مستقبل الإنسانية هو الشِّق الثاني من التاريخ العام بعد
الشق الأول؛ النبوة. وإذا كانت النبوة تعني ماضي الإنسانية،
فإن المعاد يُشير إلى مستقبل الإنسانية. والماضي والمستقبل،
البداية والنهاية، كلاهما جانبان للتاريخ العام؛ إذا كان ماضي
الإنسانية يمثِّل حركة الذهاب، فإن مستقبل الإنسانية يمثِّل
حركة الإياب؛ وإذا كانت النبوة تمثِّل فعل الله في التاريخ من
خلال الأنبياء، فإن المعاد يمثِّل فعل الله في التاريخ من خلال
الشهداء؛ وإذا كان ماضي الإنسانية يتحدد في الزمان، فإن
مستقبلها يكون أقرب إلى أن يتحدد في الخلود. الدنيا بداية
الآخرة، والآخرة نهاية الدنيا، والانتقال من أحدهما إلى الآخر
هو الانتقال من الحياة الدنيوية إلى الحياة الأخروية، وما
الموت إلا لحظة الانتقال من الحياة الأولى إلى الحياة
الثانية.
(١) هل هو أصلٌ مستقل؟
مستقبل الإنسانية أو المعاد موضوعٌ يتلو طبيعيًّا موضوع
النبوة؛ فالنبوة تتعلق بماضي الإنسانية وتاريخ وعيها
تطورًا واكتمالًا، في حين يتعلق المعاد بمستقبل الإنسانية
ونتائج أفعالها المستقلة؛ الحرة العاقلة. كلاهما تاريخٌ
عام؛ الأول تاريخ الماضي والثاني تاريخ المستقبل. الأول
تاريخٌ تحقَّق في حين أن الثاني تاريخ لم يتحقق بعد، ولكنه
في سبيل التحقق. فالمعاد نهاية النبوة ومستقبلها، والنبوة
بداية المعاد وماضيه. موضوع مستقبل الإنسانية أو نهاية
العالم، أي المعاد، يأتي بطبيعة الحال بعد تطوُّر الوحي
وتاريخ الإنسانية الماضي كدرسٍ ثانٍ فيها؛ الأول بفعل
الأنبياء والثاني بفعل الشهداء، وكأن النبوة لها معنيان:
الأول تحققها كنظر، والثاني تحققها كعمل. التحقق الأول
في الماضي قام به الأنبياء، والثاني في المستقبل يقوم به
الشهداء. التاريخ إذن مُتصِل من الماضي إلى المستقبل،
متحقِّق بالفعل ومُمكِن التحقق من جديد. وفي هذه الحالة لا
يكون مستقبل الإنسانية أو المعاد موضوعًا مستقلًّا عن ماضي
الإنسانية أي النبوة، فتدخل أمور المعاد على أنها جزء من
النبوة، فكلاهما من السمعيات.
١
وقد يكون الموضوع مع موضوع آخر، وهو النظر والعمل؛ أي مع
الأسماء والأحكام نظرًا لارتباطهما معها، فأفعال الاستحقاق
هي أفعال الإيمان والعمل، أفعال الإقرار والتصديق، وأمور
المعاد ما هي إلا نتيجة لها. وفي هذه الحالة يكون مستقبل
الإنسانية مشروطًا بحاضرها، ويكون التاريخ العام تحقُّقًا
للتاريخ المتعيِّن ابتداءً من أفعال الاستحقاق للفرد. ولما
كانت أفعال الفرد هي أفعال الاستحقاق؛ أي الأفعال الحرة
العاقلة، ارتبط الموضوع أيضًا بأفعال الشعور الداخلية مثل
الإيمان والكفر، والتوفيق والهداية والخذلان والضلال.
٢
وقد يعود الموضوع إلى الحسن والقبح العقليَّين والعقل
الغائي والصلة بين العقليات والسمعيات والفرق بين الوجوب
والإمكان؛ أي إلى أصل العدل في العقليات؛ فقانون الاستحقاق
الذي ينبني عليه مستقبل الإنسانية نتيجةٌ للحسن والقبح
العقليَّين وتوليد الأفعال لنتائجها توليدًا طبيعيًّا؛
فإذا كانت الأفعال حسنة أو قبيحة في ذاتها، فإن إثابة
المُطيع وعقاب العاصي شيءٌ حسن في ذاته، كما أن عقاب
المطيع وإثابة العاصي شيءٌ قبيح في ذاته. والموضوع مُرتبِط
بالغائية والغرض؛ لأن نفي الاستحقاق يقوم على نفي الغاية
والغرض، في حين أن إثبات الاستحقاق يقوم على إثبات الغاية
والغرض. وهو مُرتبِط أيضًا بمسألة السمع والعقل؛ فكثيرًا
ما تُوضَع مسائل الثواب والعقاب مع السمعيات، وإذا ما
أُلحِق قانون الاستحقاق بالسمعيات لم يعُد قائمًا على
العقل؛ وبالتالي ينتفي القانون ذاته. وقد يرتبط الموضوع
بالوجوب والجواز؛ تدخل أمور المعاد ضمن الواجبات؛ فالله لا
يجوز عليه الكذب، والخُلف كذب، وهو الكذب النظري؛ أي
الإخبار بشيء غير واقع، وهو الكذب العملي أيضًا؛ أي
الإخبار بشيء على أنه سيفعله في المستقبل ثم لا يفعله،
سواءٌ كان هذا الواجب شرعيًّا أم عقليًّا. وعند المتأخرين
يدخل في الجواز؛ إذ يجوز على الله الترك والفعل، ويجوز
عليه عقاب المطيع وثواب العاصي؛ فالاستحقاق يدخل في الجواز
لا في الواجبات، مثل ثواب المطيع وعقاب العاصي، ولا في
المستحيلات، مثل عقاب المطيع وثواب العاصي.
٣
وقد يرتبط موضوع المعاد بصفة الكلام في التوحيد؛ أي في
الأصل الأول من العقليات؛ فالمعاد خبر، والخبر قول أو
خطاب، وكلاهما كلام. ويتأرجح الحديث في الكلام بين الكلام
كصنعة أزلية، أو الكلام للخطاب مثل الأمر والنهي والخبر
والاستخبار. الأول موضوع ديني عقائدي في التوحيد، والثاني
موضوع علمي لغوي في النبوة كرسالة.
٤
وقد يبدو الموضوع كأصل مستقل هو «الوعد والوعيد»، أحد
الأصول الخمسة بعد التوحيد والعدل؛ فإذا كان الأصل الأول
للتوحيد قد ضم موضوعَي الذات والصفات، وكان الأصل الثاني
العدل قد احتوى على موضوعَي خلق الأفعال والحسن والقبح
العقليَّين، يكون الأصل الثالث وهو الوعد والوعيد يُشير
إلى أمور المعاد؛ نظرًا لأنهما يتعلقان بأحكام الأفعال من
حيث نتائجها في التاريخ واستمرارها فيه بعد الموت؛ لذلك
ارتبط موضوع الوعد والوعيد كأصل من الأصول الخمسة بالمعتزلة،
٥ في حين ارتبط موضوع المعاد بالأشاعرة. ويتداخل
مع أصل العدل سواءٌ في خلق الأفعال أو في الصلاح والأصلح؛
فالإرادة المُطلَقة لا تمنع من اختراق الحرية الإنسانية
لها. وإذا كان الوعد والوعيد نتيجة للتكليف، فإن التكليف
قائم على العقل وحرية الاختيار. وقد تُسمَّى «علوم» الوعد
والوعيد لأنها تشمل عدة موضوعات تتناول الأصلَين
العقليَّين؛ التوحيد والعدل، وباقي الموضوعات السمعية
كالنبوة والأسماء والأحكام. وقد يتركز الوعد والوعيد على
أحد موضوعاته، مثل الاستحقاق لو أنه في العقائد المتأخِّرة
يرتكز على السمعيات؛ أي على تشخيص الاستحقاق بعد نفيه
كمبدأ عقلي.
٦
ويقوم تحديد الوعد والوعيد على النفع والضرر، وهما
مقياسان للتشريع بالإضافة إلى مفهوم المستقبل كمكان
للحدوث؛ فهما لا يعنيان الثواب والعقاب في الحال، بل في
المآل، وليسا مجرد مكافأة أو عقاب، بل استمرار لمقياس
النفع والضرر في الشريعة. فأفعال الاستحقاق هي أفعال وردود
أفعال؛ أفعال مباشرة وأفعال متولِّدة، مقدمات ونتائج،
عِلَل ومعلولات. فإذا كانت أفعال الدنيا هي الأفعال
المباشرة، فإن الوعد والوعيد يمثِّلان الأفعال المتولِّدة
أو ردود الأفعال أو نتائج الأفعال أو معلولات الأفعال
الأولى باعتبارها عِللًا لها. لا يوجد فعل إلا وله رد فعل،
ليس فقط في الحال، وهو موضوع الشريعة أو علم أصول الفقه،
بل أيضًا في المآل، وهو موضوع العقيدة؛ أي علم أصول الدين.
٧
ويشتمل موضوع المعاد على قسمَين رئيسيَّين: الأول كل ما
يتعلق بقانون الاستحقاق نفيًا أو إثباتًا، وهل يجوز فيه
الخصوص أو الاستثناء أو الشفاعة أو الولاية والعداوة أو
الموافاة البشارة وشروط التوبة. والثاني تطبيق هذا المبدأ
في الحياة بعد الموت؛ وبالتالي كل ما يتعلق بالمعاد
الجسماني أو الروحاني وحياة القبر وعلامات الساعة، واليوم
الآخر وما فيه من حساب وميزان وصحف وكتبة وإنطاق للجوارح
وصراط وحوض، وجنة ونار، إلخ. فالقسم الأول هو قانون
الاستحقاق الذي طبقًا له سيتم الحساب، الجزء الثاني عملية
الحساب ذاتها. الأول هو القانون، والثاني هو الاتهام
والمرافعة والحكم والتنفيذ. ولا يأتي الثاني قبل الأول؛
لأن العلم بالقانون شرط المساءلة.
٨
(٢) أفعال الاستحقاق
وأفعال الاستحقاق هي أفعال الشعور الخارجية الحرة
العاقلة، وليست أفعال الشعور الداخلية أو أفعال الاضطرار
التي لا تتوافر فيها الحرية أو العقل كأفعال الصِّبية
والمجانين وأفعال النائم والساهي. وقد كانت حرية الإرادة
وكمال العقل من مُكتسَبات العدل الذي تولَّد من التوحيد،
وكان استقلال الوعي الإنساني الفردي من مُكتسَبات النبوة؛
أفعال الاستحقاق إذن هي أفعال كل فرد حر وعاقل ومسئول.
القادر على النظر والعمل هو الإنسان الواعي الحر العاقل،
وليس الطفل أو الصبي أو المجنون أو الذي ينتسب إلى آبائه
أو قومه أو عشيرته؛ فيكون مثلهم إيمانًا أو كفرًا، طفلًا
أو بالغًا. كل نفس بما كسبت رهينة، وكل إنسان قد أُلزِم
طائره في عنقه، ولا تزر وازرةٌ وِزر أخرى. أفعال الأطفال
والصِّبية ليست أفعال استحقاق؛ وبالتالي لا يستحقون العقاب
في النار أو في غيرها. فليس أطفال المشركين في النار مثل
آبائهم؛ لأنهم لم يبلغوا بعدُ مرحلة البلوغ وسن التكليف.
وكيف يتحول الطفل من الكفر إلى الإيمان حتى يصح له الثواب،
أو من الإيمان إلى الكفر حتى يستحق العقاب؟ وهل يتحمل
الطفل جريرة أبيه؟ وما ذنبُ طفلٍ كفر أبوه فيدخل النار
مثله، في مقابل طفل آخر آمن أبوه فيدخل الجنة مثله؟ إذا
كان الأبوان مسئولين عن إيمانهما وكفرهما، فأين تقع
مسئولية الطفلَين؟ وأين تكافؤ الفرص بالنسبة لهما؟ وماذا
لو شب الطفل وبلغ وأدرك وأنكر دين آبائه وارتد عنه وآمن
بعد كفر ولكنه اخترم قبل أن يبلغ أشده؟ وماذا لو شب الطفل
من أبٍ مُؤمِن ثم كفر بعد البلوغ وكمال العقل ولكنه اخترم
وهو صغير؟ هنا يظهر ارتباط إيمان الأطفال بالصلاح والأصلح
من جديد؛ مما يدل على استحالة تأسيس السمعيات دون
العقليات. وكيف يظل أطفال المؤمنين مؤمنين أطفالًا بالغين
حتى يكفروا، ويظل أطفال الكفار كفارًا أطفالًا وبالغين حتى
يؤمنوا، وليس لديهم الوعي الحر العاقل المسئول الذي به
يُمكِنهم أن يتحولوا من الإيمان إلى الكفر أو من الكفر إلى
الإيمان؟ فإذا ما تحوَّل أطفال المؤمنين بعد البلوغ وكمال
العقل والإدراك من الإيمان إلى الكفر، وإذا ما تحوَّل
أطفال الكافرين بعد البلوغ وكمال الإدراك والعقل من الكفر
إلى الإيمان، فإن هذا التحدي الأخير هو فعل الاستحقاق؛
لأنه الفعل الحر العاقل وليس الفعل السابق. وإن ممارسةَ
الأطفالِ الشرائعَ مثل أبوَيهم قبل مرحلة البلوغ وكمال
العقل إنما تتم تقليدًا وتبعية، وإيمان المقلِّد لا يجوز،
والتقليد ليس طريقًا إلى المعرفة كما وضح ذلك في نظرية
العلم. وكما يُدان الكافر المقلِّد
إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا
عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، كذلك لا يُؤخَذ
بإيمان المؤمن المقلِّد؛ فالنظر أول الواجبات كما وضح ذلك
أيضًا في نظرية العلم. وماذا لو تحوَّل الأبوان وهما
عاقلان بالغان من الكفر إلى الإيمان أو من الإيمان إلى
الكفر؛ هل يتحول أطفالهما معهما من الكفر إلى الإيمان أو
من الإيمان إلى الكفر، وهم لا يعرفون ما الإيمان وما
الكفر؟ ألا يكون ذلك أخذ فرد بجريرة آخر، وتحميل غير
العاقل البالغ مسئولية العاقل البالغ؟
٩ وإذا كان من الطبيعي أن يُدعى الأطفال إلى
الإسلام بعد البلوغ وكمال العقل، فمن غير المعقول أن يصدر
حكم عليهم بالبراءة منهم قبل البلوغ وهم غير مُدرِكين وغير
عاقلين وغير بالغين. والأقرب إلى العقل الحكمُ ببراءتهم
وليس بالبراءة منهم، الحكم بموالاتهم وليس بعداوتهم، وإلا
ففيمَ كان الحكم الشرعي في حالة الحرب بتحريم قتل الأطفال
والنساء؟ فالأطفال لم يبلغوا بعد ولم يصِلوا إلى كمال
العقل، والنساء يُطِعن أزواجهن في الغالب إيمانًا وكفرًا.
ولا يكفي البلوغ وحده، بل لا بد من كمال العقل؛ فالبلوغ
العضوي قد لا يُصاحِبه كمال العقل، وقد يأتي كمال العقل
قبل البلوغ العضوي.
١٠ وكيف يُحكَم على الأطفال بأنهم مؤمنون أطفالًا
وبالغين طبقًا لإيمان آبائهم، أو بأنهم كافرون أطفالًا
وبالغين طبقًا لكفر آبائهم، وتتم التسوية بين الطفولة
والبلوغ، بين اللاعقل والعقل؟ وما دور البلوغ والعقل إذا
صدر حكم بعدهما؟ وبناءً عليهما فكيف يصدر حكم مُخالِف
قبلهما وطبقًا لأي مقياس سوى التقليد؟
١١ إن وعي الإنسان لا يحدث بالتقليد أو بالوراثة،
بل بالإدراك والتمثل والاختيار العاقل. ويزداد الأمر خطورة
في الفقه المترتِّب على الحكم على الأطفال بالإيمان والكفر
فيما يتعلق بالدية والميراث؛ فقتل الطفل الكافر لا دية له
ولا يرث ولا يُورَث؛ وبالتالي تُستباح دماء الأطفال
وأموالهم ومُمتلَكاتهم أخذًا بجريرة الآباء. والحقيقة أن
الوصول في الحكم على الأطفال إلى حد استباحة دمائهم
وأموالهم إنما يرجع في حقيقة الأمر إلى أطفال المخالفين
الذين استباحوا دماء أطفال مخالفيهم؛ واحدة بواحدة، وطفلًا
بطفل. إن قتل غير البالغ العاقل جريمةٌ يحرِّمها الشرع؛
لأن أفعاله خارجة عن الاستحقاق.
١٢
والحقيقة أن الاعتماد على الحُجج النقلية لا يبرِّر
الحكم بأخذ الأطفال بجريرة الآباء؛ فالحجة النقلية لا
تُعطي الظن لخضوعها للتأويل ولقواعد التفسير ولمنطق اللغة
من مُحكَم ومُتشابِه، ومُجمَل ومبيَّن، وخاص وعام، وظاهر
ومؤوَّل، وحقيقة ومجاز، ولشتى صِيَغ الخطاب؛ فالخبر غير
الأمر أو النهي، والقصص غير التشريع. إن الحكم بالإيمان
والكفر لا يكون إلا على العقلاء البالغين، والأطفال ليسوا
كذلك؛ فلا سبيل إذن إلى التفرقة بين أطفال المؤمنين وأطفال
المشركين في الدنيا أو في الآخرة، ولا ضير أن يرث الأطفال
فيما بينهم في الدنيا أو أن يُوجَدوا معًا في الآخرة، لا
فرق بين مؤمن وكافر؛ لأنهما حكمان لا ينطبقان عليهم. وإن
كثيرًا من هذه الحجج النقلية مُعارَضة بأخرى تؤكِّد
المسئولية الفردية، مثل:
وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ
ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وغيرها من الآيات المُماثِلة.
١٣
ونظرًا لصعوبة الحكم بعذاب الأطفال وبأخذهم بجريرة
آبائهم، فقد يُترَك الأمر اختيارًا لله، إن شاء عذب وإن
شاء غفر، لا عن طريق الاستحقاق ولا عن طريق الانتقام، بل
لأنه صاحب المشيئة والإرادة. وهذا تخلٍّ عن قانون
الاستحقاق وعن أصل العدل وإرجاع المسألة إلى التوحيد، إلى
صفة الإرادة. وإذا ما كان أطفال المؤمنين في الجنة، فليس
لأن آبائهم مؤمنون، بل لأنهم أطفال لم يبلغوا ولم يصِلوا
بعد إلى الأمر والتكليف.
١٤ وكيف يؤجِّج الله نارًا فيأمر الأطفال
باقتحامها، فإن فعلوا استحقوا الجنة وإن لم يفعلوا استحقوا
النار؟ وكيف يدخل الأطفال النار ثم يخرجون منها إلى الجنة؟
هل هو عقاب أم ثواب؟ ولماذا يُعاقِب من لا يُقحِم نفسه في
النار ويُلقي بنفسه إلى التهلكة وهو غير مكلَّف؟ وعلى أي
أساس تتم التفرقة بين الأطفال؛ بين من يرمي نفسه في النار
ومن يُحجِم عنها؟ وأين الخوف الطبيعي؟ وأي طفل سيُلقي نفسه
في النار؟ وهل للطفل إرادة عاقلة واختيار حر يختار بهما
بين الإقدام والإحجام؟ وهل يمتحن الله الأطفال بعد
الاخترام وقبل التكليف وبعد انقضاء الزمان؟ إن ذلك
الامتحان لا يحدث للبالغين ولا للذِين لم تبلغهم دعوة
الإسلام؛ فامتحان البالغ المكلف في الدنيا وليس في الآخرة،
والذي لم تبلغه دعوة الإسلام غير مكلَّف، وأفعاله خارج
الاستحقاق بالرغم من إمكانية العاقل الوصول إلى أصلَي
التوحيد والعدل.
١٥
وقد يُغالي البعض الآخر في قدرات الطفل على المعرفة
والتمييز، ويجعله قادرًا على إعمال عقله وعلى الوصول إلى
أصلَي التوحيد والعقل، فإن استطاع نال الثواب وإن عجز نال العقاب!
١٦ وكردِّ فعلٍ على تكفير الأطفال وعقابهم على
كفرهم بناءً على كفر آبائهم، قد يجعل البعض إيمان الأطفال
وراثيًّا من عهد الذر الأول! فيُولَد الأطفال مؤمنين،
سواءٌ وُلِدوا من مؤمنين أو كفار منذ قولهم «بلى» الأولى،
ومن مات منهم قبل البلوغ دخل الجنة، وفي هذه الحالة أيضًا
تنتفي المسئولية الفردية؛ لأن الإيمان وراثة حدث قبل سن
البلوغ وكمال العقل. وماذا يحدث لو بلغ الطفل وكفر وأبواه
مؤمنان، أو إذا آمن وأبواه كافران؟ كيف يتحول البالغ
العاقل من الكفر إلى الإيمان أو من الإيمان إلى الكفر وقد
كان الإيمان ضرورة أولى وواقعة كونية لا يُمكِن التحول عنه
بفعل إرادي حر؟
١٧ وقد يُحاوِل البعض التخلص من المأزق كليةً
بتحريم دخول الأطفال مؤمنين أو مشركين الجنة أو النار، بل
يصيرون ترابًا؛ لأنهم أقرب إلى الكائنات الطبيعية غير
المكلَّفة، وهو أقرب إلى العقل، إلا أنه يُنكِر قيمة
الحياة التي تظهر في براءة الطفل وضحكته وحب الناس له
وتضحية الوالدَين في سبيله.
١٨
والأقرب إلى العقل في هذا كله أن الأطفال ما داموا غير
مكلَّفين، فإنهم لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا. ولما كان
العقاب أقسى وأخطر، فالعقاب خطأً أشدُّ من الثواب خطأً؛
فإن الأطفال لا يكونون في النار حتى يبلغوا ويصِلوا إلى
كمال العقل والقدرة على التمييز، وتُصبِح أفعالهم أفعال
استحقاق. ليس المهم في أي مكان يذهبون في الآخرة، ولكن
المهم هو أنهم ليسوا في النار. وإذا تساوى الثواب والعقاب
فالله إلى الثواب أقرب، وإن تساوى الاستحقاق بين الجنة
والنار فالإنسان إلى الجنة أقرب. لا يستحق الطفل موالاة أو
عداوة قبل البلوغ وكمال العقل، ولكن نظرًا لأنه طبيعة فإنه
يكون قبل البلوغ إلى الموالاة أقرب.
١٩
لذلك كان الأقرب إلى العقل والطبيعة أن يكون الأطفال في
الجنة، لا ثوابًا ولا تفضُّلًا، بل لأن ذلك أقرب إلى
الخير، والطبيعة خيرة والعقل فيَّاض معطاء، ولا فرق في ذلك
بين أطفال المؤمنين وأطفال الكافرين؛ فكلاهما لم يبلغا ولم
يحدث لهما كمال العقل وهو شرط التكليف، خاصةً إذا كانت
المعارف كسبية نظرية استدلالية، والنظر ليس مشروطًا
بالبلوغ؛ النظر بلوغٌ عقلي في حين أن البلوغ كمالٌ جسدي.
وأهم ما يصل إليه النظر هو العقليات؛ أي أصلا التوحيد
والعدل، إثبات الذات والصفات، وإثبات الحرية والعقل، ولا
يهم بعد ذلك تفريعاتها ودقيقاتها. وقد يكون النظر بخاطر
وقد لا يكون، على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات
النظرية الأولى.
٢٠ وقد يُضاف أصل الوعد والوعيد، والحقيقة أنه من
السمعيات وليس من العقليات، مثل النبوة والإيمان والإمامة
عند القدماء. وهذا لا يمنع من تصوُّر الأفعال حسنة في
ذاتها أو قبيحة في ذاتها، أو أن لكل فعل نتيجة واستمرارًا،
وأن نتائج الأفعال من جنسها، وتلخيص ذلك كله في قانون
الاستحقاق أو في الواجب العقلي؛ فلا يحسن الفعل لأجل
الثواب ولا يقبح العقاب، بل لأجل الوجوب العقلي. وإن كانت
الموضوعات سمعية فالنظر فيها ضروري في الحالة الثانية أو
في الحالة الثالثة بمجرد سماعها في الحالة الأولى،
٢١ ولكن يظل أصل المعارف معرفة النفس؛ أي معرفة
الذات ثم معرفة أصلَي التوحيد والعدل. ولا تعارُض بين كون
الأطفال في الجنة، لا فرق بين مؤمنين وكافرين، وبين
استحقاقهم للثواب والعقاب طبقًا للإيمان والكفر بعد تمام
العقل؛ فالعقل شرط التكليف. فإذا كان عاقلًا ولم يصِل إلى
التوحيد والعدل؛ أي إلى أصلَي العقليات، استحق العقاب، بل
ودوام العقاب؛ فكمال الإنسان في تمام العقل، وليس بالضرورة
في وقت البلوغ؛ فقد يكون العقل تامًّا قبل البلوغ، وقد يقع
البلوغ ولا يحصل تمام العقل.
٢٢ بل إن الكمال العقلي شرطُ البلوغ الجسدي في
الشرع، ولا تُقبَل صلاة المجنون أو الساهي أو النائم حتى
ولو بلغ الحُلم، ولا تختلف الفِرَق في كون العقل شرطَ
التكليف، أو في القول بالمعارف العقلية وبأصلَي التوحيد
والعدل، إنما الخلاف فقط في كون هذه الأصول عقلية أم
شرعية؛ لذلك يبطل عذاب الأطفال أخذًا بجريرة الآباء
بطلانًا شرعيًّا؛ لمعارضته نصوص الوحي الجلية، وعلى هذا
إجماع الأمة؛ فالإنسان مُؤاخَذ بعد الفعل وليس قبل الفعل،
وإذا كان مؤاخَذًا بعد الفعل، فكيف يكون مؤاخذًا قبله
والفعل لم يتم بعد؟ وإذا كان الإنسان يُولَد على الفطرة،
وكانت الفطرة دين العقل والطبيعة وهو دين الحنفاء، فإن
الصبي والمجنون كلَيهما يموتان عليه؛ وبالتالي يموتان
مؤمنَين، ويكون مكانهما الجنة، ولا ينطبق ذلك إلا على
البشر، دون غيرهم من الموجودات الحية الأخرى؛ الملائكة أو
الجن أو الشياطين. فالملائكة لا يتوالدون ولا أطفال لهم،
والجن والشياطين إن كانوا يتوالدون فإنهم غير مكلَّفين
مثلنا برسلنا ووحينا وشريعتنا، ولا ينفي ذلك كون الجنة دار
جزاء على الأعمال؛ لأنها أيضًا دار تفضُّل لما كان الخير
أقرب إلى العقل والطبيعة، ولا يهم ماذا يفعل الأطفال في
الجنة؛ هل خُدامها أم سادتها؟ بل دلالة ذلك على العدل
وتطبيق لأصله طبقًا لقانون الاستحقاق.
٢٣ وينتج عن ذلك فقهٌ عملي في الدنيا؛ إذ يُدفَن
المؤمنون من أطفال المشركين في مقابر المسلمين، ويُحال
بينهم وبين أبوَيهم، ومع ذلك يُجعَل لهم من أموالهم. ولو
بلغوا وكانوا على دين آبائهم لم يكونوا مُرتدِّين. ولو
كانوا من آباءٍ مسلمين ثم ارتدوا بعدما بلغوا فلم يكونوا
مُرتدِّين لبقائهم على الأصل. ولو أسلم أحد أبوَيهم كانوا
على دينه؛ فدين الطفولة إلى إسلام البالغين أقرب.
٢٤
وكما تتطلب أفعال الاستحقاق البلوغ وكمال العقل، فإنها
أيضًا تتطلب القصد والنية. والطاعة التي لا يُراد الله بها
ليست فعل استحقاق؛ فالأعمال بالنيات، والعمل غير المشروط
بالنية لا يكون استحقاقًا، فإن أتى صاحب الهوى والزنديق
بأفعال حسنة دون قصد منه وهو في كفره، فهي لا تُعتبَر
كذلك؛ لأن النية هي شرط استحقاق الفعل. وإذا ما أتى صاحب
الهوى أو الزنديق بفعل حسن لأنه حسن في ذاته فتلك نية
وقصد، وتكون فعل استحقاق بالرغم من الكفر النظري، وذلك مثل
أفعال أهل الكتاب الحسنة التي يُؤجَرون عليها ويستحقون
عليها الثواب، بالرغم من اضطرابهم في أصلَي التوحيد
والعدل، وقولهم بالتثليث والتجسد في التوحيد، وبالخطيئة
والخلاص في العدل. وإن كفر المجوسي لإيمان المجوسي
بمجوسيته لا يعني طاعته لله لكفره بسائر الديانات الأخرى،
فتلك الطاعة بالمصادفة والتبعية وليست بالقصد والنية. ولا
حتى النظر والاستدلال الأول يكون طاعة لله إن لم يكن الهدف
منه معرفته والقصد إليه. النظر والتوجه إلى الموضوع من
شروط صحة النظر، وإن إعلاء قيمة النظر لا يكون بالتعرف على
موضوعه بالمصادفة، بل بالقصد إليه وجعله أول الواجبات.
٢٥ كما لا تدخل في أفعال الاستحقاق أفعالُ الخطأ
والسهو؛ لأنه ينتفي منها القصد والنية، في حين أن الإصرار
على أي ذنب كفر. فعل الاستحقاق إذن هو الفعل القائم على
الإرادة والقصد مع سبق الإصرار وعقد العزم.
٢٦ ولا تلزم أفعال الاستحقاق إلا مَن بلغته
الدعوة، ومن لم تبلغه الدعوة فإنه معذور غير مسئول؛ لذلك
كان أحد واجبات الرسول التبليغ، وكان اسمه مشتقًّا من
الرسالة؛ أي حامل البلاغ والإعلان. فكل مَن بلغته الرسالة
أصبحت أفعاله أفعال استحقاق في أي ركن من الأرض كان وأصبح
مكلَّفًا، ومن لم تبلغه الدعوة كان معذورًا بجهله وغياب
معرفته، وإذا كانت أفعال الأطفال خارج الاستحقاق فإن
بلوغهم الدعوة وعدم فهمها يُعادِل عدم بلوغها، بالرغم من
القدرة على فهمها.
٢٧ أفعال الاستحقاق إذن هي أفعال البالغين كاملي
العقول، أفعال القصد والنية بعد التبليغ، وليست أفعال
الصِّبية والمجانين وأفعال السهو والخطأ والنسيان أو من لم
تبلغه الدعوة، هذه الأفعال وحدها هي التي ينطبق عليها
قانون الاستحقاق. الأفعال القابلة للحُكم هي الأفعال
المؤثِّرة المقصودة، القائمة على التدبر والروية، وتتوافر
فيها النية الحسنة أو السيئة. وصاحب الفعل هو المكلَّف
الحر العاقل البالغ. وهي الأفعال المستحَقَّة المدح والذم
وما يتبعهما من الثواب والعقاب؛ فالفعل قد يقبل المدح فقط
دون أن يترتب عليه ثواب، وقد يقبل الذم فقط دون أن يترتب
عليه عقاب؛ فالاستحقاق إذن على درجتَين؛ الأولى استحقاق
عند الناس وهو المدح والذم، والثاني استحقاق عند الله وهو
الثواب والعقاب.
٢٨ والاستحقاق يكون على الفعل وعلى الترك؛ فالترك
فعلٌ سلبي لأن عدم الفعل فعل، والإمساك عن الفعل إتيان
لفعل، وإن منع الفعل عن التحقق هو تحويل له من الخارج إلى
الداخل، ومن الواقع إلى الإمكان؛ فعدم الفعل ليس فعلًا
عدمًا، بل هو فعل شعور داخلي أو فعل إرادة تحيط بالشعور
وتمنعه من التخارج. فالثواب والعقاب على الفعل وعلى عدم
الفعل لأنهما فعلان مختلفان؛ أحدهما إيجابي والآخر سلبي؛
فالمندوب فعل والمكروه عدم فعل، والأول له ثواب، ثواب
الفعل؛ والثاني له أيضًا ثواب مثل الأول، ثواب عدم الفعل.
فإذا كان الفعل حركة فإن عدم الفعل معنًى؛ أي امتناع
الإرادة عن التحقق. فالإنسان غير الجماد في حالة عدم
الفعل؛ لأن عدم الفعل عند الإنسان فعلٌ إرادي، في حين أنه
في الجماد سكونٌ طبيعي. ولا يتشابه عدم الأفعال؛ فعدم
الإيمان ليس مثل عدم الكفر؛ الأول قبيح والثاني حسن. فإن
تشابها في الفعل الإرادي فإنهما مُتمايِزان في الصفة؛
فصفات الحسن والقبح موضوعية في الأفعال.
٢٩