معركة جديدة في قضية المرأة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

تمهيد

كان الوقت مبكرًا في الصباح، جالسة إلى مكتبي، مستغرقة في روايتي الجديدة، أتأمل أبطالها وبطلاتها من خلال شبورة أو سحابة دخان، تزحف فوق مساحة صغيرة من السماء، تتناقص على الدوام، العام وراء العام، مع زيادة العمارات وارتفاع الجدران، والشجرة الوحيدة التي شاركتني هذه القطعة من السماء، منذ ثلاثين عامًا أو أكثر، حين سكنت هذه الشقة، أو العلبة المعلقة بين طبقات من الأسمنت، شجرة الكافور الوحيدة كان يقف فوقها أحيانًا طائر أبيض الريش، أو عصفورة خضراء اللون، جاء «بلدوزر» منذ عام أو عامين، يشبه الدب الشمالي، له فك حديدي ضخم، يحمل اسم شركة أمريكية أو بريطانية، هجم فوق الشجرة الوحيدة رفيقة العمر واقتلعها من جذورها.

إلى جواري فوق المنضدة جرائد الصباح، لا أقرؤها إلا في نهاية النهار، وأنساها يومًا أو يومين مع الاستغراق في الكتابة، وقد تتراكم دون قراءة الأسبوع وراء الأسبوع، حتى تصبح عبئًا، تشغل حيزًا كبيرًا في الدرج الصغير، لا يخلصني منها إلا ذلك المنادي كل صباح: «روبابيكيا.»

وسمعت الجرس يدق.

ضمن طقوس الصباح، قبل أن أجلس إلى الكتابة أمشي فوق القدمين لمدة ساعة في الهواء الطلق، أو غير الطلق، في جو مشبع بالدخان، وعوادم سيارات تطلق من الغازات السامة ما لم يُكتَشف بعد. وشوارع بلا أرصفة، أو حفر فوق الأرصفة، وبالوعات في الأرض فاغرة أفواهها لابتلاع البشر، وكل ذلك لا يهم، المهم هو أن أمشي وأحرك عضلات الساقين قبل أن أجلس الساعات الطويلة إلى المكتب.

وسمعت الجرس يدق.

قمت لأفتح الباب، ولم يكن هناك أحد، تصورت أنه أحد أطفال الجيران ضغط بإصبعه على الزر الأبيض بجوار الباب، ثم اكتشفت أنه جرس التليفون، وأنني نسيت أن أخلع الفيشة من الحائط كما تعودت ضمن طقوس الصباح.

– ألو؟

– قريتي الجرائد؟

– لأ.

– اقريها.

– فيه حاجة مهمة؟

– أيوه.

إنه صوت زميلة من الزميلات، اللائي بدأن معي الطريق الطويل الشاق منذ الخمسينيات لتحرير النساء، تكبرني ببضعة أعوام، اعتزلت الحياة العامة، ولم يعد لها أمل في تحرير الأمة العربية رجالًا أو نساءً على السواء.

– ياما قلت لك يا نوال.

– إيه؟

– ما فيش فايدة في البلد!

صوتها مليء باليأس والتشاؤم، وإن ضحكت أو فرحت، يظل لصوتها ذلك الرنين الحزين الباكي.

صوتها يثير فيَّ التحدي ضد اليأس أو التشاؤم، يستنهض فيَّ كل أحاسيس التفاؤل منذ الطفولة. وأبدو في نظرها أحيانًا فتاة مراهقة أو طفلة صغيرة لم تنبت لها ضروس العقل.

– لأ، فيه فايدة!

بإصرار عنيد على مدى الثلاثين عامًا أو أكثر منذ تعارفنا وأنا أقاوم هذه العبارة «ما فيش فايدة»، وأقول: لأ فيه!

– الخبر منشور في كل الجرائد.

– خبر إيه؟

– الحكم في القضية.

ولم تمهلني الصديقة لأقرأ الخبر بنفسي، لكنها راحت تقرأ عليَّ الحكم المنشور.

جاءني صوتها الباكي عبر أسلاك التليفون. تقرأ من إحدى الصحف. كنت أستمع إلى صوتها وهي تقرأ الحكم، وتتلو الاتهام وراء الاتهام. ثمانية اتهامات:
  • (١)

    تهديد السلام الاجتماعي والمصالح العليا للبلاد.

  • (٢)

    الإساءة إلى علاقات مصر بالدول العربية والأجنبية.

  • (٣)

    عقد المؤتمرات الدولية دون تصريح.

  • (٤)

    الاتصال بالهيئات الأجنبية دون تصريح.

  • (٥)

    مخالفة القانون والأحكام والآداب العامة.

  • (٦)

    نشر أفكار ومعتقدات ضد الإسلام والشريعة.

  • (٧)

    إصدار مجلة «نون» والنشرة دون تصريح.

  • (٨)

    فتح حساب في بنك مصر دون تصريح.

وما إن انقطع صوتها عن التلاوة، ودب الصمت في الغرفة، حتى انفجرت بالضحك، وشر البلية ما يضحك.

وحين سمعتني أضحك تلاشت النغمة المتباكية من صوتها، وحلت مكانها لهجة اليأس.

– قلت لك ما فيش فايدة!

– لأ، فيه فايدة!

– إزاي؟

– لازم أقدم طعن في الحكم.

– هو فيه عدالة في البلد دي؟

– أيوه فيه!

– لأ ما فيش!

في أذني رن صوتي مليئًا بالأمل، الأمل المستحيل ربما، لكنه موجود، يشبه السراب أحيانًا، لكنه قائم فوق وجه الأرض، مثل نجمة الصبح في سماء سوداء، وصوتي يزداد قوة وأقول: لأ فيه! وهي تردد في يأس مطلق: ما فيش! وذاكرتي تعود إلى الوراء، حين كان يحدث مثل هذا الحوار، داخل السجن، منذ عشرة أعوام أو أكثر، قبل موت السادات بأسبوع أو أسبوعين. وكان يهدد ويتوعد، ويسود التشاؤم جميع المسجونات معي في الزنزانة، ويجلسن ساكتات واجمات حزينات، فإذا بشيء يهب فجأة منتصبًا داخلي كالمارد، غاضبًا ثائرًا على الوجوم والاستسلام لليأس، يقاوم الانهزام، لن نموت، وإذا متنا فلن نموت ساكتات، لن نمضي في الليل دون ضجة، لا بد أن نغضب ونغضب، نضرب الأرض ونرج الأرض، لن نموت دون ثورة.١

كان صوتي لا يزال يرن في أذني، حتى بعد أن وضعت سماعة التليفون وانقطع الحوار. حاولت العودة إلى كتابة الرواية، لكن الصحف كانت إلى جواري فوق المنضدة، وامتدت يدي إليها لأقرأ الحكم بنفسي، لكني تراجعت. تعودت أن أقرأ الصحف آخر النهار، وساعات الصبح عندي ثمينة، حين يكون العقل في قمته. وآخر النهار، حين يتعب العقل ويخمد أمد يدي فوق المنضدة وأفتح الصحف.

لكن جرس التليفون ذلك الصباح لم يتوقف. وكان يمكن أن أخلع الفيشة من الحائط ككل يوم. لكن الرواية كانت قد تبددت وحبل التفكير انقطع.

وجاءني صوت عبر أسلاك التليفون، مليء بالمرح والحماس، صوت يشبه زقزقة العصافير عند طلوع الفجر.

– مبروك يا نوال.

– على إيه؟

– وسام جديد يا سيدتي.

إنها واحدة من مئات أو آلاف الشابات المصريات العربيات، اللائي وضعن معي الأساس الأول لتضامن المرأة العربية منذ عشرة أعوام أو أكثر. صوت لا يعرف التباكي أو اليأس، مثل شعاع الشمس يضرب في السحب وتتلاشى الظلمة.

جاءتني ضحكتها عبر الأسلاك، تهز الأسلاك، تهز الرواسب في قاع النفس، والضحك له عدوى، وجدتني أضحك أنا الأخرى، ليس لأن شر البلية ما يضحك، ولكن لأنها ليست بلية على الإطلاق، وإنما وسام شرف.

وجاءني صوتها المرح يقول عبر سماعة التليفون: أنت متهمة بإشاعة الفوضى وخرق النظام!

– والله؟!

– وتهديد السلام الاجتماعي وتبديد المصالح العليا للبلاد وإساءة العلاقات الدولية والعربية والمحلية ومحاربة الإسلام والشريعة وخرق القوانين والأحكام والآداب العامة!

– يا إلهي!

– إنتي لازم قوة جبارة واحنا مش عارفين!

صحيح والله لا بد أن تكون امرأة شديدة الجبروت، تلك التي تقوم بكل هذه الأفعال، ومع ذلك لم يقدمها أحد إلى التحقيق أو المحاكمة، لا بد أنها أوسمة كما تقول صديقتي الشابة وليست اتهامات.

وكأنما التاريخ يعيد نفسه، ومنذ أكثر من عشر سنوات ساقوني إلى السجن بتهم أقل من هذه التهم.

١  مذكراتي في سجن النساء، دار المستقبل العربي، القاهرة، ١٩٨٤م، ص٥٩.