العهد المدرسي
يبتدئ هذا العهد منذ زمن آل «غراك» زهاء سنة ١٥٠ق.م، وينتهي بالإمبراطور «ديوكليسيان» وصعود أول إمبراطور مسيحي «قسطنطين» على عرش روما في نهاية القرن الثالث (ب.م). فهذا العهد يطابق إذن آخر زمن الجمهورية وقسمًا كبيرًا من زمن الإمبراطورية الذي يسمى بعهد الإمبراطورية العليا.
(١) البند الأول: معلومات عامة في النظام السياسي والاجتماعي
يمكن تقسيم العهد المدرسي إلى ثلاث أحقب:
(١-١) الحقبة الأولى
- النظام السياسي: لم يعد الجيش في هذه الحقبة — التي تم للرومان فيها فتح أعظم البلاد كالغول Gaule والشرق — كما كان عليه سابقًا مؤلفًا من وطنيين رومانيين يقومون بخدمة عسكرية مجانية، بل أصبح مؤلفًا من جنود مستأجرين، واستحال إلى أداة في يد قائده يصرفه إلى أهوائه السياسية. وما برحت الحرب قائمة بين الزعماء والقواد حتى أدت إلى القضاء على الجمهورية وزوال الحكام المنتخبين.
- النظام الاجتماعي: نشأت في هذا الزمن طبقة تمتاز عن بقية طبقات الأمة وهي طبقة
الأشراف، المؤلفة من: الشيوخ senateurs، وبصورة عامة من الموظفين
والفرسان chevaliers، وهم
أغنياء التجار والأشخاص المثرون من متعهدي الجيش. وقد اضمحلت
الملكية الصغيرة أمام الملكية الكبيرة، وساءت حال المزارعين
الصغار الذين اضطر بعضهم لهجرة الحقول والالتجاء إلى المدن. ثم
إن التطور تناول الناحية الفكرية، فقد أثرت الفلسفة الإغريقية
تأثيرًا عميقًا في روما، وتسربت إليها ديانات جديدة قامت بجانب
الدين الروماني القديم الذي جنح إلى الانحطاط.
إن جميع هذه التبدلات والعوامل قد تركت في الحقوق أثرًا بليغًا نلمسه في المصادر الجديدة الحقوقية التي ظهرت في هذه الحقبة وهي: خطط القضاة واجتهاد ومؤلفات المتشرعين، تلك المصادر التي أخذت عن اليونان فكرًا جديدةً كفكرة الإنصاف، والمصلحة، والنية الحسنة.
(١-٢) الحقبة الثانية
كانت هذه الحقبة من أزهر أحقب وعهود تاريخ روما سياسيًّا وحقوقيًّا، وهي التي تشكل بحق العهد المدرسي. وأعظم مصدر حقوقي فيها هو اجتهاد المتشرعين الذين هم أعظم المتشرعين الرومانيين في جميع العهود، مثل «غايوس» و«بابينيانوس» و«بولوس» و«أولبيانوس».
(١-٣) الحقبة الثالثة
هذه الحقبة التي تعتبر حلقة أخيرة مضافة للعهد المدرسي، تبتدئ بسقوط آل «سيفير» عن العرش الإمبراطوري سنة ٢٣٥ب.م، وتنتهي بصعود قسطنطين على العرش سنة ٣٠٥ب.م.
تتميز هذه الحقبة بالانحطاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي انتاب الإمبراطورية.
كان من نتيجة هذا الانحطاط في الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية: انحطاط في الحقوق؛ حيث جنحت المصادر الحقوقية التي سبق لنا بيانها إلى الاضمحلال والزوال أمام تشريع الإمبراطرة.
فلنبحث الآن مصادر الحقوق في هذا العهد المدرسي.
(٢) البند الثاني: القوانين
القوانين في هذا العهد ما زالت تشكل مصدرًا قيمًا راجحًا على العرف، بل إن العرف صار يعتبر كمصدر ثانوي بعد أن كان متفوقًا فيما سبق على القانون، وصار المتشرعون يعدون العرف كقانون مستمد قوته من إقرار الناس إياه بالإجماع من حيث لا يشعرون، وعملهم بإحكامه بصورة مستمرة.
ولكن هذا الأسلوب الذي كان له محاسن، منها إيجاد ضمانة كافية لتأمين العدالة بين المتقاضين، قد بُدل في نهاية هذا العهد بأسلوب قائم على ممارسة القضاء من قِبَل موظفين إمبراطوريين حلوا محل الحكام المنتخبين والمحلفين.
(٣) البند الثالث: خطط الحكام Edit des magistrats
(٣-١) الخطة Edit٢
الخطط الدائمة: هي التي يعلنها الحاكم عند توليه منصبه ليعمل بها طيلة ولايته؛ أي مدة سنة واحدة. أما الخطط الخاصة: فهي تلك التي يتخذها الحاكم لأمرٍ خاصٍّ أو لحادثٍ استثنائيٍّ يظهر في أثناء توليه الحكم.
ومن ذلك يتبين لنا أن الخطط الدائمة هي وحدها التي كانت ذات شأن وخطر في تشكيل المصدر الحقوقي الجديد.
لم يكن الحاكم الجديد مقيدًا، مبدئيًّا، بخطة الحاكم القديم. ولكن في غالب الأحيان كان الحاكم الجديد يقر، فعلًا، الخطة القديمة بصورة كلية أو جزئية. ومن تتابع الخطط الدائمة الصادرة عن الحكام وبصورة خاصة البريتور المتشابهة في أحكامها تكونت الحقوق البريتورية.
أصبح للحقوق الصادر عن الخطط، من الوجهة العملية، مفعول ونفوذ لا ينحصر بمدة الحاكم الذي يصدر الخطة، بل مفعول دائم، شأن القانون. ولئن كان مدى نفوذ الخطة منحصرًا، نظريًّا، ضمن منطقة الحاكم الذي أصدرها، إلا أن خطط الحكام في روما من بريتور وإيديل كورول — الذين يشبهون المحتسبين في الإسلام — أصبحت على تمادي الأيام نافذة في المقاطعات؛ وذلك لأن حكام المقاطعات كانوا يحذون في خططهم حذو خطط الحكام في روما، بل إنهم كانوا ينقلون عن خطط هؤلاء القسم من الأحكام الثابتة التي جرى الحكام على احترامها رغم تتابعهم كل سنة.
مضمون الخطة الدائمة
- (١)
بيان الأحوال التي يمنح فيها البريتور المتقاضي صكًّا يؤيد طلبه أو بعكس ذلك يرفض تأييد طلبه.
- (٢)
بيان نماذج للصكوك ليجري الناس على نمطها في معاملاتهم ودعاواهم.
تدوين أو تقنين الخطة الدائمة
إن تقنين الخطة قد أوقف تطورها وتقدمها، ولكنه مقابل ذلك قد فسح محالًا واسعًا لتفسيرها وشرحها، وهكذا فالمتشرعان الكبيران «بولوس» و«أوليبانوس» علقا عليها — بعد مضي قرن على تقنينها — شرحًا وافيًا.
•••
لقد صار للمصدر الحقوقي المؤلف من خطط القضاة شأن عظيم. وهذه الحقوق الجديدة كانت مختلفة عن الحقوق القومية. ولئن كانت في كثير من الأحيان تدعم أحكام الحقوق القومية إلا أنها كانت في بعض الأحيان، بواسطة طرائق أصولية، تخالف أحكام الحقوق القومية أو تعطلها حينما تكون هذه الأحكام متناقضة مع حاجات العصر الماسة، وضرورات الحياة الاقتصادية، أو مناقضة للفكر والنظريات الحقوقية الجديدة.
فعمل الخطط الإصلاحي هو الذي جعل لها مزيةً كبيرةً ومقامًا رفيعًا بين المصادر الحقوقية الرومانية.
(٤) البند الرابع: اجتهاد أو آراء المتشرعين
المتشرعون في العهد الذي نحن بصدده؛ أي العهد المدرسي، ولا سيما منذ آل غراك إلى زمن الإمبراطور قسطنطين، هم أعظم المتشرعين الرومانيين قاطبة، وقد أطلق عليهم اسم المتشرعين المدرسيين، ولهم يرجع الفضل بإنشاء العلم الحقوقي لدى الرومان. ولا بد لنا من أن نأتي على ذكر المشاهير من هؤلاء المتشرعين، ونبحث أعمالهم وآثارهم، وقدرها.
(٤-١) مشاهير المتشرعين الرومانيين في العهد المدرسي
يمكننا أن نصنف المتشرعين إلى ثلاث زمر بحسب القدم:
متشرعو نهاية العهد الجمهوري
متشرعو بدء الإمبراطورية
(أ) ما هو سبب انقسام المتشرعين إلى مذهبين، وما هو أساس اختلاف المذهبين؟
اختلف العلماء في هذا الموضوع، والراجح أن الفرق بين المذهبين في البدء كان عبارة عن اختلاف في نزعة مؤسسيهما، فقد كان لابيون مؤسس المذهب البروكولي جمهوريًّا ومعاديًا لنظام الحكم الإمبراطوري، في حين أن مؤسس المذهب السابيني كان من أنصار الإمبراطورية. ولكن الفرق استمر بين المذهبين فيما بعد بالرغم من زوال الفرق السياسي بينهما. فلا يمكن الجزم بوجود اختلاف حقوقي واضح بينهما. ويقول بعض العلماء إن البروكوليين كانوا متشرعين مجددين يتخلل أفكارهم وآراءهم روح فلسفية، في حين أن السابينيين كانوا قومًا محافظين على القديم.
(ب) مشاهير متشرعي المذهبين
المتشرعون المدرسيون (آخر القرن الثاني وبدء القرن الثالث ب.م)
وقد كان أولبيانوس وبولس تلميذين ومعاونين ﻟ «بابينيانوس» الذي صار المؤلفون يدعونه بأمير المتشرعين.
(٤-٢) أعمال ومؤلفات المتشرعين وتأثيرهم
وفوق ذلك كان المتشرعون الرومانيون يدرسون الحقوق، ويؤلفون فيها.
(٤-٣) المؤلفات الحقوقية
وضع المتشرعون الرومان مؤلفات متعددة مختلفة، منها ما هو نظري ومنها ما هو عملي، ومنها ما يشمل جميع المباحث الحقوقية، ومنها ما هو مقتصر على درس مؤسسة من المؤسسات. ولكن لم يصلنا من هذه المؤلفات بطريقة مباشرة إلا النذر القليل، بل أكثرها وصلنا بصورة جزئية متناثرة في مجموعات «جوستنيان».
(٤-٤) تأثير اجتهاد المتشرعين
ذلك هو السبب الذي دعا الإمبراطرة للتدخل في اجتهاد المتشرعين وتنظيمه.
(٤-٥) تدخل الإمبراطرة في اجتهاد المتشرعين
افتتح عهد تدخل الإمبراطرة في اجتهاد المتشرعين، الأمير أو الإمبراطور «أوغستوس» بإلزامه المتشرعين بكتابة آرائهم أو فتاواهم وختمها، وذلك اجتنابًا لتزويرها من قبل الأفراد الذين كانوا يتلمسونها من المتشرعين لتقديمها إلى القاضي.
وأجل عمل قام به الإمبراطرة في هذا العهد هو إصلاح «هادريان».
رأى هذا الإمبراطور أن حق إفتاء المتشرعين المتمتع بقوة القانون يحدد صلاحياته؛ لذلك عمد إلى إدخال أعظم المتشرعين ومشاهيرهم في المجلس الإمبراطوري، وحصر بهم حق الإفتاء الذي ذكرناه والذي يصدر تحت إشرافه وسلطته، ولكن ما زال بالإمكان التذرع بآراء هؤلاء المتشرعين محرزي امتياز الإفتاء، المنشورة في مؤلفاتهم، بل كان لهذه الآراء غير الرسمية قوة القانون لدى القاضي عند الإجماع فقط. ولنلاحظ أن فتاوى المتشرعين الرسمية الصادرة عن المجلس الإمبراطوري كانت خاضعة لقاعدة الإجماع.
(٥) البند الخامس: مراسيم مجلس الشيوخ والأوامر الإمبراطورية
(٥-١) قرارات مجلس الشيوخ
(٥-٢) الأوامر الإمبراطورية
- الخطط edicta: التي كان يصدرها الإمبراطور عند تسلمه مقاليد منصبه بصفته الحاكم الأعلى، وهي شبيهة بخطط الحكام (البريتور)، إلا أنها، خلافًا لهذه الأخيرة، كانت نافذة مرعية مدة حياة الإمبراطور.
- الأحكام decreta: التي كان يصدرها الإمبراطور بصفته قاضيًا أعلى في الدعاوى المرفوعة إليه. ولئن كان نفوذ هذه الأحكام مقتصرًا نظريًّا على الدعاوى التي صدرت بحقها، إلا أن سلطة الإمبراطور كانت تجعلها بدرجة المبادئ العامة قوةً ونفاذًا.
- الفتاوى rescripta: التي كان يصدرها الإمبراطور في مجلسه بمساعدة المتشرعين المعينين فيه، جوابًا على الاستشارات التي يوجهها إليه القضاة والأفراد. وقد كان لهذه الفتاوى أو الأجوبة الاستشارية سلطة تتعدى المسألة الحقوقية التي صدرت بشأنها، وذلك بسبب عظمة المقام الصادرة عنه.
- البلاغات (التعليمات) mandata: التي كان يذيعها الإمبراطور على فريق من الموظفين كحكام المقاطعات الإمبراطورية، والتي كانت متعلقة بشئون شتى، منها أحيانًا ما له صلة بالحقوق الخاصة. إن هذه الأوامر أو الدساتير الإمبراطورية بصورة عامة اكتسبت قوة القانون. وما زال المصدر الحقوقي المؤلف من الأوامر الإمبراطورية يزداد تقدمًا واتساعًا، حتى صار المصدر الحقوقي الوحيد.