الرسالة الخامسة عشرة
قبضة من هذه الأوراق جعلت بيني وبين تلك الحبيبة ما تجعل قبضة من التراب بين الحي والميت؛ إذ تنثر يد الموت من ذراتها عوالم أبدية بينك وبين من تحب أو من كنت تحب …
حسوت كأس الحب فدارت في دمي وانحدرت إلى قلبي وصعدت إلى رأسي، وهذه الرسائل هي الحقيقة التي كانت في خمرها قطرت من القلم كلامًا ومعاني، ومنذ اليوم سأضع العقل بيني وبين تلك الكأس فلا أراها إلا جنونًا ملونًا ومرضًا مزخرفًا، ثم لا أراها إلا حلمًا خمريًّا زاهيًا إن حسن بالنائم أن يستغرق فيه لا يحسن بالمتيقظ أن يلم به؛ ثم لا أعرفها إلا شيئًا يجب اطِّراحه إن لم تدعه؛ لأنه إثم فلتدعه؛ لأنه ذم.
اضطرمت النار فأكل بعضها بعضًا، وهذه الرسائل هي صوت الماء الذي صُب عليها ليطفئها فزفرت به الزفرة الأخيرة؛ ومات الهوى لما أصيبت مقاتله.
•••
تلك مسألة امتحنتني الحياة بها فما كان أجهلني؛ إذ ركبت فيها الشبهة أصرفها بعنان الحيرة فمضت تتخبط بي، إن إعجابي المجنون أخرج لي من الحقيقة الصغيرة على الأرض خيالًا في قدر السماء يتلألأ في عين الشمس على أجنحة الملائكة، وكذلك الجهل في الإنسان يخرج له من كل مسألة سهلة الحل مسألة لا تُحل أبدًا فلا يبرح الفكر يضرب فيها مقبلًا ومدبرًا، ولا ينفذ إليها إلا من الجهات المستحيلة التي لا يخرج الصواب لا من واحدة منها ولا منها كلها.
والخطأ ههنا من لا شيء وليكن اسمه بعد ذلك ما يُسمى، سمِّه مسألة فارغة أو مشكلة دقيقة أو رذيلة جميلة أو حبًّا أو امرأة … أو ما شئت؛ هو على كل ذلك خطأ من لا شيء.
•••
إن مس استقلال دولة من الدول العظمى قد يكون أحيانًا أيسر وأهون من مس استقلال نفس من النفوس الكبيرة.
كذلك حكم قانون الدم؛ وكذلك حكم هذا القانون فقضى في دمي ودمها.
أيها الجميل الذي يحسب كل شيء موطئ قدميه، إن ذَلّ لك الحي بدموعه لم يذل لك الأموات العظماء الذين استودعوا لآلئ كبريائهم الكريمة في الأصداف من عظامه تحت الأمواج الجياشة من دمه الحر، ومن لم تعزه نفسه فلا يصلح إلا أن يكون رجلًا لا يصلح.
•••
والآن سأدع صمتي يتمم كلامي، وإنه لصمت قاتم الأعماق أسود النواحي؛ لأنه مملوء بفكرة التوبيخ، مظلم شديد الحلك؛ لأن شمس الحب لا تسطع فيه، مبهم مستغلق؛ لأنه صورة الظن السيئ، موحش مقفر؛ لأنه رسم قلب حزين.