(أ) الأدلة الأربعة
بعد ضمان تواتُر الرسالة في التاريخ وحفظها صحيحةً
عبر الأجيال، تأتي قضية الاستدلال؛ استدلال الأحكام من
الأدلة؛ أي الاستفادة من الرسالة في استنباط الأحكام
من أجل تطبيقها؛ وبالتالي تحقيق الرسالة. والأدلة
أربعة على ما هو معروف في علم أصول الفقه الكتاب،
والسنة، والإجماع، والقياس. الكتاب والسنة دليلان
نصيان، والإجماع والقياس دليلان عقليان. ولما كان
الكتاب والسنة أيضًا يعتمدان على العقل، سواءٌ في شروط
التواتر، أو في الاعتماد عليه كدليل قطعي، أو في
إدراكه للحسن والقبح كصفات موضوعية في الأفعال،
وكأبنية فعلية في المجتمع؛ كان العقل أساس الأدلة
الشرعية الأربعة، وهي التي انصبَّت كلها في النهاية في
الاجتهاد؛ أي في دليل العقل. فالعقل أساس النقل في
الدليلَين النقليَّين؛ الكتاب والسنة، والعقل أساس
النقل في دليلَي الإجماع والاجتهاد؛ نظرًا لأن الإجماع
يقوم على نقل وعقل جمعي، ولأن الاجتهاد يقوم على نقل
وهو الأصل، وعلى عقل في الفرع، وعلى عقل في استنباط
علة الحكم من الأصل، وعلى عقل في تحقيقها في الفرع،
وعلى عقل في معرفة تشابُهها حتى يُمكِن تعدية الحكم.
فالأدلة الأربعة كلها ترتكز على الدليل الرابع؛ دليل
العقل؛ وبالتالي كانت الأولوية الفعلية للدليل العقلي
على دليل النقل، وكما هو معروف في نظرية العلم، وفي
المقدمات النظرية الأولى.
٣٠ وبالتالي كان ترتيب الأدلة الأربعة:
القياس ثم الإجماع ثم السنة ثم الكتاب، ترتيبًا
تصاعديًّا يرتكز على القاعدة الطبيعية، وهو القياس أو
الاجتهاد، وهو دليل العقل. فعلى الإنسان أن يجتهد
رأيه، فإن لم يجد ففي إجماع الأمة، حاضرًا أم ماضيًا،
فإن لم يجد فعليه بالسنة ثم بالكتاب. وهناك اتفاق
مبدئي بين الأصل الأول؛ الاجتهاد، والأصل الرابع؛
الكتاب، فالطرفان يلتقيان. ولا خلاف بين العقل والنقل؛
فالعقل أساس النقل، ومن يقدح في العقل يقدح في النقل؛
نظرًا لموافقة العقل الصريح مع النقل الصحيح، كما قال
فقهاء الأمة من قبل. وعلى هذا النحو يُمكِن أن يكون
إبداع. أما تصوُّر الأدلة الأربعة قديمًا فيقوم على أن
النقل أساس العقل، فالقرآن والحديث نقل، والإجماع
يعتمد على نقل، والقياس يعتمد أصله على نقل؛ فهو إنكار
لدور العقل وللصفات الموضوعية للأفعال وللأبنية
الاجتماعية. وإن الترتيب التقليدي للأدلة ابتداءً من
القرآن فالحديث فالإجماع فالقياس، يجعل الهرم قائمًا
على قمته، والمخروط مُرتكِزًا على رأسه، وكأن المعاني
والأشياء كلها متضمَّنة في اللغة، وهذا هو منهج التقليد.
٣١ ولا يُمكِن فهم القرآن إلا باللغة وأسباب
النزول والناسخ والمنسوخ؛ فقد دوِّن منذ لحظة الإعلان؛
وبالتالي فليست هناك حاجة إلى تطبيق التواتر فيه كما
هو الحال في الحديث. وتعني «أسباب النزول» أولوية
الواقع على الفكر، وأن كل آية هي تعبير عن موقف وحل
لمُشكِل، وبنية نظرية مُمكِنة لوضع اجتماعي قائم.
والناسخ والمنسوخ يعني وجود التطور داخل الوحي، وتكييف
الشريعة طبقًا لقدرات الواقع؛ فاللغة تجمع القرآن
والحديث، وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ خاصَّان
بالقرآن وحده.
٣٢ أما السنة فإنها في حاجة إلى نقل متواتر؛
نظرًا لأنها انتقلت بمرحلة شفاهية على مدى مائتَي عام
قبل تدوينها. فالسنة دليل بشرط تواترها كما هو معروف
في شروط التواتر في نقل الرسالة، والتواتر وحده يُفيد
اليقين. أما الآحاد، وهو ما يفقد أحد شروط التواتر،
فلا يُورِث إلا العلم الظني، ولا سبيل لمعرفة صحته إلا
بعدالة الراوي وضبطه وبلوغه وإسلامه؛ أي إلى بنية
شعوره التاريخي، وكذلك المشهور الذي كان في أصله
آحادًا ثم أصبح متواترًا في نقله، فهو واحد من حيث
المبدأ، مُتواتِر من حيث الواقع لا يفيد إلا الظن.
ومعظم السمعيات وأمور المعاد أخبار مشهورة. التواتر
يُوجِب العلم والعمل في حين أن الآحاد يُوجِب العمل
دون العلم.
٣٣
والإجماع حجة غير نصية، وإن كان يعتمد على نصٍّ
يُؤخَذ أساسًا للعقل. والنص هنا قد يكون متواترًا أو
آحادًا أو مشهورًا؛ وبالتالي ترجع قطعية الإجماع أو
ظنيته إلى نوع النص الذي يقوم عليه، وفي هذه الحالة
يلحق الإجماع بأحد الدليلَين النصيَّين. أما العقل
الجمعي فهو نوع من الاستدلال الجماعي يقوم به علماء
الأمة. صحيحٌ أن الإجماع هو عمل جماعي للعقل، يعبِّر
عن وعي تاريخي يُعطي مزيدًا من الاطمئنان، أكثر مما
يُعطي الاستدلال الفردي، كما أنه يحوِّل النص من ظن
إلى يقين؛ لأنه يُعطي له فهمًا في الزمان والمكان
ومضمونًا في التاريخ، وهذا مما يدعو البعض إلى إثبات
حجية الإجماع.
٣٤ ومع ذلك فللإجماع حدود تجعل البعض الآخر
أقرب إلى نفيه كحجة في الاستدلال.
٣٥ فالإجماع يرتبط بتفسير جماعة في زمان
ومكان معيَّنَين. ولما كان نصه أقل عمومية وأكثر
خصوصية من نصوص الكتاب، فهو غير مُلزِم إلا للعصر الذي
انعقد فيه دون العصور التالية، وإلا كان مُلزِمًا لكل
العصور، وكان ذلك عائقًا عن التقدم، ومانعًا من
الإبداع وأقرب إلى التقليد. إن الإجماع خاضع لمصلحة
العصر، ولما كانت المصالح مُتمايِزة، ما يكون مصلحة
لجماعة قد يكون مضرَّة لأخرى في عصر آخر، أو لنفس
الجماعة في نفس العصر، كان مُلزِمًا فقط لعصره.
فإلزامه كلَّ عصرٍ يجعله قوة على الإبداع، ودافعًا على
التقدم، ويقلِّل التبعية للقدماء، ويخفِّف من ثِقَل
الماضي، كما أنه يصعب أحيانًا التفرقة بين الإجماع
والتقليد. فالإجماع إن لم يكن قائمًا على يقين؛ أي إنه
إذا لم تتوافر شروطه، وغالبًا ما لا يحدث ذلك، فإنه
يكون تقليدًا خفيًّا. ومن شروطه ضرورة اعتماده على أصل
نقلي متواتر، وأن يكون تامًّا، وألا يُعارِض إجماعًا
سابقًا؛ فالمصالح تتغير ولكن لا تنقلب، إلى آخر ما هو
معروف في علم أصول الفقه من شروط المجتمعين في العلم
والفضل، بل هناك صعوبة في الاتفاق على شروط ثابتة
للإجماع الصحيح. فما زال الأساس النظري للإجماع خاضعًا
للرأي والظن والهوى والمصلحة، مثل: هل هو إجماع خاص أم
عام؟ هل هو أهل الحل والعقد أم عامة المسلمين؟ كم عدد
المُجتمِعين؟ هل هناك حد أدنى للإجماع؟ هل هو إجماع
مُطلَق أم إجماع بالأغلبية؟ وما هي حدود الأغلبية؟ ما
هو هدف المُعارَضة؟ ماذا لو كانت معارضة واحد فقط؛ هل
يبطل الإجماع؟ وفي علم أصول الفقه ما يجعل الأُسُس
النظرية للإجماع أُسسًا خلافية؛ وبالتالي كيف يكون
أساسًا للاستدلال ودليلًا للعقل الجمعي؟ وتخضع نصوص
الإجماع لما تخضع له نصوص الوحي من تفسير وتأويل، وكل
تأويل هو اختيار اجتماعي، أو هو إسقاط نفسي من
المفسِّر الذي هو في الحقيقة نتاج اجتماعي؛ وبالتالي
يتحول الخلاف في الإجماع إلى خلاف حول تأويل النصوص،
ونعود إلى الحجة النصية من جديد، ويزداد الأمر صعوبة
إذا ما ظهر الإجماع كحل لمشكلة التعارض بين النصوص في
الكتاب أو السنة أو بينهما معًا؛ فتعارض نصوص الكتاب
ظاهري وله حله؛ إما في النسخ أو في التأويل، في حين أن
التعارض بين نصوص الإجماع حقيقي؛ إما لخطأ في النقل،
أو لتغايُر المصالح من عصر إلى عصر، ومن جماعة إلى
جماعة في نفس العصر. وقد يكون هناك إجماع على الشيء
وضده في آنٍ واحد في عصرَين مختلفَين، أو عند جماعتَين
مختلفتَين في عصر واحد. إن نص الإجماع في نهاية الأمر
هو حجة سلطة، وليس حجة عقل، وإن كانت حجة السلطة
تُقبَل في نصوص الوحي؛ لأنه غير معرَّض للخطأ في الفكر
أو في الرواية، إلا أنه لا يُمكِن قبولها في نص
الإجماع المعرَّض للخطأ في الحكم، والمُرتبِط بمصلحة
عصر معيَّن وجماعة معيَّنة، والمعرَّض لخطأ في
الرواية. وإذا كان الإجماع هو إجماع أهل الحل والعقد
أو إجماع العامة، فغالبًا ما يكون الحكم تعبيرًا عن
الوضع الطبقي للمُجتمِعين؛ فاختيار العلماء غير اختيار
العامة. صحيحٌ أنه نظرًا وشرعًا لا فرق بين
الاختيارَين إذا كان الطرفان يتمثَّلان الحق، ولكن ما
يحدث عملًا هو أن أحكام الإجماع إنما تعكس الأوضاع
الطبقية للمُجتمِعين وصلتهم بالسلطة السياسية، أكثر
مما تعكس حقيقة أو تصنع يقينًا. وهناك فرق بين ما
ينبغي أن يكون وما هو كائن ما دُمنا مع بشر؛ أي مع
أهواء ومصالح. وفوق ذلك كله يجوز الإجماع في اللغة وفي
التشريع، ولكنه يصعب في النظريات؛ أي في الاعتقاديات؛
لأن أساس النظر بات يقيني ثابت، في حين أن العمليات
تراعي الظروف والمصالح؛ فلا يجوز الاستدلال بالإجماع
في موضوعات علم أصول الدين وإن جاز في موضوعات علم
أصول الفقه.
٣٦
ولا يوجد خلاف أكثر اتساعًا من الخلاف حول الدليل
الرابع وهو القياس. ويعتمد إنكار القياس على سببَين
رئيسيَّين: الأول إثبات العلم السمعي الضروري وكفايته
دونما حاجة إلى علم عقلي مُساعِد أو مكمِّل أو مؤسِّس،
والثاني مَخاطر العقل والقياس واحتمالات الخطأ فيه.
والحقيقة أن الدفاع عن العلم السمعي لا يكون بهدم
العقل؛ لأن العقل أساس النقل، بل إن الأدلة الثلاثة
الأولى التي هي أقرب إلى السمع، الكتاب والسنة
والإجماع، لا تقوم إلا على الدليل الرابع وهو العقل؛
فالعقل أساس النقل، والإجماع عقل جماعي، ولا يُفهَم
الكتاب والسنة بل لا يُنقَلان إلا بالعقل؛ فالاتفاق مع
العقل شرط التواتر. وماذا عن الجهد الفردي في الفهم؟
وماذا عن دور الإنسان في الفهم والنظر؟ ليس العقل
هادمًا للنقل، بل مؤسِّس له ومؤوِّل له؛ حتى يكون
للنقل دعامة يقوم عليها، وحتى يكون له أثر يحدث فيه.
٣٧
أما مخاطر العقل فهي متوهَّمة لا أساس لها؛ إذ كيف
يؤدي العقل إلى الاستبداد بالرأي، العقل هو التنوير،
والتنوير ضد الاستبداد بالرأي. القطيعة مضادَّة للعقل؛
لأن العقل يقوم على البرهان. القطيعة جزم ترفض
البراهين المضادة، والعقل حوار يخضع للبراهين المضادة.
٣٨ وحتى على افتراض الجزم في الرأي والقطع
فيه، فإن ذلك لا يبرِّر الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد دونَ
رأيٍ تقليدٌ، كما وُضِّح ذلك في نظرية العلم في
المقدمات النظرية الأولى. والرأي ليس اعتقادًا أو
تقليدًا أعمى، بل هو برهان يقيني، والعقل هو التوسط لا
التطرف؛ إذ يستطيع العقل إحكام الأطراف ومعرفة البناء
والرؤية المحايدة والتجرد والنزاهة، في حين أن الهوى
أُحادي الطرف، متميِّز منحاز.
٣٩ ولا يعني احتمال الخطأ في القياس عدم
شرعيته؛ فكل اجتهاد قد يُخطئ وقد يُصيب، والمجتهد
يُخطئ ويُصيب، وللمُخطئ أجر وللمُصيب أجران. وقواعد
القياس وأشكاله قادرة على أن تضمن صحة القياس، كما أن
تعدُّد الأقيسة لا يعني التشتت والتضارب والاختلاف؛
وبالتالي تكافؤ الأدلة؛ فالأقيسة عامة وشاملة يتفق
عليها كل الناس، وتعدُّد المذاهب والآراء لا يطعن في
صحة الرأي، بل يبيِّن تغايُر المصالح من جماعة إلى
جماعة، ومن فرد إلى فرد، ومن مكان إلى مكان، ومن زمان
إلى زمان. وفي علم أصول الفقه، الحقُّ متعدِّد والصواب
كثير ما دام يؤدي إلى تحقيق مصالح العباد. والخلاف
النظري لا ينفي وحدة العمل، ووحدة العمل لا تتطلب وحدة
النظر بالضرورة.
٤٠ ولا يعني العقل أي تفضيل للنظر على العلم
أو للتأمل على الفعل؛ فالعقل نظري وعملي، تأملي وفعلي.
العقل النظري هو الباحث والسائل والموضِّح والكاشف،
والعقل العملي يوجِّه نتائج العقل النظري إلى الحياة
العملية. وكل مسألة نظرية لا ينتج عنها أثر عملي
فخارجة عن علم الأصول.
العقل ليس شُبهة يبدأ بها تاريخ العالم. وكيف يبدأ
تاريخ العالم كله بشبهة العقل؟ هل لأن اللعين الأول
قاس واستدل؟ وعلى هذا النحو يكون الفكر الإنساني الآن
عودًا إلى الشبهة الأولى أو تكرارًا لها في شبهة
ثانية، ويكون العقل الإنساني هو استمرارًا لعقل
الشيطان! فقد نشأت الشبهات في آخر الخليقة بتحكيم
العقل أيضًا؛ لأن العقل يخلط بين المستويات منذ أول
الخليقة! فهل نشأت الشبهات في أول الخليقة بتحكيم
العقل؟ هل تاريخ الحضارة الإنسانية هو تاريخ الضياع
والضلال؟ إن العقل هو وسيلة درء الشبهات، وتوضيح
اللَّبس، وإحكام المتشابهات، والتمييز بين المستويات.
٤١ هناك القياس الجلي الذي يكون الفرع فيه
أولى بالحكم من الأصل، وهناك القياس الذي فرعه من معنى
أصله دون أن يكون أحدهما أولى من الآخر، وهناك القياس
بغلبة الأشباه والترجيحات. هناك قياس العلة، وقياس
الدلالة وقياس الشبه. كل ذلك من أجل دقة المعنى
والوصف، وليس من أجل الاشتباه. إن قياس إبليس طلب
للعلة، وطلب العلة إحكام الظواهر وإدراكها في علاقتها
بالمعلول. طلب العلة هو البحث عن السبب من أجل سيطرة
الإنسان على قوانين الطبيعة والتنبؤ بمسارها.
٤٢ خطأ إبليس ليس في القياس الصحيح، بل في
القياس الخاطئ في خلطه بين الكم والكيف، بين الجبر
والحرية؛ فالنار ولو أنها أفضل من الطين إلا أن الطين
بفعل الروح بها كيف؛ وبالتالي فهي أغنى وأقدر. وقد
يكون الطين أي الأرض أقيم عند شعب محتل، حياته الأرض،
وكرامته في الأرض، في حين أن النار في الأرض، والشمس
غالبًا عليها، ومعروفة ديانات الشرق من قبل. ليس الخطأ
في القياس في ذاته؛ أي في صورته، بل في مادته وأهدافه
ونواياه واستخداماته وتطبيقاته، ولقد قاس إبراهيم ووصل
إلى الحق؛ فالقياس لا يؤدي إلى الباطل ضرورة. ليس
القياس محاجَّة وجدلًا بالضرورة، بل قد يكون برهانًا
ويقينًا. ولماذا احتقار الذات، وإدانة النفس، واتهام
العقل، واستصغار الإنسان لنفسه؟
٤٣ والحقيقة أن كل مصادر الشريعة الأربعة
مُرتكِزة على المصدر الرابع وهو الاجتهاد، قد يُصيب
وقد يُخطئ؛ لذلك وُضِعت شروط للاجتهاد حتى يكون احتمال
الصواب أرجح من احتمال الخطأ.
٤٤ في دليل العقل يتوحَّد علم أصول الدين
وعلم أصول الفقه؛ الأول في نظرية الحسن والقبح
العقليَّين، والثاني في دليل القياس. يتوحَّد العِلمان
في العقل ويجد علم الأصول وحدته في العقل. ومع ذلك تظل
القسمة عند القدماء قائمة بين الأحكام العقلية
والأحكام الشرعية. فإن كانت العقول تدل على صحة الصحيح
واستحالة المحال في التوحيد والعدل والوعد والوعيد،
فإنه لا وجوب قبل الشرع، وإذا استدل العاقل على ذلك
قبل ورود الشرع لما استحق الثواب، ولو كفر ما استحق
العقاب، ولو أنعم الله عليه بعد ذلك بالشرع كان لطفًا
ونعمة وفضلًا، وإن عذَّب الكافر كان عدلًا. فإذا أمكن
معرفة الله بالعقل فإن وجوبها بالشرع. وأفعال العقلاء
كلها قبل الشرع على الإباحة، لا تحليل فيها ولا تحريم.
ليس في الأحكام العقلية ناسخ ومنسوخ كما هو الحال في
الأحكام الشرعية. وإذا كانت الأحكام العقلية قد تكون
بعينها مثل كون العرَض سوادًا، وقد تكون بغيرها كما
يدل الشيء في العقل بنفسه على غيره، مثل دلالة الفعل
على الفاعل، فإن الأحكام الشرعية إما أن تكون اسمًا أو
دليل اسم أو معنًى مُودَعًا في الاسم، فالأحكام
الشرعية في الوجود والحظر والإباحة تُعرَف من الخبر،
والخبر على لسان الرسول، وأحكام المعاد بالخبر وإن دل
العقل على الجور؛ لذلك كان تحليل الخطاب هو منطق الخبر
من أجل إحكام لغته، من حيث العموم والخصوص، أو التشابه
والإحكام، أو الإجمال والتبيين.
٤٥ والحقيقة أن هذه الثنائية بين حكم العقل
وحكم الشرع، تنتفي بمجرد التوحيد بين العقل والنقل،
وتأسيس النقل على العقل. يُعطي العقل الحكم الكيفي
ويفصِّل النقل الحكم الكمي. يحدِّد الحكم العقلي
الغاية والهدف بينما يحدِّد الحكم الكمي الوسيلة
والطريقة. يكشف الأول العلة الغائية بينما يحدِّد
الثاني العلة المادية. ولما كان العقل والشرع لا بد
لهما من خطاب كان الطريق لمعرفة الأحكام هو تحليل
الخطاب.
(ب) تحليل الخطاب
بعد إثبات الصحة التاريخية للنص تأتي مرحلة فهمه
وتفسيره وتأويله إن اقتضى الأمر، ويأتي تحليل الخطاب
باعتباره نظرية في التفسير؛ أي في فهم النص. وإذا كان
كل خطاب يحتوي على ثلاثة عناصر؛ اللفظ والمعنى والشيء،
تضمَّن تحليل الخطاب هذه العناصر الثلاثة؛ اللفظ
المُستعمَل، والمعنى المستفاد منه، والشيء المُشار
إليه بهذا اللفظ وله هذا المعنى.
ولكن قبل الشروع في تحليل عناصر الخطاب على نحوٍ
علمي صرف، يتأكد أولًا أن الخطاب ليس مجرد قول أو
كلام، بل هو تكليف وأمر، فهو خطاب موجَّه نحو الإنسان،
نداء إلى الفعل، وتوجيه للسلوك، فهو ليس مجرد لغة بل
أمر، ليس مجرد معرفة نظرية بل توجُّه عملي. والتكليف
من الكُلفة، أي من المشقة والعمل والجهد،
٤٦ بل إن تحليل الخطاب هو في الواقع تابع
للتكليف والأمر وجزء منه؛ فالوحي أولًا تكليف وأمر، ثم
يأتي بعد ذلك تحليل الخطاب كأحد عناصره. ويتحدد أولًا
معنى التكليف وأقسامه وشروطه وترتيبه وأوصافه،
المكلِّف والمكلَّف، وما يصح وروده فيه قبل تحليل
أقسام الخطاب في الأمر والنهي والاستخبار، ثم تأتي بعد
ذلك مباحث الألفاظ على ما هو معروف في علم أصول الفقه،
ولكن على نحوٍ مختصر مثل العموم والخصوص،
٤٧ والمُجمَل والمفسَّر، ثم تأتي مباحث
المعاني مثل دليل الخطاب أو مفهوم الخطاب؛ من أجل فهم
المعنى مباشرةً دون المرور بتحليل الألفاظ، كما يُمكِن
فهم الدلالة ليس فقط من اللفظ، بل أيضًا من الفعل؛ فعل
النبي. فما دام الخطاب تكليفًا وأمرًا فإنه إذا ما
تحقَّق هذا الأمر في فعل، فإن هذا الفعل يكون خطابًا
متحقِّقًا له نفس الدلالة اللفظية في الخطاب. وقد يدخل
موضوع النسخ مقرونًا بالخبر، وهو أحد أقسام الخطاب،
كأحد وسائل التراجيح حين تعارُض الخبرَين، ولكنه في
الحقيقة أدخل في تطور النبوة.
٤٨
وبالرغم من أن التكليف يكون ابتداءً؛ نظرًا لحصول
الإنسان على حرية الإرادة واستقلال العقل؛ نتيجةً
لتطوُّر الوحي واكتماله وتحقيق غايته بشرط البلوغ، إلا
أنه أيضًا يكون لغاية، وهو استمرار تحقيق الوحي كنظام
مثالي للعالم تزدهر فيه الطبيعة من خلال الفعل
الإنساني الفردي والجماعي. التكليف ابتداءً نابع من
طبيعة المكلَّف، ومع ذلك فيه تحقيق لمصالح الناس،
والتكليف من طبيعة الإنسان، ومع ذلك له إرادة لحدوثه
وإرادة لكونه وإرادة لفعله.
٤٩
ويظل النظر أول الواجبات على المكلَّف؛ أي فعل العقل
وليس عمل اليد، ويبدأ النظر إما ضرورةً أو بداهةً أم
استدلالًا، على ما هو معروف في نظرية العلم وقسمته إلى
ضروري ونظري.
٥٠ ويظل السؤال بعد ذلك عن المعارف العقلية
التي يتم الحصول عليها بالنظر بنوعَيه؛ فهي معارف
نظرية أولًا، مثل العقائد المعرفة بالله وبصفاته وعدله
وحكمته وجواز الرسل والتكليف، ثم تفصيل أركان الشريعة.
فتبدأ المعارف من التوحيد إلى العدل إلى النبوة؛ أي من
العقليات بأصلَيها إلى أول موضوع في السمعيات ينتهي
إلى تحقيق أحكام الشريعة. وقد تبدأ المعارف بالنفس
أولًا ثم بالمعارف النظرية ثانيًا؛ أصلَي التوحيد
والعدل، وما دون ذلك من أحكام الشريعة لا يُعرَف إلا
بالخبر. والحقيقة أن هذا الفصل بين المعارف النظرية
والتحقيقات العملية يجعل النظر موضوعًا مستقلًّا
بذاته؛ موضوعًا ومنهجًا، ويجعل العمل موضوعًا
مُنفصِلًا عنه؛ موضوعًا ومنهجًا أيضًا، وهو ما يُعارِض
التطور الطبيعي من النظر إلى العمل.
٥١ ولا يعني التكليف أن هناك مكلِّفًا
ومكلَّفًا؛ فذاك تشخيص للتكليف وتصوير له على أنه أمر
بين طرفَين، من أعلى إلى أدنى، مثل تشخيص النبوة
وجعلها علاقة بين طرفَين؛ أعلى وأدنى. فالحياة والعلم
ليسا صفتَين في المكلَّف، بل هما شرطان للتكليف،
والعقل والإرادة ليسا صفتَين في المكلَّف، بل هما
شرطان للتكليف، والعقل والإرادة ليسا صفتَين للمكلف،
بل هما أيضًا شرطان للتكليف؛ فلا تكليف لميت جاهل بليد عاجز.
٥٢ وللتكليف أُسُس موضوعية في صفات الفعل
المكلَّف به، ولا يُمكِن أن يتحول الأمر إلى نهي،
والنهي إلى أمر، بمجرد إرادة المكلِّف، وإلا كان ذلك
إلغاء للطبيعة والعقل، وهدمًا للحسن والقبح
العقليَّين، وهما من مُكتسَبات العدل.
٥٣
وبعد التأكيدات على أن الخطاب هو تكليف وأمر، ينقسم
الخطاب إلى أربعة أقسام: أمر ونهي وخبر واستخبار. وقد
يُضَم الاستخبار إلى الخبر؛ لأن الاستخبار هو طلب
الخبر؛ وبالتالي لا يكون قسمًا مستقلًّا؛ وبالتالي
تكون قسمة الخطاب ثلاثية؛ أمر ونهي وخبر. ولما كان
النهي هو ضد الأمر كان الأمر هو الأساس، خاصةً إذا كان
الأمر بشيء نهيًا عن ضده، والنهي عن كل شيء أمر بضده
عند من يجوِّز القلب العقلي في الأحكام دون البِنية
الموضوعية والموقف الحياتي لها؛ وبالتالي تكون ثنائية؛
أمر وخبر، ولكن أين باقي الصِّيَغ والتي يُمكِن جمعها
في الصيغة الإنشائية، مثل التمني والتعجب والاستفهام؟
بل لقد أضاف القدماء صيغًا أخرى، مثل الوعد والوعيد
والطلب والشفاعة والتلهف والاستثناء. وقد تكون القسمة
كلها واحدة لما كان الخبر أيضًا نوعًا من الأمر غير
المباشر؛ فالقصص مع أنه إخبار عن أحوال الأمم السابقة
إلا أنه درس وعظة وعبرة لتقوية الأمر في بداية القصة
أو في نهايتها، فالخبر أمر يتضمن وسيلة الاقتناع به
وطرق الإيحاء من أجل تحقيقه، وإلا كان مجرد أمر صوري
عسكري غير مشفوع برجاء أو تمنٍّ. وصِيَغ الإنشاء لا
تدل على حطة منزلة، بل تدل على رفعة القدر، ومن تواضع
للإنسان رفع. أما قسمة الخطاب المُفيد إلى اسم وفعل
وحرف، فهي قسمة لغوية صرفة، ليس لها دلالة مباشرة في
خطاب التكليف، مع أنه يُمكِن حتى في هذه الحالة رؤية
الفعل والفاعل؛ فالاسم هو الفاعل المكلَّف، والفعل هو
التكليف، والحرف هو الرابطة التي تربط الفعل والاسم في
الزمان والمكان.
٥٤ ومع ذلك تظل القسمة الثلاثية للخطاب إلى
أمر ونهي وخبر هي القسمة الغالبة، ويُضَم الأمر والنهي
معًا في مُقابِل الخبر.
فما هو الأمر والنهي؟ هل هما الإثبات والنفي على
مستوى العقل وليسا على مستوى الفعل؛ إذ إن الحكم إما
عقلي أو فعلي؟ النفي والإثبات متصلان في العقل، وقد
يكونان مُنفصِلين في الوجود؛ فلو أمكن للعقل نفي
المعدوم منطقيًّا إلا أنه في الوجود لا ينفي إلا
الموجود. فإذا تداخَل الإثبات والنفي في العقل فإنهما
قد يتمايزان في الوجود. فإذا كان الإثبات في العقل
والنفي حكمَين كليَّين؛ إثبات الشيء هو إثباته من جميع
أوجهه، ونفي الشيء هو نفيه من جميع أوجهه، فإنهما في
الوجود حكمان جزئيان؛ فإثبات شيء هو إثبات محمول،
والمحمول أحد وجوه الموضوع؛ فإثبات صفة لا يعني إثبات
كل الصفات، ونفي صفة لا يعني نفي كل الصفات.
٥٥ وإذا كان في حكم العقل أن الأمر بشيء نهي
عن ضده، فإنه في الوجود قد لا يكون كذلك؛ فالحكم
الشرعي لا ينقلب. الأمر الشرعي قد لا يكون نهيًا عن
ضده، والنهي عن شيء قد لا يكون أمرًا بضده. الحكم
الشرعي خاص بالفعل وليس عامًّا للعقل، والمواقف
الإنسانية خاصة وإن تكرَّرت في مواقف أخرى مشابهة،
ولكن الإنسان لا يقيس فعلًا واحدًا على فعل واحد آخر
في نفس الموقف.
٥٦ في الأفعال صفات موضوعية وجودية لا يُمكِن
قلبها حضورًا وغيابًا، وجودًا وعدمًا. وهو أحد
مُكتسَبات الإنسان المتعين في قدرته على التمييز بين
الحسن والقبيح العقليَّين كصفات موضوعية في الأشياء؛
حتى يبدو التوافق والتطابق بين العقل والطبيعة.
٥٧
لذلك انقسمت الأفعال إلى أحكام خمسة كما هو معروف في
الأحكام الشرعية في علم أصول الفقه: الوجوب والندب
والإباحة، والكراهية والحظر أو التحريم. فالأمر يعني
الوجوب، والنهي يعني الحظر عقلًا، ولكنهما قد يعنيان
درجتَيهما المُمكِنتَين؛ أي الندب والكراهة بدلالة،
وقد يعني الأمر المباح أيضًا بدلالة، بل قد يتوسع
البعض ويُدخِل الصيغ الإنشائية من ترغيب وإرشاد في
الأمر، وتهديد ووعيد وإهانة وتأديب في النهي؛
٥٨ لذلك ارتبط الأمر والنهي بموضوع القدرة
التي تكون وراء تحديدات درجات الأمر والنهي بين
الضروري والمُمكِن. وكما هو الحال في التمييز بين
الحكم العقلي والحكم الفعلي، فكذلك الأمر في القدرة؛
فالقدرة على الفعل قد لا تكون قدرة على الترك
بالضرورة، والقدرة على الترك قد لا تكون قدرة على
الفعل بالضرورة.
٥٩ ويكون الأمر والنهي بالظاهر منعًا للتأويل
من حيث المبدأ؛ فالتأويل استثناء وليس قاعدة.
٦٠
أما الخبر فقد ورد من قبل في تواتُر الرسالة وشروط
التواتر، وهو ما يرِد أيضًا في الدليل الثاني وهو
السنة في علم أصول الفقه، ولكنه هنا هو أحد صِيَغ
الخطاب بعد الأمر والنهي، وليس منهجًا للنقل وطريقًا للرواية.
٦١ والقول أعم من الخبر؛ فالكلام يشمل الخبر
وغيره. القول يشمل القضايا الخبرية والإنشائية على
السواء. وأهم شيء في الخبر كصيغة في الخطاب هي نظرية
الصدق والتمييز بين الخطاب الصادق والخطاب الكاذب؛ فلم
يعد المطلوب هنا هو الصدق التاريخي؛ أي صحة النقل من
حيث السند، بل صدق الخبر ذاته من حيث المتن. وقد يكون
الصدق صوريًّا خالصًا بمعنى اتفاق الخبر مع المبادئ
الكلية للعقل، وهو الصدق النظري الخالص. وقد يكون
صدقًا ماديًّا صرفًا بمعنى مطابقة الخبر للواقع طبقًا
لمبدأ التحقق. والواقع هنا هو الواقع الإنساني وليس
الواقع الكوني وعقائد الثنوية في النور والظلام. قد
يكون صدقًا إنسانيًّا خالصًا بمعنى صدق الفعل ومطابقته
للنية والقصد؛ وبالتالي انتفت الجبرية من صدق النية
والقصد، فالنية أحد أفعال الحرية، والجبر ليس به حرية
قصد أو اختيار نية؛ فالصدق والكذب ليسا ضروريَّين؛ أي
كون الصادق صادقًا بالضرورة والكاذب كاذبًا بالضرورة،
بل الصدق مرهون بالحرية والعقل.
٦٢ الصدق والكذب إذن مرتبطان بالشعور؛ قد
يكون الشعور صادقًا، ولكن من حيث النية يحدث تطابُق
بين الخبر والواقع، وقد يكون الشعور كاذبًا من حيث
النية ويحدث نفس التطابق. فالصدق والكذب ليسا فقط
أمرَين صوريَّين أو ماديَّين لا شأن لهما بقصد الشعور؛
نظرًا لضرورة توافُر النية في الصدق والكذب. وإن صح
الكذب من غير قصد، فالصدق لا يصح من غير قصد، وإن كان
الكذب خضوعًا للغرور أو غيابًا للقيمة، فإن الإخبار
بالصدق تعبير عن الواجب وحضور للقيمة في الشعور، وما
ينبغي أن يكون.
وسواء كان الخطاب أمرًا ونهيًا أم خبرًا، فإنه في
كلتا الحالتَين يحتاج إلى فهم لمعناه، ولا يتأتى هذا
الفهم إلا بمبادئ اللغة. وقد اقتصر علماء أصول الدين
على بعض المبادئ المستعارة من علم أصول الفقه، مثل
العام والخاص، والمُحكَم والمُتشابِه، والمُجمَل
والمبيَّن، والظاهر والمؤوَّل. ولم يزيدوا على ذلك
مبادئ أخرى، مثل الحقيقة والمجاز، وهو من أوائلها، أو
المُطلَق والمقيَّد، والمستثنى والمستثنى منه وهي من
أواخرها. وبعض المبادئ تتغير أسماؤها، مثل المُجمَل
والمبيَّن الذي يُسمَّى المُجمَل والمفسَّر. والبعض لا
يكون ظاهرًا كمبدأ، بل كحالة ثانية لمبدأ آخر، مثل
المُحكَم والمُتشابِه الذي يدخل ضمن حالات المُجمَل
والمفسَّر. وبعض المبادئ تظهر في أحد جوانبه فقط، مثل
الظاهر والمؤوَّل الذي لا يظهر إلا في المؤوَّل وهو
الأهم؛ لأن الظاهر لا إشكال فيه، ولأن نقد الباطنية
أهم من نقد الظاهرية. وقد تظهر بعض المبادئ كحالات
خاصة، مثل المُجمَل والمفسَّر والمُحكَم والمُتشابِه.
وقد تظهر كمبادئ عامة، مثل العموم والخصوص
والتأويل.
ومع أن العموم والخصوص صيغة لغوية إلا أنها تكشف عن
البُعد الشخصي للنص؛ الفردي أو الجماعي. فالنص متوجِّه
إلى الشخص، وموجَّه لسلوك الفرد والجماعة. اللغة
للسلوك والصيغة للفعل. فإذا كان النص صورة بلا مضمون،
فإن تحديد الخاص والعام فيه تحديد لمضمونه لبيان البعد
الشخصي في النص والعامل الفردي في الأمر، بصرف النظر
عن التحديد الكمي للعام. وغالبًا ما يكون التحديد بأقل
الجمع اثنَين فما أكثر. والقول بالعموم وحده وإنكار
الخصوص هو تحويل للخطاب إلى مبدأ كلي صوري شامل وإنكار
للبعد الفردي؛ التزام بالعزيمة دون الرخصة وبالقاعدة
دون الاستثناء، كما أن إثبات الخصوص دون العموم هو
إنكار أن أفعال الإنسان إنما هي أنماط عامة للسلوك
تنطبق على كل إنسان في كل زمان، وليست أسماء أعلام
خاصة تُطلَق على فرد معيَّن أو جماعة معيَّنة، في زمان
معيَّن ومكان معيَّن، بل إن الفعل الفردي لا يكون كذلك
إلا إذا كان نمطًا عامًّا، قائمًا على مبدأ عام.
العموم والخصوص إذن واجهتان لشيء واحد، يُمكِن تخصيص
العام كما يُمكِن تعميم الخاص. لا يوجد عام إلا
ويُمكِن تخصيصه، ولا خاص إلا ويُمكِن تعميمه.
٦٣ وصيغة العموم هي الأصل، ولا يتحول إلى
خصوص إلا بمخصِّص من السنة أو الإجماع أو القياس، ولكن
هل يكون العقل مخصِّصًا؟ في هذه الحالة يكون العقل
مؤوِّلًا لا مخصِّصًا؛ فالتخصيص نص من جنس العموم. وإن
لم يكن في الوعد تخصيص ففي الوعيد تخصيص؛ لأن تحقيق
الوعد مبدأ عام في حين أن تخصيص الوعيد من رفعة القدر.
٦٤ ومن صفات التخصيص أن يكون العموم ظاهرًا،
وألا يتأخر عنه وإلا كان نسخًا.
٦٥
وبعد العموم والخصوص يأتي المُجمَل والمفسَّر، وهما
المفهومان اللذان يشملان أساسًا المُحكَم والمُتشابِه
والظاهر والمؤوَّل. فالمجمل هو الذي يحتاج إلى تفسير؛
وبالتالي فتعريف كل مفهوم يتم بالمفهوم الآخر، فهما
مفهومان مُتضايِفان أو مُتقابِلان أو مُتضادَّان. أما
التأويل، خاصةً الباطني منه، فهو خروج على قواعد
التفسير، والظاهر هو إمساك عنها. ويكون المُجمَل في
عدة مَواطن؛ فقد يكون الإجمال في الحكم والمحكوم فيه،
وهو أشد أنواع الإجمال؛ فالنص هنا يحتوي على معنًى
عامٍّ لم يتحول بعد إلى حكم في الزمان والمكان، ولا
يتوجه إلى محكوم فيه بعينه. وقد يكون الإجمال في الحكم
فقط، في حين أن المحكوم فيه معلوم، وهو أقل إجمالًا من
الأول. فالحكم هو الذي يحتاج إلى أن يتحول من معنًى
عام إلى حكم خاص طالما أن المحكوم فيه قد تحدَّد من
قبل. وقد يكون الإجمال في المحكوم فيه في حين أن الحكم
معلوم، وهو عكس الحالة السابقة؛ لأن الإجمال هذه المرة
في الإنسان الذي يتوجه إليه الحكم، في حين أن الحكم قد
تحوَّل من قبل من معنًى عام إلى حكم خاص. وقد يكون
الإجمال في الحكم والمحكوم له، ولكن المحكوم عليه
معلوم، وفي هذه الحالة يكون المعنى ما زال عامًّا ولم
يتحول بعد إلى حكم، وفي الإنسان الذي يتوجه إليه
الحكم، في حين أن الفعل الخاص وهو المحكوم عليه معروف.
يدل إذن المُجمَل والمفسَّر، وهو ما سمَّاه الأصوليون
في علم أصول الفقه المُجمَل والمبيَّن، على بُعدِ
الإنسان الفردي وفعله الذي يتوجه إليه الحكم، في حين
يدل الخاص والعام على بُعدِ الإنسان أيضًا من حيث هو
فرد أو جماعة. المُجمَل هو القول والمبيَّن هو الفعل،
ولما كان القول أوسع نطاقًا من الفعل احتاج المُجمَل
إلى تبيين.
٦٦
ويدخل المُحكَم والمُتشابِه أيضًا كحالة خاصة في
المُجمَل والمفسَّر؛ من أجل إحكام الزمان والمكان
للفعل الإنساني؛ لذلك كانت مواطن الإجمال الباقية خاصة
باللفظ والمعنى؛ فقد يكون الإجمال في اللفظ من جهة
صلاحه لمعنيَين حتى يتم اختيار أحدهما طبقًا للزمان
والمكان؛ أي الواقعة التي يتم فيها الفعل، وهذا هو حال
المُحكَم والمُتشابِه. وقد يكون الإجمال في اللفظ في
نفسه معلومًا ثم صار مُجمَلًا باستثناء مُجمَل، وهذا
هو حال المستثنى والمستثنى منه. وقد يكون الإجمال في
اللفظ معقول المعنى لغويًّا، وضعت الشريعة له شروطًا،
مثل ألفاظ الصلاة والزكاة، ولكنه في حاجة إلى تأويل
آخر؛ أي إخراج اللفظ من معناه الأصلي إلى معنًى آخر؛
لوجود دليل أو إمارة أو قرينة، وهذا هو حال الظاهر والمؤوَّل.
٦٧
والمُحكَم هو الواضح الذي ليس في حاجة إلى تأويل في
حين يحتاج المُتشابِه، وهو الذي يُشير إلى معنًى واحد
في حين يُشير المُتشابِه إلى معنيَين يتم ترجيح أحدهما
دون الآخر؛ حتى يُمكِن الإشارة إلى واقعة واحدة دون
الأخرى. ويُمكِن معرفة المتشابه فهو ليس سرًّا؛
وبالتالي لا يكون نموذج التشابه الحروف الأولى من
السُّوَر؛ فهذه تدخل في حساب الأسلوب الجمالي واللغوي
كما هو معروف في الأساليب الأدبية. المُحكَم هو الذي
لا تأويل له غير تنزيله على عكس المتشابه الذي له
تأويل، وقد يستعمل تعبير الألفاظ المشتركة للمتشابهات،
مثل الوجه واليد والعين. وليس نموذج المتشابه هو
القصص؛ لأنه لا يحتوي على معنيَين، ولو كان متشابهًا
لما أدَّى وظيفته في ضرب الأمثلة لحقائق التاريخ
المستمدة من سلوك الأفراد والجماعات وتاريخ الشعوب.
فالقصص ليس متشابهًا؛ لأن الغرض منه ليس وصف التاريخ
وإعطاء أخبار تاريخية، بل وصف التجربة البشرية وإيجاد
دلالتها في لحظة اكتمال الوحي واستقلال الشعور
الإنساني، كما أن القصص للإيحاء والإقناع وليس
لاستنباط الأحكام؛ للترويح على النفس وليس للتشريع.
وليس المتشابه هو أمور المعاد وشئون الأُخرويات؛ فهذه
يُمكِن تأويلها مجازًا تعبيرًا عن رغبة الإنسان في
عالمٍ تسوده العدالة المُطلَقة في مقابل هذا العالم
الذي يعيش فيه الظالم ويشقى فيه العادل، عالمٌ تنكشف
فيه الحقيقة في مقابل هذا العالم الذي تسوده الأقنعة
والدوار. وقد يكون المحكم هو الوعد والمتشابه هو
الوعيد؛ نظرًا لاحتماله معنيَين؛ التخويف أو العقاب،
توجيه السلوك أو تنفيذ الترهيب، والأول يحقِّق النفع
الفعلي والهدف من الوعيد في حين أن عدم تحقُّق الثاني
يدل على علو القدر ورفعة المنزلة. فإذا كان المحكم
عقاب الفاسق، والمتشابه ما خفي عقابه، فقد يكون ذلك
أيضًا لخطورة الفسق؛ أي خروج العمل على النظر وعدم
تطابُق الفعل مع القول. والحقيقة أن المحكم والمتشابه
دافعٌ على البحث والنظر، وصارفٌ عن الجهل والتقليد،
كما أنه يدل أيضًا على درجة عالية من الفصاحة وتذوُّق
اللغة، كما هو الحال في الحقيقة والمجاز، وكل جهد هو
في النهاية ثواب أعظم.
٦٨
أما الظاهر والمؤوَّل فإنهما يكوِّنان لب تحليل
الخطاب خاصةً المؤوَّل. فالتأويل سلاح ذو حدَّين؛
يُمكِن أن يُفيد في ضبط الأحكام والاستدلال عليها؛
وبالتالي إثباتها من أجل تحقيقها، وهذا هو التأويل
اللغوي، ويُمكِن أيضًا أن يقضي على الأحكام ويرفعها من
أجل نفيها أو إسقاطها، وهذا هو التأويل الباطني. يقوم
التأويل اللغوي على طبيعة اللغة وصلتها بالفكر، في حين
يقوم التأويل الباطني على صلة اللغة بالشيء. الأول
تأويلٌ أوليٌّ يبغي الصورة الفنية، بينما الثاني تأويل
مادي يبغي الشيء. الأول تأويل نظري يهدف أولًا إلى
معرفة المبدأ، بينما الثاني تأويل عملي يهدف إلى تغيير
الواقع مباشرة. ومع ذلك فإن هدف التأويل اللغوي إحكام
المبدأ النظري من أجل تحقيق الفعل، في حين أن التأويل
الباطني يهدف إلى إسقاط الشرائع وإبطال الحدود. هدف
الأول الخارج والتحقق، وهدف الثاني الداخل والتأمل.
وتأويل الشريعة لا يعني رفعهما أو تبديلها أو تجسيمها؛
فالشرائع أفعال، والأفعال تهدف إلى تحقيق أبنية مثالية للعالم.
٦٩ التأويل منهج حق قد يُراد به باطل إذا كان
الغرض منه هدم الشريعة والقضاء على فاعليتها في
العالم. وإذا توجَّه التأويل اللغوي إلى الأفعال فإن
التأويل الباطني يتوجه إلى الطبيعة والكون؛ أي التأويل
الباطني للظواهر لتأويل الطبيعة الخارجية واستشراف
ظواهرها فيما وراء اللغة. التأويل اللغوي تأويل للنصوص
في حين أن التأويل الباطني تأويل للطبيعة، وتأويل
الطبيعة هو في الحقيقة إسقاط العواطف والانفعالات
الإنسانية على ظواهر الطبيعة، فالطبيعة خالية من
المعنى، والإنسان هو الذي يُسقِط من شعوره المعاني على
الطبيعة كما هو الحال في اختبارات الإسقاط. وإذن كان
الهدف من التأويل اللغوي تثبيت حقائق الوحي وإزالة
الشك فيه، في حين أن التأويل الباطني يهدف إلى هدم
حقائق الوحي وتثبيت الشك فيه لأن زعزعة النظر أُولى
درجات الانسياب في العمل؛ لذلك كان التأويل اللغوي
علنيًّا يُذاع، في حين أن التأويل الباطني سرٌّ
يُكتَم، وبينما لا يفسِّر التأويل اللغوي إلا المعاني
يفسِّر التأويل الباطني الرموز. فالنصوص كلمات،
والكلمات حروف، والحروف أعداد، والأعداد أسرار.
٧٠ وإذا كان التأويل اللغوي يقوم به فرد
واحد، فإن التأويل الباطني يحتاج إلى معلِّم. الأول
يضع حقائق موضوعية لإيصالها للناس، والثاني يستخرج
الحقائق من قلوب السامعين وتوليدها منها دون إيصال
حقائق له. وإذا كان التأويل اللغوي يهدف إلى معرفة
الحقيقة فإن التأويل الباطني يهدف إلى التأثير على
الناس. والتأثير ليس فقط منهجًا في الفهم، بل أيضًا
منهج في الإقناع والإيحاء عند الخصوم للتشكيك
والتضليل. لا يُعتمَد على العقل بقدرِ ما يُعتمَد على
الإيحاء الباطني. فإذا اعتمد التأويل اللغوي على قواعد
اللغة فإن التأويل الباطني يعتمد على التحليل النفسي
والاجتماعي للسامع لمعرفة كيفية إقناعه والتأثير عليه.
٧١ وإذا كان التأويل اللغوي لا يتعلق
بالأحكام بقدرِ ما يتعلق بالاعتقادات، فإن التأويل
الباطني يهدف إلى العمليات والنظريات معًا حتى يفك
الارتباط بين الحكم والفعل بتدخل المعاني والنظريات،
فيتوه العقل فيها ويفقد توجهاته العملية.
٧٢ وإذا كان التأويل يعني لغويًّا العودة إلى
الأصل، فإن التأويل الباطني يرجع الوحي إلى النبوة،
ويرجع النبوة إلى مصدر الوحي. ومع ما في هذا من ميزة
في القضاء على تشخيص الوحي في شخص النبي، فإنه مع ذلك
يقع في تشخيص مُقابِل، وهو تشخيص الوحي في شخص الإمام
أو في شخص الله.
٧٣
والحقيقة أن التأويل له أُسُسه الاجتماعية والسياسية
المحلية، وليس ناشئًا عن مصدر خارجي يوناني أو غيره،
كما لم تأتِ التأويلات الباطنية من مصدر عربي سابق؛
فالنظريات لها نشأتها الاجتماعية والسياسية.
٧٤ التأويل من حيث المبدأ محاولة للبحث عن
الحقائق فيما وراء الألفاظ والوقائع التي تُشير إليها
المعاني، ولكنه من حيث الواقع قراءة مذهب كل إنسان في
النص والتعرف على نفسه فيه؛ تدعيمًا لمواقفه وهدمًا
لمواقف الخصوم في مجتمعٍ النصُّ فيه سلاح وسلطة؛
فالتأويل هو منهج جبر النص للدفاع عن المذهب ثم تكييف
النص حسبه؛ فالمذهب هو الأساس والنص هو الفرع.
٧٥ ولما كان خلاف المذاهب هو في الحقيقة
التعبير الأيديولوجي للصراع على السلطة، كان التأويل
الباطني أحد وسائل زعزعة السلطة القائمة. والمعارضة
التي تبنَّت التأويل الباطني إما الشعوبية التي كانت
تريد إرجاع المُلك إلى العجم دون العرب، أو قبائل
العرب التي لم تخرج النبوة منها. وهذه هي صفوة
المعارضة أو قيادتها بالإضافة إلى العامة التي لا
تقتدر على مناهج النظر وطرق الاستدلال.
٧٦ وفي مقابل الباطنية تخرج الظاهرية تتمسك
بظاهر النصوص.
٧٧ قد يكون ذلك دفاعًا عن السُّلطة القائمة،
ومنعًا لإيجاد مضمون جديد للنص غير مضمون السُّلطة،
ودافعًا جديدًا له غير واقعة السُّلطة؛ وبالتالي تم
«قفل» النص وتثبيته وعدم تحريكه؛ حتى لا يقوم بتوجيه
الواقع وتغيير النظام القائم. وقد يصل الأمر إلى حد
تكفير المتأوِّلين مثل باقي فِرَق المعارضة باعتبارها
فِرقًا هالكة؛ فكل فِرقة تكفِّر الفِرق المخالفة. ولما
كانت الفِرقة التي تكفِّر المتأوِّل في السلطة، والتي
تقوم بالتأويل في المعارضة، كفَّرت السلطة المعارضة
تحت ستار التأويل، وتحت شعار المحافظة على ظاهر النص.
٧٨ وقد تُعطي شرعية الإمساك عن التأويل
بتأويل بعض النصوص، كما تُعطي شرعية التأويل بتأويل
نفس النص؛ فسواءٌ كان الأمر نهيًا عن التأويل أو أمرًا
بالتأويل ففي كلتا الحالتَين يحتاج إلى تأويل.
٧٩ والحقيقة أن التأويل ضرورة ولا يكفر من
يقوم به. وحتى لا ينتج عن التأويل قول خاطئ يؤدي إلى
فعل خاطئ، كانت هناك قواعد للتأويل وشروط للمفسِّر،
مثل العلم باللغة العربية وبأسباب النزول والوعي
بالمبادئ النظرية؛ التوحيد والعدل، والحاجات العملية
لجماهير المسلمين.
٨٠
وبالإضافة إلى هذه المبادئ اللغوية: العام والخاص،
والمُجمَل والمبيَّن، والمُحكَم والمتشابه، والظاهر
والمؤوَّل، هناك أيضًا أدلة تتجاوز اللغة إلى المعنى
مباشرةً سمَّاها الأصوليون في علم الأصول دليل الخطاب
أو لحن الخطاب أو فحوى الخطاب. ويعني المفهوم أو دليل
الخطاب الذهابَ إلى المعنى الشامل الكلي داخل الألفاظ.
ويُسمَّى أيضًا مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة؛ أي
إدخال كل معنًى يتفق مع اللفظ فيه، وإخراج كل معنًى
يُخالِف اللفظ منه. ويدخل في ذلك السياق؛ أي المعنى
الكلي للجملة الذي قد لا تُفيده الألفاظ المفردة. فإذا
لم تُفِد الألفاظ في مفرداتها فإنها تُفيد بسياقها،
فلا يوجد خطاب إلا وله متعلَّق، وقد يكون متعلَّق
الخطاب فيما بين السطور.
٨١
ولما كانت الدلالة ليست فقط لغوية بل أيضًا فعلية،
فإن تحليل الخطاب ليس هو الطريق الوحيد للدلالة، بل
أيضًا أفعال النبي؛ فدلالة فعل النبي مثل دلالة
الخطاب، ورؤية الدلالة مثل فهمها، وإدراك الدلالة مثل
تصوُّرها. وما دام الرسول قدوة وفعل نموذج فإن دلالته
تُصبِح عامة للناس جميعًا؛ فأفعاله تنفيذ لأوامر
وتمثُّل لها. وإنما يكون الخلاف في وجه الدلالة؛ هل هو
الوجوب أو الندب أو الإباحة؟ ومن ثَم كانت دلالة
الأفعال لا تستقل بذاتها، بل هي دلالات مساعدة لدليل
الخطاب حامل الدلالات الأولى. فالوحي خطاب قبل أن يكون
فعلًا، ورسالة قبل أن يكون رسولًا.
٨٢
وعلى هذا النحو تصب مباحث علم أصول الدين في علم
أصول الفقه، ويجد النظر تحقيقه في العمل، وتهبط النبوة
من الإيمان بالملائكة والغيب إلى فهم الرسالة من أجل
قضاء المصالح والسعي بين الناس.