معركة جديدة في قضية المرأة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

مقدمة

في بلادنا العربية لا يكتب الكاتب عن زوجته، إنه يكتب عن عشيقاته بأسماء مستعارة بالطبع، أو عن المومسات اللائي ضاجعهن في الشباب، أو عن أمه باعتبارها المرأة المثالية في حياته سواء صح هذا أم لا، فالنفاق مطلوب خصوصًا عند الحديث عن الأهل، وإلا تقوَّضت الأسرة التي نراها أمامنا الآن، والتي فسدت فسادًا لم يحدث في أي عهد بسبب الزيف والنفاق السائدين في العلاقات بين الرجال والنساء، وبين الأهل والأطفال.

الزوج لا يكتب عن زوجته فهي عورة لا يجوز كشف الأستار عنها، أو لأن رجولة الرجل تمنعه من إتيان هذا الفعل.

أما أنا فسأكتب عن نوال السعداوي قبل أن يمضي بي الزمن إلى القبر فأحرق في جهنم لأنني لم أدافع عن الحق، سأكتب عنها لأنها زوجتي وأقرب الناس إليَّ، ولأنها صديقتي، وشريكة حياة، وكفاح لمدة ثلاثين سنة، لأنها وقفت إلى جانبي في كل الملمات، ودافعت عني بقوة عشرين رجلًا، ولأنه لا يوجد ما يجب أن أخفيه، أو أستره، حول هذه المرأة التي لم تكف منذ عشرات السنين عن خوض المعركة تلو المعركة دفاعًا عما تؤمن به، أو عن تلقي الضربات التي تلقاها كل رائد في مجال الفكر، والإبداع، أو الطعنات التي يوجهها الجبناء.

أكتب عن نوال السعداوي لأنه في هذا الزمن الذي ننعم فيه بالنظام العالمي الأمريكي الجديد، تُغتَصب شعوب العالم الثالث، ويسمى هذا الاغتصاب دفاعًا عن الشرعية، وعن ميثاق الأمم المتحدة، ويُقتنَص بترول العرب وأموالهم على نحو لم يسبق له مثيل، ويُقتَل نصف مليون من الرجال والنساء والأطفال في قطر عربي شقيق. يُحاصَر شعب بالعقوبات الاقتصادية فيُحرَم من احتياجات الحياة الأولية، ثم يُقتطَع منه جزء من أراضيه باسم الديمقراطية والحكم الذاتي للمقاطعات الكردية. وكانت نوال السعداوي من أول المعارضات والمعارضين لحرب الخليج، وللنظام العالمي الجديد المبني على الازدواجية في المقاييس، تلك الازدواجية التي صحا عليها أخيرًا كُتَّابنا، ومفكرونا بعد أن فقدنا وسائل الرد عليها إلى سنين طويلة، وهي الازدواجية التي تبيح مناصرة إسرائيل ضد شعب فلسطين، ولبنان، وسائر الشعوب العربية المطلوب منها أن تركع ركوعًا نهائيًّا.

والنظام العالمي الجديد هو الذي يحاصر ليبيا، ويستعد للانقضاض عليها في أقرب وقت.

أكتب عن نوال السعداوي، لأنه في الجو المعتم الذي يسود في منطقتنا العربية تعلو نغمات الخرافة، والتعصب الديني، والإرهاب المسلح بالبنادق، والجنازير، وتخضع الدولة، وأجهزتها لعمليات الابتزاز، وتفتح ذراعَيها لتتسرب إليها، وتتحكم دول الخليج في وسائل الإعلام، ويفقد المفكرون، والصحفيون، والكُتَّاب، والنقاد قدرتهم على إبداء الرأي الشجاع خوفًا من المقصلة الإدارية القادرة على حرمان الفرد من نعيمها.

ولأنها لا تجد من يقف إلى جوارها في وسائل الإعلام والصحف، فمن قائل إنها لا تعد من الكاتبات! ومن قائل إنها تكتب بفجاجة، وبروح صدامية حتى تحاط بالأضواء! ومن قائل إنها تدعو إلى الإباحية والفساد! ومن قائل إنها ضد الإسلام والشرعية! ومن قائل إنها مدسوسة على مصر، والبلاد العربية، ولا تكتب إلا للغرب! ومن قائل في لحظة تهور إنها سيدة عظيمة، ثم في اليوم التالي عندما يندم أمام احتمالات فعلته الشنيعة يتهمها أنها تحرض النساء في هولندا على الطلاق!

أكتب عن نوال السعداوي وسط هذا الجو الغريب لأدافع عن سيدة شجاعة تكاد تقف بمفردها ضد حملة شعواء لتثبت أن النظام العالمي الجديد يكاد يتسرب إلى شراييننا ليجعلنا من أصحاب النفاق والازدواج اللذين لا تستقيم معهما أبسط مبادئ الأخلاق، والذي سيؤدي بنا إن استمر إلى الركوع التام.

أكتب عنها لأنها ممنوعة من فرص الدفاع عن نفسها بالوسائل الديمقراطية التي نتشدق بها، أي بالحوار في الإذاعة، والتليفزيون، والصحف الحكومية، والمعارضة التي تشارك في التمثيلية حسب الأدوار، ممنوعة من قلمها هي الذي يخط الكتاب وراء الكتاب، والذي لم يكف عن العمل منذ أربعين عامًا، منذ أن كانت طالبة في «حلوان» الثانوية فكتبت أول كتاب تحت عنوان «مذكرات سعاد»، وكأن الكتابة بالنسبة إليها كالتنفس، لا تستطيع أن تعيش بغيره لتتوالى بعد ذلك مؤلفاتها في مجال الرواية، والقصة القصيرة، والدراسات عن المرأة التي ربطت فيها بين العلاقات الجنسية «أي العلاقات بين الرجل والمرأة» وبين الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والفكر السائد في عقول الناس، حتى أصبح لها ما يزيد عن ثلاثين كتابًا، وليصبح لها عشرات الألوف من القراء في مصر والبلدان العربية، ولتصبح من أكثر الكُتَّاب العرب انتشارًا رغم كل الصمت، والتعتيم الإعلامي.

في سنة ١٩٨٠م صدر لها أول كتاب باللغة الإنجليزية تحت اسم «الوجه الخفي لحواء»، وهي الترجمة الإنجليزية التي أعددتها أنا لكتابها الصادر تحت عنوان «الوجه العاري للمرأة العربية»، وصدر منه حتى الآن ثماني طبعات، وهو يدرس في كثير من الجامعات، وبعد ذلك ترجمت كثير من رواياتها وكتبها إلى تسع عشرة لغة من إندونيسيا، واليابان، وباكستان، وإيران، وتركيا، حتى إسبانيا، وفرنسا، وأمريكا الشمالية والجنوبية، وأصبح لا أحد، نعم لا أحد يستطيع أن يضارعها في هذا المجال، فقالوا عنها إنها تكتب للغرب، بدلًا من أن يقال بفخر إن هناك كاتبة مصرية إبداعها غزا العالم، ورغم أنها شقت طريقها اعتمادًا على الموهبة والجهد، وليس على مؤازرة السلطات، ووسائل الإعلام في أي عهد من العهود التي حكمت مصر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

إنهم يبحثون عن أسباب لهذا الانتشار غير الموهبة والإبداع، فما أكثر التنافس والغيرة اللذين يسودان في مجال الكتَّاب الكبار والصغار على حد سواء. وكيف يفلت كاتب من الكتاب من تحت جناحهم، من أفضال السلطان، خصوصًا إذا كانت امرأة.

إن مشكلة الرواد في كل بلد، وفي كل عصر أنهم مثل الحجر يلقى في المياه الراكدة، فيحركها ويحدث دوائر وتموجات تتسع وتتسع بلا نهاية.

ويشتد الهجوم على أصحاب الفكر الحر في فترات الأزمة، أو الركود أو الهزيمة حين تنشط القوى السياسية المنادية بالعودة إلى الوراء، غربية كانت أو شرقية، تتستر تحت شعارات دينية، وسياسية زائفة حين تنهار الأخلاق الحقيقية، ويسود اليأس، والزيف، والنفاق، حين يقود الإحباط إلى محاولة لجر الآخرين من عليائهم إلى الدرك الأسفل حتى يتلاشى الشعور بالفشل الشخصي، والخواء.

وانعكس هذا بالطبع على حياة نوال السعداوي خلال العشرين عامًا الماضية، فدخل اسمها في القائمة السوداء خلال السبعينيات، وعانت من الاضطهاد والإيقاف من عملها، ثم دخلت السجن في أوائل الثمانينيات مع ١٥٣٦ قُبض عليهم في عصر السادات، وعندما أُفرج عنها وُضِعت في القائمة الرمادية، لتعود إلى القائمة السوداء بعد حرب الخليج، واستفحال نفوذ البترودولار في حياة البلاد.

وتتلخص مشكلة نوال السعداوي في أنها لم تؤجر قلمها للسلطة الحاكمة في أي عهد، ورفضت التخلي عن رأيها من أجل الأضواء الإعلامية والحكومية في بلادها، ولكن النظم الحكومية لا تعترف بهذا الحق، إنها تريد منا جميعًا أن نسير في الصف، ومن يرفض أن يخضع يدفع الثمن، ويُتهم في أخلاقه وفي إبداعه، وفي كل شيء، وتنعق الغربان من كل صوب، دلالة إخلاصها للرجولة، وللنظام، ولتثبت أنه لا جديد على الأرض.

أقف مع نوال السعداوي لأنهم يتهمونها بالإباحية والجنس، بينما لم أرَ في حياتي امرأة في مثل استقامتها. كوَّنا أسرة منذ ما يقرب من ثلاثين سنة، سافرت هي إلى الخارج، وسافرت، فوجدتها كما هي تذود عن العش، عن البنت والولد، تعطيهما من إبداعها. وتغرس فيهما قيمًا كالمعدن الثمين لم يصبها صدأ، تغرس فيهما الثقة في النفس حتى أصبحا ينتجان بدورهما في مجال الفن، والأدب. تعمل اثنتي عشرة ساعة في اليوم الواحد، تعمل دون كلل، حتى أصبحت أنا من حاسديها، لأنني لا أستطيع أن أجاريها في العمل، هكذا أصبحت لي أسرة، أصبحت لي بنت، وأصبح لي ولد، أفخر بهما، وأتمنى أن يعيشا في عهد غير العهد، في زمن غير الزمن، زمن يحترم الإنسان ويعطي له بكرم، أتمنى ألا يصيبهما ما أصابنا نحن. نوال صانت الأسرة التي يقولون إنها تعمل ضدها، أقامتها بالجهد والإخلاص، بالحديث الصريح الذي لا يخاف، ليصبح كل منا نفسه، فأصبح من حقها أن تتحدث في الكتب عن أسرة جديدة جوهرها الصدق والشجاعة وليس النفاق والازدواجية.

إنني أقف مع نوال السعداوي لا لأنني زوجها، ولكن لأنها إنسانة فيها رقة الفنان والأم والمرأة التي تعرف معنى للشرف، للجهد الذي لا يتوقف، ولأنها فيها عنف المدافع بشجاعة عن الحق.

إن كنتم تريدون عبيدًا، فإن القهر الذي مارستموه مع نوال السعداوي هو خير السبل — وإن كان لم ينجح معها — فهناك دائمًا قلة قليلة يصعب قهرها وهذه القلة هي الأمل، هي التي ستصبح في يوم ما شعبًا لا يرضى سوى عن عالم فيه سلام وعدل.

دكتور شريف حتاتة
القاهرة، يونيو ١٩٩٢م