لما كانت العقليات الشق الأوَّل من علم أصول الدين وقد ظهر
فيها الإنسان قابعًا وراءها ومَنبعًا للإلهيات، يظهر التاريخ
في الشق الثاني من العلم وهو السمعيات أو النبوات كمنبع لها؛
وعلى هذا النحو تكشف العقليات والسمعيات أو الإلهيات والنبوات،
وهما الشقان الأساسيان في علم أصول الدين، عن الموضوعَين
الرئيسيَّن فيه وهما الإنسان والتاريخ وإن بدَيا غير ظاهرَين
مُغترِبَين؛ الإنسان مُغترِب في الذات والصفات والأفعال،
والتاريخ مغترب في النبوة والمعاد، مُحاصَر بين الماضي
والمستقبل، ومحصور بين إيمان العامة وفردية الإمام.
وكما شملت العقليات موضوعات أربعة؛ الذات والصفات وخلق
الأفعال والحسن والقبح، فإن السمعيات أيضًا تشمل موضوعات
أربعة؛ النبوة والمعاد والأسماء والأحكام (الإيمان والعمل)
والإمامة؛ فالنبوة إذن موضوع في السمعيات، وتبدأ النبوة باب
السمعيات؛ لأنها الطريق إلى معرفة الأخبار المتعلِّقة بالمعاد
والأسماء والأحكام والإمامة؛ لذلك ظهرت مسألة الكلام ليس كصفةٍ
ولكن من حيث هو كلامٌ يُمكِن نقله تاريخيًّا ويكون مصدرًا
للمعرفة. وهي كلها أبعاد للتاريخ؛ فالنبوة تُشير إلى تطوُّر
الوحي في الماضي، والوحي هو التاريخ، والمعاد يُشير إلى تاريخ
الإنسانية في المستقبل، وكلاهما يكوِّن التاريخ العام
للإنسانية جمعاء، ماضيها ومستقبلها؛ ثم يبرز الفرد في التاريخ
في الأسماء والأحكام في بُعدَي النظر والعمل، كما تظهر الدولة
بعد الفرد في صيغة الإمام؛ وبالتالي يظهر التاريخ المتعيِّن في
الفرد والدولة منبثِقًا من التاريخ العام، وكأن الفرد بنظره
وعمله هو القادر على تحويل التاريخ العام للإنسانية جمعاء إلى
تاريخ خاص للفرد. ولما كان الفرد يعيش مع آخرين نشأت الدولة
كامتداد للفرد، وأصبحت الدولة هي المحقِّقة للتاريخ العام
والمحوِّلة له إلى تاريخٍ خاص لمجتمع بعينه في مرحلة تاريخية
بعينها؛ فالدولة باعتبارها ممثلًا للأفراد هي الوريث الوحيد
للتاريخ العام.
والنبوة أبعد الموضوعات عن التجريدات العقلية والمقولات
الفلسفية وأقربها إلى اللغة الشائعة، وكذلك الأمر في سائر
الموضوعات السمعية، ما دام العقل قد غاب ومفاهيمه قد اختفت،
ولم يعُد هناك إلا الشواهد السمعية دون تأويل أو تعقيل أو
تنظير، وهي أكثر الموضوعات اعتمادًا على النص والأخبار تواترًا
وآحادًا؛ لذلك كان موضوع الأخبار جزءًا منها. ومع ذلك يظهر
الطابع الجدلي للدفاع وللرد على الخصوم، وكأن مهمة العقل هي
الدفاع عن مسلَّمات الإيمان وأخبار السمع، وكذلك الحال في باقي
الموضوعات السمعية خاصة المعاد، وكأن القدماء قد اكتفَوا
بإعمال العقل في الإلهيات وحوَّلوها إلى عقليات وتركوا
السمعيات لأجيال أخرى تقطع النصف الثاني من الشوط، فيتحول
العلم كله إلى عقليات. فإذا كان السلف قد قطعوا النصف الأول من
الشوط تكون مهمة الخَلَف قطع النصف الثاني منه؛ وبالتالي يتحول
علم أصول الدين من علم عقلي نقلي إلى علم عقلي خالص لاحقًا
بمجموعة العلوم العقلية.
(١) مكانها في العلم
يتدرج موضوع النبوة ويأخذ مكانه في العلم؛ ابتداءً من
عدم ظهوره على الإطلاق في الكتب المتقدمة إلى ظهوره
تدريجيًّا حتى يأخذ وضعه بعد العقليات وفي أول السمعيات،
حتى يُصبِح ذا أهمية بالغة في العقائد المتأخِّرة، ويُصبِح
قطبًا ثانيًا في العقائد التي تدور على قطبَين رئيسيَّين؛
الله والرسول. فلا تظهر في مصنفات التوحيد المتقدِّمة أو
المتأخِّرة كما لا تظهر في مصنفات المعتزلة كأصل من الأصول الخمسة،
١ ثم تبدأ في الظهور في النهاية إثباتًا لكمال
الأنبياء ثم إثباتًا لآيات الأنبياء ولكرامات الأولياء في
مُقابِل قضاء الحاجات للأعداء ثم ذِكر أبناء النبي،
٢ ثم تظهر أيضًا في كتب العقائد المتقدمة بعد
التوحيد، الذات والصفات والأفعال، وقبل الإمامة في عدة
مسائل أهمُّها: جواز النبوة، وعموم النبوة، وعدم نسخها،
والمعجزة ثم الإعجاز.
٣
ثم تظهر النبوة لأول مرة بعد التوحيد سلبًا، وذلك برفض
نظريات البراهمة وإنكار النبوة، ثم إثبات نبوة محمد والرد
على من أنكرها من المجوس والصابئة والنصارى، وإثبات
الأخبار ضد اليهود، وإثبات النسخ أيضًا ضدهم، وإثبات عموم
الرسالة ضد العيسوية. وبعد ظهور الصفات والأصول تأتي مباحث
الخبر والتواتر والآحاد كمقدمات للإمامة.
٤ ثم تظهر النبوات في آخر الحسن والقبح كمقدمة
لباب النبوات. ثم تظهر مرة أخرى بعد التوحيد والعدل.
٥ وقد تدخل النبوات ضمن التكليف العقلي كما أنها
تدخل ضمن تطوُّر الوحي.
٦ وفي المصنفات الاعتزالية تظهر النبوة في آخر
باب العدل الذي يشمل حرية الأفعال والحسن والقبح.
٧ وتظهر النبوة بعد العدل ثم المعجزات والكرامات
ثم معرفة أركان الإسلام وأحكام التكليف والأمر، وكأن
النبوة تدخل في موضوعات الفرد والدولة، فتظهر على أنها فعل
في التاريخ، وتتحول من عقيدةٍ نظرية إلى مسارٍ عملي في
الفرد والجماعة، تحقيقًا للرسالة في التاريخ كما هو الحال
في الحركة الإصلاحية الحديثة.
٨ وقد تُنهي النبوات أبواب التوحيد؛ إذ منها
يُستنبط الوعد والوعيد والإيمان والإمامة، ويدور الكلام
فيها في ثلاثة أمور؛ جواز بعثة الأنبياء، ووقوع البعثة،
ونبوة محمد.
٩
ثم تأخذ النبوة شيئًا فشيئًا مكانها الطبيعي في العلم
بعد انتهاء العقليات، وكأول موضوع في السمعيات؛ فتظهر بعد
التوحيد والعدل دون أن تكون بابًا في السمعيات بعد النبوة مباشرة،
١٠ ثم تظهر مرة أخرى بعد التوحيد والعدل ولكن
الأخبار تظهر كمقدمة للإمامة.
١١ ثم تبدو النبوة في بداية القطب الرابع بعد
الأقطاب الثلاثة الأولى عن الذات والصفات والأفعال، وقبل
المعاد والإمامة، وملحقها عن تاريخ الفِرَق دون ذِكر للقطب
كله؛ تحت باب السمعيات. ويثبت جوازها كآخر فصل من الأفعال؛
أي في العدل قبل الانتقال إلى القطب الرابع والأخير الذي
يبدأ بإثبات النبوة الخاصة، وكأن إثبات النبوة العامة
أدخَلُ في الأفعال ونفي الواجبات على الله في الجواز.
١٢ وبالرغم من هذا الاستقرار النهائي لمكان
النبوة في العلم قد تضطرب مباحثها وتتأرجح مسائلها، ولكن
معظمها يأتي بعد العدل ويتداخل مع بعض مسائل السمعيات
الأخرى كالإيمان،
١٣ وقد تظهر النبوة بعد مسائل العدل وقبل المعاد
والإمامة ثم تظهر كرامات الأولياء والنسخ بعد الإمامة في النهاية،
١٤ وقد تظهر النبوات بعد العدل وقبل المعاد والإمامة.
١٥ وتأتي النبوة بعد الوعد والوعيد وقبل المعاد
ثم تظهر من جديد بعدها في العصمة وأفضلية الأنبياء على
الملائكة، ثم تظهر مسائل الوعد والوعيد والمعاد من جديدٍ
مما يدل على أنها جزء من السمعيات.
١٦ وتبدو النبوات بعد المعاد وقبل الإمامة في
مِحورَين أساسَين؛ جوازهما بالعقل ووقوعهما بالفعل، مع ترك
الحشو التاريخي والغيبي منها.
١٧ ثم تظهر النبوة لأول مرة في باب السمعيات في
مكانها المُستقِر مع المعاد والأسماء والأحكام والإمامة.
١٨
ثم يهتز البناء في العقائد المتأخِّرة؛ فتظهر النبوة بعد
المعاد والوعد والوعيد والإيمان والعمل وقبل الإمامة في النهاية.
١٩ كما تظهر بعض موضوعات للنبوة بعد العدل، مثل
الملائكة ثم بعد مسائل التوحيد، ثم يبرز المعاد ومسائل
الإيمان والعمل والوعد والوعيد ثم المعاد في بعثة الرسل ثم
تأتي الإمامة والتاريخ في النهاية.
٢٠ وفي بعض الموسوعات المتأخرة تظهر النبوة
بوضوحٍ دون بناء نظري، ولكنها تحتوي على تعريف النبي
والفَرق بينه وبين الرسول والمعجزة والملائكة وعصمتهم،
والأنبياء وشرفهم ومحبتهم.
٢١
وفي العقائد المتأخرة عندما يرتكز علم التوحيد على قطبَي
الإلهيات والنبوة تبدأ النبوة في القطب الثاني وتكون شاملة
للحشر والجزاء وللإمامة معًا،
٢٢ وقد يتفصَّل القطب الثاني ويشمل الملائكة
والكتب والسمعيات والقضاء والقدر،
٢٣ وقد يشمل الباب الثاني بعد التوحيد الإيمان
بالرسل والأنبياء والسمعيات،
٢٤ وقد تتفضل الملائكة مع الأنبياء كالقطب الثاني
في التوحيد مع الله ثم السمعيات التي أتى بها النبي.
٢٥ وبعد التوحيد تظهر أحيانًا مسائل الملائكة
والكتب وعددها والأنبياء وأصحاب الشرائع وعدد الأنبياء
والرسل وأسماؤهم ثم يأتي المعاد في النهاية.
٢٦ وأحيانًا تكون مباحث النبوة والرسالة القطب
الثاني بعد الإلهيات، وتسقط السمعيات ودون أن تطغى على الإلهيات.
٢٧
وفي العقائد المتأخِّرة أيضًا بالإضافة إلى انتظام
العقائد في قطبَي الله والرسول ينطبق على كلٍّ منها نظرية
الوجوب والإمكان والاستحالة؛
٢٨ فيندرج الإيمان بالرسل تحت نظرية الواجب
والممكن والمستحيل؛ ثلاثة للواجب: الصدق والأمانة
والتبليغ، وأضدادهما للمستحيل: الكذب والخيانة والكتمان،
والجائز واحد وهي الأعراض البشرية؛ فالعقائد في الرسل
سبعة. وأحيانًا تظهر بعد التوحيد كعقائد تسعة؛ أربعة في
الوجوب، وأربعة أضدادها في الاستحالة، وواحدة في الجواز،
وبعدها تأتي باقي السمعيات؛ الجن والملائكة والأنبياء
والأولياء ثم التاريخ.
٢٩ فمن الخمسين عقيدة التي يجب على المسلم أن
يُؤمِن بها يشغل الله منها واحدًا وأربعين والرسل تسعة.
وقد يدخل إرسال الرسل فيما يجوز على الله، وتظهر الأفضلية
بينهم والمعجزات ونَسبُ الرسول وأولاده قبل الخصال
الأربعة؛ الصدق، والأمانة (العصمة)، والتبليغ، والفطانة،
والأدلة عليها؛ وأخيرًا جواز وقوع الأعراض البشرية وبعدها
تظهر السمعيات. وقد تظهر نفس الموضوعات مع عدد الأنبياء،
ثم تفضيل الملائكة وتفضيل الكتب المقدسة، ثم الإيمان بما
أتى به الرسول؛ أي بالسمعيات، ثم النهاية بحياة الرسول
ومولده وآياته وأولاده وحياته. وأحيانًا تتضخم النبوة
كمًّا حتى تطغى على التوحيد. وقد يُزاد على ذلك كله
الإقرار بأن النبوة غير مُكتسَبة بل فضل من الله، وأنها
مؤيَّدة بالمعجزات، وأنها ليست في النساء، ويُعاد من جديد
التفضيل والمعجزات ومنع النَّسخ والمعراج ثم التاريخ
والقرن والخلافة والمبشَّرون بالجنة وبداية الاختلاف وظهور
الأئمة وتقليدهم والأولياء وكراماتهم. ثم تأتي باقي
السمعيات كالإيمان والعمل والإمامة.
٣٠
وفي إحدى الحركات الإصلاحية تعود معظم موضوعات النبوة
التقليدية مع بعض التوجيهات العملية مثل المعارضة لزيارة
القبور وكبار الأولياء، وتظل الملائكة والشياطين والجن،
ويتم التركيز على التاريخ الساقط بعد النبوة والخلافة دون
محاور ودون بناء عقلي مُحكَم.
٣١ وفي حركة إسلامية أخرى تظهر ضرورة النبوة
كتكملة لمبحث الحسن والقبح، ثم تظهر النبوة تحت الرسالة
العامة «المعجزة وما يجب للرسل» ثم حاجة البشر إلى الرسالة
ودوافعها النظرية «المعرفة» والعملية «السعادة» ثم الوحي
وتعريفه وكونه مُمكِن الوقوع ثم وظائف الرسل، ورسالة محمد
والقرآن والإسلام ثم الاحتجاج على الإسلام. طغت النبوة على
التوحيد وأصبحت أوسع منه ثلاث مرات. تحوَّلَت النبوة إلى
الرسالة، واختفت الغيبيات منها وقل التركيز على شخص النبي،
وظهرت مفاهيم التقدم في التاريخ واكتمال الوحي وبداية
التعامل مع التراث الغربي والرد عليه.
٣٢
(٢) موضوعاتها ومَحاورها
ونظرًا لأهمية موضوع النبوة فإنها تخرج أحيانًا من
البناء النظري للعلم ومكانها الطبيعي بين التوحيد والعدل
وبين الإيمان والعمل والمعاد والإمامة، وتدخل في المقدمات
النظرية الأولى بعد نظرية العلم ونظرية الوجود، وتدخل عصمة
الأنبياء في الإيمان والعمل ثم تظهر نبوة النساء والرؤيا
في اللطائف،
٣٣ كما تدخل النبوة لأهميتها في المقدمات إثباتًا
لإمكانها ضد مُنكِريها أو مُثبتي استمرارها وشمولها للطبيعة.
٣٤ كما تظهر بعض موضوعات النبوة في كتب الحِجاج،
مثل دلائل النبوة والعصمة والنَّسخ والأخبار.
٣٥ وبالرغم من بقاء هذه الموضوعات متفرِّقة
متناثِرة ومتداخِلة فيما بينها إلا أنه يُمكِن جمعها في
عدة محاور رئيسية نظرية أو عملية، عقلية أم تاريخية؛
وبالتالي يُمكِن عرض الموضوع وبناؤه بعد بيان تطوُّره
واكتماله، وأنه من خلال هذا البناء يُمكِن رؤية المحاور
الرئيسية فيه تكثر أو تقل؛ فإذا كانت الموضوعات خمسة عشر،
فإنه يُمكِن وضعها في محاور رئيسية أقل، في ثلاثة مثلًا؛
معناها وجوازها ومعرفتها، عدد الأنبياء وترتيبهم وصحة
نبواتهم، وخاتمهم وعموم رسالته، وتفضيل الرسل بعضهم على بعض.
٣٦ وإن كانت الموضوعات تسعًا فإنه يُمكِن أيضًا
وضعها في محاور أقل، مثل إثباتها، وعصمة الأنبياء،
وتفضيلهم، والمعجزة، والكرامة.
٣٧ وإذا كانت الموضوعات خمسًا فإنه يُمكِن أيضًا
وضعها في محاور أقل، مثل جوازها، ودليل صدقها، وخاتم
الأنبياء، وأحكامهم.
٣٨ وإذا كانت الموضوعات أربعًا فإنه يُمكِن أيضًا
تلخيصها في محاور أقل؛ جوازها والدليل على صدقها وخاتم الأنبياء.
٣٩ وإذا كانت الموضوعات ثلاثة فإنه يُمكِن ضمُّها
في موضوعَين اثنَين؛ جوازها وصدقها.
٤٠ أما إذا كانت الموضوعات اثنَين، فإنها تكون
مِحورَين أساسيَّين في بيان جوازها بالعقل ثم في بيان
وقوعها بالفعل؛ الأول يعرض للحق النظري والثاني يعرض
للواقع العملي.
٤١ والحقيقة أن محاور النبوة الرئيسية أقل من
موضوعاتها؛ هي بطبيعة الحال تبدأ بالسؤال النظري عن وجوبها
أو استحالتها أو إمكانها، وهو سؤال الحق النظري وأنها
مُمكِنة الوقوع، ثم يظهر المحور الثاني عن الدليل على
صدقها؛ المعجزة أو غيرها، ثم يبدأ المحور الثالث عن
تطوُّرها بدايةً ووسطًا ونهاية، وعلاقة المراحل بعضها
بالبعض ناسخًا ومنسوخًا، وتوقُّفها كليةً باكتمالها وتحقيق
الغاية منها، ثم يظهر المحور الثالث والأخير عن النبوة في
آخر مراحلها والدليل على صدقها، وهو الإعجاز وطُرُق نقلها،
ورسالتها دون شخص نبيها، وأخيرًا عن مضمونها العقائدي
والتشريعي الذي يتناوله علم الأصول؛ ففي هذه المحاور
الثلاثة تندرج كل الموضوعات المتناثِرة؛ فتاريخ الأنبياء
وتاريخ الأديان، سواءٌ ديانات إبراهيم أو الديانات الشرقية
القديمة والحوار معها، أكثر من الحوار مع الفِرَق
الكلامية، كل ذلك يدخل في المحور الثاني عن تطورها، وكل
الموضوعات المتعلقة بشخص النبي، مثل العصمة والتفضيل، كل
ذلك يدخل في المحور الثالث عن الرسالة التي تجب شخص النبي.
أما الموضوعات الغيبية كالملائكة وكيفية اتصال النبي بها
فكلُّها تدخل في المحور الأول حول وجوبها واستحالتها
وجوازها، ولكن يظل المحوران الرئيسيان للنبوة هما إمكانها
ووقوعها، لا الموضوعات التاريخية الصرفة ابتداءً من شخص
النبي حتى صحابته وتابعيه وآل بيته، ولا الموضوعات الغيبية
الصرفة وهي طريقة اتصال النبي بمصدر الوحي، كما هو الحال
في نظرية الاتصال في علوم الحكمة.
(٣) معناها وحقيقتها
تعني النبوة الخبر أو الإخبار؛ فالوحي يأتي من الخبر،
والخبر مصدر الوحي؛ الخبر هو الدال، والوحي هو المبادئ
العامة في المعرفة الإنسانية لا شخص النبي، وموضوعه حياة
البشر وصالح الناس وليس شخص المُرسَل أو الرسول. تُعطي
النبوة إذن معارف وأخبارًا، فهي من جانب المعرفة من أجل
توجيه السلوك؛ لذلك جاءت النبوة اشتقاقًا من النبأ أي
الخبر بالهمزة؛ أي الإعلام، والإعلام غير الإلهام، وليس من
باب الظن والوهم أو الكهانة أو النجوم، بل إخبار الله بما
يكون. النبوة إذن نوع من المعرفة متميِّزة عن أنواع
المعارف الأخرى؛ يقينها باطني، ومعرفتها يقينية. إذا كان
الإلهام كشفًا فالنبوة استدلال، وإذا كان التوهم ظنًّا
فالنبوة يقين، وإذا كانت الكهانة من استراق الشياطين السمع
من السماء، فيرمون بالشُّهب الثواقب وقد انقطعت بمجيء
الرسول، فالنبوة عقل وليست سحرًا، وإذا كانت النجوم تجارِب
تُتعلم، فالنبوة علم وليست تخمينًا أو خرافة، وإذا كانت
الرؤيا لا يدري أحدٌ صدَقَت أم كذبَت، فالنبوة لا تأتي إلا
في اليقظة دون الحُلم.
٤٢
وهناك معانٍ زائدة في النبوة تتحدث عن كيفية المعرفة،
صحيحٌ أن الوحي لغةً يعني الإعلام في خفاء ولكنه اصطلاحًا
إعلام الله للأنبياء، إما بكتاب أو برسالة ملك أو بمنام أو
بإلهام، وإلهام غير الأنبياء في هذه الحالة ليس وحيًا،
فالوحي للتشريع وليس فقط للمعارف النظرية؛ لذلك قد يجيء
الوحي بمعنى الأمر وبمعنى التسخير، ويكون الإلهام بمعنى
الهداية والإشارة، ويُطلَق بهذا المعنى على القرآن والسنة؛
أي على الوحي المكتوب والمدوَّن، وقد يُزاد على هذا المعنى
الزائد أصلًا تفصيل كيفية حدوث الوحي، بأن يخلق الله حالة
في النبي يسمع بها مثل صلصلة الجرس، أو من خلال ملَكٍ
يتمثل رجلًا؛ أي عن طريق الصوت أو الرؤية، عن طريق السمع
أو البصر، من خلال الأذن أو العين؛ أي من خلال الحواس.
وهذه المعاني الزائدة يصعب تأصيلها عقلًا وتبقى سمعية خالصة.
٤٣
وقد ركَّز الفلاسفة على النبوة بهذا المعنى الزائد داخل
نظرية الاتصال؛ فقد أراد الفلاسفة أن يجمعوا فيها خواصَّ
ثلاثًا؛ أن يكون النبي مُطلِعًا على الغيبيات ما دامت
النفوس الإنسانية مجردة قادرة على إدراك المجردات، وأن
تظهر منه الأفعال الخارقة للعادة ما دام بروحه قادرًا على
التأثير، وأن يرى الملائكة مصوَّرة ويسمع كلامها وحيًا،
نومًا أو يقظة.
٤٤ والحقيقة أن هذه الخواص الثلاث تجسيد للمعاني
الزائدة في النبوة وتصوير لها؛ فالنبوة ليست غيبية بل حسية
تؤكِّد على رعاية مصالح العِباد، والغيبيات اغتراب عنها،
والمعارف النبوية دنيوية حسية تتعلق بشئون الناس وصلاح
معاشهم، كما أنها إخراج للنبي عن حدود الطاقة البشرية،
وجعل صدق النبوة خارجيًّا وليس داخليًّا وضد قوانين العقل
والطبيعة وليس معها، كما أن هذه المعاني الزائدة المشخِّصة
وقوعٌ في الغيبيات وإخراج للنبوة من محورها الأفقي، النبوة
في العالم ومسارها في التاريخ إلى محورها الرأسي، النبوة
كطريق بين النبي والله، طريقة للوصول خارج الزمان وخارج
التاريخ، ولا يهمُّنا في النبوة طريقة الإيصال؛ الوحي أو
الرسول أو من وراء حجاب، ولا يهمُّنا أيضًا في النبوة
الملَك وأنواعه وطريقة قدومه وجرسه وصوته وشكله، ولا يهمنا
ثالثًا خيال النبي، وكيف كان يأتيه الوحي نائمًا أم يقظًا،
لا شأن لنا بالصلة بين الله والرسول وطريقة الاتصال بينهما
بالمَلاك أو بغيره، اسمه وشكله وصوته؛ فذلك لا يُمكِن
معرفته حسًّا أو عقلًا، ولا شأن لنا بالنبوة بين الملائكة
والجن والشياطين أو البهائم والطير والجمادات ما دامت
مِثلنا، نحن البشر؛ فهي كلها موضوعات مُفارِقة لا تسمح بها
نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى، ما يهمنا هو
الرسالة ذاتها التي بها صلاح العِباد، والنبوة للبشر
وحدهم؛ فطريق النبوة جزء زائد على تعريفها وخارج عن
حقيقتها.
وقد تعني النبوة معنًى ثانيًا غير الإعلام والإخبار وهي
الرفعة، فالنباوة من غير همزة ما ارتفع من الأرض؛ وبالتالي
يكون النبي هو رفيع المنزلة عند الله، وهو معنًى يترك
النبوة ويتجه نحو النبي، ويترك الرسالة ويعرف الرسول،
ويترك النبوة في التاريخ ويتصور علاقة النبي بالله،
ويُؤثِر قيمة الارتفاع على الانخفاض، والصعود على الهبوط،
ويفضِّل التأويل على التنزيل، وهو ما يُعارِض سَير الوحي
ومسار النبوة.
٤٥
وليست وظيفة النبوة الإخبار بالمستقبل؛ فتلك كانت وظيفة
النبي قبل خاتم النبوة كدليل على الصدق، وطبقًا للمعنى
الاشتقاقي للفظ في اللغة العبرية.
٤٦ أما المعنى في ختم النبوة فهو تحليل الحاضر
وليس الإخبار بالمستقبل، وإذا كان هناك قصص فإنما يهدف إلى
إعطاء الحاضر ومد الوعي بدروس الماضي وخبرات الأمم
السابقة؛ فالوعي بالحاضر هو وعي بالتاريخ، وما الحاضر إلا
تراكُم للماضي. الماضي عِبرة ودرس وتطوُّر يصب في الحاضر،
مسارًا من الماضي إلى الحاضر وليس نكوصًا من الحاضر إلى
الماضي. أما المستقبل فمرهون بفعل الحاضر ومشروط
باستمرارية الماضي في الحاضر؛ فالماضي هو مستقبل الحاضر
ومستقبل المستقبل على حد سواء. يظن القدماء أن النبوة
تنبؤٌ بالمستقبل وقراءة له، ويظن المعاصرون أن النبوة رجوع
إلى الماضي، والنبوة في حقيقة الأمر هي تحليل للحاضر
لمعرفة جدل الماضي والمستقبل فيه، وقراءة الماضي هي
استبصار للمستقبل، وما الحاضر إلا لحظة التقاء بينهما يتم
فيها كشف القوانين ورؤية حركة التاريخ.
وتُسمَّى النبوة بعِدَّة ألفاظ مُترادِفة مثل البعثة
والرسالة. الوحي والنبوة متقارِبان، والبعثة والرسالة
متقارِبان؛ الوحي هو كل العلم، والنبوة الطريق إليه؛
والبعثة النبوة المُعلَنة، والرسالة النبوة المكلَّفة. تدل
المصطلحات الأربعة المتقارِبة على تدرُّج مِن النظر إلى
العمل أو من العام إلى الخاص، من الوحي إلى النبوة إلى
البعثة إلى الرسالة.
٤٧
وتتضمن النبوة كرسالة أربعةَ أطراف: مُرسِل وهو الله،
ومُرسَل إليه وهو النبي، ومُرسَل إليهم وهم العِباد،
ومُرسَل وهو الشيء؛ فالمُرسِل هو الوعي الخالص والمُرسَل
هي الرسالة. وأهم طرَف من هذه الأطراف الأربعة ليس
المُرسِل أي الوعي الخالص؛ فذلك هو موضوع التوحيد، باب
العقليات، الشق الأول في علم أصول الدين، وليس المُرسَل
إليه أي شخص النبي؛ فهو مجرد رسول لإيصال الرسالة. أهم طرف
في المعادلة الرباعية هي الرسالة أي التكليف، والمُرسَل
إليهم أي نحن البشر، عباد الله في التاريخ. شخص النبي إذن
ليس أحد موضوعات النبوة ومعنًى زائد في تعريفها، النبي
مجرد واسطة لإيصال الرسالة من المُرسِل إلى المُرسَل
إليهم، وليس جزءًا من النبوة بشخصه. طبعًا هناك شروط
النبوة إذا ما توافرت عند أي إنسان يكون هو النبي، لا ترجع
النبوة إلى جسم النبي أو إلى عرَض من أعراضه أو حتى إلى
علمه بربه؛ فذاك يقع من غير نبوة أو علم النبي بكونه
نبيًّا، فالمعلوم غير معلوم بعد، بل ترجع إلى الرسالة
والمُرسَل إليهم حتى ولو كان المُرسِل مجهولًا، وكأن
المُرسَل إليه غائب بشخصه، اختفى بعد إيصال الرسالة وأداء
الأمانة، وتبقى الرسالة طالما بقي المُرسَل إليهم يحملونها
عبر الأجيال ويحقِّقونها في التاريخ.
ولكن هل هناك فرق بين النبي والرسول؟ الفرق بين النبي
والرسول هو الفرق بين التصور والنظام، بين العقيدة
والشريعة، بين النظر والعمل. يأتي النبي بالنظر وبالعقيدة
وبالتصور، ولا يأتي بالضرورة بنظام أو شريعة أو يبني
مجتمعًا ويؤسِّس دولة، فالنظر لم ينعقد بعد، في حين أن
الرسول هو الذي يولِّد النظام من التصور، ويحقِّق الشريعة
من العقيدة، ويحوِّل النظر إلى عمل، كما يُشير النبي إلى
البعد الرأسي فقط؛ الصلة بينه وبين الله، في حين أن الرسول
يُشير إلى البعد الأفقي أيضًا؛ أي الصلة بينه وبين الناس
في التبليغ وحمل الرسالة وأداء الأمانة، ومن هنا أتت صفات
الرسول الأربعة؛ الصدق والأمانة والتبليغ والفطنة،
واستحالة أضدادها؛ الكذب والخيانة والكتمان والتهور.
ويُشتَق لفظ النبي من فعلٍ لازم في حين يُشتَق لفظ الرسول
من فعلٍ متعدٍ، الأول لا يُشير بالضرورة إلى كل الأطراف في
حين يُشير الثاني ضرورةً إلى الأطراف الأربعة؛ المُرسِل،
والمُرسَل إليه، والمُرسَل إليهم، والرسالة. يُطالِب النبي
بالتصديق فحسب بينما يطالب الرسول بالتصديق وبالعمل.
الإيمان عند الأول مجرد إقرار وتصديق في حين أنه عند
الثاني إقرار وتصديق ونظر وعمل. قد لا ينجح النبي في
النبوة، ويُصيبه من الأذى الكثير، فدَوره هو الشهادة على
العصر في حين أن الرسول مُطالَب بالنجاح؛ بناء المجتمع
وتأسيس الدولة؛ لذلك كان بالنبوة تعظيم واستحقاق نظرًا
للشهادة أما الرسالة فجزاؤها قدر الأعمال، وإن كان كلاهما
مؤيَّدًا بالمعجزات فإن تأييد النبي بها أقوى من تأييد
الرسول الذي يكفيه يقين الرسالة الداخلي، والقدرة على
تكوين الأفراد وتجنيد المؤمنين والدفاع عن النفس بالفعل،
ومقابلة العنف بالعنف، والأخذ بأسباب القوة بُغيةَ الانتصار.
٤٨