بسم الله الرحمن الرحيم
أنشأ لنا هذا التقريظ البديع الفائق، ذا اللفظ الشريف والمعنى الرائق. من جمع إلى جمال طلعته كمال الأخلاق والشيم. وحبه الخالص لإحياء الفنون الجميلة من العدم، الأريب الألمعي الفاضل. حضرة (طه أفندي كامل) موقد سبكه، والحق يقال في بوتقة الفصاحة وسكبه في قالب الملاحة. وصاغه بآلات حسن الانسجام. ورصعه بجواهر الكلام. وأخرج غوّاص فكره من بحر المعاني والبيان. فرائد أفكر لم تظفر بها أصناف الآذان. وخرائد أبكار لم تقترعها فحول الأذهان. فاختلب ببهائه القلوب والأرواح. واستلب بروائه الأموال والأشباح. وقد ذكر فيه حفظه الله بدء حظوته بمعرفتنا. وانضمامه إلى سلك تلامذتنا. جعله له قدوة حسنة لأمثاله من الشبان. الذين يميزون ما زان من الأشياء وشان. ويفرقون بين الحسن والقبيح. والفاسد والصحيح. كيما يأخذوا بناصر هذا الفن فيرفعوا به إلى ذروة مجده. ويعيدوا المشرفي إلى غمده. فقد هوى في مصرنا — وايم الله — إلى حضيض الخسة والهوان. وسامه الناس الخسف والخذلان. وما ذلك إلا لانتماء بعض زعانف القوم إلى رحابه. وتكأكئهم على بابه. وإتيانهم ما يخدش سمعته. ويذهب بهجته. وتعويدهم الناس على سماع شنيع الكلام. مما تنبو عن الإصغاء إليه طبيعة كل شريف همام. ألهمنا الله جميعًا إلى ما فيه الخير والصلاح. وهدانا إلى سبيل الفلاح والنجاح.
التقريظ
حمدًا لمن تترنم بذكره الأطيار على الأفنان بفنون ألحانها. فتخلب القلوب بشدوها على دقها وعيدانها. وتنوح فتناجي كل مشوق بأنواع الأشواق. وتقرح وتفرح، فتأخذ الأحزان عن يعقوب والألحان عن إسحاق. وتصدح فتصدع قلب كل متيم مشتاق. وتسجع من الصبا لطول شقة النوى؛ فتهيج بلابل العشاق.
وصلاة وسلامًا على نبي تتغنى بمديحه المشاة والركبان. صلاة دائمة ما غردت البلابل على الأغصان.
(أما بعد) فإن السماع. ينعش الأرواح ويشنِّف الأسماع. وهو كيمياء الطرب وأدم المدام. ولولاه ما طاب لمغرم ادِّكار معشوقه، ولا انعطف معشوق على مستهام. سيَّما إذا كانت الألحان متينة الصناعة. ومؤديها ذو صوت شجى وبراعة. وأصوات المساعدين له مع آلات الطرب في اتحاد واصطحاب. والشموع الباهرة تحترق فيستضيء بنورها الخلان والأصحاب.
وحيثما كان مجلس الشرب موضوعًا للاستكثار من اللذات، فالأولى أن يُجمع به من الندماء ما اتصف بالحذق والفطنة والفكاهات، ومعرفة أنواع الغناء والطرب؛ كي يكون له للسماع نوبة وأخرى للحديث والأدب، قال المعتز رحمه الله، وأكرم مثواه:
فإذا استكمل الندماء هذه اللطافات، واتصفوا بما تقدم ذكره من الصفات، فقد عقدت الخناصِر على محاضرتهم. وأشير بالبنان إلى منادمتهم ومحاوتهم. وحلا بوجودهم شرب الراح. وجاء السرور بجر ذيل الأفراح. فقام احتفاء بقدومه بين الجميع خطيبٌ الأنس والظرف قائلاً: هلموا بنا؛ فقد طاب مجال القصف والعزف، فالوقتُ معين، وماء الشبيبة مَعين، ونشر البشر فائح، ونور الهناء لائح. وغصن الصبا رطيب. ومطرف اللهو قشيب.
فلا تسمع فيه إلا نغمات المثالث والمثاني، ورنات القوارير والفناني. فمن عود يحرك أو يحرق. أو قدح يروب أو يروق. أو شاد يغرد، أو شارب يعربد، أو خد ورد ينشق، أو ورد خد ينشق.
فيحتسونها صِرفًا مملوءة من شراب سائغ ذهبي الجلباب، لؤلؤي النقاب، يورد ريح الورد، ويحكي نار إبراهيم في اللون والبرد.
يطوف بها سقاة بأيديهم أقداح، تفتح أبواب الأفراح، ما منهم إلا كل غزال أهيف. يفترُّ ثغره عن لؤلؤ رطب وعن قرقف. قد نقش العذار فص وجهه. وأحرق فضة خده. صبيح وسيم. تعرف فيه نضرة النعيم. مشرق بالأنوار. تحج إلى كعبته الأبصار. يترقرق فيه ماء الصبا. ويخفي من لمعه بروق الصبا. نزهة المشتاق، ومرآة لوجود العشاق، سمهريّ القوام ليَّن القد. إذا نطق أخرج جواهر الكلام من بين شفاه كورق الورد. كأنَّ الراح من خده معصورةٌ. وملاحةُ الصورة عليه مقصورة. تتعطف الأغصان سجدًا لعطفه. ويسقي بطرفه أضعاف ما يسقي بكفه.
يتهادَى في مشيته كالطاووس، فينفي عن القلب البؤوس. ويميل كالغصن الرشيق؛ ليملأ للندماء كاسات رحيق كالحريق.
ويناول للشاربين نقلاً على الراح. من مسكر الفاكهة أو التفاح النفَّاح.
فيتلذذ الحضور بالمسموع والمشموم. والمشروب والمطعوم. والاكتفاء بتمتيع النظر إلى الوجوه الحسان. واستنشاق الورد والنرجس والبنفسج والريحان.
وبين ذلك قريض ينشد ومِلَحٌ ونوادر، ومجامِر الند تملأ الفضاء بعبير شذاها العاطر. وقمر يبتسم للكون ويتطلع كالحسناء من خلف الغمام. والنيرات السواطع منتثرة حوله كحاشيته وهو بينهم البدر التمام.
ولم يزل أولئك القوم بين كمنجة وقانون. وعود وأرغنون، وناي مرقص مطرب. وشاد معجب مغرب. وساق فاتن ودهر موات. وأمر مستمع أقول: خذ وهات. وشمس تدور. على نجوم وبدور. وهم يتمتعون بالملذات في هذا القصر. حتى مطلع الفجر. فيسرح سوام البصر. بين الماء والخضر، إذا مُحي الليل وارتفعت الحجب. وبدا النهار فباخت نار الشهب. واقتنص بازي الضوء غراب الظلام. وفض كافور النور عن الغسق مسك الختام. وظهر وجه النير الأعظم. والسراج الوهاج المقدم. كأنه جذوة أو قطعة من دينار. أو كأس ستر بعضه الحباب. أو حسناء غطت وجهها بنقاب. ثم كشفت أستارها, ألقت على الأفق أنوارها.
فضحك لها الزهور في الأكمام. والغصون ترقص على غناء الحمام. فنثر حال اهتزازها من طيب الأزهار. ما يتضوع أريجه في الفضاء وينشر عرقه المعطار.
وإذا ما أرجع البصر. إلى جهات أُخر. وجد مرج أفسح من أمل حريص طامع. في جاه غني كريم نافع. وأنزه للأبصار والبصائر. من غض شباب زاه زاهر. ساعده الدهر بعافية ومال وافر. روائحه ألطف من نسيم السَّحَر. ورواشح مائه أعذب من ماء الحياة صفاء بلا كدر. وتغاريد طيوره ألذ في السماع من ثناء الناي على الوتر. والرعابيب تمرح مع أسراب الغزلان. بين غياض النسرين والآس والأُقحوان. والسواقي تجرُّها صفر البقر. بين خرير الماء وحفيف الشجر. فينحدر ماؤها بين الجداول والحياض. ويلتوي ليسقي المزارع والرياض.
فينصرف الجمع مما سمع ورأى منشرح الصدر والخاطر. قرير العين والناظر.
شملنا الله وإياكم ببره الوافر. ورفده المتابع المتواتر. وأغدق علينا نعمه السابغات، في أسعد الظروف والأوقات.
•••
ولقد أسعدني الحظ وحسن الطالع. بما سأسرده على القراء الكرام وأقصه على المسامع: جمعتني الصدفة في نادي أديب من الأدباء، ووجيه من الوجهاء. اشتمل مجلسه العالي على كثير من أهل الأدب، ومحبي لغة العرب، الذي إن نظموا أودعوا أصداف المسامع درًّا. أو نثروا نفثوا في عقد العقول سحرًا. وصرنا نتجاذب أطراف السمر في ذكر أهل البراعة. ونعد مناقب فرسان أصحاب البراعة. ونورد أخبار اللسن. ونروي عنهم كل حديث حسن. أمتع من نسيم السحر. المتعطر بربى الزهر، حتى انتهى بنا الحديث إلى ذكر المغنين والأغاني. بمناسبة ذكر كتاب (الأغاني) فتكلم كل بما دار في خلده. وأفرغ جَعبة محصوله على قدر جهده. وكان في المجلس شاب لم يتكلم بإسهاب إلى قرب انتهاء الحديث. الدائر محوره — وقتئذٍ — على تفضيل أيهما؛ الغناء القديم أم الحديث. فأبدى من الرأي الفصل. والقول الجزل ما كشف لنا به الستار عن وهن التلحين الحديث، وضعف ألفاظه وسخافة معانيه. وأثبت ببراهينه الساطعة حسن الغناء القديم وقوة صياغته ومتانة مبانيه. وما زال ينادمنا بأفصح لسان. ويجلو علينا عقائل أخلاقه الحسان. وينثر جواهر لفظه النظيم. ويزف إلينا ملحًا ألذّ من الزلال على قلب الكليم. حتى جلا عن القلوب الهموم والأوصاب. وأعجب بفصاحته الحضور أيَّما إعجاب. فراقني ما شاهدت من حاله. وأمعنت النظر في مستقبله ومآله. وسألت — همًّا — مَن بجواري، والجالس على يساري: أو تعرف أيها الفاضل هذا الشاب. السالب بمنطقه العذب نهي أولي الألباب: فقال: نعم هو نابغة مصر. ومحيي ما اندرس من معالم فن الموسيقى في هذا العصر. الذي شهدت له أئمة فنه في براعة اختراع الألحان والموشحات. والفوز بالقدح المعلى في وضع الأسفار الأثيرة ونشر جليل المؤلفات. الأديب الموسيقي اللوذعي. (كامل أفندي الخلعي) وجل غرضه الذي يسعى إليه الآن. أن يصل هذا الفن في الشرق إلى درجة الكمال والإتقان، فنراه مكبًا على تحصيل غوامض أسرار هذا الفن النفيس، حتى صار أستاذًا عظيمًا شرقيًا يرجع إليه في المشكلات ويعوّل عليه في التدريس. فرغبت إليه أن يرجوه ليتحفنا بشيء من تلاحينه الخاصة وطيب نغماته. وأن يجود علينا بما منّ الله عليه من جزيل نعمه وهباته. فلبّى الطلب بكل خضوع وأدب. ولم يعتذر بوجود ألم في صوته كأكثر ثقال المغنين إذا استماحهم راغب إنشادَ شيء من التلحين. بلغنا المقصود من سؤالنا. وجمع بيننا وبين آمالنا. فإذا — والحق يقال — صوتٌ شجي رخيم. أشهى إلى الآذان من رجوع العافية إلى جسم السقيم. وأصفى من ماء الغمام. وأضوأ من بدر بالتمام إذا انكشفت عنه حجب الغمام. في حندس الظلام. أغنى بمغانيه النفس بعد فقرها. وأرجع إليها محبوبها بعد طول شوقها. وأهدى الروح إلى الأرواح، وأطرب السمع بضروبه الصحاح، فلا تخلو له قطعة من صنعه. ولا خانه. من متانه. ولا قفله. من حفله. حتى ثملنا طربًا، ومِسنًا تيها وعجبًا. وأخذ بعض الجماعة من الطرب ما يأخذ أهل السكر. فنشروا أعلام الثناء والشكر. وظهرت أسرار السرور. وانشرحت صدور الصدور. خصوصًا مما سمعناه من النغمات غير الملحن عليها في مصر أدوار أو موشحات. (كالتكريز والفر حناك وألبسته نكار. والعجم والبوسليك والسوزناك والحجاز كار).
ولم نزل تتمتع منه بالسماع والحديث بكل مطلوب. إلى أن آذنت الشمس بالغروب. فتأهَّب للقيام. فحييناه بالترحاب والإكرام. فخرج والعيون تشيعه. والقلوب معه. فيا له يومًا ما كان أطيبه وأقصره. وسرورًا ما أوفاه وأوفره! مُلكنا فيه زمام التهاني. وحصلنا منه على الآمال والأماني.
ولما انفض عقد مجلسنا وانتثر. سرت معه ليُريني آخر مؤلف من مؤلفاته الغرر. فكانت فاتحة الألطاف أن قرأت على غلافه بالحرف الجميل الجليّ: كتاب (الموسيقى الشرقي) فتصفحته تصفح منتقد بصير، عليم بأسرار التأليف خبير. فانشرح صدري بالوقوف على مغانيه. وجال فكري حيث جال في معانيه. وامتلأ قلبي من نوره نورًا. ورجعت به إلى أهلي فرحًا مسرورًا. كتاب يشتمل من أصناف الفوائد. على أصداف الفرائد. حوى من هذا الفن ما لم يحوِه كتاب. وفتح للطالب إلى أقصى المطالب كل باب؛ إذ هو فريد في فنه الفائق. وحيد في جمعه للدقائق. عزيزُ التحقيق. كثير التدقيق. لم ينسج ناسجٌ من المتقدمين على منواله. ولم يسمح الدهر بمثاله. على أن فضل القدماء لا ينكر. والإغضاء عن بيان فضلهم لا يشكر، فنحن إنما بنينا على أساسهم. واهتدينا بنبراسهم. غير أننا إذا وضعناه موضع الكتب القديمة. كنا كمن لا يعرف لهذا الفن قيمه. وإذا قابلناه بما سلف. كنا كمن قابل بين الدرِّ والصدف. والقصدير والذهب. أو الرأس والذنب.
ساقني إلى مطالعته بالتدقيق سلاسةُ وضعه. وجودة ورقه ودقة طبعه. وانسجام عباراته، ولطف إشاراته. ومن ثمين ما وجدته فيه الأوزان العربية والتركية. موضوعة بطريقة سهلة المأخذ بالنوتة الإفرنجية. مع قواعد علم التصوير ورصد النغمات. وتعليم أيّة آلة من الآلات. مع تصويرها بالشرح الوافي. والبيان الكافي. بألفاظ وضيّه. ومعانٍ مضيَّه، كذا يجد فيه المطلع من صور مشهوري هذا العصر ما هو غرة في جبين الدهر. وكلها متقنة الوضع، رائقة الصنع. مما تتوق إلى النظر إليه أنفسُ أدباء المطلعين. فيشكرون صنيع المؤلف ويترحمون على مَن مات من فطاحل المغنين — والموشحات مرتبة ترتيبًا جميلاً على هيئة فصول. كأحسن ما يغرفه كبار الفن من أعذب المسموع وألذ المنقول. مع تراجم أهل العصر. والمختار من تلاحين علماء الشام ومصر. مما يعد في الحقيقة بدعة الأمصار. وشرك الخواطر ونزهة الأبصار. على أني لو استعرت فصاحة الأدباء. وأُعطيت بلاغة الخطباء. لما أمكني أن في هذا السفر. حقه من التمداح والشكر. وقصارَى المديح عجزُ الفصيح.
وقد هداني أيضًا هذا المؤلف الجليل إلى وجود مجموعة أخرى لهذا الموسيقي النبيل، تشتمل على اثني عشر موشحًا من أمثل ألحانه. وأجمل ما جاد به صوته السليم وفنه الممسك له بعنانه. قد جلاها للناس في معرض المبتدع المخترع. لا الناقل المقترع. وربطها بالنوتة الإفرنجية. ووضع عليها ألفاظها باللغتين العربية والفرنساوية. وهو أول شرقي رفع شأن وطنه في علمه بعمله. وأتى بما لم يأت سابقوه ولا معاصروه بمثله.
ولما كان من الواجب على كل حر شريف يحب خير وطنه والإصلاح. أن يرشد إخوانه إلى ما فيه الخير والصلاح فأقول: لا جدال في حسن الغناء القديم ووثاقته. ولا نزاع في متانة تركيبه وصياغته؛ لأنه الأساس الذي اقتاد به المحدثون. وعليه مثل الملحنون. وتناقله الخلف عن السلف في كل قطر ومصر. جيلاً بعد جيل وأهل عصر بعد عصر؛ لأن كل ملحن مجيد لا بد أن يكون استكثر في بدئه من حفظ تراكيبهم. وتحدي أساليبهم. ومحاكاة نغمتهم. والحذاء كما سبق القول على أمثلتهم. كيما تتحصل عن ذلك عنده ملكه التلحين. فتصدر ألحانه خالية مما يشين.
ولما كنا في الحقيقة — وإن تقادمت الأيام — سلالة أولئك الأقوام الكرام. فما علينا إلا أن نطلب الخير. بالاقتداء بهم في السير، لنكون لمن بعدنا قدوة. كما كان لنا بذلك السلف الصالح أسوة.
ولو انتبه أهل الفن قديمًا لربط موشحاتنا العربية، بالنوتة الإفرنجية. لما انتسخت أكثر عمليات تلحينها. ولما تعب مثل كامل أفندي المذكور في كتابة ألحانه خوف الضياع وتدوينها؛ لأن البيشراوات والبستان والموشحات، هي الجزء الأول. الذي عليه في هذا الفن المعوّل. وما الأدوار إلى قطع صغيرة عديمة القيمة. موضوعة على غير أصول ومحشوة بالمعاني السقيمة — بخلاف الموشحات فإنها محصورة القوانين، صحيحة القسمة في التلحين. تشتمل على ألفاظ أرق من الشمول. ومعان بعيون عقائلها تفتن العقول. وكفى على فضلها دليلاً أننا نسمعها نحن وآباؤنا من قبل. ولم نعف سماعها إذا أعيدت وكررت في كل فصل. وبرهاني (بدري أدر كاس الطلا) بحياتك قل لي أليس كلما كرر شنف الآذان وحلا. ويا (هلالاً غاب عني واحتجب) أترغب فوق أن يزيل عن قلبك الهم والنصب. إلى آخره مما يطول شرحه وتفصيله. ويعسر الآن تأسيسه وتأصيله. وأكبر دور إذا قيل بضع مرات في محفل أو ناد. بحته نفوسنا وصار كالكلام المعاد — وما ذلك إلا لمتانة تلحين الأول وضعف الثاني. يعرف ذلك جيدًا من كان لهذا الفن يعاني.
ولكن لما كان المشتغلون بصناعة التلحين في هذا الزمان. لا يمكنهم تلحين الموشحات لصعوبة تركيبها وعدم معرفتهم أسرار الأوزان. تركوها ظهريًًّا ونبذوها منسيًا. وقد عودوا الناس على سماع أدوارهم البسيطة القليلة البضاعة. الخالية من محاسن الإبداع ودقيق الصناعة. واستملحها السامعون لسهولة معانيها. وهم لا يدرون بأنها مسروقة من الموشحات ومشذبة من نواحيها.
*** ومن يقيس التراب بالمسجد، والحصى بالزبرجد. أو الصفر بالصفر. والتراب بالسراب. وشتان بين الليل الدامس. والنهار الشامس. وهل يقارن الدر بالحصى. والسيف بالعصا. وكم بين الحق والباطل. والخالي والعاطل. وبين حوت السماء. وحوت الماء!
والخلاصة أن الفرق بين الموشحات والأدوار. عند أئمة الفن أو ذوي الأبصار. كالفرق بين ظاهر الثوب المحاك بالحرير المزين بالألوان. وبين باطنه الذي لخسته لا تود أن تراه العينان.
*** ولما لم أجد في الشرق الآن من لحن من نوع الموشحات بهذه المتانة الفائقة. والجزالة في الطرب الرائقة الشائقة. غير حضرة الأستاذ المبدع الموسيقى (كامل أفندي الخلعي) فأحببت اعترافًا بما له على هذا الفن من الأيادي البيضاء أن أذكر شيئًا من مناقبه إلى حضرات المطلعين الأجلاء. وعسى أن يجعل جائزتي قبول كتابتي. لتتم سعادتي.
*** هذا ولما آن أن ننتهي من هذا الكتاب. وحان نجاز طبعه المستطاب، بسطت يد الإخلاص والولاء، ورفعت أكف الضراعة والدعاء. بدوام بقاء حامي الممالك والبلاد، المحامي عن حوزة الدين صيانة لأرواح العباد، حجة الله على العالمين. وبرهانه القاطع على العتاة الجاحدين، السلطان الأكرم، والمتبوع الأعظم، مولانا (عبد الحميد الثاني). الملك العثماني، فدعوت بنصره. وسعود عصره. راجيًا من الملك المجيد. دوام عزه والتأييد. وأن يهب أمير البلاد، تابعه المعظم، وولي نعمتنا المفخم، الملحوظ بالسبع المثاني. (عباس باشا حلمي الثاني). طول العمر. ودوام اليمن والخير. كما أدعو ببقاء ذات رب المكارم والنعم. والمحاسن العميمة ومعالي الهمم. من ساعدني على طبع كتابي هذا حتى خرج للوجد. يزدهي بأنوار طلعته والسعود، صاحب السجايا الحميدة وجميل المناقب. عطو فتلو أفندم (إدريس بك راغب). وقد ضمنت هذا الإخلاص الأكيد. في هذا النشيد.