فصل تمهيدي
فكر إجمالية في الحقوق بوجهٍ عام وفي الحقوق الرومانية بوجهٍ خاص – تعريف الحقوق – تقسيمها – فائدة الحقوق الرومانية
***
لا بد لنا قبل أن ندرس الحقوق الرومانية من أن نعلم ما هي الحقوق بوجهٍ عام.
فالحقوق بمعناها الأول كانت معروفة كل المعرفة لدى الرومان. أما بمعناها الثاني فلم يتبينها الرومان بشكلٍ جليٍّ واضحٍ في بدء عهدهم الحقوقي. إلا أنهم تمكنوا من إدراكها فيما بعد وبمدة أسرع من غيرهم من الشعوب.
فالحقوق الرومانية بحسب هذا المعنى الثاني هي: مجموع القواعد الحقوقية التي نظمت علائق الرومان في حياتهم الاجتماعية زهاء ثلاثة عشر قرنًا؛ أي منذ سنة ٧٥٤ق.م التي هي حسب الشائع المتعارف سنة بناء روما، إلى وفاة الإمبراطور جوستنيان سنة ٥٦٥ب.م.
(١) تمييز الحقوق عن الدين والأخلاق
تتميز الحقوق في العصر الحديث عن الدين والأخلاق.
فالحقوق والدين يفترقان من حيث المنشأ أو المصدر، ومن حيث المؤيد. فمصدر القواعد الدينية سماوي؛ أي غير بشري — بحسب اعتقاد المتدينين — ومؤيدها إلهي غير بشري (ولئن كانت بعض القواعد الدينية في بعض البلاد تؤيد بمؤيدات اجتماعية، كالعقوبات، فذلك بحكم النادر ولا يحصل إلا في البلاد التي للدولة فيها دينٌ رسميٌّ).
أما الحقوق فمصدرها العقل البشري والسلطات العامة، ومؤيدها اجتماعي، كالعقوبات البدنية والمالية (إلا أن بعض الدول ما زال آخذًا بالقواعد الحقوقية المنصوص عنها في الشرائع السماوية كالأمم الإسلامية في كثيرٍ من الأحكام).
إن علم الحقوق هو معرفة الأشياء الإلهية والأشياء البشرية.
(٢) علائق الحقوق الرومانية بالحقوق الأجنبية
ما من أمةٍ إلا أخذت عن غيرها ممن سلفها أو ممن عاصرها من الأمم الأخرى في ما هو قابل للاكتساب في الحياة الدنيا. ولم يشذ الرومان عن هذه القاعدة، فلم تخل حقوقهم عن أحكام مقتبسة من حقوق الشعوب الغريبة في العهد القديم.
ولكن استقاء الحقوق الرومانية في بعض الأشياء أو كثيرها من المناهل الغريبة لم يفقدها — حتى عهد جوستنيان ولا سيما في العهد المدرسي — طابعها الخاص، ولم يحط من قدرها. ولقد عرف الرومان كيف يفرغون كل ما أخذوه عن غيرهم من الأحكام في قالب روماني ويكسبونه ميزة حقوقهم رصانةً وإحكامًا.
(٣) تقسيم الحقوق
(٣-١) الحقوق العامة والحقوق الخاصة
- الحقوق العامة: هي بنظر المؤلفين الحديثين: مجموع القواعد المفروضة على نظام الدولة، وعلى علائق الأفراد بالدولة، وتتضمن الحقوق الأساسية والإدارية، والمالية، والجزائية، وحقوق الدول العامة. ومن المؤلفين من يدخل فيها الحقوق الدولية الخاصة (إذ يعتبرها بعضهم فرعًا من حقوق الدول العامة).
- والحقوق الخاصة: هي مجموع القواعد التي تنظم علائق الأفراد بعضهم بين بعض. وتتضمن الحقوق المدنية التي تتفرع عنها الحقوق التجارية، وأصول المحاكمات الحقوقية … إلخ.
لم يغب هذا التقسيم عن الرومان — وإن لم يعرفوا التقسيمات المتفرعة عن التقسيم الأول — بل إن التمييز بين الحقوق العامة والحقوق الخاصة يرجع الفضل بإيجاده إلى المتشرعين الرومان. إلا أن ذلك لم يمنع من وجود صلات ماسة بين هذين الفرعين من الحقوق.
(٣-٢) الحقوق القومية وحقوق الناس
وقد كان لتقسيم الحقوق هذا شأنٌ عظيمٌ حتى صدور مرسوم الإمبراطور «كاراكلا» سنة ٢١٢ب.م الذي قضى عليه بقضائه على التفريق بين الوطنيين وغير الوطنيين من الرومان؛ إذ منح حق الوطنية — أي الجنسية الرومانية — جميع سكان الإمبراطورية. ولذلك لا نجد أثرًا لهذا التقسيم في عهد الإمبراطور جوستنيان.
(٣-٣) الحقوق الطبيعية
يوجد قانون حقيقي مطابق للطبيعة، شائع لدى جميع بني الإنسان، عالمي دائم وثابت لا يتبدل.
(٤) فائدة درس الحقوق الرومانية
- (١)
أن لدرس الحقوق الرومانية التي هي من الحقوق القديمة ما لدرس تاريخ كل حقوق من النفع والفائدة اللذين يكادان لا يحتاجان إلى تدليل. فلا يستطيع الباحث إدراك كنه أي فرع من الحقوق على ما هو عليه حالًا، إذا لم يحط علمًا بما كان عليه في الماضي، كما أن المتشرع والمصلح الحقوقي لا يمكن أن يقوم بالإصلاح أو التجديد في المؤسسات الحقوقية بصورةٍ مجديةٍ إذا كان يجهل كيف نشأت هذه المؤسسات وكيف تطورت. فتاريخ الحقوق يبين لنا سبب نشوء وتقدم مؤسسة من المؤسسات، أو بالعكس تقهقرها وزوالها. وتلك نتائج، بل مواعظ ثمينة للمتشرع والشارع. وقد صدق الحكيم شيشرون؛ إذ قال: «إن جهْل الإنسان ما جرى قبل ولادته هو كبقائه طفلًا أبدًا.»
- (٢) لئن زالت الحقوق الرومانية من عداد الشرائع المعمول بها الآن،٩ إلا أن قواعدها وأحكامها قد أثبتت أو أثبت أكثرها في معظم الشرائع الحديثة. فالحقوق الرومانية تشكل أكبر وأخطر مصدر تاريخي لشرائع البلاد اللاتينية ولقسمٍ من البلاد غير اللاتينية، كألمانية وسويسرة، إما مباشرةً وإما عن طريق القانون المدني الإفرنسي الذي انتشر انتشارًا منقطع النظير. فدرسها يساعد على درس هذه الشرائع وتفهمها، بل لا غنى لدارس حقوق هذه البلاد عن الإحاطة بها. ولما كان تشريعنا يأخذ في بعض الأحيان (كقرارات المفوض السامي) عن التشريع الإفرنسي، وكان هذا آخذا عن الحقوق الرومانية، كان إذن لدرس الحقوق الرومانية فائدة مباشرة، بل عملية ضمن حدٍّ معينٍ، في بلادنا.
- (٣)
إن الحقوق الرومانية هي أكمل وأرقى ما وصل إلينا من الحقوق في العهد القديم من حيث الكنه ومن حيث الشكل. فمن حيث الكنه والموضوع لا يزال كثير من القواعد والمؤسسات الحقوقية الرومانية ماثلًا في كثير من الشرائع الحديثة على ما كان عليه قديمًا، والأمثلة على ذلك متعددة وافرة تعترضنا في كل خطوة نخطوها في درس الحقوق المدنية الإفرنسية. وحسبنا أن نذكر منها حق الملك الذي لم تتغير أسسه في الحقوق الحديثة عما خلفه لنا الرومان.
أما من حيث الشكل فقد بقي قسم عظيم من اصطلاحاتها في العرف الحقوقي الحديث في الغرب. وقد بلغ الترتيب والتنسيق فيما أنشأه الشراع والمتشرعون الرومان — الذين سنأتي على ذكرهم — حدًّا جعل واضعي القوانين والمؤلفين في الحقوق المدنية في العصر الحاضر ينسجون على منوالهم من حيث التبويب والترتيب.
أضف إلى ذلك أن الحقوق الرومانية بعكس غيرها من حقوق العهد القديم قد انتقلت إلينا كاملة تامة وصريحة واضحة، منذ نشوئها؛ أي منذ خطواتها الأولى، حتى العهد الذي اكتسبت فيه شكلها النهائي. ولا يخفى ما في تتبع تطور شريعة من الشرائع الراقية كهذه زهاء عشرة قرون من نفعٍ علميٍّ غزيرٍ.
(٥) منهاج هذا الدرس
(٦) برنامج الدرس
إن الأبحاث التي تتألف منها برامج الحقوق الرومانية في جامعات الغرب بوجه إجمالي هي: تاريخ مصادر الحقوق الرومانية، الأشخاص، الأشياء (الثروة)، الوجائب، أحكام الميراث والوصايا، الدعاوى أو أصول المحاكمات الحقوقية.
ولكن لن تسمح لنا الساعات المحددة لهذا الدرس في معهدنا باستقصاء جميع مواده التي تستوعبها الساعات المعينة له في معاهدة فرنسة في السنتين الأولى والثانية من الإجازة.
- الكتاب الأول: الأشخاص.
- الكتاب الثاني: الأشياء.
- الكتاب الثالث: الوجائب.