البحث عن السيدة وورنكي: الدور الذي يلعبه المعلمون في حياتنا

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الرابع

سبر أغوار السحر

«قد يكون أي شيء هو السبيل لتحقيق النجاح. وليس ثمة طريقة لمعرفته؛ إن الأمر أشبه ببواب يحمل مفاتيح كثيرة ويظل يجرب مفتاحًا تلو آخر حتى يجد المفتاح الملائم.»

باربرا وورنكي، ١ يناير ٢٠٠٩

مع مرور السنين أدركت جيدًا تأثير العلاقة بين المعلم وطلابه على نجاحهم في المدرسة. لكن في الوقت نفسه أيقنت أن هذه العلاقة وحدها لا تكفي. صحيح أن السيدة وورنكي اهتمت بطلابها، لكنني حظيت بالعديد من المعلمين الذين اهتموا بطلابهم ولم يكونوا مثلها. لهذا فالسؤال الذي طرح نفسه عليَّ في عامي الثالث من التدريس هو: ما الفرق بين بيئة التدريس التي يوفِّرها هؤلاء المعلمين وتلك الخاصة بالسيدة وورنكي؟

قد يغدو التدريس تجربة خانقة، سواء جرى في مقطورة قديمة، أو في فصل مجهز على أحدث طراز، أو في غرفة في قبو مثل فصلي في الصف الأول. فالمعلمون محكومون بأجراس تحدِّد وقت بداية حصصهم، ووقت انتهائها، ووقت حصولهم على الراحة. (أحيانًا أصف نفسي وزملائي بأننا أصبحنا مثل «كلاب بافلوف» لأننا نستجيب جيدًا لأصوات الأجراس.) والمقطورة المهدمة التي درست فيها خلال عامي الثالث كانت أعظم تجسيد لذلك الإحساس الخانق. فقد كان عرضها خمس أقدام وطولها نحو عشرين قدمًا. وامتدت النوافذ، التي اختلفت حالاتها، بطولها، لتكشف عن موقف السيارات، وخطوط السكك الحديدية البعيدة، ووراء ذلك أسطح منازل البلدة الصغيرة التي كنت أدرس بها. اعتدت الوقوف في الفصل والنظر إلى البرج الجرسي البعيد لمبنى مجلس البلدة، وأقول في نفسي: «العالم الحقيقي في الخارج وأنا حبيسة هنا.»

ذات يوم وأنا أقف مستغرقة في حلم يقظتي بدأت في التفكير في إحساس طلابي. يحضر طلاب المدرسة الإعدادية والثانوية ست أو سبع حصص يوميًّا، ويجلسون في مقاعد غير مريحة لساعات طويلة. ومع أن العديد من المعلمين يحاولون جعل حصصهم جذابة، فلا بد أنه من الصعب على الأطفال الحفاظ على تركيزهم واهتمامهم. إذا كان الأمر صعبًا على المعلمين الذين لديهم خبرة كبيرة في هذا الشأن، فهو حتمًا أصعب بكثير على الطلاب الصغار.

لكن عندما عدت بالذاكرة إلى أيام دراستي، وإلى غرفة القبو الخالية من النوافذ التي قضيت بها صفي الأول، تذكرتها باعتبارها مكانًا «ساحرًا»؛ فهي أكبر بكثير من مجرد أربعة حِيطان ومقاعد متداعية وسبورة. وقلت لنفسي: لا بد من وجود طريقة لبث ذلك الشعور في نفوس الطلاب. لهذا بدأت ذلك العام في تجربة بعض الأفكار؛ لجعل الفصل مكانًا يرغب الطلاب في الحضور إليه والبقاء فيه، مثل فصل السيدة وورنكي.

بعد ذلك، بعد أن تركت فصل المهارات اللغوية وأصبحت معلمة قراءة للطلاب الضعفاء، زاد اهتمامي أكثر ببيئة الفصل. وأدركت أن نجاح الطلاب في فصلي مرهون بحضورهم إلى هناك بملء إرادتهم. فالواقع أنني سآخذهم من حصص أخرى يحبونها، إذ ربما ستفوتهم حصص كرة السلة أو الموسيقى أو الرسم التي يحبونها. أضف إلى ذلك وصمة العار التي ستلازمهم دائمًا لحضورهم حصصًا كهذه. لهذا ابتكرت على مر الأيام وسائل لجعل فصلي مميزًا، وفي ظني أنها نجحت؛ إذ ذات مرة قال لي جيسون جونسون مدير المدرسة: «لم أرَ في حياتي كل هذا العدد من الطلاب يتوق لحضور حصة القراءة!»

فقلت في نفسي «أنا أحاول أن أجعل المكان ساحرًا …»

وإليكم ما تعلمته خلال عشرين عامًا لجعل الفصل مكانًا يتمنى الطلاب البقاء فيه.

هدم الحيطان

أسعى قدر المستطاع لإخراج الطلاب من الفصول للقضاء على ذلك الشعور بأنه مكان خانق. يعلم كل المعلمين أن التعلم ليس إلا عملية اكتشاف، وثمة الكثير لاكتشافه خارج مبنى المدرسة مقارنة بما هو داخله. وبالفعل قدم لي الطلاب مقالات وصفية بديعة عن شبكات العناكب والأزهار وأنصال العشب والسُّحب، حتى إنه سيكون من الصعب الوصول إلى هذا المستوى من الإبداع بالجلوس داخل حيطان الفصل الأربعة. على سبيل المثال تمشينا العام الماضي في مسار بالغابة الموجودة خلف المدرسة، وبعد العودة كتبت تلميذتي سافانا في دفتر يومياتها: «تدلى الغُصَيْن النحيف من غصنه كأنه كان ناعسًا.» بالطبع لم أشاهد هذا الغُصَيْن ذلك اليوم، لكنني رأيته بعينَيْ سافانا.

وهكذا أبدأ كل عام دراسي باصطحاب الطلاب خارج الفصول؛ لتدريبهم على استخدام حواسهم في الكتابة قبل الشروع في إخبارهم بتعليمات الكتابة. فأخبر الطلاب أنهم سيستخدمون كل حواسهم باستثناء حاسة النظر. ثم أقسمهم إلى مجموعات من طالبين، وأعصب عيني طالب واحد في كل مجموعة. ويتجول الشريكان معًا في فناء المدرسة وهما يستمعان إلى كل ما يدور حولهما ويشعران به. وفور عودة الجميع إلى الفصل، يصفون على الورق التجربة التي مروا بها، وفيما يلي مثال على ما كتبه طالب في الصف السابع يدعى براين:

كنت أسير وأتحسس طريقي في فناء المدرسة. شعرت بخشونة لحاء شجرة، لكنني لم أتمكن من التركيز لأنني خشيت أن أقع أو أن أخرج إلى الشارع. زادت هذه التجربة بشكل أكبر من شعوري بالامتنان لأنني مبصر، وبدا لي أن اهتمامي بملمس اللحاء جعلني أراه بصورة مختلفة.

في وقت آخر، درَّست بمدرسة تجاور جبانة قديمة. فكنت في الخريف أصطحب طلابي إلى هناك، لاكتشاف العبارات التي نقشت منذ زمن بعيد على الشواهد العتيقة. كان الطلاب يضعون ورقة على شاهد القبر، ويمررون القلم الرصاص أو قلم التلوين الشمع جيئة وذهابًا عليه، فتنطبع الأسماء والتواريخ والنقوش الأخرى على الورقة بأسلوب ساحر. ودائمًا ما كان ينبهر طلابي ويبتهجون بظهور كلمات واضحة جدًّا على الورق، لم تكن مقروءةً على الشاهد.

في تلك الجبانة، تراصت سبعة شواهد في صف طويل، بدا أنها لأسرة كاملة تتكون من أب وأم وخمسة أبناء. اعتمدت على تلك الشواهد في نشاط متعدد التخصصات: فبدأنا بالنظر إلى التواريخ المكتوبة وحساب أعمار الأبناء عند وفاتهم، ثم ألف طلابي قصصًا ممتعة عن الأسرة وكيف كانت تعيش في القرن السابع عشر.

لطالما اعتقدت أن إخراج الطلاب من الفصل حافز كبير للتعلم، لكنها بالتأكيد ليست فكرة جديدة. فالمار بجوار أي مدرسة في الربيع سيرى الأطفال منتشرين في كل مكان تحت الشمس، يؤدون أنشطة مختلفة. شعرت في سنواتي الأولى من التدريس برغبة شديدة في الخروج مثلهم في أول يوم دافئ، حتى إنني حاولت ابتكار أنشطة تحقق الأهداف التعليمية ويمكن تأديتها خارج الفصل.

ومن الوسائل الأخرى لتفادي الشعور بالملل داخل الفصل، استخدام الأماكن الأخرى المتاحة في مبنى المدرسة كلما أمكن ذلك. فطلابي معتادون على تقديم عروض «مسرح القراء» في قاعة الاستماع؛ حيث يقرءون بصوتٍ عالٍ أجزاء من حوارات شخصيات نص درامي على الجمهور الجالس، الذي لم يكن سواي! إن سير تلك المسافة القصيرة من الفصل إلى القاعة يبهج الطلاب ويجنبهم الملل.

ذات عام بعد أن انتهى الطلاب من تسليم بحث صعب جدًّا، اصطحبتهم إلى قاعة الألعاب الرياضية. ولم أفرض عليهم سوى قاعدة واحدة. فقد كان على جميع الطلاب الوقوف داخل الدائرة المرسومة بمنتصف الملعب. وفور تحقق ذلك يمكن لأيٍّ منهم أن يفعل ما يشاء؛ يتحدث أو يصرخ أو يرقص، لكن يجب أن يبقوا داخل الدائرة. وضعت ذلك الشرط لزيادة التحدي؛ لأن الطلاب تزاحموا كمجموعةٍ من المهرجين الذين يحاولون جميعًا ركوب سيارة فولكس فاجن صغيرة. كم كان ممتعًا مشاهدة طلاب المرحلة الإعدادية هؤلاء وهم يسقطون خارج الدائرة، ثم يسعون جاهدين للعودة داخلها، وقد استمتعوا بذلك. لم يستغرق الأمر أكثر من عشر دقائق تضمنت الذهاب إلى القاعة والعودة منها، لكن عندما عدنا إلى الفصل، كان الجميع أكثر تركيزًا بعد أن أتيحت لهم الفرصة ﻟ «هدم الحيطان» مرة أخرى والتصرف بقليل من الحماقة.

أثناء تدريسي في المدرسة الصيفية توصلت إلى أسلوب آخر لتوسيع رقعة بيئة التعليم. ففي مناسبات عدة أثناء عملي الصيفي، درست لطلابٍ أظهروا اجتهادًا كبيرًا على مدار العام، ومع ذلك لم يتمكنوا من اجتياز اختباراتهم. ومع أننا كنا في الصيف وكان علينا البقاء داخل الفصل، فقد أخبرت الطلاب بأننا سنُدخل الصيف معنا إلى الفصل. فكتبت على أحد حيطان الفصل قصيدة (والتي كانت من وحي قصائدي في الصف الأول الابتدائي):

كل أصدقائنا بالخارج
في ذلك العالم الواسع.
ولأننا نريد قضاء وقت ممتع
فسنحضر الصيف معنا إلى الداخل.

عبارات سخيفة، أعرف ذلك. لكننا علَّقنا حول القصيدة أي شيء وكل شيء أحضره الطلاب ليذكرنا بالصيف. فجاء البعض بصور حمامات سباحة وزوارق، وأحضر آخرون أصدافًا، واختارَت مجموعةٌ أخرى أن تصنع عملها الفني بنفسها؛ فرسمت لوحاتٍ لأزهار ولمشاهد من فصل الصيف. وأعلمت الطلاب في فصولي الصيفية أنه يحق لهم القيام من مقاعدهم في أي وقت يشاءون «للاستمتاع بالصيف»، بأخذ استراحة في آخر الفصل. وفي بعض الأوقات عندما كنت أشعر أنا أيضًا بالإحباط، كنت أتوجه إلى آخر الفصل. كنت أنتحب بصوتٍ عالٍ قائلة: «أريد قضاء الوقت بالخارج»، فيضحك الطلاب من المعلمة المجنونة التي ترفض قضاء الصيف داخل الفصل، مثلها في ذلك مثل طلابها.

حيطان تحمل رسالة

عندما بدأت أفكر في بيئة الفصل التي أريدها لطلابي، وضعت نفسي في اختبار مهم: هل أرغب في البقاء في هذا الفصل؟ إن لم أرغب في ذلك فحتمًا لن يرغب طلابي فيه. وما دمت سأبقى في فصل ما طوال اليوم فأنا أريده أن يكون مكانًا مبهجًا.

لا شيء أهم من الأساسيات بالطبع. لهذا طليت حيطان فصولي مرتين. (حتى إنني حضرت إلى المدرسة في الصيف ذات مرة لطلاء ممرات المدرسة.) ولكن بعض المعلمين مستعدون لفعل ما هو أكثر من ذلك. على سبيل المثال، بيث — معلمة علوم للصف السادس في مدرستي في أحد الأعوام — رسمت لوحة جدارية للأسماك الاستوائية غطت أحد حيطان فصلها بالكامل. وفرح طلابها فرحًا بالغًا لدى رؤية الجدارية لأول مرة في «اليوم المفتوح»، واعتبروا أنفسهم الأوفر حظًّا من بين طلاب الصف السادس في المبنى لجلوسهم في ذلك الفصل.

قد يستنكر البعض قيام المعلم بمثل تلك الأعمال الشاقة التي لا تتضمنها مهام وظيفته. لكنني أقول إن أي قدر من الاهتمام الشخصي، الذي يمكن أن أقدمه لفصلي أو مدرستي، يشعرني بأهمية وجودي هناك كل يوم. ولأنني أعرف أن كثيرًا من طلابي يعيشون في ظروف يُرثى لها، فقد أردت دائمًا توفير أفضل بيئة ممكنة لهم في المدرسة.

والطلاء الجديد ليس إلا البداية. فهناك أيضًا الزينة الجاهزة التي تثبت على حواف لوحات الإعلانات، وأدوات تزيين الفصول الأخرى المتوفرة في متاجر الأدوات التعليمية، وهي أشياء مفيدة بالرغم من ارتفاع ثمنها (من الواضح أن هناك من يربح الكثير من بيعها)، لكن المهم أنها على الأرجح تترك كبير الأثر في نفوس الطلاب.

أذكر دائمًا بإعجاب أن الزينة التي ملأت فصل السيدة وورنكي كانت من صنع يديها؛ إذ لم تكن مصانع الأدوات التعليمية متوفرة بكثرة عام ١٩٦٣. لقد علمتنا كيف نعرف الوقت بمساعدة ساعة يدوية الصنع رسمتها بوجه إنسان وذراعين ثبتتهما بمسماري تثبيت ورق. الواقع أنني، بعد أن أخطأت في هجاء كلمة على لوحة الإعلانات التي أعددتها في عامي التدريسي الأول، استغرق الأمر مني نحو أربع سنوات قبل أن أصنع شيئًا أكثر إبداعًا من مجرد لوحة مكتوب عليها: «مرحبًا بعودتكم إلى المدرسة». والمضحك في الأمر أن لوحة الترحيب هذه ظلت معلقة حتى شهر أبريل!

لم أتوقف عند ذلك الحد. فهناك نوع آخر من أنواع الزينة أستخدمه عادة أسميته «مُلهمات القصص». إذ أغطي حائطًا كاملًا في الفصل بصور من نوع ما (والتي تختلف من عام لآخر)، وهكذا عندما يعجز الطلاب عن ابتكار أفكار للكتابة يمكنهم النظر إلى الصور المعلقة على الحائط لاستلهام الأفكار منها. على سبيل المثال أطلب من طلابي فور دخولهم إلى الفصل كل يوم أداء نشاط إحمائي. ولضمان تركيزهم أطرح عليهم سؤالًا أو اقتباسًا ليكتبوا عنه في دفاترهم. وإذا استعصت الكلمات على أحدهم فيمكنه استلهام الأفكار من الحائط.

أول مرة أطبق هذا الأسلوب، قررت أن أستخدم صورًا عديدة كنت قد جمعتها في السابق لأطفال رُضَّع جذابين. كانت هناك صور لأطفالٍ يلعبون ببكرات أوراق التنشيف، وأطفال تلطَّخت وجوههم بالطعام، وأطفال يحتضنون الجراء. لكن كانت هناك مشكلة في هذه الصور؛ فكل الرضَّع كانوا من البيض. أدركت المشكلة وأنا أعلق الصور، لكن موعد اليوم المفتوح كان قد اقترب، ولم أشأ أن أترك الحيطان عارية من الصور عند دخول أولياء الأمور. ثم نسيت الأمر حتى وقت ما في أكتوبر، عندما سألني أحد طلابي ويدعى براندون: «لماذا لم تعلقي صورة طفل أسمر يا سيدة ريجزبي؟»

تمنيت لحظتها أن تبتلعني الأرض. فبعد أن ظننت أنني تمكنت أخيرًا من مهنة التدريس شعرت ثانية بالفشل الذريع. بالطبع لم أتعمد عدم مراعاة شعور غالبية طلابي، بل لم أتمكن من العثور على صور لأطفال سُمر، أو من أصول لاتينية أو آسيوية. وهذا بالضبط ما قلته لبراندون، ووعدته بأن أستمر في البحث. وبالفعل استمررت في البحث لكنني — كما توقعت — لم أجد مرادي. لذا دخلت الفصل ذات يوم وأزلت كل الصور.

بعدها شرحت المشكلة للطلاب وطلبت منهم المساعدة. فظلوا على مدار أسابيع يحضرون لي صور أطفال مختلفة؛ صورهم وهم صغار، أو صور إخوانهم، وأبناء أعمامهم وأخوالهم، وأبناء إخوانهم وأخواتهم، أو صور أطفال جيرانهم. أصبح الفصل مهرجانًا لصور الأطفال! وقد أحب الطلاب كتابة قصص عن الأطفال كلما نظروا إلى حائط الصور.

وفي عام آخر أردت وَضْع لوحة تبرز مواهب الطلاب الشعرية. فأحضرت الأحرف المكونة لعبارة «الغوص في عالم الشعر». ثم طلبت من تشارلي — أمهر رسام في الفصل — أن يرسم صورة رائعة تتناسب مع تلك العبارة. وعلى الفور بدأ تشارلي العمل، وفي اليوم التالي حضر إلى الفصل حاملًا صورةً رائعة لضفدع، رجلاه الأماميتان ممدودتان، ويقفز من منصة قفز (موضوعة على ورقة زنبقة طافية) إلى بركة. بعد تثبيت رسم تشارلي على اللوحة، بدأت أثبت أشعار الطلبة حولها كأنها البركة التي يغوص فيها الضفدع. لأصدقكم القول، كانت هذه اللوحة نقطة تحول في محاولتي لجعل الفصل مكانًا مميزًا للطلاب ومميزًا بالطلاب. منذ تلك اللحظة توقفت عن شراء زينة الفصل من المتاجر. وبدأت أستخدم أعمال الطلاب ومشاريعهم، فنحن الذين نصمِّم حائطنا كل عام. وهذه فرصة للطلاب المبدعين لعرض أعمالهم المبتكرة.

اعتدت خلال العامَين السابقَين أن أقطع لوحة ورقية كبيرة من لفافة الورق دون مقص، لتكون حافتها غير منتظمة وخشنة، وأكتب عليها «استراتيجيات القراءة التي نستخدمها». (أنا لست فنانة ولذا فهذه فكرتي عن الفن التجريدي.) ثم يختار كل طالب حجم الورقة الذي يريده، ويقصها بشكل تجريدي أيضًا، ويكتب الاستراتيجيات عليها. بعدها نعلِّق كل الأوراق على الحائط لتشكل عملًا هائلًا من الفن التلصيقي، وأشير إليها طوال العام عندما أتحدَّث عن استراتيجيات القراءة. وقد شاهدت أيضًا الطلاب ينظرون إليها وهم يقرءون؛ إذ أصبحت بمنزلة دليل للقراءة وعمل فني في آنٍ واحد. فهي ملونة ومزينة (فضلًا عن انخفاض تكلفتها)، ولن تعثر عليها مطلقًا في متجر الأدوات التعليمية. ونظرًا لتفرُّدها وارتباطها بالفصل وطلابه، فإنها تجعل الكل يشعر بالانتماء، ويشعر أن المدرسة أصبحت بيته الثاني.

السيدة فيل

بالرغم من مرور سنوات طويلة، ما زلت عندما أغمض عينيَّ أذكر معلمتي في رياض الأطفال، السيدة فيل. كان فصلها مهرجانًا ضخمًا مبهجًا من علب الطلاء الكبيرة وأكوام الأوراق الملونة وأكواب ألوان الشمع. اعتادت كل يوم أن تبث في طلابها المحظوظين السعادة وتلهمهم، وتجعلهم يبتكرون الأشياء ويتعلمون بحق بابتهاج وحب.

ثمة موقف لن أنساه أبدًا؛ طُلب منا اختيار موضوع والحديث عنه أمام الجميع، فوقفت كاميل أمام باقي الطلاب من الأولاد والبنات، وفتحت ببطء حقيبتها الورقية بنية اللون. انبهرنا جميعًا عندما أخرجت كاميل جناح الفراشة الذي ارتدته في حفل راقص سابق. وكان الجناح الورقي لامعًا ورائعًا. لاحظت السيدة فيل كيف ملأت الغيرة نفوس الفتيات العشر الجالسات على الأرض. لكنها لم تتحدث عن تلك المشاعر السلبية قط. فعبرت الغرفة وفتحت خزانتها ثم أخرجت سريعًا بعض الأدوات. جلست معلمتنا أمامنا وبدأت تتكلم معنا عن الرقص والتقدم في العمر، في حين أعملت المقص في مجموعة من الورق الشفاف القرنفلي والأرجواني والأزرق المائي. ثم فردت لفافات من الورق الرقيق المجعد، وأخذت تدبس أجزاءً منه هنا وهناك. وبابتسامة، نادَت أسماءنا وألبست كلًّا منا جناحًا جميلًا. بعدها اصطحبتنا إلى الخارج، فذهبنا إلى التلال الخضراء خلف المدرسة لنجري بحرية، ونرفرف بأجنحتنا.

تعلمت ذلك اليوم أمرَين؛ أن المدرسة مكان تحدث فيه أمور رائعة وساحرة، وأن المعلمين لديهم أيادٍ وقلوب خارقة.

جين موزي، معلمة الصف الأول بمدرسة بنجامين فرانكلين الابتدائية في مدينة لورنسفيل بولاية نيوجيرزي، الحاصلة على لقب معلم العام في نيوجيرزي عام ٢٠٠٩

خلق مغامرة

يرى البعض أن الفصل المزين بزينة كثيفة، قد يشتت انتباه الطلاب المصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه. وبوصفي والدة طفل مصاب بهذا الاضطراب، وبوصفي معلمة للعديد من الأطفال المصابين به، أتفهم تمامًا مخاوف هؤلاء، لكنني لم أضطر يومًا طوال مدة عملي في التدريس إلى إبعاد نظر طالب عن الحائط. بل إن ما لاحظته بدلًا من ذلك هو أثر الزينة على الطلاب الذين قالوا: «هذه الغرفة رائعة! أتمنى أن تكون فصلي!»

زرت ذات مرة فصلًا في مدرسة ابتدائية، استعانت معلمته بأوراق اللوحات لبناء «كهف» ثلاثي الأبعاد يحيط بباب الفصل. وهكذا إذا أراد أي شخص — بما في ذلك البالغون — دخول الفصل، فسيتحتم عليه النزول على ركبتَيه والمرور من باب الكهف. أما داخل الفصل فقد وُضعت أجهزة الكمبيوتر في خيام، والحيوانات في أحواض وأقفاص. سألت طالبًا عن رأيه في الفصل. قال: «إنه ليس فصلًا. بل مغامرة.» حينئذٍ تيقَّنت أنني أريد فصلي أن يكون مغامرة أيضًا.

لذا وأنا أزين فصل القراءة الخاص بي منذ عدة سنوات، كنت أحمل تلك الرغبة بداخلي. بدأت باختيار الفكرة العامة. فبما أن القراءة «تأخذك إلى مختلف الأماكن» فقد اقتبست عنوان كتاب دكتور زوس «الأماكن التي ستذهب إليها» وجعلته شعارنا. اشتريت أحرفًا إسفنجية ملونة بارتفاع أربع بوصات، وكوَّنت بها عبارة «الأماكن التي ستذهب إليها»، وعلقتها بعرض الحائط الخلفي في الفصل. ثم غطيت الطاولات بقماشٍ ملون طُبعت عليه أحرف الهجاء، كنت قد دخلت متجرًا للأقمشة، ورأيت ذلك القماش المضلع الجميل الذي تناسبت ألوانه مع الألوان الأساسية للأحرف المستخدمة في الفصل.

بعدئذٍ زرت موقع إيباي على الإنترنت، واشتريت خيمةً حمراء وأقمتها في الفصل. في ركن آخر هيأت المكان للراحة، بوضع مقعدٍ وأرفف ومصباح للقراءة وسجادة. «ركن القراءة» الثالث ضم كرسي بحر ومنشفة ودلوًا مليئًا بالكتب. وعلقت على الحائط فوق كل ركن شريطًا كُتبت عليه عبارة مختلفة. ففوق ركن الخيمة كتبت «إلى الجبال …»، وفوق ركن المقعد والسجادة كتبت «وعودة إلى المنزل». أما بين كرسي البحر والمنشفة، فعلقت عبارة «إلى البحر الأبيض بزبده». فالفكرة تكمن في أن القراءة إذا كانت تأخذك إلى أماكن مختلفة، فقد يأخذك الكتاب إلى الجبال، وإلى المنزل المريح، وحتى إلى المحيط.

تشوَّقت في ليلة اليوم المفتوح لمعرفة رأي طلابي الجدد في الفصل. وكان رد الفعل لا يُصدَّق! في البداية اقترب مني معلمٌ آخر، وأخبرني أن ديكور فصلي يجعل فصله يبدو مثل «غرفة بمستشفى». دخلت فصله لأجد بالطبع الحيطان البيضاء تحدق فيَّ. فعرضت عليه بعض الزينات التي تبقَّت لديَّ، وأعطيته بعض النصائح فيما يتعلَّق بكيفية صنعه لزينته الخاصة. ثم وقفت في فصلي لاستقبال الطلاب وآبائهم، وأدهشني عدد الزوار الذين دخلوا فصلي. لم تكن فصولي كبيرةً جدًّا بهذا الشكل؛ إذ كان يضمُّ كل فصل مجموعةً صغيرة من الطلاب، لكن مئات الأشخاص دخلوا فصلي ذلك اليوم. وقال الكثير منهم: «لقد سمعت عن فصلك، وأردت فقط أن أشاهده بنفسي.»

في أول يوم دراسي جاءني طالب لم أكن أدرس له، وأعطاني دلاية على شكل نجم البحر. وقال لي: «شاهدت أمي فصلك. وتريدك أن تعلقي هذه الدلاية في ركن المحيط.» أحب طلابي أيضًا الفصل. وفي أول يوم دراسي رجوني أن أدعهم يقرءون في الخيمة. فقال كيون: «أنا لا أحب القراءة، لكن إذا سمحت لي بالجلوس في الخيمة فسأقرأ، سأقرأ …»، ثم نظر حوله في دلو الكتب واختار كتابًا، وأكمل: «سأقرأ هذا الكتاب». وهذا ما حدث بالفعل.

لكن للأسف أرغمني المسئول عن الحرائق بالمدرسة أن أتخلص من الخيمة فور بداية الدراسة، ومع هذا ما يزال الطلاب يتحدثون عنها رغم مرور عدة أعوام على إزالتها. فتلك الخيمة ساعدتني في خلق مغامرة في فصلي كما تمنيت.

شعرت ذلك العام بالفخر بفصلي، واستمتع طلابي حقًّا بالبقاء فيه، لكنني لم أتمكن قط من محاكاة ديكور أجمل فصل رأيته في حياتي، والذي كان فصل الصف الثالث الذي كانت تدرِّس له زميلتي العزيزة أليس. بدايةً، لقد وضعت أليس قفصًا زجاجيًّا بديعًا للطيور على مستوى نظر الطلاب. وقد تابع الطلاب بشغف دورة حياة تميمة حظ الفصل وهو طائر الحَسُّون المخطط الأسترالي، وشاهدوه وهو يبيض كل تسعة أشهر.

على يمين قفص الطيور، كان يوجد حوض استحمام رباعي الأرجل مصنوع من البورسلين، وهي إضافة أخرى مثيرة للاهتمام وضعتها أليس في فصل ابتدائي. امتلأ الحوض بمختلف أنواع الوسائد، وقد تشاجر الطلاب للاسترخاء فيه والقراءة. كانت أليس قد طبعت عبارة الشاعر شيل سيلفرستاين «في هذا الحوض يوجد أطفال كثيرون للغاية»، وعلقتها فوق ركن القراءة. وإلى يمين حوض الاستحمام كان يوجد كشك هاتف حقيقي، يشبه الكشك الذي يستخدمه سوبرمان لتغيير ملابسه، وهو مكان آخر يحفز الأطفال على القراءة. ترك سوبرمان نظارته في الكشك، ومسموح لأي طفل ارتداؤها وقراءة كتاب ليصبح «قارئًا خارقًا».

أضف إلى ذلك أن أليس أعدت مساحة مرتفعة — أسمتها «عِلية الجدة» — يمكن للأطفال تسلقها، والقراءة فيها بجوار دمية بحجم شخص حقيقي اسمها «الجدة»، لها ذراعان مرنتان يمكنهما احتضان الطفل. والشيء الوحيد المتبقي لتكتمل أماكن التعلم الجذابة تلك كان هو الكتب التي تراصَّت على أرفف، أسفل تلك المساحة المرتفعة.

هذا هو ما أبحث عنه لأحفز طلابي على العمل، ولأشعرهم وكأنهم «في البيت» في المدرسة؛ إذ أردت أن أنقل لهم نفس شعوري في اليوم الأول لي في فصل السيدة وورنكي.

التركيز على الطلاب

إن إشاعة جوٍّ أسري في المدرسة لهو أمرٌ مهم بالطبع؛ ليشعر الطلاب بالراحة كما لو كانوا في البيت. وقد اتضح لي أن الطلاب يكونون أكثر استعدادًا للتعلم عندما يشعُّ جوٌّ أسري في الفصل. لهذا وجدت أن السماح للطلاب بتعليق صور طفولتهم دائمًا ما يوثِّق أواصر الصلة بيننا، لكنني قرَّرت اختبار شيءٍ جديدٍ العام الماضي. أعددت صورًا ظلية لكل طالب متبعةً أسلوب معلمات المدرسة الابتدائية الفعال، وهو استخدام جهاز الإسقاط الضوئي ليقع ظل الطالب على ورقة، ثم تتبع الظل على الورقة بقلم.

بدأنا العام الدراسي — حرفيًّا، في اليوم الأول من الدراسة — بكتابة موضوع عن تاريخنا مع القراءة. ولتوضيح المطلوب من الطلاب، قرأت عليهم ما كتبته حول كيفية تعلمي القراءة في فصل السيدة وورنكي، وأنواع الكتب التي فضلت قراءتها في المرحلة الثانوية والجامعية وبعد التخرُّج. بدأ الطلاب أيضًا يكتبون عن تاريخهم مع القراءة، في الوقت الذي ناديت فيه طالبًا تلو الآخر، وأوقفته أمام جهاز الإسقاط الضوئي، وسلطت عليه الضوء، ورسمت صورةً جانبيةً ظليةً له على ورق أسود وبني. (اخترت اللونَين الأسود والبني ليتباينا مع الألوان الأساسية الغزيرة في الغرفة، وهي إحدى محاولاتي الأخرى لإضافة لمسة فنية.)

بعد تنقيح موضوعات الطلاب من كتابة الموضوعات وإعادة كتابتها من قبلهم، علقتها خارج الفصل، كل موضوع مصحوب بالصورة الظلية لكاتبه. في اليوم التالي كان الحال أشبه بمهرجان خارج الفصل. إذ اجتمع كل طلاب الصف الثامن خارج فصلي في محاولة لمعرفة صاحب كل موضوع، عبر النظر إلى الصور الظلية قبل قراءة الاسم المكتوب على الموضوع. صورتان بالذات حيرتا الجميع بما فيهم أنا؛ إنهما صورتا التوءمَين اللذين كانا في فصلي ذلك العام، جمال وجالين. حتى إن الفَتيَين أنفسهما لم يفرِّقا بين صورتَيهما.

وبعد عرض موضوعات الطلاب لبعض الوقت، أزلتها في النهاية، ووضعتها في ملفات كتابة، تمهيدًا لإعادتها للطلاب. لكن نفسي لم تطاوعني أن أضع الصور الظلية في الملفات. فنثرتها على طاولة أمامي في الفصل. ونظرت إلى صور طلابي كلهم، وشعرت برغبة في الاحتفاظ بها. وهكذا استعرت أطول سلم عثر عليه حارس المدرسة، وصعدت للصقها على السقف على جانبي فتحات الإنارة. ظلت تلك الصور طوال العام جزءًا من الفصل، وكثيرًا ما نظر إليها أصحابها وتحدثوا عنها.

السر في الألقاب

لطالما أحببت مناداة أسماء الطلاب من القائمة في أول يوم دراسي. يكون أول يوم صعبًا لأنني لا أعرف أسماء الطلاب وهناك مجال كبير لارتكاب الأخطاء. ولا شيء أسوأ من الخطأ في نطق اسم طالب بالمدرسة الإعدادية. وأكبر دليل على ذلك طالبتي السابقة تشاسيكا. فاسمها يُنطق تشاسيكا في حين يُكتب تشاسكيتا. وفي أول كل عام كانت تخطئ المعلمات في نطق اسمها، وأنا من بينهم بالطبع. وقد آلمني بشدة التعبير الذي ارتسم على وجهها عندما أخطأت في نطق اسمها، عندما أصبحت طالبة عندي في الصف السابع، وقد اعتادت سماع الاسم الخطأ.

أخطأت مرات عديدة في نطق أسماء الطلاب، وسببت لهم الحرج بجذب انتباه الجميع إليهم. وفي أحيان أخرى لم أعلم أن الطالب معتاد على الرد عند مناداته باسم أبيه. أو أن له لقبًا لا أعلمه. وتذكرت كيف اعتاد الأساتذة أيام دراستي الجامعية مناداة كل شخص باسم عائلته، ففكرت في اتباع نفس الأسلوب في فصول المدرسة الإعدادية. وهكذا أصبحت أنادي اسم عائلة الطالب، وبدل أن يجيبني قائلًا: «هنا» أو «موجود»، يخبرني بالاسم الذي يريدني أن أناديه به.

وبالطبع أسمع أسماءً غريبةً كل عام. ففي أحد الأعوام رفع طالب صغير جدًّا رأسه وهو جالس في مقعده آخر الفصل بعد أن ناديته باسم عائلته، وأجابني: «اسمي سنوب دوجي دوج (الكلب سنوب)!»

فقلت له: «حسنًا، يا سنوب. وماذا تدعوك والدتك يا سنوب؟»

فهمس قائلًا: «ليروي.» أوه، هكذا صدق ظني أن له اسمًا تقليديًّا آخر. ولكن طوال العام كنت أنادي ذلك الصبي الصغير «سنوب بابي باب (الجرو سنوب)»؛ لأنه كان صغير الجسم جدًّا. وفي مرات أخرى ناديته «باب» فحسب. وقد أحب الاسم كثيرًا.

سرعان ما تتحول ألقاب كهذه إلى أسماء تدليل. ذات عام كنت أنادي قائمة أسماء الطلاب الجدد، وعندما ناديت اسم عائلة طالبٍ معينٍ ردَّ عليَّ قائلًا: «أنتوني». رفعت بصري ونظرت إليه، فوجدته — صدقًا — أجمل طفل أراه في حياتي. فقلت له دون تفكير: «حسنًا ألست جميلًا كالبقة الصغيرة؟» فانفجر الفصل كله ضاحكًا، وخشيت أن أكون قد أحرجت الصبي. لكنه ابتسم ابتسامة عريضة، وربَّت عدة طلاب على كتفه وهم يكرِّرون الاسم: «البقة».

بالطبع علق الاسم به. وأصبح هذا الاسم اسم الصبي بعد ذلك. الآن صار أنتوني رجلًا ناضجًا، لكنه ما زال يدعو نفسه البقة. وسيظل دائمًا البقة في نظري.

إن إطلاق ألقاب على الطلاب يجعلهم يشعرون بتفرُّدهم وبأنهم محبوبون، ويساعدني في خلق الجو الأُسْري الذي أبتغيه في فصولي. في أحد الأعوام كانت لديَّ طالبةٌ تدعى كريسي اعتادت تمشيط شعرها في الفصل باستمرار. كنت أقف في مقدمة الفصل أشرح الدرس، في حين تفرد كريسي شعرها على مكتبها، وتظل تمشطه بالفرشاة حتى أشير لها بالتوقف عن ذلك. بالطبع سرعان ما أصبح اسمها بريسي (المتأنقة) بدلًا من كريسي. وأصبحت أطلق على نيكول اسم نيك ناك بادي واك، ولورا أسميتها لورا لو، أما ديانا الفتاة المشاغبة الضئيلة الجسم فقد أسميتها بي وي. وموريس أصبح بينات هيد، والفتاة الجميلة دياموند ستظل دائمًا تدعى دياموندز آند بيرلز. وما زلت أتلقى رسائل إلكترونية من طالبتي هوانيشا المسجلة في وثيقة ميلادها هوانيتا.

بالطبع أشعر بالامتنان دائمًا لكل «الجدَّات» في فصولي. إذ تظهر في فصولي كل عام شخصية فتاة قائدة، تتصرف وكأنها أم للجميع. لهذا أطلق على تلك الفتاة اسم «الجدة». في أول مرة أطلقت هذا الاسم على فتاة — منذ أعوام عدة — خشيت أن يكون له تأثير سلبي، لكنني سرعان ما اكتشفت أن الاسم يروق لتلك الفتيات دائمًا. كانت تشاسيكا واحدة من تلك الفتيات الجدَّات، وهو دور لعبته دومًا بابتسامةٍ عريضةٍ على وجهها.

التصرف ببعض الجنون

إن إطلاق الألقاب على التلاميذ هو الخطوة الأولى لبناء تلك العلاقات المهمة للغاية داخل الفصل. ولكن من الخطوات الأخرى التي أقوم بها التصرف بجنون كلما سنحت الفرصة. فأحد أهدافي ألَّا يشعر طالب في فصلي بالملل ولو للحظة واحدة.

على سبيل المثال لم أتخلَّ يومًا عن شغفي بالتشجيع، حتى بعد كل تلك السنوات الطويلة التي قضيتها في التدريس. ففور أن أتلقَّى إجابة صحيحة أو ألاحظ سلوكًا سليمًا، تجدني أرفع ساقي عاليًا في الهواء في حركة تشجيع حماسية. أول مرة فعلت ذلك أمام الفصل أصيب طلابي بالذهول والصدمة من «المرأة العجوز» التي يمكنها رفع ساقها كل هذه المسافة. ومنذ ذلك الحين وهم يرجونني أن أكرر الحركة، ويحاولون دائمًا قول الإجابة الصحيحة لأحييهم بتأدية «حركة المشجعات».

ذات مرة تفوه طالب بالكلمتين اللتين أمقتهما من طلاب المدرسة الإعدادية: «أشعر بالملل»، حينئذٍ أمام الفصل كله التفتُّ إلى الخلف، وسرت باتجاه الحائط، ثم استدرت للأمام، وتشقلبت في الهواء مرتكزة على يديَّ. وبالطبع نجحت المفاجأة في جذب انتباه الجمهور.

الملابس أيضًا يمكنها جذب الانتباه. أنا أفضل زيَّ الجنية. ولديَّ أزياء لجنية القراءة، وجنية الاختبار، وجنية التركيز. فأنا أخبِّئ جناحَين ووشاحًا وعصًا في خزانتي، وفور رؤية طالب شارد الذهن، أقول: «أوه، حان وقت إخراج جنية التركيز!» وأرتدي الزيَّ، ثم أبدأ في الرقص حول مقعد الطالب، والنقر بالعصا هنا وهناك وأنا أردِّد «ركز، ركز، ركز …»

fig6
جنية التركيز تنقر بالعصا فوق رأس سافانا.

ذات عام أعطتني معلمة مضربًا للذباب لأستخدمه في الفصل. كان المضرب أخضر اللون يحمل زهرة ربيع زينة بيضاء كبيرة بأحد جوانبه. لم أستخدم المضرب ذا الوردة لقتل الذباب مطلقًا. بل أسميته «وردة التركيز». عندما ينشغل الطلاب بأحاديث جانبية وأنا أشرح، أمسك بوردة التركيز وأضرب بها أحد المقاعد أو السبورة أو كتابًا أو خزانة. فيفزع كل الطلاب وينفجرون في الضحك. ويعلن أحدهم حينئذٍ دائمًا: «لقد فقدَت عقلها مرة أخرى!» لكن الأهم من ذلك أنني أستحوذ على انتباه الجميع في تلك اللحظة.

ومن الوسائل التي تؤدي إلى نتائج مشابهة إصدار أصوات غريبة، والغناء (للأسف لا أجيد الغناء)، والرقص (ما أصعب حركات الرقص في المدرسة الإعدادية)، والفقرات الكوميدية (وارتفاع الصوت عامل أساسي في نجاح ذلك). فكل هذه الوسائل تجذب الأعين نحوي في ثوانٍ معدودة. ومن الوسائل الأخرى التي أشتهر بها لجذب انتباه الفصل ربط الدروس بقصص عن كلبي، وتقليد صوت نباحه لتوضيح القصة؛ إذ سرعان ما تُوقظ تلك القصص الطلاب الشاردين في أحلام اليقظة.

مثل هذه التصرفات غير المتوقعة كفيلة بإعادة الطلاب إلى حالة التركيز، لكن دعونا لا ننسى أن الأنشطة المعتادة المتوقعة تساعد أيضًا الطلاب على إعادة تركيزهم. فمثلًا يسعد الطلاب بتكرار عبارتهم المفضلة «هذا ظُلم». وتكون إجابتي دائمًا بنفس الكلمات وهي: «الظلمة هي ما يحدث ليلًا أو بعد انقطاع الكهرباء.» بعد أسبوعين يردد الطلاب إجابتي، وسرعان ما يتوقفون تمامًا عن التذمر من الظلم.

ومن الأنشطة الأخرى القريبة إلى قلبي تخصيص أغنية للفصل. وقد وقع اختيارنا في السنوات الأخيرة الماضية على أغنية «لم يُكتب» للمغنية ناتاشا بيدنجفيلد. نبدأ بالاستماع إلى الأغنية وقراءة كلماتها معًا، ثم مناقشة معانيها. ثم أسأل طلابي عن معنى عبارة «اليوم يُسطر أول فصل في كتابك. أما الباقي فلم يُكتب بعد.» بعدها أطلب من كلٍّ منهم وضع جدولٍ زمني لحياته. والطلاب يعرفون كيفية وضع الجداول الزمنية. فقد وضع عددٌ كبيرٌ منهم الكثير منها على مدار سنوات الدراسة. لكن الجدول الزمني الذي أطلبه منهم مختلف. فهو لا يبدأ يوم ولادتهم، بل يبدأ يوم فرض تلك المهمة عليهم ويتنبأ بأحداث مستقبلهم. وهذه المهمة مهمة بالطبع، لكن أمتع شيء هو تشغيل الأغنية في أوقات منتظمة، والرقص على أنغامها وترديد كلماتها. ولم يحدث أن طلب أحدٌ من خارج الفصل خفض الصوت سوى مرةٍ واحدة.

أما إذا أردت أن أتصرف بجنون حقيقي فأبدأ في قذف الأشياء. أحيانًا أقذف الحلوى عشوائيًّا. (أعلم أن البعض قد يرى الحلوى وبسكويت الدجاج الذي أحضره معي إلى الفصل بشكل منتظم، والبيتزا التي أطلبها مأكولات تشجع الطلاب — والمعلمين — على البدانة، لكنني أعتقد أن الرقص يوازن ذلك.) لكن أفضل شيء أقذفه هو «القلادة الذكية». ففي أحد الأعوام وزع علينا شخص في إحدى الحفلات قلائد من الخرز الأخضر كالتي تستخدم في الأعياد. ونظرًا لأن حيطان المدرسة مطلية باللون الأخضر فقد أحضرت القلائد معي، وعلقتها في أرجاء الفصل لتزيينه. ذلك اليوم أجاب طالب إجابة رائعة ومتكاملة، من دقتها بدأت أنظر حولي بحثًا عن مكافأة أقدمها له.

وعلى الفور أمسكت بقلادة من القلائد المعلقة على الحائط، وقلت له: «مكافأتك أن ترتدي هذه القلادة الذكية!» بدا الأمر كما لو أنني أعطيته مليون دولار! لكن منذ ذلك الحين وكل طالب في الفصل يطمح في ارتداء إحدى تلك القلائد، حتى إن بعض الطلاب كانوا يأتون من فصول أخرى ويقولون: «أيمكنني الحصول على بعض تلك القلائد؟»

بوجه عام، يعيد الطلاب القلائد بنهاية الحصة، وأعلقها على خطاف فوق السبورة استعدادًا لمكافأة الإجابات الصحيحة في الحصة التالية. لكن يحدث من آنٍ لآخر أن يُخطئ طالبٌ وينسى تسليم قلادته ويخرج بها، وعلمت من معلمات أخريات أن قلاداتي تسبب أحيانًا مشاكل في فصولهن. إذ يبدو أن التلاميذ يطلبون من أصدقائهم ارتداء القلادات، وهم يتنقلون بها بين الفصول. وذات مرة عادت قلادة في اليوم التالي فضية اللون بعد غسلها بطريق الخطأ في الغسالة. ومنذ ذلك الحين تلهف كل التلاميذ على الحصول على القلادة الفضية، حتى ذهبتُ إلى متجر أدوات الحفلات واشتريت كل الألوان المتاحة. كان من الأفضل منح الطلاب فرصة الاختيار بدلًا من سماعهم يتوسلون.

الحصول على مؤشر

لعبت الألوان دورًا كبيرًا في إضفاء السحر على فصلي بشكل آخر أيضًا، وحدث ذلك بعض الشيء بالصدفة. منذ بداية عملي في مهنة التدريس وبعد الدرس الذي تعلمته من موت والد كيرتس، أصبحت أفتخر بمراعاتي لمختلف ظروف الطلاب ومشكلاتهم. لكنني تعرضت لموقف العام الماضي احتجت فيه لمراجعة ذلك الدرس الذي تعلمته.

ذات يوم دخل الفصل طالب يدعى جايمي وهو مضطرب جدًّا. وشاهدته وهو يضرب كل شيء في متناول يده على مكتبه مثل كوب الأقلام، ولوح تزلج لعبة أخرجه من جيبه ومشبك الأوراق الخاص به الذي ظل يفتحه ويغلقه، مُصدرًا صوت طقطقة مزعجًا. لم أتمكَّن من حمله على التركيز، إذ رفض الإنصات إلى شرحي. وظل يقهقه ويتحرك، ويتأرجح في مقعده للأمام والخلف لمدة ثلاثين دقيقة متواصلة. حذرته عدة مرات، واستخدمت جميع الوسائل لجذب انتباهه. وفي النهاية لجأت إلى «الملاذ الأخير». هددته بالاتصال بوالدته.

حرك رأسه بسرعة وصرخ فيَّ قائلًا: «لن تجديها!!» فظننت أنه يعني أنها في العمل، واتصلت بمنزله بالرغم من ذلك. رد والده على الهاتف وقاطع حديثي المتدفق قائلًا: «معذرة على المقاطعة، لكن لا بد أن أخبركِ أن والدة جايمي رحلَت ليلة أمس.»

انتابني حزن شديد، وأدركت أن سلوك جايمي مبرر تمامًا. بعد كل هذه السنوات ظننت نفسي ماهرة في معرفة ما إذا كان أحد طلابي لديه مشكلة أم لا، لكن من الممكن أن يكون من الصعب على المعلم أن يرى الفرق بين مشاغبات المراهق المعتادة، والصدمات التي تغير حياة الطفل. فنحن بشر في النهاية ولا يمكننا معرفة كل شيء. لذا في ذلك اليوم، بعد الخطأ الفادح الذي ارتكبته بحق جايمي، ابتكرت طريقة غيرت الفصل بعدها؛ ألا وهي بطاقات الحالة المزاجية.

ذهبت إلى متجر للأدوات المكتبية وابتعت أكوابًا معدنية صغيرة بعدد المقاعد في فصلي. كانت الأكواب مصممة لتحمل مشابك الورق أو دبابيس الرسم، لكنها استُخدمت في فصلي لتحمل بطاقات الحالة المزاجية. فكل كوب يحمل خمس ورقات مربعة الشكل ومختلفة اللون، كل لون منها يمثل حالة مزاجية:
الأحمر يعني «أنا غاضب، فتجنبوني.»
البرتقالي يعني «أنا منزعج أو مضطرب.»
الأزرق يعني «أنا حزين.»
البني يعني «أشعر بالملل.»
الأخضر (أفضل بطاقة) يعني «أنا سعيد واليوم رائع!»

أحب الطلاب تلك البطاقات. وإذا حضر أحدهم حزينًا بسبب أمر حدث في البيت أو في حصة سابقة، نعلم جميعًا أننا يجب أن نتركه وشأنه لبعض الوقت. في بعض الأيام أدخل الفصل لأجد طالبًا يضع الخمس بطاقات على المكتب. فأقول له: «لا يمكنك أن تشعر بكل هذه الأحاسيس في آنٍ واحد!» لكنني أتذكَّر حينئذٍ أنني أتعامل مع طلاب في المرحلة الإعدادية.

طلب مني طلابي إجراء تغييرين. أولهما: أن أضيف بطاقة وردية اللون تشير إلى الوقوع في الحب، وهو طلب نفذته وأنا أضحك. وثانيهما: أن أحدد حالتي المزاجية بشكل ما على السبورة. لذا صنعت لافتة صغيرة كتبت عليها «حالة المعلمة …» وكل يوم أضع بطاقة خضراء على السبورة بجوار اللافتة. لكني في بعض الأحيان أداعب الطلاب بأن أتجه نحو السبورة، وأضع البطاقة الحمراء. فيقولون: «أوه، إنها غاضبة الآن!»، فأرسم على وجهي تعابير الانزعاج.

بعد أن اعتدنا استخدام بطاقات الحالة المزاجية، حدث موقفٌ آخر ترك أثرًا مهمًّا في طلاب فصلي. فكلما كان يضع طالب البطاقة الحمراء على مكتبه، كنت أسأله إن كان يفضل الحديث عما يغضبه. والآن أدركت أنهم يتوقون بشكل شبه دائم لذلك. في البداية أسمينا هذه النقاشات «المشكلات»، ثم أسمينا الوقت الذي كنا نمارسها فيه وقت «المشكلات والاحتفالات». وهكذا نبدأ كل حصة بوقت المشكلات والاحتفالات. فأستمع إلى مشكلات الطلاب التي تتعلق بشعورهم بالإحباط في المنزل أو في حصص أخرى، ثم أستمع إلى تلاميذي من الأبطال الرياضيين عن عدد النقاط التي أحرزوها في مسابقات اليوم السابق. غدت هذه الممارسة من أهم أنشطة يومي؛ فهي تساعدني على الاقتراب من طلابي، وتساعدهم على التنفيس عن غضبهم والاحتفال في بيئة آمنة.

تعد هذه المناقشات إحدى الطرق التي تجعل فصلي مكانًا أفضل للتعلم. فالطلاب يعلمون أنني سأبذل ما بوسعي لأضمن نجاحهم. إنهم لا يعلمون ذلك فحسب، بل يقرءونه كل يوم. فأنا أعلِّق عبارة «مهما تطلَّب الأمر» في مقدمة الفصل بأحرف ارتفاعها يزيد عن خمس بوصات. وأخبر طلابي أنني مستعدة للقيام بأي شيء لمساعدتهم في تحقيق النجاح، حتى إن تطلَّب ذلك الوقوف على رأسي! (لحسن الحظ لم يطلب أحدهم مني ذلك حتى الآن.) وبجانب تلك العبارة علقت أشياء أخرى. فهناك صورة ضخمة لإصبع تشير إلى الفصل. وبجوارها كُتبت عبارة «أنا أثق بكم». وطلابي يعلمون ذلك جيدًا.

وبمرور الوقت، بدأت أنا أيضًا أثق في قدراتي كمعلمة. وتمكنت أخيرًا من رؤية المقومات التي رأتها السيدة وورنكي فيَّ منذ أعوام طويلة. وكلما تركت أثرًا في حياة طلابي، تذكرت عامي الأول في المدرسة الابتدائية، في محاولة لأن أنتهج نهج تلك المعلمة الملهِمة. إنني أجرِّب كل فكرة تخطر على بالي — كالمفاتيح التي تحدثت عنها السيدة وورنكي — وأبذل كلَّ ما بوسعي لأكون معلمةً صالحة، تفتخر بها معلمتي في الصف الأول.