كما أن الاستحقاق ثابت ودائم، فهو أيضًا شامل لا يفرِّق بين
مكلَّف ومكلَّف، ويظل العمل وحده هو مقياس الاستحقاق دون
موافاة الله لأحد؛ أي دون موالاة للبعض أو عداوة للبعض الآخر.
فالموافاة تحيُّز لو كانت قبل الفعل، وهي لا تتجاوز كونها
استحقاقًا بعد الفعل، والبشارة هي استباق للحوادث، وحكمٌ
مُسبَق بالاستحقاق ثوابًا لبعض الأفراد دون البعض الآخر،
والاستحقاق عام وليس خاصًّا. أما الشفاعة فإنها نقص للاستحقاق،
وانقطاع للعقاب للعاصين دون المؤمنين؛ فشمول الاستحقاق إذن
موجَّه ضد الموافاة، ولاية وعداوة، وضد البشارة وضد
الشفاعة.
(١) الموافاة (الولاية والعداوة)
لما كان الاستحقاق أساسًا أخرويًّا محضًا، فإنه لا يمكن
أن تحدث موافاة فيه بعد أن تتم الأعمال، وينقضي العمر،
وينتهي التكليف؛ فالثواب والعقاب لا يكونان استحقاقًا إلا
في الآخرة؛ فإذا ما حدث توفيق أو خذلان في الدنيا، أي
ولاية وعداوة من الله، فإن ذلك يكون تدخلًا في حرية أفعال
الشعور الداخلية قاضيًا عليها؛ وبالتالي نرجع إلى أصل
العدل من جديد. والفعل الحسن يولِّد طاقاته من ذاته، ويصبح
أكثر قدرة على التحقيق، في حين أن الفعل القبيح يفرِّغ
الطاقات، ويقضي على الذات، ويؤدي إلى الخذلان؛ لذلك قد
يدخل موضوع الموافاة، أي الولاية والعداوة، في حرية
الأفعال مع أفعال الشعور الداخلية.
١
الموافاة في الدنيا ولاية أو عداوة، سواء قبل الفعل أو
مع الفعل أو بعد الفعل، ليست فقط تدخلًا في حرية الأفعال،
بل هي أيضًا قضاء على التوبة، وسلب الإنسان قدرته على
الفعل المتجدِّد. وسواء كان هذا التدخل بالعلم أو بالقدرة،
فإنه في كلتا الحالتَين قضاء على شمول الاستحقاق بتخصيصٍ
وقتي؛ الإيمان والكفر، وهما لحظتان متجدِّدتان طبقًا
لاستمرار التكليف. وإن التبرئة المُسبَقة أو الإدانة
المُسبَقة لَقضاء على الاستحقاق كنتيجة لم تتحقق بعد،
وكمسار للفعل لم تتحدد وجهته بعد؛ نظرًا لحرية الأفعال.
وإن الولاية من الله للبعض والعداوة للبعض الآخر لَقضاء
على شمول الله؛ وبالتالي على شمول الاستحقاق، كما أن الرضا
من الله على البعض بصرف النظر عن كفرهم مثل سحرة فرعون،
وسخطه على البعض الآخر بصرف النظر عن إيمانهم مثل
المنافقين، لهُو اهتزاز لكل شيء للاستحقاق على الفعل، ولكن
الفعل وحده مَناط الاستحقاق. إن رضا الله عن المؤمنين مهما
عصوا، وسخطه على الكافرين مهما أطاعوا، لهُو نقض أساسًا
لقانون الاستحقاق، وتصوُّر الثبات في الله مهما تغيَّرت
الأفعال، بل إن هذا الثبات يدل على محاباة وتحيز؛ محاباة
المؤمنين لإيمانهم به بصرف النظر عن العصيان، والتحيز ضد
الكافرين لعدم إيمانهم به مهما كانت طاعاتهم، وكأن الله لا
يراعي إلا ذاته؛ الإيمان به من دونه بصرف النظر عن أفعال
الخير أو الشر للعباد.
٢ وقد يُقال بالموافاة نظرًا لعلم الله الشامل
الذي يعلم المآل، فيرى الحال من خلال المآل، ويرى الحاضر
والماضي من خلال المستقبل. وفي هذه الحال يُرَد أصل العدل
إلى أصل التوحيد، ويُضحَّى بالفعل الإنساني من أجل العلم
الإلهي، ولا فرق في ذلك بين الإرادة عند الأشاعرة والعلم
عند المعتزلة.
٣ وقد ينشأ القول بالموافاة، ليس من تغليب
الإرادة والعلم الإلهيَين على الفعل الإنساني في فِرقة
السُّلطة، ولكن من الظروف النفسية لفِرق المعارضة؛
فالموافاة تعطي المعارضة العلنية الجهرية تأييدًا لها من
الله ضد السُّلطة، تقوية للمقاومة، وتبريرًا نظريًّا لها
من العقيدة. وسرعان ما يُوجَد المبرِّر في العلم المُطلَق
والإرادة الشاملة، وكأن أفعال المقاومة وقراراتها مصيرٌ
محتوم مقدَّر مِن قبل، بل إن أفعال الشعور نفسها من اعتقاد
وإيمان قدرٌ مُسبَق يأخذ الله فيه بيد الإنسان، يدبِّر
أمره، وينسج له مصيره، ويقوده إلى غايته مهما كانت أفعال
الإنسان. فالموافاة إذن هي هذا الجبر الفعَّال الذي يوجِّه
أفعال الإنسان إلى غايتها، ينصر بها المظلومين وهم أولياء
الله على الظالمين وهم أعداء الله.
٤ وقد تتحول الولاية والعداوة من مجرد فعلَين
لله تعبيرًا عن الإرادة والعلم إلى صفتَين له في ذاته؛
فالحق الإنساني مؤيَّد بالولاية الإلهية، والباطل الإنساني
مهدَّد بالعداوة الإلهية. الولاية أخذ الإنسان لله في صفه،
والعداوة أخذ الإنسان لله ضد أعدائه. وماذا لو فعل العدو
ذلك أيضًا، وجعل الولاية من جانبه، والعداوة ضد عدوه؟ يكون
الإنسان في كلتا الحالتَين قد أخذ المؤلَّه من جانبه ضد
أعدائه، سواء كان هو نفسه أم خصمه؛ وبالتالي يتحول الله
كسلاح في معارك الخصوم. وأن إثبات الولاية والعداوة كصفات
ذات أو حتى كصفات فعل يؤدي إلى القضاء على الحرية
الإنسانية؛ إذ تحدِّد الصفات مصائر الناس فيما يتعلق
بأفعال الشعور.
٥ وفي جماعةٍ مضطهَدةٍ أخرى ولكن سرِّية تتحول
الولاية والعداوة أيضًا إلى سلاح لتقوية الجماعة؛ فالولاية
للإمام والعداوة لأعدائه؛ فالولاية للذات والعداوة للغير؛
وبالتالي يتحول الله إلى سلاح لتقوية الفرد ضد الخصوم.
ولما كثر المتخاصمون أصبح الله سلاحًا ضد الكل يضرب في كل اتجاه.
٦ إن الولاية والعداوة على هذا النحو ضد الشرع
والعقل معًا؛ فكثيرًا ما يتغير حكم الشرع طبقًا لأفعال
الناس وانتقالهم من الإيمان إلى الكفر، أو من الكفر إلى
الإيمان، كما أن الرضا والسخط من الله تابعان لأفعال
الإنسان ومتغيِّران بتغيرها. ولا ينال ذلك من شمول العلم
الإلهي؛ لأن تغيُّر الأحكام الشرعية طبقًا للأفعال موجود
في العلم الإلهي، فهو علمٌ ثابت بالتغير.
٧ إن الولاية والعداوة ممكنان بعد حال الإيمان
والكفر، وبعد أفعال الحسن والقبح، كنتيجة وليس كمقدمة،
كنهاية وليس كبداية. وإن كل وضع للولاية والعداوة في
البداية لهُو إنكار لقيمة الفعل ولقانون الاستحقاق؛
تبريرًا لأفعال الحاكم اللامشروطة، والذي يرعاه الله
بولايته، ويحفظه بالعداوة لأعدائه.
٨
(٢) البشارة
كما أن الموافاة لا تحدث في الدنيا قبل الأفعال وإلا
كانت قضاءً على الحرية، ولا في الآخرة وإلا كانت خرقًا
للاستحقاق، فكذلك البشارة؛ فالبشارة حكمٌ مُسبَق على
الأفعال قبل اكتمالها، وقبل انقضاء العمر، وقبل نهاية
الزمان؛ هي تثبيت للحكم بالرغم من سريان الفعل. والحقيقة
أن الأحكام تالية للأفعال، وليست سابقة عليها. وإذا كانت
البشارة نوعًا من إثبات التخصيص والاستثناء، فكيف يمكن
إثباتها وفي الوقت نفسه رفض التخصيص في الوعيد؟
٩ الفرق بينهما في الإغراء؛ فالتخصيص في الوعيد
إغراء على فعل القبائح، لكن البشارة ليست كذلك، ولا أيضًا
إغراء على فعل الحسنات؛ لأن المبشَّرين معلومون بأسمائهم
وصفاتهم في بدايتهم، وإن كانوا في النهاية يصلون إلى عامة
الناس. يبدءون بالعشرة، ثم يصبحون أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم
أهل بيعة الرضوان بالحديبية، ثم سبعين ألفًا من الأمة يتسع
كلٌّ منهم في سبعين آلفًا آخرين، وفيهم أشخاص بعينهم إن لم
يكن واحدًا بعينه، وكأنه يساويهم كلهم! وربما يتسع الأمر،
فيبلغ كل من بلغته دعوة الإسلام؛ وبالتالي تذهب الأمة كلها
إلى الجنة، بشرى للجميع، ويضيع الاستحقاق. وبعد أن يعيِّن
الرسول ضمن العشرة الأوائل وهو الذي بشر بهم، قد يدخل في
ذلك أيضًا آل البيت نساءً ورجالًا، ممَّن ظُلموا قهرًا
وعنوةً، وممَّن استُشهدوا مقاومةً للظلم ودفاعًا عن الحق؛
وقد يدخل في ذلك زوجات الرسول، بالرغم من نقد الوحي لهن،
واشتراك إحداهن في الحرب وسفك الدماء، خاصةً وأن الفريق
المختار لم يكن هو أصوب الفرقاء. وماذا لو كان في العشرة
المبشرين بالجنة أغنياء القوم في مجتمع أغلبيته من
الفقراء؟ وماذا لو كان فيهم من اعتزل الفتنة حتى لا يُزاد
من سفك الدماء، لا نصرة للظالم، ولا دفاعًا عن المظلوم؟
وهل يمكن تعيين المبشَّرين بالجنة بالاسم، سواء كانوا
عشرة، أم ثلاثمائة، أم سبعين ألفًا؟ وماذا لو تغيَّر فعلهم
بعد البشرى؟ هل تظل البشارة حكمًا؟ أليس في ذلك أيضًا حكر
على الإرادة الإلهية؟ ألا يعطي ذلك نوعًا من الرخصة في فعل
أي شيء حلالًا كان أم حرامًا ما دام الحكم قد صدر؟ ربما
يكون الهدف من ذلك هو الإعلاء من شأن الأعمال العظيمة، مثل
الشهادة والتضحية بالنفس والوجود في الطلائع والتصدي
للمخاطر ونصرة الحق والمحافظة على وحدة الجماعة. ومع ذلك
فهي كلها أفعال استحقاق، وليست أفعالًا ضد الاستحقاق، بل
إن الأنبياء أنفسهم أيضًا يخضعون لقانون الاستحقاق، إنما
يدخلون الجنة بأفعالهم. وفي النهاية لا يمكن للرواية
بنفسها أن تستقلَّ في تأصيل النظر؛ فالمبشَّرون بالجنة
رواية تصطدم بقانون الاستحقاق دوامًا وشمولًا، وطبقًا
لنظرية العلم الروايةُ ظن والعقل يقين.
١٠
كما يتضح أن المبشَّرين بالجنة هم عادةً أهل السُّلطة
ودعاة السلطان، في حين أن المبشَّرين بالنار هم أهل
المعارضة ودعاة الثورة الذين سُمُّوا أهل الأهواء، ومعظمهم
من الفِرق المعارضة. وما أسهل من قيادة العامة من
المبشَّرين بالجنة، ومن حصار المعارضة باتهامها بأنها من
أهل النار تنفيرًا للعامة منهم، خاصةً وأن العامة من أهل
الجنة ومن المبشَّرين بها مع أهل السلطان سواء بسواء. فإن
لم تكن هناك بشارة، فهناك على الأقل القطع بإيمان البعض
مثل الملائكة أو الأنبياء؛ لأنهم مختوم لهم بالإيمان،
ومشهود لهم بالعصمة. والحقيقة أن الاستحقاق لا يكون إلا
للمكلَّفين من البشر، لا ينطبق إلا على الإنسان الذي حمل
أمانة التكليف، والنبي كذلك. أما غير البشر من الملائكة
والجن فلا ندري عنهم بالعقل شيئًا.
١١ قد يكون المؤمن المقطوع بإيمان هو ما سمَّاه
القدماء «شاهد الحال»، الذي يُعذَّب في معتقده، ويتحمل
الأذى لأجله، هو المؤمن قطعًا. هنا يكون الإيمان هو
التضحية بالذات في سبيل المعتقد، بصرف النظر عن مضمونه.
أما إذا كان المضمون عاقلًا مستمَدًّا من أصلَي التوحيد
والعدل، فيكون «شاهد الحال» هو صاحب الاستحقاق.
١٢
(٣) الشفاعة
الشفاعة أيضًا، وربما أكثر من الموازنة والبشارة، تُنال
من شمول قانون الاستحقاق. وقد ارتبطت الشفاعة بالعفو؛
فكلاهما يعطيان مغفرة عن غير استحقاق لأصحاب الكبائر. وكما
أن العفو والإحباط نقيضان، فالشفاعة والتوبة أيضًا نقيضان،
ومن جوَّز المغفرة بلا توبة جوَّز الشفاعة، ومن منعها منع
الشفاعة. كما ترتبط الشفاعة بالوعد والوعيد؛ نظرًا لأنها
أحد شُبَه المرجئة في تخصيص الوعيد والاستثناء منه فيما
يتعلق بدوام عقاب الفساق. وهي موضوعٌ سمعيٌّ خالص لا يعتمد
على الحسن والقبح العقليَّين، بل على النقل وحده، وعلى
مُطلَق المشيئة. وقد زاد الموضوع أهميةً في العقائد
المتأخِّرة، مثل حال كل الموضوعات السمعية كفرصة لإظهار
الغيبيات، وكل ما هو ما مُضادٌّ للعقل، حتى في الحركة
الإصلاحية الحديثة. وكانت أهميتها قد زادت منذ البداية بعد
ظهور البدع والحاجة إلى العفو كغطاء من الإيمان على قبح الأفعال.
١٣
والشفاعة من الشفع، وهو ضد الوتر؛ أي الثاني مع الأول،
الآخر في مصاحبة الذات. فالشفاعة تدل على الجماعة والصحبة
والتعاون واتجاه الفرد نحو الآخر والآخر نحو الفرد، كما
تدل على حاجة الإنسان إلى الغير، فكأن صاحب الحاجة بالشفيع
صار شفعًا. وفي الاصطلاح مسألة الغير أن ينفع غيره أو يدفع
عنه مضرَّة. فالشفاعة بهذا المعنى هي اختيار الأصلح من أجل
الإنقاذ، وموضوعها وصول المشفوع له إلى حاجته، وهي إما طلب
نفع أو دفع ضرر.
١٤ ولكن يظل السؤال: هل هو اعتمادٌ كلي على
الغير، وتشفُّع به، وتسلُّق عليه؛ أم اعتمادٌ أساسي على
الذات، وثقة أولى بالنفس، ثم بعد ذلك توسُّع الفعل
وامتداده نحو الآخرين؟
وتنقسم الشفاعة أربعة أركان: المشفوع إليه وهو الله،
الشفيع وهو الرسول، المشفوع له وهو المؤمن، المشفوع فيه
وهو الكبيرة. وتتضمن الشفاعة عُلوَّ رتبة المشفوع إليه
والشفيع عن المشفوع له، وهذا أيضًا في طلب الحاجة؛ لذلك
كانت فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع، والدلالة على منزلة
المشفوع إليه، والمشفوع إليه يكرِّم الشفيع.
١٥ ولما كان المشفوع إليه هو الله، فإنه يدخل في
العقليات في أصل التوحيد. بقي إذن المشفوع فيه وهو
الكبيرة، والمشفوع له وهو المؤمن، والشفيع وهو
الرسول.
فالمشفوع فيه هو الكبيرة؛ فالشفاعة أحد حلول قضية
التخليد والدوام في النار لصاحب الكبيرة؛ إذ إنه يكون في
النار استحقاقًا، ثم يخرج منها بشفاعة الرسول.
١٦ ولما كانت الكبيرة عصيانًا وفسقًا وفجورًا،
فالشفاعة تكون أيضًا للعصاة وللفساق وللفجار، ولكن لماذا
الشفاعة لأهل الكبائر وهناك التوبة؟ وهل تجبُّ الشفاعة
التوبة؟ وإذا كانت الشفاعة قادرة على إخراج مُرتكِب
الكبيرة من النار وقطع العقاب، فإن التوبة قادرة على عدم
إدخاله النار أصلًا. وقد تكون الشفاعة لأهل الأعراف الذين
تساوت حسناتهم مع سيئاتهم ويمرُّون أمام النار، فإذا رجحت
حسناتهم سيئاتهم فإنهم يدخلون النار ولا يخرجون إلا بشفاعة
الرسول ورحمة الله. فالشفاعة هنا تدخل في الموازنة،
وتُبطِل الإحباط والتكفير، وتكون حاملًا مرجِّحًا في حالة
الاستواء بين الطرفَين. وهي حالةٌ افتراضية أساسًا؛ نظرًا
للطبيعة الخيِّرة كعاملٍ مرجِّح فيها. ولماذا تتقدم
الشفاعة على رحمة الله أو تساويها وتعادلها؟ أليست رحمة
الله كافية كعاملٍ مرجِّح دون شفاعة؟
١٧ وقد تكون الشفاعة للكفار لتعجيل فصل القضاء،
وتخفيف أهوال يوم القيامة!
١٨ لذلك كان مكانها يوم الإراحة من الوقف. فهل
الله بطيء في العقاب، مُتباطئ في الحساب، فرِحٌ بإطالة
الانتظار له ليزيد عذابًا نفسيًّا حاضرًا على العذاب
البدني المتوقَّع؟ ولماذا يخفِّف الله عنهم الأهوال إذا
كانت جزءًا من العذاب؟ ولماذا يستعجل الرسول، والعجلة في
القضاء ضد العدل، كما أن العجلة من الشيطان؟ وقد تكون
الشفاعة في الجن والإنس! وماذا فعل الجن؟ هل له رسل
وتكليف؟ وهل قبِل الأمانة طوعًا واختيارًا كما قبِلها الإنسان؟
١٩
فإذا كانت الكبيرة أساسًا هو المشفوع فيه، فمَن المشفوع
له؛ المؤمن أم الموحِّد أم التائب؟ ولماذا الشفاعة؟ هل
لرفع الدرجات في الجنة، أو لعدم دخول النار، أو لدخول
الجنة بغير حساب؟ هل هي لهذه الأمة أم لكل الأمم بلا
استثناء؟ قد تكون الشفاعة لمن استحقَّ دخول النار كي لا
يدخلها، وهذا في الحقيقة قضاء على الاستحقاق وعلى دوامه،
وقول بانقطاع العذاب أو بعدم وقوعه دون شرط التوبة. وماذا
يكون رد فعل من دخل النار عن استحقاق؟ أليس ذلك عدم مساواة
في العقاب؟ أليس ذلك إثارة ضغائن في الجنة وثورة في النار
لمن لم ينالوا الشفاعة؟ وماذا يكون رد فعل أهل الجنة الذين
عملوا الحسنات، ودخلوا الجنة بعد دخول النار، وغيرهم لم
يدخل النار شفاعة؟ وأين يذهبون إن لم يدخلوا النار؟ هل
يدخلون الجنة أم يبقون في الأعراف؟ وقد تكون الشفاعة
لإخراج الموحِّدين من النار، لمن له ذرة إيمان في قلبه.
وهذا أيضًا تفضيل للنظر على العمل، مع أن الاستحقاق يقوم
على العمل، وليس على النظر، وهو أيضًا ظلم الكفار الذين
لهم أعمال صالحة. وهو مُناقِض لقانون الموازنة، الإحباط
والتكفير، كما أنه ضد التوبة، وإلغاء لوظيفتها، وقضاء على
الهدف منها. وإذا كانت الشفاعة تخفيفًا عن بعض الكفار في
أوقاتٍ مخصوصة، فهذا تخصيص بلا استحقاق، واستثناء دون حق،
وتحيُّز ومجاملة تُناقِض العدل.
٢٠ وإذا كانت الشفاعة لأطفال المشركين، فهل
الأطفال عقلاء بالغون أحرار حتى يكونوا مكلَّفين؟ وإذا
كانت الشفاعة للمؤمنين المطيعين، فإن في توبتهم كفاية
لانقطاع العقاب ودوام الثواب.
٢١ وإذا كانت الشفاعة لصلحاء الأمة ليتجاوز عنهم
في تقصيرهم في الطاعات، فإن الأعمال العظيمة تجبُّ
المعاصي، والتضحية بالعمر وبالنفس تجبُّ اللمم. أما إذا
كان المقصود من الشفاعة رفع الدرجات، وبلوغ مراتب أعلى في
الجنان، فإن ذلك طمع، ورغبة في المزيد أسوة بما كان يحدث
في الدنيا من زيادة غنى الغني، ورفاهية المُترَف، ويسر
المُوسِر، بمزيد من الطاعات والعبادات. فالدرجات العليا في
الدنيا لا بد وأن يُقابلها رفيع الدرجات في الآخرة؛ حتى
تستمرَّ مزايا الدنيا بدعوى دوام الثواب! كما يؤدي ذلك إلى
إثارة الأحقاد والضغائن والمنافسة في الجنة عند من لم
تنَلهم الشفاعة. وهل في الجنة رغبات وأطماع وهي دار السلام والصفاء؟
٢٢ وتتم الشفاعة لدفع العذاب ولرفع الدرجات ضد
قانون الاستحقاق. لا يُرفَع العذاب إلا بالموازنة أو
التوبة؛ لأن الشفاعة دونهما، إعطاء نفع لمن لا يستحق.
والدعاء لا يرفع العذاب؛ فالدعاء قول والتوبة عمل، وما
أكثر القول وأقل العمل! ولماذا تتم الشفاعة لعددٍ معيَّن
٧٠٠٠٠ كل واحد منهم يشفع في ٧٠٠٠٠ ألفًا مثلهم؟
٢٣ فيكون مجموع المشفَّع لهم ٤٩٠٠٠٠٠٠٠٠؛ أي أقل
من خمسة مليارات بقليل، وهم أقل من عدد سكان الأرض حاليًا
بمليارٍ واحد! ولماذا هذا العدد بالذات؟ هل عددٌ رمزي به
الرقم ٧، وبه الأصفار والآلاف زيادةً في التعظيم
والمبالغة؟ أليس هذا العدد أكثر من مسلمي الأرض؛ وبالتالي
يتطلب ذلك الشفاعة لغيرهم؟ وهل الرسول على علمٍ مُسبَق
بأفعال العباد المستقبَلة، أم هو قانونٌ عام للتاريخ يمكن
التنبؤ به؟ وإذا كانت الشفاعة لأهل الجنة من هذه الأمة،
فهم ليسوا بحاجة إليها ما داموا في الجنة. وإذا كانت للناس
جميعًا بصرف النظر عن الأمة تصبح عامة للكل؛ وبالتالي تفقد
خصوصيتها للبعض، وفي عموميتها يكون إثباتها مساويًا لنفيها.
٢٤ إن إدخال قوم الجنة بغير حساب ضد قانون
الاستحقاق، وعدم مساواة بين من دخلها بحق وبين من دخلها
بغير حق. وما فائدة العمل لمن دخلها بحق؟ وفيمَ كان الجهد
والتعب والنصب؟ وهل لم يعُد العمل هو مقياس الجزاء؟ على
الأقل لا بد من وجود مراتب في الجنة لمن دخلها بجهد عرقه،
ولمن دخلها شفاعة. وقد يُثار خلاف حول أيهما يكون في
مرتبةٍ أعلى من الآخر؟ ويُلاحَظ في المشفوع لهم التضادُّ
في المجموعات بين إدخال قوم الجنة بغير حساب، وبين عدم
إدخال قوم النار استحقُّوا دخولها؛ أو بين إدخال المؤمنين
المُذنِبين الجنة، وبين إخراج العصاة الموحِّدين من النار.
أما باقي الشفاعات فلا حد لها، إنما صاغتها أحاديث من نسج
الخيال الشعبي حول البطل والبطولة الفردية، وحاجة الدهماء
إلى مُخلِص. وهنا يبدو الرسول زعيمًا لأمة، وشيخًا لقبيلة،
ورئيسًا لجماعة.
أما فيما يتعلق بالشفيع وهو الرسول، فإن شفاعته تأتي
بطلب الناس بعدما يتقاعس الجميع، ويرفض باقي الرسل؛ إذ
يسأل الناس الرسل، فيعتذرون ولا يتقدم إلا سيد الخلق،
فيقول أنا لها، ويسجد ويشفع؛ فهو الذي يتصدر الجمع، ويسبق
الرسل، ويشهد على جميع الشهداء.
٢٥ وللرسول شفاعتان: شفاعة خاصة وشفاعة عامة.
الأولى لمن يستحقُّ من مُرتكِبي الكبائر، والثانية مقامٌ
محمود للناس جميعًا. إذا كانت الأولى نوعًا من الاستحقاق،
فالثانية نوع من التفضل، لا يبدأ الرسول في طلبها إلا بعد
أن يسجد، فإذا أذِن له الله شفع من أسعد الناس بها، ولا
تكون لمن أشرك بالله.
٢٦ فإذا كانت الشفاعة الصغرى خاصة لأهل الكبائر،
فإن الشفاعة الكبرى تكون لكل من دخل في قلبه ذرة إيمان، بل
لكل مخلوق من البشر إنقاذًا له من هول الموقف. فإذا كانت
الصغرى زيادة على التوبة، فإن الكبرى قضاء على الاستحقاق
كليةً، وتغليب للنظر على العمل. وكيف تكون الشفاعة من هول
الموقف والحساب لم يتم بعد، وكأن الشفاعة هنا ضد الحساب؛
أي مناقضة لتطبيق قانون الاستحقاق؟ وقد تكون للنبي شفاعاتٌ
أخرى غير هاتَين الشفاعتين، يُكثِر من ذِكرها الخيال
الشعبي الذي ينطلق لتحديد زمانها ومكانها وأشخاصها كلما
زاد الإحساس بالبطولة الفردية، واشتدَّت حاجة الإنسان إلى
مُخلِّص بعيدًا عن فعلهم وخارج أنفسهم.
٢٧ وكيف يشفع الرسول لغيره وهو نفسه بشر ينطبق
عليه قانون الاستحقاق، وهو نفسه مُحاسَب مثل غيره من
البشر؟ كيف يكون له هذا القدر من الشفاعة وهو أيضًا محكوم
عليه وليس حاكمًا، وهو متَّهَم وليس قاضيًا؟
والأخطر من ذلك كله هو تعميم الشفاعة لغير الرسول؛
وبالتالي لا تصبح خاصةً به وحده وميزةً له باعتباره آخر
الأنبياء والمرسلين، وتصبح عامة للملائكة والأبناء والرسل
والأولياء والصحابة والشهداء والعلماء وصلحاء الأمة
والمؤمنين ولكل الناس على قدر منازلهم والفقراء وأطفال
المؤمنين. إن تعميم شفاعة النبي له ولغيره يقضي على الخاص
فيصبح عامًّا؛ وبالتالي يضيع كليةً قانون الاستحقاق، ووقوع
الجزاء طبقًا للأعمال، كما أنه يُسقِط شفاعة النبي كخصوصية
له، وهو القصد من الشفاعة، بل إنه ينفي الشفاعة كليةً
طالما غاب القصد منها، وتوقَّف معناها الأول، كما أن تعميم
الأوقات والأماكن والأشخاص هو قضاء على وقت الحساب وخصوصية
المكان وأصحاب الكبائر. وإن إثبات الشفاعة في الدنيا ولكل
الناس ليجرُّ إلى الوساطة والمحاباة والتحيز، ويقضي على
العمل، وهو أساس الاستحقاق في الدنيا. وكيف تكون الشفاعة
لملَك والملَك غير مكلَّف أساسًا، والإنسان أعظم منه؟
وطبقًا لأي مقياس سيشفع الملَك؟ كيف نشفِّع الملائكة في
البشر؟ أليس الإنسان أفضل منها بتقبله الأمانة؟ ألم تسجد
الملائكة لآدم؟ ألم تعارض الملائكة إرادة الله كما فعل
إبليس؟ وهل الملائكة لها رسل وتكليف، خاطبها الله ونادى
عقلها واستثار حريتها كما فعل مع الإنسان؟ لا يشفع للإنسان
إلا عمله؛ فالاستحقاق أحد مظاهر التكريم. وهل يشفع نبي
لنبي آخر مثله؟ وإذا كانت الشفاعة لصاحب الكبيرة، فهل من
الأنبياء من ارتكب الكبائر؟ وإذا كان قد حدث فلماذا يُشفَع
للنبي ولا ينال استحقاقه ثوابًا بحسناته وعقابًا بسيئاته،
وهو بشر، أسوةً بباقي البشر؟ أليس محمد سيد المرسلين وخاتم
الأنبياء والشفاعة خاصةً به وتكريم له؟ كيف يشفع له نبي
آخر وهو شاهد الشهداء، «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد
وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا»؟ وكيف يشفع موسى وهو الغاضب
الكاره؟ كيف يشفع نوح وهو اللاعن المدمر؟ كيف يشفع عيسى
وهو الحنون القابل لكل الشرور والآثام عن رضًا وطيب خاطر؟
كيف يشفع يحيي وهو المقطوع الرأس؟ كيف يشفع النبي وهو
يستسلم للقضاء، ويرى أن كل ما يقع من شرور في العالم إنما
يتم بإذن الله وبكامل إرادته ومشيئته؟ وهل يشفع الأولياء؟
ألا يضع ذلك الأولياء في مصافِّ الأنبياء والرسل
والملائكة؟ وما مقياس صدق الولاية؟ لقد فرَّق الفقهاء مِن
قبل بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن؛ من أجل التفرقة
بين الكذب والادعاء والسحر والشعوذة، وبين الولاية الحقة.
وهل هناك ولاية أساسًا؟ أليس ذلك إدخالًا لعلوم التصوف في
علم أصول الدين؟ إن الاعتماد على شفاعة الأولياء هو تدمير
للعقل وللفعل، وهما دعامتا قانون الاستحقاق. وهل تشفع
الصحابة وهم أولى بالشفاعة؟ وهل الصحابة في مكانة الملائكة
والأنبياء والرسل كشفعاء؟ ألا يخطئ الصحابة ويصيبون؟
الصحابة مُحاسَبون مشفوع لهم مثل غيرهم. كيف يكون المشفوع
له شفيعًا؟ وهل يشفع عمر إن شفع عثمان؟ ومن يشفع لأبي
سفيان؟ وهل يشفع عمر لخالد بن الوليد أو خالد بن الوليد
لعمر؟ وهل يشفع الشهداء؟ إن الطليعة قد ضحَّت بنفسها،
وطالما حاولت تجنيد الجماهير معها. فبعد ذلك هل تشفع
الطليعة في الخانعين والهابطين والمثبِّطين والقاعدين
والمخلَّفين الذين اثَّاقلوا إلى الأرض؟ هل يشفع الشهداء
فيمن أعطاهم الشهادة؛ القتلة والظلمة والحكام والسلاطين؟
صحيحٌ أن منزلة الشهادة في منزلة النبوة، ولكن الشهادة
عمل، فكيف يشفع العامل فيمن لا عمل له؟ وهل يشفع العلماء؟
والعلماء عكس الشهداء؛ هم أصحاب نظر، والشهداء أصحاب فعل.
ألا يعطي ذلك أولوية للنظر على العمل، أو على الأقل يكون
النظر مساويًا للعمل؟ صحيحٌ أن النظر قيمة، ولكن العمل
قيمةٌ أعظم. كيف يشفع العلم للجهل، والمعرفة للشك، واليقين
للظن؟ ألمْ يخشَ العلماء غير الله، فباعوا علمهم على موائد
الحكام؟ وهل يعمل كل العلماء بعلمهم، أم إنهم هم العاملون
وحدهم؟ وهل يشفع اجتماع النظر والعمل في أحد أجزائه؛ أي
النظر وحده أو العمل وحده؟ وهل يشفع صلحاء الأمة وأتقياء
القوم؟ وهل يشفع الأصل في الأقل صلاحًا؟ ألا يمنع ذلك
الصالح أن يكون أصلح ما دام الأصلح سيشفع له، وما فقده
الإنسان في الدنيا يجده في الآخرة، وما لم يحصل عليه في
البداية يحصل عليه في النهاية؟ وهل يشفع المؤمنون بعضهم
لبعض وكأن الأمر مجاملة، أو بتعبيرٍ شعبي «شيلني وشيلك»؟
وكيف يشفع مؤمن لنبي، ويشفع الأقل درجة للأعلى درجة؟ هل
المؤمن أعلى درجة من النبي؟ هل يشفع أحد من الصحابة وهم في
ذروة الإيمان لمحمد؟ هل يتشفع مؤمن منهم في باقي الأنبياء
والرسل في إبراهيم وموسى وعيسى؟ وكيف يتشفع مؤمن لمؤمن
آخر؟ في هذه الحالة لن تكون الشفاعة كرامة للأنبياء، وخاصة
لخاتم المرسلين، بل تكون عامة لجميع المؤمنين؛ وبالتالي
تضيع الشفاعة باعتبارها كرامة للأنبياء. وإن الشفاعة بهذا
المعنى لتعطي الإنسان المؤمن أكثر مما يستحق، ويعطى
المشفوع له أقل ما يستحق، وتُحيل البشر إلى قسمَين؛ يدًا
عليا تعطي ويدًا سفلى تأخذ. وكيف يشفع الناس قدر منازلهم؛
وبالتالي تصبح الشفاعة عامة للكل، وتفقد خصوصيتها لواحد
بعينه؟ وإذا كانت المنزلة هي التي تحدِّد قدر الشفاعة،
فالعمل أساس المنزلة والشفاعة معًا. وهنا تسقط الشفاعة
باعتبارها بديلًا للفعل. وكيف يشفع الفقراء؟ ولماذا لا
يأخذ الفقراء حقهم في الدنيا بدل أن يكونوا وسيلة لدفع
العقاب عمَّن سلبوهم حق الحياة ونهبوا ثرواتهم؟ أليس ذلك
إرضاءً للفقراء في الآخرة عن طريق الإيهام، وتحويل
عبوديتهم إلى سيادة، وضعفهم إلى قوة، وعجزهم إلى إرادة،
فينسوا فقر الدنيا أمام غنى الآخرة؟ بعد أن كان الفقير
محكومًا أصبح حاكمًا، وبعد أن كان عبدًا أصبح سيدًا، وبعد
أن كان مشفوعًا له أصبح شفيعًا! وكيف يشفع أطفال المؤمنين
الصابرين على البلاء؟ وأي بلاء يُصيب الأطفال في الجنان؟
وكيف يُرفَع الظلم عن الأطفال المذبوحين المعذَّبين
المبتوري الأطراف المبقوري البطون بإيهام الشفاعة لهم،
وبأنهم شفعاء لجلاديهم؟
٢٨
لذلك كله كانت الشفاعة مستحيلة؛ بناءً على عدم جواز
العفو والمغفرة قبل التوبة.
٢٩ وإذا كانت التوبة واجبة فلمَ الشفاعة؟ وإذا
كانت الشفاعة واجبة فلمَ التوبة؟ الشفاعة على عكس التوبة؛
فالشفاعة لا تُحدِث تغييرًا في القلوب أو الجوارح، في
الأفعال الداخلية أو الأفعال الخارجية، في حين أن التوبة
تحقِّق الهدف منها، وهو إحداث التغير الفعلي في حياة
الإنسان، والاعتماد على النفس، والتعليم، وتغير الرؤية،
وتحسين السلوك. الشفاعة كسب بلا جهد، وثمرة بلا غرس، وجني
بلا زرع، ومعلول بلا علة، ونتيجة بلا مقدمات. تقضي الشفاعة
إذن على التوبة وقدرة الإنسان على إنقاذ نفسه بنفسه، بفعله
المتجدد، وتعلُّمه عن طريق المحاولة والخطأ. قد يركن
الإنسان إلى الشفاعة ما دام يعرف النتيجة مُسبَقًا، أو
يهدف إليها قصدًا، أو يتاجر بها، ويترك الجهد والتدبير
والإرادة والعقل. وقد يُصاغ ذلك في حجةٍ جدلية مؤدَّاها أن
الرسول إما أن يشفع لصاحب الكبيرة وهو ما لا يجوز؛ لأنه
إثابة من لا يستحق، وإما لا يشفع وهو ما يجوز؛ لأنه يقدح
بإكرامه. ولما كان المكلَّف لا يدخل الجنة تفضلًا، بل عن
استحقاق، وكانت العقوبة على الدوام، فكيف يدخل المطيع
الجنة أو يخرج المسيء من النار بشفاعة الرسول مع تأكيد
الوحي أنه لا شفيع للظالمين؟ ففي حالة استواء الطرفَين بين
جواز الشفاعة وعدمها يبرز الاستحقاق ليرجع نفي الشفاعة.
٣٠ إن الشفاعة تُثير عِدة إشكالات حتى
لمُثبِتيها؛ فإذا لم يشفع الرسول لم تكن له كرامة، وإن شفع
فإنه ينقض قانون الاستحقاق، خاصةً إن لم تسبقها توبة. وهل
الشفاعة أعلى من قانون الاستحقاق؟ أليست الشفاعة نقضًا
للاستحقاق؟ أليس الله قادرًا على الرحمة بلا شفاعة؟ أليست
الشفاعة إعطاء النبي أكثر مما يستحق من حيث كونه بشرًا،
يأكل الطعام ويمشي في الأسواق:
قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا
رَسُولًا؟ ألا تجعل الشفاعة واسطة بين العبد
والرب؛ وبالتالي يقضي على أهم خصائص الإسلام؟ إن الشفاعة
تقضي على الفعل وعلى الجهد الذاتي، وتجعل الاستحقاق مجرد
تفضل. وإذا كانت الشفاعة للحصول على المراتب العليا، فإنها
تقوم حينئذٍ على الطمع من جانب المشفوع لهم، بل وعلى
الدنية في الدين وعلى الشحاذة، واليد العليا خير من اليد
السفلى. إن الشفاعة أقرب إلى الأخلاق اليهودية، نظرية
البقية الصالحة التي لأجلها يغفر الله خطايا باقي الأمة،
والتي سمحت لها بفعل ما تشاء وعصيان القانون بفضل شفاعتها
لها. وهي أقرب أيضًا إلى نظرية
نَحْنُ
أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. والعلاقة
الخاصة بين العبد والرب التي لا تقوم على أساس الاستحقاق.
وتُشبِه أيضًا عقيدة حمل المسيح لآثام البشر، والتي تسمح
للمؤمن أن يفعل ما يشاء ما دام المسيح سيحمل وزر أخطائه
بدلًا عنه، ويكفِّر عنه بدمه، ولا يمحوها فقط بشفاعته. وقد
تصبح الشفاعة مجرد موضوع شخصي صِرف، طلب الشفاعة للنفس
وإنكارها على الخصوم. وإن دعاء المرجئة أن يكونوا من أهل
الشفاعة هو سماح لهم بأن يكونوا من العصاة أصحاب الكبائر.
ومن حق من لم يشفع لهم الغضب والتمرد ما دامت الشفاعة لا
تقوم على استحقاق. ولا يمكن اتهام من ينكر الشفاعة بأنه
يفعل ذلك لأنه ليس له حظ منها؛ فهذا إسقاط إثبات الشفاعة
لسببٍ شخصي، وهو العفو عن الأخطاء والمعاصي بلا توبة وعن
غير استحقاق على من يقوم بإنكارها حرصًا على تجدد الفعل في
الدنيا بالتوبة، وعلى نتائج الفعل في الآخرة بالاستحقاق،
٣١ بل إنه في إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة لا
يُستشفَع بالله على خلقه. فما بال الاستشفاع بالرسول على الله؟
٣٢
وهناك أدلةٌ نقليةٌ مُعارِضة على عدم جواز الشفاعة عند
القدماء، أو على تعميمها في الرسول وفي غيره، في وقت
الحساب وفي غيره من الأوقات؛ فدلالتها على العموم من حيث
الأشخاص والأزمان، وليست على الخصوص. ولم يبقَ عند
المعتزلة إلا العفو عن الصغائر مُطلَقًا، وعن الكبائر بعد
التوبة، والشفاعة لزيادة الثواب.
٣٣ وهناك شبهاتٌ أخرى ضد الشفاعة يذكُرها القدماء
تجمع بين النقل والعقل، ويصعب تفنيدها؛ فروايات الشفاعة
مُعارَضة بمثلها، وتضعيفها لا يزيد على تضعيف روايات
الشفاعة ذاتها، خاصةً وأنها وردت في رواياتٍ أخرى تمنع
الشفاعة عن قاتل النفس ومُدمِن الخمر وعاقِّ الوالدَين،
وهي أمهات الكبائر التي تقضي على الحياة. وتعارض هذه
الروايات أخبارًا أخرى تُسقِط الفعل من الحساب، مثل: «من
قال لا إله إلا الله دخل الجنة.» أو: «وإن زنى، وإن سرق.»
أو «وإن قتل وشرب الخمر رغم أنف أبي ذر.» وهو ما يُعارِض
أيضًا روح الوحي وأصل العدل. وإذا كان العمل جزءًا من
الإيمان، فكيف تتم الشفاعة فيمن لا عمل له؛ أي لا إيمان
له؟ وكيف تكون الشفاعة لكل مؤمن وإن لم يكن له عمل؟ إن فصل
الإيمان عن العمل، وإخراج العمل عن الإيمان، إغراء على
إتيان المعاصي، ودافع على ارتكاب الذنوب. ليس الظلم هو
الشرك والكفر النظري، بل هو الظلم العملي؛ ظلم الأفعال:
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ. ولا شفاعة
تنفع الكافر لأجل أعماله، وليس لأجل نظره. وإن إخراج
العذاب من أصل الإيمان والتوحيد وجعله في الكفار وحدهم
مجرد نرجسية؛ حبًّا للذات وعداوة للآخر.
٣٤
والحقيقة أن آيات الشفاعة تُشير إلى النفي أكثر مما
تُشير إلى الإثبات؛
٣٥ فالشفاعة لله وحده، وليس لدونه أية شفاعة.
٣٦ وفي حال الإثبات لغيره تكون مشروطة برضاء الله
وبإذنه، أو بعهدٍ اتخذه الله مع الشفيع، أو لمن يشهد بالحق.
٣٧ وتُنكَر الشفاعة بأسلوب السخرية والتساؤل،
وكأن إنكار الشفاعة أمرٌ بديهي لا يحتاج إلى إنكار.
٣٨ وإن وُجدت بصرف النظر عن الشفيع، فإنها لا
تنفع في شيء، إما لفوات الأوان، أو لعدم استحقاقها.
٣٩ وهي لا تكون على الإطلاق للظالمين أو للتابعين
أو للمشركين الذين أشركوا في فعلهم آخرين مُعتمِدين عليهم،
تابعين لهم.
٤٠ أما الشفاعة في الدنيا أهي خير أم شر، فذلك
أمرٌ إنسانيٌّ خالص؛ أي من عمل خيرًا أو شرًّا فجزاؤه من
جنس ما عمل.
٤١