الرسالة الثامنة
•••
•••
وآه لو رأيت عينيها أيها الصديق تغزِلان غزْل السحر خيوطًا خيوطًا تلتمع واحدًا من شعاع الحرير في واحد من شعاع الشمس، آه لو يتبيَّن لك مكتومها في بعض نظراتها الساجية الطويلة التي تغفُل فيها عن كل حذر، وترسل فيها كل خواطر الحب، وتمدها إليك وكأنها تقول: خذ هذه النظرة وانظرني أنت بها لتطَّلع على ما في قلبي، ثم تُرخيها بفتور لين كأنما تصارحك أنها سئمت مقاومة فكرها، وتريد أن تميل إلى صدرك ولو بلحظة من عينيها … كل شيء فيها من نتائج فكرها إلا تلك النظرات فإنها وحدها نتائج قلبها.
تنكر عليَّ أيها العزيز وصفي إياها بالفلسفة ونعتها بالذكاء النادر والشِّعر العجيب وتقول: «إن هذا من سحرها فيك، وإنها لو بلغت مبلغًا مما وصفتَ أو دونه لتوكدت بينك وبينها علائقُ من تحت النفس ومن فوق القلب، ولكنك تصفها بما لا يتصوَّر في وهم ولا يهجس في ظن إلا وهمك أنت وظنك أنت لأنك أنت …».
•••
لقد كنت إذا جاش بي حبها وثار منه ثائره فحاولت أن تربط على قلبي وتُثبت هذا الفؤاد القلق؛ جاءت بكلام نضر تنبت منه السلوة في الحب القفر الذي لا يُنبت شيئًا؛ وجعلت الملائكة تنزل في العش الذي بناه الشيطان لنفسه في القلب وعشش فيه؛ فلو أن كل حبيبة مثلها وكل محب مثلي لكان الحب تغييرًا في الإنسانية، ولما احتاج الناس إلى قوانين وملوك، ولكن إلى حبيبات وإلى حب.
كانت تقول لي: إن القلوب الضعيفة هي التي تصدأ في فكرة واحدة تلح عليها حتى تتأكل صدأ ثم تتفتت؛ فإذا حدثت عليها الحادثة انكسرت ولم تقم لها، وبقيت زمنًا طويلًا في الهموم حتى تتعب الحوادث والأقدار المختلفة في أيام تتصرم بعد أيام إلى أن تجمع حطام القلب قلبًا متحطمًا.
ولكن القلوب القوية الصارمة ذات الصدور الجريئة الواسعة تكونها القوى المختلفة من العمل والفكر وعدم المبالاة على هيئة تجعلها مرنة في صلابة فهي تلتوي ولا تنكسر، وما أسرع ما ترجع كما كانت إذا لوتها الخيبة أو نجمت لها قاصمة من الحوادث التي هي مطارق القلوب لا تضرب إلا عليها ولا تحطم إلا فيها.
ثم تقول؛ دع الدماغ يحلم نائمًا أو منتبهًا، ولكن متى انعدل الليل راجعًا إلى مآبه واستدار النصف المضيء من الكرة فلا تجعل حلم الرأس الذي هو أداة الخيال سببًا في عذاب الحواس التي هي أدوات الواقع، واقطع من نفسك أسباب المطمعة الخيالية تجد كل شيء قارًّا في موضعه لا ينحرف ولا يضطرب ولا يتململ؛ وتذهب أحلام النوم في النوم، وتأتي حقائق اليقظة مع اليقظة وكنا في انتظارها فلا يفجأنا منها شيء، إنك ربما تأتي في أحلامك ما لا يسوغه عذر، وترى وتسمع ما لا وجود له، وتجد منزعًا من أمور ليس فيها منزع، وتموج بك العوالم كلها وأنت ساكن في نومك مستثقل حتى على الحركة الضعيفة، وحسبك بعض هذا في الدلالة على أن الدماغ لا يسكن إلى نزواته عاقل؛ لأنه مصنع المستحيلات كما هو مصنع الممكنات.
•••
آه يا عزيزي لو رأيت كيف تختلط المعاني بأنفاس شفتيها، وكيف تقبل عليك ألفاظها وفيها من اللطف واللين والرقة وألوان النفس أكثر مما في خدي عذراء سافرة بين عشاقها لا يفارقها الحياء من الألحاظ ولا تفارقها الألحاظ، إنها لتُميت داء الصدر من الوساوس والشهوات إذا هي كلمتك بتلك اللغة القلبية التي تمحق حواسك محقًا إن كنت رجلًا كريم النفس، وإذا هي استسلمت بكلماتها إليك ولكن في حماية ضميرك، تُسمعك صوت ضعفها ملتجئًا إلى قوتك وكأنها تقول لك: إن نصف كلامي هو هذا والنصف الآخر هو ثقتي بشرفك.
في المرأة الجميلة أشياء كثيرة تقتل الرجل قتلًا وتخلِجه عن كل ما في دنياه كما تخلجه المنية عن الدنيا؛ وليس فيها شيء واحد ينقذه منها إذا أحبها، بل تأتيه الفتنة من كل ما يُعلن وما يضمر ومن كل ما يرى وما يسمع، ومن كل ما يريد وما لا يريد؛ وتأتيه كالريح لو جهد جُهده ما أمسك من مجراها ولا أرسل، ولكن في الرجل شيئًا ينقذ المرأة منه وإن هلك بحبها وإن هدمت عيناها من حافاته وجوانبه فيه الرجولة إذا كان شهمًا، وفيه الضمير إذا كان شريفًا، وفيه الدم إذا كان كريمًا، فوالذي نفسي بيده لا تعوذ المرأة بشيء من ذلك ساعة تُجن عواطفه وينفر طائر حلمه من صدره إلا عاذت والله بمعاذ يحميها ويعصمها ويمد على طهارتها جناح ملك من الملائكة.
الرجولة والضمير والدم الكريم: ثلاثة إذا اجتمعن في عاشق هلك بثلاث: بتسليط الحبيبة عليه وهو الهلاك الأصغر؛ ثم فتنته بها فتنة لا تهدأ وهو الهلاك الأوسط؛ ثم إنقاذها منه وهو الهلاك الأكبر … ألا إن شرف الهلاك خير من نذالة الحياة.