عهد الحقوق القديمة
(١) البند الأول: نظرة عامة في النظام السياسي والاجتماعي والحالة الاقتصادية
(١-١) النظام السياسي
- القنصلان: حينما أُسقطت الملكية، استعيض عن الملك بقنصلين معينين لمدة
سنة واحدة ومقلدين جميع سلطات الملك، ما عدا السلطة الدينية؛
لأن الرومان كانوا متمسكين بتقاليدهم الدينية؛ لذلك، وخشيةً من
أن يحيق بهم غضب الآلهة، أبقوا في المقر الملكي القديم ملكًا
دينيًّا، لا حول له ولا قوة، بل ولا حق، ليستبقوا عطف الآلهة وحمايتها.١
كان هذان القنصلان يتمتعان مدة السنة التي يدوم فيها حكمهما بالسلطة العسكرية (حق قيادة الجيش)، والسلطة القضائية، وحق جمع اﻟ «كوميس» ومجلس الشيوخ، وحق تعيين أعضاء هذا المجلس، كما أنهما كانا يشبهان الملك من حيث المناعة التي كانا يتمتعان بها أثناء مدة حكمهما.
وقد كان القنصلان يمارسان السلطة بالاشتراك، والاتفاق، فإذا اختلفا فيما بينهما في أمرٍ ما، قُضي على هذا الأمر. وعدم الوحدة في الرئاسة السياسية كان من أسباب ضعف مقام القنصلية.
- مجلس الشيوخ: ما زال مجلس الشيوخ، من الوجهة الحقوقية ومن حيث الصلاحيات، كما كان سابقًا؛ أي إنه ظل مجلسًا استشاريًّا يعين أعضاءه القنصلان، كما كان يعينهم الملك. ولكنه ازداد شأنًا ونفوذًا من الوجهة الفعلية. وهذا أمر غير مستغرب؛ لأن سلطة القنصلين وإن كانت حقوقيًّا كسلطة الملك سابقًا، إلا أنها فعلًا كانت دون سلطة الملك؛ لأن القنصلين إنما يظلان سنة واحدة في الحكم يصبحان بعدها خاضعين للمسئولية أمام مجلس الشيوخ عن أعمالهما أثناء مدة حكمهما. وهذا ما كان يحدو بالقناصل إلى استشارة مجلس الشيوخ والحصول على موافقته في جميع الأعمال الخطيرة.
- اﻟ «كوميس»: صار للكوميس بمختلف أنواعها — أي الكوميس القائمة على أساس
الكوريا، و«كوميس سنتوريا»، و«كوميس القبائل» — سلطة في هذا
العهد أوسع من سلطتها في العهد الماضي. فقد أحرزت، عدا السلطة
التشريعية التي كانت تتمتع بها، سلطة انتخابية هي حق انتخاب
القنصلين (الذي تمارسه اﻟ «كوميس سنتوريا»)، وسلطة قضائية هي
حق النظر بالأحكام الجزائية الخطيرة بالصفة
الاستئنافية.
بجانب هذه الهيئات والسلطات، نجد في العهد الجمهوري حكامًا معروفين باسم questeurs يلزم القنصلان بإنابتهم منابهما في إدارة بيت المال وممارسة القضاء الجزائي. وهذا ما يضعف من سلطة القنصلين.
(١-٢) حالة الشعب
وأجلُّ فوزٍ أحرزه الشعب، بل أجلُّ عملٍ حقوقيٍّ حصل في عهد الجمهورية، هو تدوين الحقوق العرفية الذي تم بقانون الاثني عشر لوحًا، ذلك القانون الذي سوف نفرد له بندًا خاصًّا.
(١-٣) النظام الاجتماعي
إن الحروب التي خاض الرومان غمارها في هذا العهد والفتوح التي قاموا بها أحدثت تبدلًا في الحالة الاجتماعية. فمن ذلك نشوء طبقة من العمال في روما وازدياد الأملاك الواسعة على أثر تضاؤل المالكين الصغار لما أصابهم من ضنكٍ بسبب تعاقب الحروب.
وقد فعلت هذه العوامل فعلها في الحالة الاقتصادية، فاتسع التداول وارتقت التجارة البرية والبحرية. وهذا ما بعث على تطور النقود. فقد ظهرت النقود المصكوكة النحاسية ثم الفضية.
ونتج عن تماس الرومان بالشعوب الغريبة، ولا سيما اليونان، على أثر الفتوح، تبدل في العادات والأخلاق الرومانية كان من مظاهره انتشار الترف وتسرب بعض الفساد في الأخلاق. ولكن لقاء ذلك اكتسب الرومان ثروة أدبية علمية كان من أبرز مظاهرها وجليل فوائدها تأثر الحقوق الرومانية بالفلسفة اليونانية التي أدخلت فكرًا جديدةً ساميةً كان لها خير أثر في الألانة من قسوة الحقوق الرومانية وتقدمها.
(٢) البند الثاني: قانون الاثني عشر لوحًا
كانت الحقوق الرومانية قبل صدور قانون الاثني عشر لوحًا، حقوقًا عرفية كما بيَّنا. وكان لهذه الحقوق العرفية، كما لها الآن، مساوئ منها الغموض والإبهام. وأجسمها في روما في ذلك الحين، بقاؤها، ضمن حد، سرية خافية على الناس، لانحصار معرفتها بالكهنة وزعماء طبقة الآباء؛ فكان الشعب من جراء ذلك عرضة للمظالم بسبب جهله القانون الذي يحتكم إليه ويحكم بموجبه عليه، وهدفًا لسوء استعمال الحقوق من قبل عارفيها ومحتكريها.
لذلك كان لا مندوحة للشعب، تخلصًا من هذه المحاذير ورغبةً في تأمين المساواة الحقوقية بينه وبين الآباء، من الوصول إلى إذاعة الحقوق. وهذا ما سعى إليه الشعب، وقد تمكن بعد أعمال ووقائع ليس لنا أن ندخل في بحثها، من إدراك ضالته المنشودة بتدوين الحقوق الذي تم بنشر قانون الاثني عشر لوحًا.
(٢-١) كيف وضع قانون الاثني عشر لوحًا
ولئن كان لا يمكن أن يعد قانون الاثني عشر لوحًا، حسب رأي الأستاذين العالمين «جيرار» و«كوك»، بمثابة نسخة — ولو بصورة جزئية — عن قانون «سولون» أو غيره من القوانين اليونانية بالرغم من رجحان صحة إرسال وفد روماني إلى بلاد اليونان للاستنارة بقوانينها، إلا أن تأثير فلسفة وحقوق اليونان على الحقوق الرومانية أمرٌ لا ينكر، ولم ينكره أكثر العلماء والمؤلفين، ومنهم العالمان الجليلان المتقدم ذكرهما. وهذا برأينا لا ينفي وجود صلة غير مباشرة بين الحقوق الرومانية والحقوق المصرية القديمة عن طريق الحقوق اليونانية.
(٢-٢) مضمون قانون الاثني عشر لوحًا
إن معظم الأحكام التي تضمنها هذا القانون متعلقة بالحقوق الخاصة. أما ما كان منها له صلة بالحقوق العامة فقليلٌ ومقتصرٌ على الأمور الجزائية.
- (١) أصول المحاكمات القديمة التي سميت فيما بعد دعاوى القانون Legis actiones لأنها مؤيدة بقانون الاثني عشر لوحًا، والتي كانت جميعها شفهية قائمة على المراسم والأشكال.
- (٢)
سلطة رب العائلة، وأحكام الوصاية، والميراث والوصايا.
- (٣)
معلومات في الأعمال الحقوقية كاﻟ «مانسيباسيو» أي طريقة نقل الملكية بواسطة البيع، واﻟ «إين جوري سيسيو» أي الفراغ أمام القضاء كما سنرى ذلك بالتفصيل.
- (٤) أحكام متعلقة في الأصول الجزائية جلها تبحث في الجرائم العامة (كالقتل مثلًا)، والجرائم الخاصة؛ أي التي يترك أمر تعقيبها للمجني عليهم (كالسرقة مثلًا). وقد أخذ القانون الذي نحن بصدده بأسلوب وسط بين العدالة العامة والعدالة الخاصة، وأقر مبدأ القصاص المعروف ﺑ Loi du talion والذي يلخص بعبارة «العين بالعين والسن بالسن» للمعاقبة على بعض الجرائم، وأخذ بطريقة الأرش Composition.
يتبين للمدقق في قانون الاثني عشر لوحًا أن بحثه في حقوق العائلة مختصر؛ وذلك لأن الأسر والقبائل في روما كانت في ذلك العهد تحيا حياة مستقلة عن الدولة. في حين أنه بحث بحثًا مطولًا في حقوق الأشياء، ولا سيما في الملكية العقارية، وطرائق انتقال الأموال أثناء الحياة، وبعد الموت. في حين أنه لم يعن العناية المطلوبة بالوجائب؛ ويرجع السبب في ذلك لحياة روما الزراعية في ذلك الحين.
(٢-٣) القوانين الأخرى
لقد صدرت قوانين أخرى في هذا العهد عدا قانون الاثني عشر لوحًا، لم يكن لها من الشأن والخطر ما كان لهذا القانون.
وقد صدرت في القرن السادس (من بناء روما) سلسلة قوانين بشأن الكفالة والنسيئة أو الائتمان، والوصايا … إلخ.
(٣) البند الثالث: نظرة في سن القوانين
لقد جئنا على ذكر القوانين التي يتألف منها المصدر المدون للحقوق الرومانية، فحريٌّ بنا أن نُبين مختلف أنواع القوانين في روما وطرائق سنها.
- (١)
اﻟ «كوميس كوريا» التي كانت في البدء لا تتألف إلا من طبقة الآباء.
- (٢)
اﻟ «كوميس سنتوريا».
- (٣)
«مجامع القبائل» التي ظهرت في العهد الجمهوري.
(٣-١) القانون المعروف ﺑ Lex والقانون المعروف ﺑ Plébiscitum
(٣-٢) طريقة سن القوانين
كانت القوانين تشرع بتصويت المجالس أو الهيئات المختلفة، التي كانت تملك حق التشريع، على اقتراحات الحكام ذوي المناصب العليا في الدولة، كالقنصلين اللذين كان لهما حق اقتراح القوانين على الكوميس، والحكام الوطنيين (تريبان) أصحاب حق اقتراح القوانين على المجامع الشعبية. فلم يكن إذن للهيئات التشريعية حق اقتراح القوانين.
(٣-٣) تسمية القوانين
كانت القوانين في روما تعرف باسم الحكام الذين اقترحوها. فإذا كان الاقتراح صادرًا عن حاكم واحد سمي القانون باسم واحد هو اسم قبيلة ذلك الحاكم، وإذا كان صادرًا عن حاكمين (كالقنصلين) عرف باسميهما اثنيهما.
(٤) البند الرابع: الاجتهاد أو تفسير القانون
إن قانون الاثني عشر لوحًا، بالرغم من إذاعة الحقوق وتثبيتها في نصوص مدونة، لم يقض جميع لبانات الشعب. فقد ظل الناس بحاجة إلى من يوضح لهم أحكام القانون ويهديهم سواء السبيل باتباع الأصول والمراسم للوصول إلى حقوقهم أو للدفاع عنها؛ ذلك لأن نصوص القانون كانت مختصرة، ولأن أصول المحاكمات والحقوق بصورة إجمالية كانت قائمة على الأشكال والمراسم، وهذا ما جعل للتفسير مكانة عظيمة في هذا العهد.
(٤-١) تفسير الكهنة
فلئن زال في هذا العهد احتكار الكهنة معرفة الحقوق نفسها بفضل صدور قانون الاثني عشر لوحًا، فقد ظلوا محتكرين حقبة من الزمن تفسير القانون ومعرفة طرائق إعماله. وقد بقي الأمر كذلك حتى سنة ٤٥٠ رومانية/٣٠٤ق.م.
(٤-٢) ذيوع مراسم أصول المحاكمات وتقويم الأيام الكهنوتي
(٤-٣) الاجتهاد أو التفسير العلماني
لقد حل محل الكهنة في التفسير والاجتهاد، بعد إذاعة مراسم أصول المحاكمات وتقويم الأيام، علماء ومتشرعون علمانيون. وقد أحرز هؤلاء مقامًا لا يقل حرمة ورفعة عن مقام الكهنة. ومما ساعدهم على اكتساب هذه المكانة السامية أنهم كانوا بعيدين عن الخصومات الفردية، بل كانوا يسعون لإزالة الاختلافات، وأنهم لم يكونوا يتقاضون أجرًا عما يبذلونه للناس من مساعدة وخدمة في الشورى والآراء الحقوقية.
ولم يكن المتقاضون وحدهم يلجئون للمتشرعين للاهتداء بعلمهم، بل كان القضاة أنفسهم في بعض الأحيان يستنيرون برأيهم، فكان المتشرعون فوق أجوبتهم على الاستشارات الموجهة إليهم ينظمون نماذج للأعمال الحقوقية، ويلائمون بين الحاجات الجديدة وبين أحكام الحقوق القديمة، بفضل استنتاجاتهم المنطقية واستمدادهم الرأي أحيانًا من روح الإنصاف.