُخدمت في القرن السادس عشر لتبرير استرقاق الزنوج، والهنود الحمر في أمريكا)، وعلى العكس من نظرية أرسطو نجد أن شيشيرون الروماني يعتقد أن «الناس يختلفون في المعرفة، ولكنهم جميعًا يتساوون في القدرة على التعلم، وأنه لا يوجد جنس من الأجناس لا يستطيع الوصول إلى الحكمة إذا كان العقل له رائدًا.»
والواضح أن الأفكار الخاصة بتفوق أو انحطاط الشعوب أو مجموعات بشرية؛ هي أفكارٌ عرضة للتغيير على الدوام، ويكفي للتدليل على ذلك أن نسجل رأي شيشيرون عن جماعات الكلت التي كانت تسكن بريطانيا في وقته، فقد وصفهم وهو يناقض نفسه في كتاب إلى أثيكوس بأنهم يتميزون «بالغباء وعدم القدرة على التعلُّم.»
وعلى الرغم من كل هذه المظاهر من الكره والأحقاد فإنه يمكن لنا أن نؤكد أن النظرية العنصرية لم تكتمل مظهرًا، ومخبرًا قبل القرن الخامس عشر؛ لأنه قبل ذلك التاريخ كان تقسيم الإنسان قائمًا على أساس المسيحيين، والكفرة (أو المسلمين والكفرة) أكثر من انقسامه أجناسًا متعارضة، والحقيقة أن الانقسام على أساس ديني أكثر إنسانية؛ لأنه في الإمكان دائمًا عبور الهوة التي تفصل، وتفرِّق بين الأديان، أما الهوة البيولوجية التي تفصل بين الأجناس فلا يمكن عبورها.
ومنذ بداية استعمار إفريقية واكتشاف أمريكا وطريق الهند عبر المحيط الهادي، بدأت نظرات العنصر واللون تزداد انتشارًا، ويُمكننا تعليلُ هذه الظاهرة بأسباب تتعلق برغبة هذه الدول الاستعمارية في تنمية اقتصادياتها، أو انطلاق الروحِ الاستعماريِّ، أو غير ذلك من الأسباب.
وعلى الرغم من الأثر الأدبي لبعض المفكرين فإن التمييز العنصري تطور إلى نظام مذهبي منتظم في خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد كانت هناك حقًّا فترة قصيرة نسبيًّا كان الاتجاه فيها إلى التقليل من التمييز العنصري، أو إلغائه نتيجة لانتشار مبادئ الثورتين الفرنسية والأمريكية، ونجاح حملة محاربة الرق في إنجلترا. ولكن رد الفعل الذي نجم عن عودة المَلَكية إلى فرنسا، والانقلاب الصناعي في أوربا في بداية القرن الماضي؛ كان له أثر مباشر ومضاعفات كلها تناهض، وتعارض فكرة تساوي الأجناس. وقد فتح اختراع آلات الغزل والنسيج آفاقًا واسعة في التسويق أمام أصحاب مصانع القطن، وسيطر القطن على الاقتصاد، خصوصًا في الولايات الجنوبية من الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت النتيجة ازدياد الطلب على الأيدي العاملة من العبيد؛ وبذلك تحولت العبودية تلقائيًّا إلى نظام مقدس في منطقة القطن الأمريكي، بعد أن كانت قد بدأت في التفكك، وتأخذ طريقها إلى الزوال.
ولتأييد هذا النظام الخاص والدفاع عنه ابتكر المفكرون وعلماء الاجتماع في الولايات الجنوبية أسطورةً كاملةً شبه علمية، خصصها أصحابها للدفاع عن تبرير حالة مناقضة تمامًا للمعتقدات الديموقراطية التي كانوا يؤمنون بها. ولتهدئة الخواطر كان لا بد من إغراء الناس لحملهم على الاعتقاد بأن الزنجيَّ ليس أحط من الرجل الأبيض فحسْب، بل إنه أيضًا لا يختلف إلا بقدر يسير عن الحيوان.
وبناء على ذلك اعتقد الأبيض أن استعباد، أو إفناء المجموعات البشرية «المنحطة» بواسطة الرصاص الأوربي ليس إلا تنفيذًا لنظرية استبدال مجتمعات راقية بأخرى منحطة. وقد استُغلت النظرية العنصرية في مجالات السياسة الدولية لتبرير الأعمال العدوانية؛ لأن المعتدي قد تخلص بواسطة هذه النظرية، من كل الاعتبارات الإنسانية تجاه الأجانب الذين ينتمون إلى الأجناس «المنحطة» التي كانت توضع في مصاف الحيوان، أو أعلى منه قليلًا.
وقد مارست الشعوب في نزاعها مع بعضها البعض فكرة أن للأقوى — بفضل تفوقه من الناحيتين البيولوجية والعلمية — الحقَّ في تحطيم الأضعف.
وليس من العدل أن نوجه اللوم إلى دارون، كما فعل البعض، ولا أن نتهمه بأنه هو الذي قَدَّمَ للعالم هذه النظرية الكريهة التي لا تتسم بالطابع الإنساني. والحقيقة أن تطور الجماعات الملونة، وتقدمها بحيث أصبحت منافسًا خطيرًا في سوق العمل، ومطالبتها بالمميزات الاجتماعية التي تعدها الأجناس البيضاء حقًّا وراثيًّا لها دون غيرها من الأجناس؛ هو السبب الذي أدى بهذه الأجناس البيضاء إلى البحث عن قناع تُخفي وراءه المادية الاقتصادية البحتة التي تدعوهم إلى إنكار حق الشعوب «المنحطة» في أي نصيب من المميزات التي تتمتع بها.
وبهذه الطريقة أُسيء استخدام التقدم الذي أحرزه علم الحياة، لكي يكون حلًّا بسيطًا له مظهر علمي خَدَّاع لتهدئة الدسائس والهواجس حول المسلك الإنساني نحو الأجناس الملونة. وعلى أي الحالات، فإن الفروق بين العلم والخرافة رقيقةٌ يسهل اختراقها. وهذا هو ما حدث تمامًا في هذه الحالة.
ومن الواضح أن وراثة المظاهر الجدية، والنفسانية تؤثر على المظهر الخارجي، والسلوك الإنساني، ولكن هذا لا يؤيد جدل أصحاب النظرية العنصرية في نقطتين: الأولى: مسألة أن الوراثة البيولوجية هي العامل الوحيد المهم. والثانية: أن الوراثة الاجتماعية حقيقة كما هي الحال في الوراثة الفردية.
وعلى كل حال فإنه لا مجال للشك في أن التمييز العنصري يمثل ناحية واحدة من المشكلة الكبرى، وهي: الاضطهاد والتمييز الاجتماعي.
إن فكرة الجنس مليئةٌ بالقوة العاطفية لدرجة أنه من الصعوبة بمكان دراسة أهميتها، وما لها من خطورة دراسة موضوعية في ارتباطها بالمشكلات الاجتماعية، فليس ثَمَّة أساس علمي على الإطلاق لتصنيف الأجناس تصنيفًا عامًّا على أساس من الرقي النسبي. وعلى هذا: فإن التمييز الجنسي وخرافاته وأساطيره ليست إلا وسائل لإيجاد كبش فداء حين تتهدد الأخطار مركز بعض الأفراد، أو تماسك بعض الجماعات.
فالأفراد الذين يختلفون في المظاهر الجسمية عن بقية المجموع هم، بلا شك، أسهل الأهداف للأعمال العدوانية. ومن الناحية النفسية نرى أن «الشعور بالذنب» يزول إذا أُسبغ على العدوان رداء من «المظهر العلمي» في شكل نظرية تُثبت أن الجماعة التي وقعت فريسة العدوان (كبش الفداء) جماعةٌ «منحطة»، أو «مؤذية»، وعادة نرى أن مثل هذا «العدوان» يوجه إما إلى الأقليات، وإما ضد مجموعات كبيرة من المستعبدين الضعفاء.
وهذا العرض الموجز لأصل وتطور التمييز العنصري وأساطيره، وما قيل تبريرًا له، ما هو إلا مقدمة للتحليل التفصيلي لبعض أساطير وخرافات الجنس الأكثر شيوعًا وأهمية. وإنا لنأمل أن نُوضِّحَ فساد وخطأ هذه النظريات التي تستند إلى دعائمَ شبه بيولوجية، وهي الدعائم التي أُقيمت ذرًّا للرماد في العيون؛ حتى لا تبصر أغراضها وسياستها المتعسفة الخفية.