الفكر والفن في القرن السادس
التاريخ والمؤرخون
وقد عاصر يوستنيانوس وبروكوبيوس مؤرخٌ آخرُ، هو بطرس البطريق، كان محاميًا لامعًا وسياسيًّا مفاوضًا، فمثل الروم مرارًا لدى الفُرس والقوط الشرقيين، وكتب في تاريخ الإمبراطورية منذ عهد أوغوسطوس، ووضع سفرًا خاصًّا في التشريفات، وقد ضاع الشطرُ الأكبرُ مِنْ هذين المؤلفين، ولم يَبْقَ منهما سوى شذراتٌ منثورة.
وقام بعد بروكوبيوس أغاثيوس المحامي، فأرخ لعهد يوستنيانوس منذ السنة ٥٥٢ حتى السنة ٥٥٨، وجاء مينانذر في أيام موريقيوس، فَأَرَّخَ للسنوات ٥٥٨–٥٨٢، ولكن ضاع هذا المؤلف ولم يَسْلَمْ منه سوى بعض نُتَف مفيدة جدًّا من جهة المعلومات الجغرافية والمعرفة بالعناصر البشرية الطارئة على الإمبراطورية.
الجغرافية والجغرافيون
التأريخ بالحوليات
وأشهر مَنْ دَوَّنَ الحوادثَ في القرن السادس مُرَتَّبَةً بحسب تاريخ وقوعها، يوحنا ملالاس الأنطاكي، فإنه وضع خرونيقونًا لتاريخ العالم منذ أقدم الأزمنة حتى نهاية عهد يوستنيانوس.
وبين هؤلاء أيضًا يوحنا الإفسسي، وُلد في آكل مِن ولاية آمد في السنة ٥٠٧، ونَشَأَ ناسكًا في دير أرعازبتا، وأجاد السريانية واليونانية، ورحل في طلب العلم إلى أنطاكية والإسكندرية والقسطنطينية، وفي السنة ٥٤٢ اختاره يوستنيانوس لتبشير الوثنيين في بعض نواحي آسية الصغرى، وحوالي السنة ٥٥٨ رسمه يعقوبُ البرادعي مطرانًا على مَنْ قال بالطبيعة الواحدة في إفسس، فأقام على رعاية هؤلاء تسعًا وعشرين سنة.
وفي السنة ٥٦٦، بعد وفاة ثيودوسيوس الإسكندري، أصبح يوحنا الإفسسي رئيسًا لجميع من قال بالطبيعة الواحدة في القسطنطينية وسائر بلاد الروم، وفي السنة ٥٧١ اضطهد يوستينوس الثاني من لم يقل قول الكنيسة الأم، فشمل هذا الاضطهاد يوحنا المترجم له، فسجن ثم نفي، ثم اعتقل مرة ثانية في عهد طيباريوس وأُبعد عن العاصمة في أواخر السنة ٥٧٨، وكانت وفاته في السنة ٥٨٦ أو ٥٨٧.
أخبار القديسين
الشعراء
ونظم كوريبوس أيضًا شعرًا في يوستينوس الثاني وتَسَنُّمه العرش، فأفاد به المؤرخ أكثر كثيرًا مِمَّا أفاد الأدب، وممن قرض الشعر في هذا القرن ذيوسقوروس القبطي، وُلد في صعيد مصر في قريةٍ صغيرةٍ، وتعلَّم علوم زمانه ثم درس الحقوق وتعاطى الأدب، ولكنه لم يكن مُجيدًا في نظمه، وما بقي من أبياته على وُرَيْقات البردي لا يزيد الأدب الهليني فخرًا. يضاف إلى هذا أنه لم يحسن قواعد اللغة فجاءَت أبياتُهُ ركيكةً ضعيفة.
الفن
وأعجبُ ما في هذه الكنيسة قُبَّتُهَا العظيمة؛ فإنها تشمخ ضمن محيطٍ قدره واحد وثلاثون مترًا على علو خمسين مترًا فوق سطح الأرض، وهو عملٌ لا يزال يعتبر حتى ساعتنا هذه من معجزات فن البناء، وشكل الكنيسة مربع مستطيل عظيم يقسمه صَفَّان من الأعمدة إلى ثلاثة أبهاء، والأرض والأعمدة والأقسام السفلى من الجدران جميعها من رُخَامٍ مُلَوَّن، وما تَبَقَّى من الجُدران والسقف جميعُهُ مغشًّى بالفسيفساء المذهبة، ويُطل النور على المصلين من أربعين نافذة عند أسفل القُبَّةِ الكُبرى فتعكسه الفسيفساء المذهبة الملونة أشعةً متنوعةً رائعةً، أما الفِناء أمام هذا المعبد فإنه كان فيما مضى واسعًا كبيرًا تتناسب مساحته وحجم الكنيسة وراءَه، وكانت تحيط به من جهاته الأربع أروقةٌ ذاتُ أعمدة مُتقنة الصنع، وتقوم في وسطه نافورةٌ مزخرفةٌ جذابة.
وربما تعذَّر علينا اليوم أن نتلذذ تلذذًا تامًّا بوجوه الإتقان والبداعة في الفسيفساء على جدار كنيسة الحكمة الإلهية؛ لأن الأتراك قد حَوَّلُوها عند الفتح إلى جامع، وطمسوا هذه الآثار بطِلاء من الطين وغيره، ولأن أعمال التنظيف والترميم التي أمر أتاتورك بإجرائها في هذه الكنيسة لم تَتِمَّ بعدُ. ولكن بإمكاننا أن نلمس لطائفَ هذا الفن وروعته على جدران كنيسة القديس الشهيد فيتال في رابينة، ورابينة هذه كانت في القرن الخامس بعد الميلاد ملجأً لأباطرة الغرب، ثم أصبحت في أوائل القرن السادس عاصمةَ القوط الشرقيين، ولما تغلب يوستنيانوس على هؤلاء وفرض سلطته على إيطالية؛ أصبحت رابينة مركز حكم الروم في إيطالية ومقر الإكسرخوس فيها، وذلك طوال قرنين منذ منتصف السادس حتى منتصف الثامن.