الخاتمة
تناوب على العراق أمم مختلفة وأقوام شتَّى في عصور عديدة، وليس بلادًا مثل هذه الديار تتابعت عليها الأجيال واختلفت عليها الأيادي إلا ما قَلَّ ونَدُرَ، وقد مر بنا ذكر أعظم هذه الشعوب، وفي الآخر وقعت في أيدي المغول على ما سبقت الإشارة إليه، ومنهم انتقلت إلى جماعة منهم يُعرفون باسم «جلائر»، وكان أحدهم، وهو «حسن بزرك»، قد أنشأ دولة في بغداد في سنة ٧٣٦ھ/١٣٣٥م عند وفاة أبي سعيد، وهذه الدويلة لم تعمر فإن آل «قرة قويونلي» (أي الخروف الأسود) جاءوا في سنة ١٤١١ فأبادوها من بغداد.
ومن أخبار ذلك العهد أن الأمير الشيخ حسن المذكور لما دالت عليه الدولة فغلبه حسن الجوباني في معركة وقعت له معه في ديار إيران عاد أدراجه إلى بغداد، وكان فيها ابنه السلطان أويس بمنزلة حاكم فيها، فاستقلَّ بها مدة ١٧ سنة، وشيَّدَ مباني فخمة في النجف، وتوفي في بغداد في سنة ٧٥٧ھ/١٣٥٦م، ودُفن في النجف بجوار مدفن الأمير. وذهب بعض المؤرخين إلى أن حسن الكبير أو حسن بزرك الإيلخاني أو الجلائري ملك عشرين سنة، فلا شك أنهم حسبوا في هذه المدة السنوات التي غاب فيها عن الزوراء قبل أن يجهر بالاستقلال.
وملك بغداد بعد حسن بزرك ابنه السلطان أويس المذكور، وذلك في شهر رجب سنة ٧٥٧ﻫ/تموز سنة ١٣٥٦م، وبعد سنتين اضطرَّ أن يزحف على أخيجوق بجوار تبريز، وكان هذا الأخير قد تملَّك على أذربيجان، غير أن السلطان أويس لم يُفلح في زحفته؛ إذ خانه أحد قُوَّاده، فاضطر إلى أن يعود إلى بغداد، لكن ما أعظم ما كان عجبه لما علم أن مملوكه مرجان الذي كان قد أبقاه في المدينة وكيلًا عنه قد تمرَّدَ عليه واستقل، ولم يُرد أن يذعن له؛ لأنه علم بخيبته في إيران، فأراد أن يُخَيِّبه في دار السلام أيضًا، لكن السلطان أويس استشاط غضبًا وأراد أن يُمثِّل بهذا النصراني الخائن الذي من بعد أن اشتراه أبوه وهو صغير وعلمه دين الإسلام فأسلم، حاول أن يغدر هذا الغدر، ومما حمل الخواجا مرجان على هذا الغرور أن الفصل كان ربيعًا وكان دجلة قد طغى طغيانًا فاحشًا، فأحاط بالمدينة وجعلها كالجزيرة الحصينة التي لا تُرام، بَيْدَ أن السلطان أويس بذل من الهمة والسعي ما مكَّنه من دخول المدينة، وكان معه أربعمائة سفينة مشحونة بالمقاتلة والذخائر، ولمَّا أراد قتله شفع فيه أهل المدينة، فعفا عنه، لكنه نزع من أيديه كل سطوة، ولم تعد إليه إلا عند وفاة السلطان شاه الخازن التي وقعت في سنة ٧٦٩ھ/١٣٦٨م، ومذ ذاك الحين صمَّم الخواجا مرجان على أن يُكَفِّر عن خيانته، فأنشأ مدرسة كبيرة وحبس عليها الأوقاف، وبنى لها مسجدًا، وهو الذي نراه إلى يومنا هذا، وهو معروف باسم «جامع مرجان»، وهو آية في حُسن البناء، يزين مدخله عمودان مُلتَفَّان، وحولهما زخارف عربية بديعة، مما يدل على أنه كان في بغداد في ذلك العهد رَازَةُ يُشهد لهم بطول الباع وسعة المعرفة. على أن أغلب تلك الأوقاف قد تلفَت، لا سيما ما كان منها في خارج المدينة، لإهمال الدولة التركية شئونها وإدارتها.
وأول من ملك العراق فكانت حاضرته بغداد، وهو من دولة «قره قويونلي»، الشاه منصور بن محمد، وذلك في سنة ٧٧٨ھ/١٣٧٦م، ثم قام عليه السلطان أحمد من القبيلة المذكورة، فطرده من بغداد سنة ٧٨٥ھ/١٣٨٣م، وبقي فيها إلى ٨٠٢ھ/١٣٩٩م لما استولى على بغداد تيمور لنك وملكها بالأمان، فهرب أحمد إلى بلاد الروم، والتجأ بالسلطان بيازيد خان، فأرسل إليه تيمور يطلبه من السلطان، فأبى هذا أن يخون دخيله، فنشأت العداوة منذ ذلك الحين بين تيمور وبيازيد. ولما هلك تيمور عاد أحمد إلى بغداد وقبض على ناصية العراق إلى سنة ٨١٣ / ١٤١٠، وفي تلك السنة تَقَوَّى قره يوسف التركماني على السلطان أحمد وقتله، وملك بغداد والعراق، وانقرضت بذلك الدولة الإيلخانية من هذه الديار.
وفي سنة ٨٣٣ / ١٤٣٠ مات قره يوسف في أوجان من نواحي الموصل، فقام بدله ابنه محمد، وكان ذا فكر ثاقب ورأي صائب، فأدار شئون العراق إدارة حسنة، وبعد موته انتقل الملك إلى ابنه البكر إسكندر الذي اتفق مع أخيه الآخر جهانكير شاه، فجيَّشا الجيوش وزحفا على شاه رخ بن تيمور لنك، لكن السعد خدم ابن تيمور الذي هزم عدوَّيْه، ثم إن جهان شاه وأغلب أمراء الترك ملُّوا معاملة إسكندر، فتركوه ولجئوا إلى معسكر شاه رخ، فرحَّب بهم، وقلَّد جهان شاه ولايتي ديار بكر وأذربيجان بشرط أن يفتحهما ويقبض على أخيه إسكندر، فلما درى بذلك هذا الأخير فرَّ إلى قلعة ألنجق ليقاوم أخاه العدو، فلم يستطع جهان شاه أن يُحقق مُنيته إلا بعد أن غدر به؛ وذلك أنه كان يعلم أن قباد ابن المحاصر قد عشق مملوكة أبيه، فحمله على قتل أبيه ليُنيله ما يطلب، ففعل، وكان ذلك في سنة ٨٤١ / ١٤٣٨، وكان قد ملك ١٦ سنة. وقد روى صاحب «نخبة التواريخ» أن جهان شاه قتل بعد ذلك بيده الولد العقوق الفاتك مُعاقبةً له لإثمه الفظيع.
ولما تبوأ جهانكير شاه عرش المملكة قبضَ أيضًا على أَعِنَّة بلاد ديار بكر وأذربيجان مدة ١٢ سنة بمقام نائب عن شاه رخ بن تيمور، ولما قضى شاه رخ نحبه سنة ٨٥٠ / ١٤٤٦ استقلَّ حينئذٍ جهانكير بالملك كل الاستقلال، وبقي مدة ٣٢ سنة سيدًا مستبدًّا مادًّا صولجان ملكه على بلاد ديار بكر وأذربيجان وبغداد والبصرة وفارس وكرمان، وليس له مناوئ يُعارضه، ثم نهض بعد هذه المدة أوزون حسن (أو حسن الطويل) مؤسس دولة آق قويونلي التركمانية (أو دولة الخروف الأبيض)، وقتل جهان شاه سنة ٨٧٢ / ١٤٦٨، والمملكة التي كان قد أنشأها القتيل انتقلت بسعتها وعظمتها إلى حسن الطويل.
وبعد وفاته التي كانت في سنة ٨٨٣ / ١٤٧٨ انتقلت الإمارة إلى ابنه البكر خليل ميرزا، وكان سيئ الخلق ظلومًا غشومًا، فقُتل، والقتل نهاية كل ظالم، وذلك في سنة ٨٨٤ / ١٤٨٠، فقام على العرش أخوه يعقوب ميرزا، وبقي متسنِّمًا إياه ثلاث عشرة سنة، حتى سقته أمه سُمًّا وهي لا تدري، فمات وماتت هي أيضًا؛ لأنها شربت من ذلك السم عينه بدون أن تعلم حقيقته.
فاجتمعت طائفة من خدمهما ونصَّبَت باي سنقر ميرزا ملكًا، بينما كانت جماعة أخرى من خدمهما الآخرين انتخبوا لهم ملكًا مسيح ميرزا، فنشب القتال بين الأخوين، فقُتل مسيح في المعركة، وتمكن باي سنقر من رقي العرش الذي خلا له هُنيهة؛ لأن محمود بك ابن أوغورلي محمد (أي ابن عم باي سنقر) انهزم إلى بغداد، وكان فيها يومئذٍ حاكمًا شاه علي بيرناك، وقبض على أعنَّة المدينة بسعي الحاكم المذكور ومساعدته، فلما سمع بذلك باي سنقر ومؤدِّبه صوفي خليل زحفا على المتحالفين، فنشب بين الجمعين معركة شديدة انجَلَت عن قتل المتحالفين المذكورين والأسلحة بأيديهما. على أن باي سنقر لم يتمتع بالملك مدة طويلة؛ لأن رستم ميرزا بن مقصود — وهو من أولاد عمه — نهض عليه وقاتله، فقُتل في المعركة، ونال رستم ما مَنَّى به نفسه، وهو القبض على أذربيجان فملك عليها مدة خمس سنوات ونصف، ثم قُتل سنة ٩٠٤ / ١٤٩٨، فملك بعده ابن عمه أحمد خان بن أرغون بن محمد بن أوزون حسن، فكان آخر من ملك بغداد من دولة آق قويونلي؛ لأن الشاه إسماعيل بن حيدر بن جنيد قدم بغداد وحاصرها، ولم يفتر عن التضييق عليها حتى افتتحها، وأعمل فيها السيف مبتدئًا بأحمد خان فذبحه، وذلك في سنة ٩٠٥ / ١٤٩٩، وأجبر كثيرين من السُّنَّة على التشيُّع بعد سنة من قدومه، وعمل له بعض أدباء الجعفريين هذا التاريخ بقوله: «مذهبنا حق» (وهو يساوي بحساب الجُمَّل ٩٠٦)، فردَّه أحد أُدباء السنة فقال: «مذهب نا حق.» ومعناه مذهب غير حق بالفارسية، ولم يجسُر هذا الأديب أن يقول هذا القول في عهد الشاه الصفوي، بل بعده بكثير، وكان الشاه قد قتل كثيرين من مُسلمي السُّنَّة، وذبح جميع نصارى المدينة ولم يُبقِ واحدًا منهم، أما اليهود فإنه لم يتعرض بهم؛ لأنهم كانوا أَدِلَّاءه على السنة والمسيحيين، وكانوا يهدون إليه الهدايا الجليلة والأموال الطائلة لاحتياجه إليها يومئذٍ.
ومسألة قتل الشاه للسُّنَّة أنشأت في قلوب هؤلاء — ولا سيما في قلوب الأتراك — ضغينة لا تُطفأ نارها. ولما برح الشاه الصفوي مدينة بغداد ترك فيها واليًا إبراهيم خان، وكان بالنسبة إلى غيره من الولاة الإيرانيين أرفق بالناس، لكن لما مات الشاه إسماعيل وملك بعده أخوه محمد خدابنده (وكان أعمى وقد سُملَت عيناه حين ظهورهم في عالم السياسة) أرسل إلى بغداد جيشًا، فقتلوا إبراهيم خان المذكور سنة ٩٣٤ / ١٥٢٧، وعيَّنوا بدله رجلًا طاغية لا يعرف قلبه الرحمة ولا الشفقة.
فهل يسكت السلطان الجديد عن هذه الأمور؟ وهل يمكنه أن يغفر لشاه الإيرانيين تلك الفظائع بدون أن يُقابلها بما يُقاربها؟ فبعد أن فكَّر السلطان مَلِيًّا بما يفعله أودع الولاية خسرو باشا، وفوَّض إلى وزيره حافظ أحمد باشا — الذي كان قد استقرَّ في ديار بكر — أن يستخلص بغداد من أيدي الأعداء بعد أن عيَّنه رئيس عسكر (سر عسكر)، فنزلا بجنودهما على بغداد، وحاصراها أربعين يومًا، إلا أن الشاه صفي قَدِم في تلك الأثناء، فخافا منه وانهزما إلى بلاد الروم. وبينما كان خسرو في تلك الأرجاء إذ قُتل غِيلة. وممن كان مع خسرو المذكور في أيام حصار المدينة رجل اسمه خليل باشا، فهذا الرجل أبى أن يرجع خائبًا، فسار إلى الحلة ومَلَكَها، ولما قدِم الشاه صفي ودخل بغداد أرسل عسكرًا قبضوا عليه، فسجنه في بغداد ثم أطلق سراحه، ومرِض الشاه صفي ابن الشاه عباس في بغداد، ومات فيها في سنة أخْذه بغداد؛ أي سنة ١٠٤٠ / ١٦٣٠.
وممن جارى ولاة العراق في انتزاع المدن من أيدي سلاطين آل عثمان أمراءُ الأعراب؛ فقد وقع في سنة ١٠٧٤ / ١٦٦٣ أن حسين باشا والي البصرة أرسل عساكر مع أمير بني خالد براق، وطلب إليه أن يسير إلى الأحساء لينتزعها من يد مُختلسها محمد باشا، فلما حقَّق الغاية استأثر بها هذه المرة براق نفسه، فأرسل السلطان في سنة ١٠٧٥ / ١٦٦٤ يقول إلى الأمير يحيى آغا وكنعان أمير قشعم أن سِيرَا إلى الأحساء وانتزِعَاها من يد الأمير براق، فذهبا ووقع بينهما وبين بني خالد معركة شديدة، انجلت عن انكسار الأمير براق وانتصار الأميرَين، فعادت الأحساء من جديد إلى المملكة العثمانية.
وكان يتفق أحيانًا أن ولاة العراق إذا بقَوا خاضعين للدولة العثمانية كان أعراب العراق يثورون على الولاة ويطردونهم من ديارهم. وأغلب ما كان يقع هذا الأمر في ولاية البصرة؛ لأن الأعراب هناك كثيرون يأتونها من جزيرة العرب ومن جنوب غربي ديار إيران، وهم هناك أيضًا كثيرون؛ ففي سنة ١٠٧٥ / ١٦٦٤ المذكورة ثار أعراب البصرة وطردوا واليها حسين باشا، فولي بغداد الوزير إبراهيم باشا، وعيَّنه الخاقان لقمع أولئك الثائرين، وعيَّن معه والي ديار بكر وولاة حلب والرها والموصل وشهرزور. فسار إبراهيم باشا من بغداد سنة ١٠٧٦ / ١٦٦٥ ومعه الوزراء، فنزل القرنة وحاصرها ثلاثة أشهر. ثم ضاق الأمر بأهلها فصالحوه على مال وسلَّموه البلدة. ومن هناك نزل على البصرة فملَكَها، ثم استدعى واليها الفار (أي حسين باشا) وأعاده إلى مقامه السابق واليًا على البصرة. أما هو فرجع إلى بغداد فرِحًا مسرورًا. ثم مضت ست وعشرون سنة والولاة يتوالون في بغداد والبصرة بدون أن تحدث أدنى فتنة، وهو أمر نادر.
وفي سنة ١١٠٢ / ١٦٨٩ رفع مانع أمير أعراب البصرة لواء العصيان، فحاربه والي البصرة دفتر دار حسين باشا مير ميران، ولم ينجح في محاربته لتقاعد والي بغداد عن نصرته، فانكسر حسين باشا شر كسرة، مما جرَّأ مانعًا المذكور أمير قشعم على مد يده إلى غير البصرة، فاحتلَّ في سنة ١١٠٨ / ١٦٩٦ جصان وبدرة إلى مندلي (البندنيجين)، وكان سبب تعاظُم عصيانه أن والي البصرة لمَّا حاربه استباح أمواله، فأراد أن يثأر منه أو من دولته. وفي سنة ١١١٠ / ١٦٩٨ طرد أعراب قشعم والي البصرة حسين باشا، ودفعوا مفاتيح المدينة إلى شاه العجم. أما هذا فلم يُردِ أن يُثير عوامل غضب السلطان، فأخذ المفاتيح وضمَّها إلى هدية سَنية وبعث بها إلى السلطان، فأخذها شاكرًا، لكن لم يُرِد أن يسكت عن سوء أعمال آل قشعم، فولَّى الخاقان وزيره علي باشا ولاية بغداد، وأمره أن يسير على قشعم ويؤدِّبهم أحسن تأديب. فزحف عليهم وحاصرهم حتى أذلَّهم، فصالحوه على مال، وكان في البصرة متسلمًا داود خان، فخرج من البصرة وتسلَّم مفاتيح المدينة واليها السابق حسين باشا. وكان في القرنة متسلمًا ميرزا خان، وفي الحويزة فرج الله خان، فلم يتعرَّضا بشيء، وبقيت المدينتان في أيدي العجم. فلما كانت سنة ١١١٢ ولي بغداد الوزير إسماعيل باشا فلم يقدِر على محاربة الأعجام فعُزل، وولي بدله الوزير «دالدبان مصطفى باشا»، فدخلها وحارب آل قشعم والعجم، وقدِم لنصرته والي الموصل جلبي يوسف باشا الحلبي، وحاكم العمادية قباد باشا، ووالي ديار بكر حاجي محمد باشا، وحاكم حلب أحمد باشا، وحاكم أرفا إبراهيم، وحاكم البيرة (بيره جك) يوسف باشا، فاجتمع كلهم في بغداد في شهر شعبان، وكان عدد الجند مائتي ألف فارس وراجل، فسار بهم «دالدبان مصطفى باشا» حتى نزل على القرنة، فاسترجعها وقتل مَن فيها من الإيرانيين وأعراب قشعم، ثم سار منها إلى البصرة، فلما سمع بقدومه صاحب الحويزة فرج الله خافه، فبعث إليه يطلب الأمان، فأمَّنه وتسلَّم البلد منه. أما أمير قشعم مانع فإنه هرب من وجه الباشا، ثم بعث إليه يطلب الأمان والمصالحة، فصالحه على مالٍ وعفا عنه، ثم عاد دالدبان مصطفى باشا مع ما كان معه من الحكام والولاة، ثم قتل والي ديار بكر الحاج محمد باشا؛ لأنه وجد منه خيانة قبل مسيرهم حين تحركت الإنكشارية، وطلبوا علوفاتهم فأعطاهم، وعاد الوزراء إلى بلادهم.
وفي سنة ١١٣٤ / ١٧٢١ عرض حسن باشا على السلطان أن يُعَيِّن لولده أحمد باشا وظيفة حاكم؛ لأنه تراءى فيه كل خير مع بذل النفس للدولة العثمانية، فولَّاه السلطان مدينة أرفا، فسار إليها وتولَّى أمرها، وكان ذلك بدء انخراطه في سلك الحُكَّام. وفي سنة ١١٣٥ / ١٧٢٢ عُزل أحمد باشا عن أرفا، فذهب إلى الموصل، فتلقَّاه بالإكرام والي الموصل الوزير صاري مصطفى باشا، وكان قد هرب من أحمد باشا مملوكان له والتجئا إلى صاري مصطفى باشا، فأرسل هذا إلى أحمد باشا يتشفَّع فيهما فأبى صاحبهما، فطلبهما بالثمن فأبى، فعند ذلك أرسل يقول له: «اخرج من ولايتي ولا تَعُد تقف فيها.» ثم عرض الأمر على والده حسن باشا، فغضب هذا على ابنه وحلف له ألا يُدخله بغداد إلا بشفاعة صاري مصطفى باشا، فخرج أحمد باشا من الموصل حتى جاء دجيل، وأقام فيه خمسة عشر يومًا فتشفَّع فيه صاري مصطفى باشا، فأدخله بغداد، ثم أرسله إلى البصرة واليًا.
وفي سنة ١١٣٦ / ١٧٢٣ خرج من بغداد بالعساكر الوزير حسن باشا زاحفًا على ديار إيران؛ لأن العجم كانوا يدِسُّون الدسائس لإلقاء بذور الفتنة في العراق، فلما وصل كرمانشاه حاصرها حتى فتحها، وكان الوزير قد تعب من وعثاء السفر ومشاق المُحاربات، فمرض مرضه الأخير ومات في السنة المذكورة، فأخفى موته الكتخداه محمد كهية حتى قدِم ابنه من البصرة أحمد باشا على خيل البريد، وتولَّى قيادة الجيش ثم صرَّح بموت والده، وأرسل جثته إلى بغداد فدُفن في مرقده، وكانت مدة ولايته في بغداد إحدى وعشرين سنة، وأرسل أحمد باشا إلى السلطان ينعيه والده، فأرسل إليه الخاقان بالمنشور وبخلعه السمور وولَّاه بغداد، فدبَّت في نفسه الحماسة والشجاعة، وأظهر من حُسن الإمارة والقيادة ما أنسى ذكر والده؛ فإنه سار من كرمانشاه ونزل على همذان وحاصرها إلى أن فتحها يوم النحر، وقتل الكثير من أهلها، فأرَّخ ذلك الملا جرجس الموصلي بقوله من جملة أبيات:
وفي سنة ١١٣٧ / ١٧٢٤ نزل بعساكره على مدينة أريوان وفتحها وقتل غالب أهلها، ثم كرَّ راجعًا إلى البصرة، وحارب بني لام الذين كانوا قد عادوا إلى الثورة وقتل منهم عددًا جمًّا، وغنم الغنائم ثم عاد إلى بغداد.
على أن شباب أحمد باشا ساقه إلى غزو الأعراب، والأعراب لم يُغمضوا له أعينهم؛ فإذا ذهب إلى جهة قام أعراب الجهة الأخرى كأنهم يريدون أن يسخروا منه ومن قوَّته، فبينما يُحارب بني لام ثار على الحكومة أعراب شمر، فوجَّه عليهم الكتخداه سليمان باشا فحاصرهم، ثم تسلَّق الجبل هو بنفسه وتبعته العساكر حتى بلغوا أعلاه، فوضع السيف في العُصاة، ولم يخلص من الموت إلا القليل منهم، فأسَرهم ونهب أموالهم ثم عفا عنهم عند طاعتهم ومقدرته عليهم، وعاد إلى بغداد وقد قُتل في تلك الواقعة من عسكره نحو ستمائة.
وفي السنة المذكورة عصى أمير قشعم محمد بن مانع، فحاربه والي البصرة عبد الرحمن باشا، فقتل من أعرابه بعضًا ونهب آخرين، إلى أن ذلَّ الأمير وخضع الكبير، فطلبوا الأمان فعفا عنهم بعد أن أخذ منهم أموالًا طائلة.
وفي سنة ١٢٣٩ / ١٨٢٣ عزم أشرف خان شاه العجم على أخذ بغداد، فتلقَّاه الوزير أحمد باشا بقلب قُدَّ من جلمود، إلا أن الشاه عدل عن فكره ورجع إلى مقره.
فقد كان داود باشا كرجيًّا نصرانيًّا، وُلد في تفليس في نحو سنة ١١٩٠ / ١٧٧٦ فأُتي به إلى بغداد أسيرًا، فاشتراه والي بغداد يومئذٍ سليمان باشا، وكان الصبي مُفرط الذكاء، فأُولع بالعلوم فقرأها على كبار علماء الزوراء فحصَّل منها العقلية والنقلية، المنطوق والمفهوم. ثم تنقَّل في المناصب حتى صار دفتر دار بغداد، ثم فرَّ من الحاضرة في عهد سعيد باشا بن سليمان باشا المذكور، ثم رجع إلى بغداد، ولما قُتل سعيد باشا ووُلِّي داود العراق، وكانت الولاة يومئذٍ مُستبدين بحكمهم مُستقلين بإدارتهم لبُعد الشُّقة بين الزوراء وفروق، فلما قتل علي رضا باشا المماليك أرسل داود باشا إلى الأستانة، فنفاه السلطان محمود إلى بعض البلاد، ثم عفا عنه وأرسله إلى المدينة شيخًا للحرمين، حتى تُوفي فيها سنة ١٢٦٧ / ١٨٥١. وعمَّر داود باشا في بغداد عدة مساجد وجوامع وأسواق، إلا أنه كان لا يُحجِم عن القتل سياسة، ولا عن مُصادرة بعض المثرين، وبالجملة: كان عالِم الوزراء، ووزير العلماء.
وبعد قتل المماليك ونفي داود باشا لم يجسُر أحد من الولاة أن يعصي السلطان، فتعاقب الولاة على بغداد ومُدن العراق بدون أن يُفيدوها بفائدةٍ تُذكر، بل كان أعظم همِّهم جمْع الأموال ومُصادرة الأغنياء وضرب الضرائب العظيمة، مما أضعف سكان هذه الديار ضعفًا شديدًا. وسببُ جمْع هذه الأموال أن الولاة كانوا يشترون وظيفتهم بالمال من السلاطين، فكانوا يتعهَّدون بدفع المبلغ الفلاني قبل الذهاب إلى أم العراق. ولهذا كان أول شيء يأتيه الوالي عند قدومه بغداد أن يجمع من المبالغ ما يتمكَّن منها في أسرع وقت؛ لأنه لا يعلم المدة التي يُقيم فيها قبل أن يُعزل، فكان من أعظم همومه أن يستوفي أولًا المبلغ الذي سلَّمه إلى الوزارة الداخلية، ثم ادِّخار مبالغ طائلة ليشتري بها وظيفة أو لقبًا أو رتبةً مما يطمح إليه، فكانت الأموال تنقل من العراق إلى الأستانة بدون أن تعمر بلادهم أو تصلح، ولهذا كانت البلاد في تأخرٍ دائم حتى جاءها مدحت باشا سنة ١٢٨٥ / ١٨٦٨، وأقام في بغداد ثلاث سنوات وثلاثة أسابيع، فأدخل في المدينة وفي ديار العراق من الإصلاحات شيئًا وافرًا؛ فقد بنى الثكنة (القشلة) العسكرية، ودار الشفاء للغرباء (وهي اليوم المستشفى الملكي الواقع في الكرخ)، ومدرستين رشديتين إحداهما في الرصافة والأخرى في الكرخ، وجلب منضحة عظيمة بخارية لتستقي الماء من دجلة، فتوزعه على المدينة بواسطة أنابيب من حديد، لكنه لم يتمكَّن من إتمام شغله لعزله عن بغداد. وهو الذي جلب أيضًا مطبعة كبيرة بخارية لطبع الكتب، وأنشأ فيها جريدة رسمية سمَّاها «الزوراء»، بقيَت تصدُر إلى أيام خروج الأتراك من هذه المدينة، وكانت تصدر باللغتين، التركية والعربية. فلما كان عهد جمعية الاتحاد والترقِّي أبرزوها تركية صرفة. وأسَّس مدرسة للصنائع، وأوقف عليها الأوقاف الجزيلة، وبقيَت سائرة في وجهها إلى آخر يوم من أيام الأتراك، وكان قد جعل في جانب منها المنضحة البخارية التي كان يُصنع فيها الثلج أيام الصيف. وهو الذي جلب إلى العسكر طائفة تامة من الآلات الموسيقية العسكرية، فكانت تعزف في النهار ثلاث مِرار، وهو الذي أنشأ معملًا لنسج الثياب الصوفية للجُند، وهو المعمل المشهور هنا باسم «العباخانة».
والخلاصة: أتى مدحت باشا من الأعمال في مدة ولايته الوجيزة ما لم يُضارعه فيها جميع الولاة معًا الذين جاءوا من بعده، فإنهم أضرُّوا أكثر ممَّا نفعوا؛ لأنه هو وحده لم يرتشِ، ولم يقبل أن تُعطى الرشوة لأحد، لإفسادها الموظف، وإكراهه على أن يسلك مسلكًا مُنافيًا للسنن المشروعة وللوجدان.
هذه كانت حال ديار العراق في القرن التاسع عشر؛ أي إن البلاد لم ترَ في مُدة مائة سنة سوى رجلين يصح أن يُطلق عليهما هذا الاسم، وكان الإفرنج الذين قدِموا هذه الديار للتجارة يرون هذه البلاد وما هي عليه من التأخُّر والانحطاط، ويأسفون على الحالة التي صارت إليها بعد أن بلغت ذلك المبلغ من الرقي والسمو، وكانوا يُطلعون سفراءهم على ما يجري فيها، وعلى ما تصير إليه إذا ما عُني أرباب الحل والعقد بترقية الزراعة، وفتح الطرق، ومد السكك الحديدية، وكانت الحكومة العثمانية تَعِدُ المواعيد الطيِّبة ولا تأتي أمرًا مذكورًا.
وكانت الدولة البريطانية تحبُّ دائمًا إعمار العراق وترقيته، وجمع كلمة أهاليه وضم شتاتهم؛ لِمَا بين العراق والدولة البريطانية من التآلف والتقارُب والتضافُر التي وجدت بين الإنكليز وأبناء العرب منذ قرون متطاولة وأجيال متتالية تناقلت تلك الشواعر الطيبة. وهناك سبب آخر، وهو مجاورة العراق للهند، وارتباطهما برُبُط التجارة العريقة في القِدَم. وهذه العُرَى زادت استحكامًا عند ازدياد التجارة وتوسُّعها، وتيَسُّر شئون نقليَّاتها، وهذه الأمور لم تكن تتم لو لم تُتَّخذ الوسائل المروِّجة لأمور النقل بين بريطانية العُظمى وبلاد الهند، فسهلت بذلك النقليات من الهند إلى العراق. والدولة العثمانية عرفت أيضًا أن حياة هذه الديار متوقفة على اتِّصالها بالهند؛ ولذا أذنت في إقامة عامل إنكليزي في البصرة منذ سنة ١٧٦٤، ثم بعد ذلك بقليل نظَّمَت الدولة البريطانية المذكورة بريدًا بين البصرة وحلب، فكان ذلك نعمة من أكبر النعم لأهالي البلاد، فحينئذٍ أقامت الحكومة العثمانية بريدًا يصل بغداد الزوراء بدمشق الفيحاء، فلم ترَ الدولة الإنكليزية بعد ذلك حاجة إلى إبقاء بريدها البري، فاعتاضَت عنه بالبريد البحري، وبقي جاريًا إلى سنة ١٩١٢. أما القنصل البريطاني في بغداد فإنه بدأ بالإقامة في دار الإمارة العباسية في سنة ١٧٩٨، وخوَّله السلطان من الامتيازات ما لم يُخَوِّلها لغيره من القناصل الأجانب الذين كانوا قد أُقيموا في العهد الأخير.
أما المواصلة بين الهند والبصرة على طريق خليج فارس برعاية الدولة البريطانية فيرتقي إلى العقد الأول من المائة الثامنة عشرة ميلادية. أخذت الدولة المذكورة على عهدتها إنارة الخليج وتطهيره من لصوص البحر وغُزاته، وكانوا يعيثون فيه عيث الذئاب في الغنم، وكان من أعظم أعمالهم إبطال النخاسة (أي بيع الرقيق)، فكان إبطالها من المجد الذي خَلَّد في الخليج حُسن أعمال إنكلترة. وفي سنة ١٨٣٥ زار البلاد ضابط إنكليزي وفحص الفراتين، وفي سنة ١٨٦١ وُفِّقَت شركة إنكليزية فخُوِّلت حق تسيير باخرة على النهرين المذكورين. ومما يجب أن يُلاحظ أنه لم يُرسَم لجزء من هذه البلاد العراقية خريطة من الخرائط كالواجب ما عدا ما خُطَّ في سنة ١٨٣٥، وبقي هذا الأمر الجليل مُهملًا إلى مجيء الجيش البريطاني حينما احتلَّ البصرة في تشرين الأول سنة ١٩١٤.
فلما رأى العراقيون أن الإنكليز وحدهم يعنون هذه العناية العظيمة ببلادهم، ولم تُجارِهم في ذلك دولة من الدول الإفرنجية، وهي لم تنقطع من أن تبذل المبالغ الطائلة في سبيل نفعهم، وتُفرغ ما في وُسعها لتحسين شئونهم العمرانية والأدبية والتجارية، تحقَّقُوا أن بريطانية العظمى هي الدولة الوحيدة المُستعدة لأن تُعاونهم في أمورهم، وكان قد عرض شيوخ البلاد وأكابرهم مِرارًا لا تُحصى على القنصل البريطاني أن يحمل دولته على أن تأخذ هذه البلاد تحت أجنحة حمايتها، لكن لمَّا كانت سُلطانة البحار في صداقة مُوَثَّقة العُرَى مع السلطنة العثمانية كان يضطر المقيم البريطاني إلى أن يصرف أولئك الرجال بالتي هي أحسن.
ومِمَّا بغَّضَ الحكومة المحلية في عيون الأهالي، أن جمعية الاتحاد والترقي التي قلبت عبد الحميد عن عرشه، أخذت تُظهر مكنونات نِيَّاتها وعزائمها، وهي: تتريك العناصر غير التركية، وإجبار الأهالي على اتخاذ اللغة التركية لغةً رسمية في المحاكم، ولغة علمية وأدبية في المدارس، وإبعاد الوطنيين عن الوظائف الكبيرة، وتقليدها للأتراك وحدهم أو لمُحبِّيهم مِمَّن يتظاهر بالتَّترُّك أكثر من الأتراك أنفسهم. وكان في عزمهم القبض على أموال جميع ولا سيما الأوقاف على أوقاف المسلمين؛ ليُخصصوها بمدارسهم التركية. وكانوا قد بدءوا بإخراج هذه العزائم من حيِّز الخيال إلى عالم الوجود قبل الحرب بنحو ثلاث سنوات. ومما كانوا قد صمموا عليه تصميمًا لا مرجع عنه: هدمُ قواعد الدين الإسلامي بما نشروه وكانوا ينشرونه من الكتب والرسائل، وبثِّها بين الطلبة وموظفي الحكومة، وتكريه الناس للعرب وأنبيائهم وأوليائهم وكتبهم المقدسة وعلمائهم وأدبائهم. ومما شرعوا به قبل الحرب العامة المذكورة: أنهم أخذوا يُهملون ترميم المساجد والجوامع وتعميرها، وكانوا إذا رأوا أحد أتقياء المسلمين يُحاول ترميم مسجد أو تعميره، أقاموا في وجهه الموانع، أو اضطهدوه ليعدل عن فكره، فكان يعدل عنه إذا فهم السبب. وبالجملة: كان العرب يتجرَّعون الغصص ولا يمكنهم أن ينطقوا بكلمة؛ خوفًا من أذِيَّة الاتحاديين الذين كان قد عظُم أمرهم وتفاقم شرهم، وكانوا في كل ذلك يعملون بمشيئة الألمان الذين أصبح نفوذهم في البلاد العثمانية مما لا يُنكر، لا سيما من بعد أن حصلوا على امتيازات مد السكك الحديدية في ربوع الأناضول والعراق.
هذا كله يُريك أن العرب كانوا نافرين من سوء معاملة الأتراك لهم، وكان التورانيون يرون أن أبناء اللغة الضادية لا يُوافقونهم في أفكارهم، بل يُعارضونهم في كثيرٍ من خططهم وأفكارهم؛ ولهذا عزم الأتراك أن يُبعدوهم من عضوية مجلس المبعوثين ومجلس الشيوخ أو الأعيان، فشرعوا بأن يُقَرِّبوا من المجلسين كل عربي نزع عنه أخلاقه التي وُلد فيها ومال إلى أخلاقهم فتخلَّق بها، فنجحوا في مسعاهم هذا بعض النجاح، إلا أن الحزب العربي أخذ يتقوَّى في ديار الحجاز والشام، وكان يتحيَّن فُرصة لينتهزها ويتملَّص من ربقة أولئك الأغرار المستبدين، حتى سنحت له على وجهٍ لم يكن في الحُسبان.
إذ في تلك الأثناء (في سنة ١٩١٤) نشبَت الحرب بين سربية والنمسة، ثم بين روسية فألمانية ففرنسة، واندلع لسان اللهيب إلى تُركية، فأرادت هي أيضًا أن تشترك في هذه الحرب لتُوسع أملاكها وتستعيد مجدها السابق، وتبسُط جناحي سطوتها على بلادها القديمة (أي ديار مصر وطرابلس وجميع أقطار أفريقية الشمالية)، ثم تسترجع بلاد كوه قاف (قفقاسية) وفارس والهند وغيرها. وبكل ذلك وأكثر مَنَّت ألمانية الكاذبة تركية الجاهلة، فاندفعت هذه الأخيرة إلى تحقيق هذه الأحلام، واتخذت جميع الوسائل التي كانت تُمليها عليها جرمانية، فركبت تركية كل مركوب حرون حتى خِيفَ عليها الجنون، فجُنَّت في زعمائها الذين كانوا يُديرون شئونها على أسوأ حال وأقبح صورة، فأتت من الأعمال أنكرها ومن المساوئ أفظعها.
وأول ما فعلته إنكلترة أنها استولت في مبادئ إعلان حرب تركية على باب العراق أو مفتاحه (أي على البصرة)، وذلك في غُرة المحرم من سنة ١٣٣٣ / ١٩ ت٢ سنة ١٩١٤، وبذلك أمنت لنفسها فتح العراق كله، ثم احتلت القرنة فتقهقر جاويد باشا بفلول جيشه إلى العزير، وعقب جاويد باشا قُوَّاد أتراك كل واحد منهم أقسى قلبًا ممَّن سبقه، وعاملوا أبناء العرب مُعاملة أفسدَت عليهم قلوب مُحبيهم أنفسهم، وما زالت الحرب بين الترك والبريطانيين سِجالًا حتى انجلَت عن جلاء الأتراك عن بغداد في ليلة ١١ آذار سنة ١٩١٧، فكان في المدينة من الفرح بُمنقذيهم الإنكليز ما لا يصفه واصف مما ذكرته الجرائد المحلية وغير المحلية، وشاد به الشعراء في قصائدهم ومنظوماتهم. وهكذا صار معظم العراق، ومن بعد ذلك بنحو سنة العراق كله، إلى يد دولة تعرف قدره وقدر سُكَّانه، فبدأت حالًا بتحسين شئونه، من مد سكك الحديد، وتنشيط الزراعة، وفتح الطرق التجارية، وتكثير عدد البواخر، وفتح المدارس الرشدية والعالية، وتنوير البلدة بالكهربائية، إلى غيرها من الأمور التي نراها كل يوم. والآمال معقودة أن هذه البلاد تخرج من ظلمات الجهل والغباوة إلى أنوار المدنيَّة والحضارة بسعي الدولة البريطانية العظمى، وما ذلك ببعيد بمنِّهِ تعالى وكرمه.