في الأحوال الخارجية
(١) الحروب الصليبية. (٢) التجارة الخارجية.
***
(١) الحروب الصليبية
(١-١) الحملة الأولى
تبتدئ الحملة الصليبية الأولى بين المسلمين ونصارى أوروبا في سنة ١٠٩٥م/٤٨٨ﻫ، أما النضال بين المسلمين والنصارى، فيرجع إلى عهدٍ أقدم؛ أي حين تمكَّن المسلمون أن يسيطروا على ما كان بيد دولة الروم الشرعية من أقاليم حوض البحر الأبيض المتوسط في الشرق، وحين سيطر على شبه جزيرة إيبريا في أوروبا؛ فقد تركت المسيحية للإسلام تلك الديار وفي نفسها حسرة، وكانت تفكِّر دومًا في استعادتها حتى استطاعت استعادة شبه جزيرة إيبريا، وقضت على الإسلام في المغرب العربي (بديار الأندلس). أما في المشرق فإن سلسلة الحروب والغزوات التي كانت بين المسلمين والروم منذ أيام عمر بن الخطاب إلى عهد ريكاردوس قلب الأسد في الحروب الصليبية، ثم في عهد الجنرالين اللنبي وغورو في الاحتلال البريطاني والفرنسي للشرق الأوسط، ثم في حملة قنال السويس الأخيرة وضرب مدينة بورسعيد من قِبل القوات الفرنسية والإنكليزية سنة ١٩٥٦م، ما هي إلا رد على حملات الإسلام الأولى التي أقضَّت تمضجع النصرانية.
والحق أن الحملة الصليبية الأولى في سنة ٤٨٨ﻫ/١٠٩٥م لم تكن إلا حجًّا مسلحًا، شجَّع عليه البابا، وأثار عواطف النصارى على ما يلقاه النصارى في المشرق، وبخاصة بيت المقدس، وذلك حين دعا إلى مؤتمر «كلير مونت» يوم الأحد في ١٨ كانون الأول سنة ١٠٩٥م/٤٨٨ﻫ، واتخذ المؤتمرون من نصارى أوروبا الكاثوليك قرارًا بإنفاذ الحملة الصليبية الأولى للأراضي المقدسة، وأخذ «المؤمنون» ينخرطون في الحملة، ولم يكتفِ البابا بذلك بل راح يطوف في أرجاء فرنسة وإيطالية داعيًا إلى الجهاد في سبيل إنقاذ مهد المسيح من المشركين.
أما حملة أرمينية فقد كانت بزعامة «بلدوين دي بويون»، ولا شك في أن اتجاهه ذلك الاتجاه هو انحراف عن الهدف الرئيسي للحملة التي جاءت ﻟ «إنقاذ» بيت المقدس، وما ذلك إلا لأن بلدوين كانت له مطامع شخصية في بلاد أرمينية.
وأما حملة أنطاكية وكانت بقيادة بوهيمند فقد وصلها، وكانت مدينة محصنة فيها أكثر من أربعمائة برج وحصن قائمة على الجبال المحيطة بها، وكان عليها القائد التركي «ياغي سيان»، ولما علم بمقدمهم حصَّنها واستغاث بدقاق أمير دمشق، وبكر بغا أمير الموصل، وبالسلطان بركياروق، واستطاع أن يصمد أمام الصليبيين إلى أن جاءه الغوث بقيادة دقاق أمير دمشق، والتحم الفريقان واشتد الأمر على الصليبيين واضطُر بطرس الناسك إلى الهرب، ولكن «تانكريدو» أرجعه، وباء الصليبيون بفشلٍ مريع، جعلهم يتراجعون ويجمعون قواهم من جديد، ومما زاد في قوَّتهم أن الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي الوزير الفاطمي قد بعث رسولًا إلى الصليبيين لعقد اتفاقية بينه وبينهم ضد السلاجقة المخالفين له في العقيدة، على أن يستقلوا هم بأنطاكية وتكون لهم الحرية الكاملة بإقامة شعائرهم في القدس، وقد رحَّب الصليبيون بهذه الاتفاقية، وأدركوا ما ينطوي عليه العالم الإسلامي من انقسام. ولما بلغت هذه الأخبار مسامع الملك رضوان السلجوقي صاحب حلب، تناسى خصومته لياغي سيان التركي، وقدِم إليه منجدًا بقوًى كثيرة، والتقى الجيشان وكانت الغلبة للصليبيين لمعاونة الأرمن والنصارى السوريين إياهم في حملتهم، واستمر تقدُّم الصليبيين إلى حلب والمعرة والبارة.
(١-٢) الحملة الثانية
واستطاع نور الدين أن يسيطر على الشام ومصر ويوحِّد إمارتها بقيادته، فخافه الصليبيون وحسبوا له حسابًا، وتقهقروا إلى السواحل، فلما مات سنة ٥٦٩ﻫ خلفه ابنه الملك الصالح إسماعيل.
ولكن صلاح يوسف بن أيوب صاحب مصر، رأى أنه من المتعذر إدارة البلاد إذا لم يحكمها رجل واحد قوي، فعزم على توحيد القطرين (مصر والشام) كما كان الحال أيام نور الدين، فتم له ذلك في سنة ٥٧٨ﻫ حين قصد الشام من مصر، ففتح طبرية وجنين والغور، وحاصر بيروت وعكا وفتحها، ثم سار نحو غرب الفرات حتى وصل آمد ثم رجع ففتح حلب، وبلغه أن الفرنج المقيمين بالقدس قصدوا دمشق، كما أن الفرنج المقيمين بالكرك والشوبك قصدوا المسير إلى المدينة المنورة لنبش قبر الرسول ﷺ فرجع سريعًا وطردهم عن دمشق، ثم حاصر الكرك سنة ٥٨٠ﻫ وفتح نابلس. وفي سنة ٥٨٣ﻫ تجمَّع الصليبيون عليه فسار إليهم والتقى جمعاهما في «حطين» قرب طبرية، فأباد جموعهم وأسر ملك الفرنج الكبير، وصاحب الكرك، وصاحب جبيل، وقتل منهم أربعين ألفًا، ولم يبقَ منهم إلا خمسة آلاف أسلم منهم قسمٌ فأطلقه، ومَن لم يسلم أسَره. ثم سار إلى عكا ففتحها، ثم فتح الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ودبورية وأكثر مدن فلسطين، وحاصر عسقلان والرملة وغزة والجليل واللد فاستسلمت جميعها. ثم نازل القدس وفيها رءوس النصرانية — الصليبية وملوكها — وضيَّق عليهم الخناق فطلبوا الأمان فقال: على شريطة أن يؤدي كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة، وكل طفل دينارين، ومن عجز أُسِر؛ فقبلوا وتسلم المدينة، وكان فيها ستون ألف رجل ما عدا النساء والأطفال، فوفَّى لهم بعهده وأجلُّوه وقدَّسوه، وكان فتح القدس هذا فتحًا مبينًا مخلدًا، أعاد الله على العرب مثله اليوم ليفتحوا الأراضي المحتلة من فلسطين ويطهِّروها من أوضار الصهيونيين الظالمين.
وفي ذلك اليوم الأغر يوم فتح القدس، يقول عبد المنعم الحلباني في قصيدته التي قالها مهنئًا صلاح الدين، رضي الله عنه:
(١-٣) الحملة الثالثة
بينما كان صلاح الدين على أسوار عكا سنة ٥٨٦ﻫ جاءته الأخبار من بلاد الروم أن ملوك أوروبا قادمون لينجدوا الصليبيين في الشام ومعهم مائة ألف صليبي، فحزن الناس وكانت هذه الحملة مؤلَّفة من ثلاثة ملوك هم «فريدريك باربروس» ملك ألمانيا الذي غرق في الطريق، و«فيليب أوغست» ملك فرنسة، و«ريكاردوس» قلب الأسد ملك إنكلترا، وقد وصلت الحملة إلى عكا، بعد أن فُتحت قبرص، فتلقتها جيوش المسلمين في عكا فردوهم عنها، ثم ساروا إلى يافا فأخلاها المسلمون ورأى السلطان تخريب عسقلان والرملة واللد، وسار إلى القدس، وراسله الصليبيون على الصلح، فلم يقبل ووقعت بين الجانبين معارك، ثم طلب ملك الإنكتار (الإنكليز) الصلح، فصالحه صلاح الدين بعد فشل المسلمين في الاستيلاء على عكا، وعُقدت الهدنة بين الجانبين في البر والبحر لثلاث سنوات وثلاثة أشهر، على أن تستقر بيد الفرنج موانئ يافا وعكا وقيسارية وأرسوف وحيفا، وتظل عسقلان خرابًا. واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في الهدنة، واشترط الفرنج دخول أنطاكية وطرابلس في الهدنة، وأن تكون اللد والرملة مناصفة بينهما فتم ذلك. وكانت وفاة صلاح الدين بعد الهدنة بيسيرٍ، تغمده الله برحمته.
(١-٤) الحملة الرابعة
لما مات صلاح الدين واضطرب الأمر بين أولاده وابن أخيه الملك العادل، قوي الصليبيون وأخذوا يجمعون جموعهم لغزو المسلمين، ولكن ما عتَّم الملك العادل أن وضع يده على المملكة الأيوبية كلها، وتخلص من أولاد أخيه صلاح الدين، الأفضل، والظاهر، وتمَّ له ملك الشام ومصر. وحدث في سنة ٥٩٥ﻫ أن تجمَّع الفرنجة في حصن الأكراد والمرقب وأغاروا على حماة. ثم في سنة ٦٠٠ﻫ خرجوا إلى بيت المقدس فهُرع إليهم الملك العادل، واضطُروا إلى مهادنته، وتم الصلح على أن يسلِّم إليهم مدن يافا والناصرة واللد والرملة.
(١-٥) الحملة الخامسة
وفي سنة ٦٠٢ﻫ/١٢٠٤م قدِم على سواحل عكا جمعٌ عظيم من الصليبيين الألمان والنمساويين والمجر والهنكر فدخلوها، وانثالوا على المدن المجاورة والأيوبيون لاهون بالمشاكل بينهم، وقد غنم الصليبيون من المسلمين مغانم كثيرة، وكان في هذه الحملة كثير من الصليبيين الشبان المتحمسين من فرنسة وألمانية حتى سُمِّيت هذه الحملة بحملة الشبان. ولما مات الملك العادل في سنة ٦١٥ﻫ ازداد البلاء على المسلمين وطمعت الفرنج فيهم، واستولوا على كثيرٍ من ديار الشام ومصر، ولما استولى الفرنج على دمياط واتجهوا نحو المنصورة عظُم الأمر على بني أيوب وطلبوا إلى الفرنج الصلح على أن يتنازلوا لهم عن القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع ما فتح صلاح الدين من الساحل، ما عدا الكرك والشوبك، فلم يرضَ الفرنج، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار لقاء تخريب سور القدس وقالوا لا بد من تسليم الكرك والشوبك. فجمع الأيوبيون صفوفهم وعزموا على لقاء عدوِّهم، وتم لهم النصر على الفرنج وأُسر ملكهم القديس وثلاثون ألفًا من رجاله.
وقال ابن أبي شامة: «وبلغني أن النصارى ببعلبك سوَّدوا وسخَّموا وجوه الصور في كنيستهم حزنًا على ما جرى على الفرنج.» ولم يكن سبب تسليم القدس ثانية للصليبيين آتيًا من ضعف القوى الإسلامية، بل للخلاف بين الملكَين الكامل والمعظم؛ فقد كان الكامل يخشى إن توجَّه لمقاتلة الإمبراطور فريدريك قائد الحملة السادسة أن يفاجئه الملك المعظم؛ ففضَّل تسليم القدس إلى فريدريك، ولله في خلقه شئون.
(١-٦) الحملة السادسة
قاد هذه الحملة الإمبرور فريدريك الثاني صاحب صقلية سنة ١٢٢٨م/٦٢٤ﻫ؛ فقد كان داهية سياسيًّا، لم يدخل في حرب، ولكنه فاوض الملك الكامل الأيوبي على استلام القدس وبيت لحم والناصرة، وهي المحلات المقدسة عند المسيحيين، فأجابه إلى ذلك لمدة عشر سنوات، على ألا يتعرضوا لقبة الصخرة ولا المسجد الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق المجاورة إلى والي المسلمين.
ولما جاء هولاكو سنة ٦٥٧ﻫ قضى على الجميع، وظلت القدس بأيدي الصليبيين إلى أن استردها الملك الصالح أيوب في سنة ٦٣٧–٦٤٧ﻫ بمساعدة الخوارزميين.
(١-٧) الحملة السابعة
- (١)
إن حملات الصليبيين عاقت المسلمين عن التقدم والسير في سبيل الحضارة التي كانوا يسيرون إليها بخطواتٍ سريعة في العصر العباسي الأول، ثم بخطواتٍ بطيئة في العصر الثاني والثالث.
- (٢)
أفادت تلك الحملات الصليبيين فوائدَ جليلة لأنها أطلعتهم على مقدار الحضارة والتقدم في ديار الإسلام والروم معًا.
- (٣)
نقل الصليبيون بعد هذه الحملات صناعات كثيرة عن بلاد الشام ومصر، كصناعة الورق والنسيج والحديد والأسلحة والزيوت.
- (٤)
أفاد الأوروبيون الصليبيون وبخاصة الطليان من بنادقة وجنويين وبيسيين، فوائدَ مادية جُلَّى في التجارة والاقتصاد من المشرق حتى بعد انتهاء هذه الحروب.
- (٥)
كان من جرَّاء هذه الحروب إيقاد روح التعصب المقيت بين المسلمين ومَن في بلادهم من أهل الذمة بعد أن كادت هذه الروح تنمحي، وقد لقيت منها بلاد الإسلام شرًّا مستطيرًا.
- (٦)
استفاد الصليبيون كثيرًا من ثقافة العرب والمسلمين فدخلت لغاتهم كثير من الكلمات العربية، وتطعمت آدابهم بالآداب العربية، ونقلوا كثيرًا من كتب العلم والفن والحكمة، من شرح فلسفة أرسطو إلى كتب علم الطبخ والموسيقى والأزياء والأقمشة والزهور والبقول والنبات.
- (٧) نقل الصليبيون كثيرًا من أصول الهندسة البنائية وريازة العمران Architecture وتجلَّى ذلك في كثيرٍ من الأبنية من قصورٍ وكنائس التي زخرفوها بالأرابسكا Arabesques.
- (٨) نقل الصليبيون كثيرًا من عادات أهل الشام ومصر إلى ديارهم، كما تأثَّر المسلمون بالصليبيين في كثيرٍ من عاداتهم في البيوع والتجارة واللباس والطعام.١٤
(٢) التجارة الخارجية
قويت في هذه الفترة الصلات التجارية الخارجية بين المسلمين وبين الروم وأوروبة وجزر البحر الأبيض المتوسط قوةً واضحة، وكانت تجارات العراق والمشرق تقلع من موانئ صور وطرابلس — أكبر موانئ الساحل الشرقي — إلى سواحل القسطنطينية في بحر إيجة وخليج البندقية، وبحر تيطس (الأسود) وجزر قبرص ورودس وإقريطس.
وكان لأهل الجمهوريات الإيطالية مزايا كثيرة في ديار الشام، كما كانت لهم مراكز في مصر، واعتاد الأوروبيون بعد الحروب الصليبية على كثيرٍ من بضائع الشرق الإسلامي وأغذيته، فقويت الصلات بين الجانبين، وأصبحت جزيرة قبرص بمكانةٍ رفيعة لأنها النقطة المتوسطة بين أوروبة وديار الشام ومنافذ النيل.