البرزخ إذن هو الحياة المتوسِّطة بين الموت والبعث، تتراءى
فيه أحوال القيامة قبل البعث، تُعرَض النار على الكفار. ولكن
لماذا لا تُعرَض الجنة أيضًا على المؤمنين؛ لينعموا بريحها،
ويتنشقوا نسيمها، كما يتألم الكفار من لهيب النار؟ وهل في
القبر زمان، فيُعرَض فيه الموتى على النار صباحًا ومساءً؟ وكيف
تُعرَض النار على الكفار والجنة على المؤمنين، والحساب لم يتم
بعد، ولم يحدث دفاع، ولم يُنطَق حكم، ولم يُوقَع جزاء؟ ربما هي
بقايا العقائد القديمة في حياة القبر، كما هو الحال في تاريخ
البشرية عند بناة الأهرام، كسكن للموتى وتحنيط الأجساد ووضع
الطعام والشراب والحلي معه؛ حتى تنعم الروح حين تعود إلى
الجسد. وربما هي رغبة في قهر الموت واستمرار الحياة؛ تخفيفًا
لآلام القبر، وحرصًا على راحة الميت، وما زالت ذكراه حية في
الأذهان، والدموع في الأجفان، رغبةً في الاتصال؛ إذ لا تُعقَل
هذه الفجوة بين الموت والبعث، بين الفناء والخلود.
(١) هل تعود الروح؟
ولكن افتراض حياة في القبر يتطلب عودة الروح إلى الجسد،
فهل تعود الروح إلى الجسد بعد مفارقته؟ وماذا تفعل الروح
إذا عادت ولم تجد جسدًا مُوارًى في التراب، كما هو الحال
في الغريق الذي طواه اليم، أو الجسد الذي أكله السبع، أو
الذي مزَّقته السيوف إربًا إربًا، أو الذي حرقته النار
فصار رمادًا؟ أين تعود الحياة؟ هل تعود الأجزاء إلى الجسد
حتى يكتمل ثم يعود إليه الروح، أم تعود الروح إلى الأجزاء
المتبقِّية؟ وماذا لو كان الجزء المتبقِّي هو اليد أو
الأصبع دون القلب أو الرأس أو اللسان؟
٢ لقد رأى القدماء أن الحياة تُرَد إلى «عُجب
الذنَب»، وهو آخر سلسلة في العمود الفقري من أسفل، والتي
منها يخرج ذيل الحيوان، فهو الجزء من الجسد الذي لا يفنى
ولا يأكله التراب، ومنه بدأ الخلق الثاني والبعث، وهو
المكان الذي يجمع بين الصلب والترائب، والذي فيه يتكون
المني ويُحفَظ، وهو ماء الحياة الذي منه يبدأ الخلق
والتكوين في الأرحام. وكيف يُعذَّب أو يُنعَّم «عُجب
الذنَب» دون أن تُرَد فيه الحياة؟ وكيف تُرَد الحياة إلى
العظم قبل أن يكسوها اللحم وتسري فيه الدماء؟ وقد يُؤجَّل
رد الحياة إلى «عجب الذنب» إلى البعث والنشور قبل الخروج
من القبور ليوم الحساب. وهل يظل النخاع في «عُجب الذنَب»،
ولا يجفُّ حتى تبدأ منه الحياة من جديد؟
٣ وكيف ينعم أو يتألم «عُجب الذنَب» وهي عظامٌ
نخِرة، ليس بها جهازٌ عصبي للآلام والإحساس إن لم تُرَد
إليها الحياة؟ وهل تتألم العظام الحية ونخاعها بها طري لم
يجفَّ بعد؟ وهل اللذة والألم يحدثان في العظام، ويتحولان
إلى إدراك يتم المقصود بهما في عبرة الإنسان وجزائه على
الأعمال، أم مجرد لذة وألم لموضوعٍ طبيعيٍّ غير مُدرَك لا
اعتبار له، ولم يفعل شيئًا بمفرده، بل كان مجرد آلة
لإنسانٍ عاقل ومُريد باختيار؟ وإذا ما تحلَّل البدن، فأين
تعود الروح قبل أن يُحيي الله العظام وهي رميم يوم البعث
والنشور؟ ومتى تعود الروح إلى الجسد؟ هل تعود بمجرد
مواراته ووضعه في اللحم وطيِّه في القبر؛ أي بعد الموت
مباشرةً والجسد ما زال طريًّا حيًّا، به لحم ودم وعظم،
وقبل أن يتساقط الجلد ويتشقق الرأس، وما زال بالجسم بعدُ
مظاهر الحياة، أم بعد أن يتحلل ويبلى وتأكله الديدان؟ وهل
ستنتظر الروح قبل أن تعود تحول الجسد وفناءه حتى تعود إليه
وتُحييه؟ وكم من الوقت تظل حياة القبر قبل أن يبدأ الموت
الثاني انتظارًا للبعث والنشور؟ وهل تحفظ الروح الجسد من
البِلا إذا ما عادت إليه؟ وهل تحرِّك الروح الجسد، وتجعله
قادرًا على الكلام؟ يبدو أن عودة الروح إلى الجسد الغرض
منها الرد على الأسئلة التي يُلقيها الملكان؛ فتَّانا
القبر، وكأن دور الإنسان في الإجابة فحسب دون إلقاء أي
سؤال أو اعتراض!
٤ وما الفائدة من جواب المؤمن أو الكافر وقد
انتهى العمر، وانقطع التكليف؟ وقد سُجِّل كل شيء من قبل،
ولا داعي لإجاباتٍ نظريةٍ إضافية، وأعمال الإنسان في دنياه
خير إجابة على نظره. وهل النظريات أفعال؟ وكيف يُصرُّ
الكافر على كفره وقد علِم أن الأمر جِد، والمعاد حق، ولا
يأخذه فرصة للتوبة؟ وهل المقصود من السؤال الامتحان
والاختبار لوجود فرصة للاختيار ومراجعة المواقف؟ وكيف
يتكلم المؤمن وينطق بالشهادتَين؟ وما الفائدة من ذلك
وأعماله في الدنيا خير شاهد على إيمانه من قبل؟ وماذا لو
أخطأ في الإجابة من هول الموقف، ومن الظروف غير العادية
التي هو فيها؟ وماذا عن الكافر صاحب الأعمال الحسنة، ولكن
في إطارٍ نظريٍّ مُخالِف؟ وماذا يقول المؤمن العاصي الذي
يُجيب صوابًا نظرًا، ولكن أعماله مخالفة لإجاباته؟ وماذا
يقول الحكيم المتأوِّل صاحب العمل الصالح؟ وماذا يقول
اليهودي والنصراني الذي اهتزَّت تصوراته في التوحيد
والعدل؟ وماذا يقول اللاأدري أو الشاكُّ أو المُلحِد؟ وكيف
يتحدث الأبكم؟ ولا يتضح الهدف من إعادة الروح إلى الجسد؛
أهو المعرفة النظرية أم التعذيب والتنعيم؟ هل مجرد الإجابة
على سؤال الملكَين أم الجزاء، ثوابًا كان أم عقابًا؟ يبدو
أن الهدف من إعادة الحياة إلى المادة يكون بالقدر الذي
يمكن به سؤال الملكَين وعذاب القبر أكثر من نعيمه، وليس
لباقي الأفعال الاختيارية. ويظل الميت في قبره دفينًا بلا
حرية في أسئلته أو في أفعاله، وقد كان من قبلُ سجينًا
حيًّا، وهو الآن سجينٌ ميت؛ شقاء في الحياة وعذاب في
الممات! لذلك قد يكون من الأسلم عند البعض الآخر أن تكون
حياة القبر بالروح لا بالبدن، وأن يكون السؤال والعذاب
بالروح لا بالبدن. ويخلق ذلك إشكالًا آخر وهو مُستقَرُّ
الأرواح. أين كانت الأرواح قبل أن تأتي إلى القبر؟ وهل
للروح مكان تنتقل منه أو إليه؟ ولماذا تعود الروح إلى
القبر بالذات حيث يرقد الجسد، وهي ليست في حاجة إليه، وقد
كان يمكن للمساءلة والعذاب أن تتمَّا خارج القبر؟ قد يكون
الأمر كله مجرد خيال شعبي يقوم على شدة الارتباط بالموتى
الأعزاء، وكما ظهر في تاريخ الفكر البشري، ابتداءً من
عبادة الموتى وأرواح الأسلاف وإعادتها وزيارتها، ثم بناء
الأهرام وتحنيط الجثث والإعداد للحياة الأخرى باعتبارها
استمرارًا للحياة الدنيا. وقد تكون حياة القبر المرحلة
الثالثة في تاريخ البشرية؛ مرحلة متوسِّطة بين الموت
والحياة، حتى تأتي مرحلة رابعة وأخيرة تكون الكلمة فيها للعلم.
٥
(٢) أين مستقَرُّ الأرواح؟
إذا كانت الأرواح تعود إلى الجسد، فهي تنتقل من مكان إلى
مكان؛ وبالتالي يبرز سؤال: وأين مستقَرُّ الأرواح؟ وهل
هناك تصورٌ مكاني لها؟ وإذا كانت الأجساد مطمورة في
القبور، فالأرواح لا بد وأن تكون في مكانٍ ما. وتتراوح
التصورات لمستقَرِّ الأرواح بين التصورات المكانية الحسية
الفجَّة، وبين التصورات المكانية الروحية التي تتناسب مع
موضوعها؛ فقد تكون الأرواح في بئر أو في صناجة الجابية؛
فإذا كانت أرواح الكفار فهي في بئر، وإن كانت أرواح
المؤمنين فهي في الجابية؛ أي في مكانٍ أفضل. روح الكافر في
مكانٍ عميقٍ مُغلَقٍ مُظلِم، في حين أن روح المؤمن في
مكانٍ مسطَّحٍ مفتوحٍ مُنير. وهو أقرب إلى التصورات
القديمة عند شعوب المنطقة (اليونان والرومان)، ودياناتها
(اليهودية والنصرانية). وقد تكون الأرواح على أفنية قبورها
تحوم حولها وتدور فيها، سواء كان الفناء مفتوحًا أو
مُغلَقًا، عاريًا أم مستورًا. وهو تصور أقرب إلى طبيعة
الروح الطائر الذي يحتاج إلى مكانٍ فسيحٍ مفتوح حتى تسهل
الحركة فيه. وفي هذه الحالة ألَا تُخطئ الأرواح قبورها، أو
تكون أقرب إلى الحمام الزاجل الذي يُخطئ مُنطلَقه وهدفه؟
وهل تظل الأرواح طائرة فوق أفنية قبورها ليلَ نهار، أم
تهدأ أحيانًا وتستقر في مكانٍ ألصق إلى الأرض؟ فإذا ما
عادت الحياة إلى القبر، هل تهبط الأرواح من الأفنية إلى
أقبية، ثم إذا ما انتهى السؤال والعذاب تصعد من جديد إلى
الأفنية، وتظل هكذا إلى يوم البعث والنشور؟
٦ وقد تكون الأرواح في مكانٍ روحيٍّ متَّسِق مع
طبيعتها، وهو أقرب إلى الزمان منه إلى المكان، وهو البرزخ
الذي تم فيه «عهد الذر»؛ فقد خلق الله الأرواح جملةً، وهي
نفس الأنفس العاقلة الحاسة، وأخذ عهدها وشهادتها وهي
مخلوقةٌ مصوَّرةٌ عاقلة قبل أن يأمر الله الملائكة بالسجود
لآدم، وقبل أن يُدخِلها في الأجسام والأجساد يومئذٍ تراب
وماء، ثم أقرَّها حيث شاء، وهو البرزخ، والذي ترجع إليه
بعد الموت. ولا يزال يبعث منها إلى الأجساد المتولِّدة من
المني المنحدِر من أصلاب الرجال في أرحام النساء، ثم يتم
امتحان الناس واختيارهم في الدنيا. وبعد الوفاة تعود
الأرواح إلى البرزخ الذي منه أتت. رآها الرسول ليلة
الإسراء والمعراج عند السماء الدنيا؛ أرواح أهل السعادة
على يمين آدم، وأرواح أهل الشقاء على يساره عند «منقطع
العناصر». وهنا يتم الخلط بين الزمان والمكان؛ فالبرزخ
زمان، ومنقطع العناصر والسماء الدنيا مكان. وتعود الأرواح
من جديد إلى الأجساد من البرزخ إلى القبور يوم البعث
والنشور وحين قيام الساعة، وهي الحياة الثانية. فالحياة
الثانية ليست في القبر، بل استعداد لليوم الآخر. وتنقسم
الأرواح فريقَين: السعداء على يمين آدم، والأشقياء على
يساره. وهو تصورٌ مكاني. كما تعجل أرواح الأنبياء والشهداء
والسعداء إلى الجنة، وتتباطأ أرواح الأشقياء إلى النار،
وهو تصورٌ زماني. وإن تصوُّر البداية بالعهد قبل الأجسام
يجعل من الصعب تصور إمكانية الخطأ، وإلا كانت الأجساد أقوى
من الأرواح، مصدرًا للنسيان؛ نسيان العهد، وإنكارًا للشهادة.
٧ إن الحكمة من الإسراء هي التدليل على إمكانية
تحويل عالم الغيب إلى عالم شهادة يمكن رؤيته؛ أي إدراكه
بالحواس، ومعايشته بالتجربة. ولا يمكن تأويل «عهد الذر»
على أنه عهد التزام بالطاعة، وإلا كان حجة للبشر لا عليهم،
وإسقاطًا للأمر، وإلا لما وُجد على الأرض إلا مؤمن؛
٨ لذلك يأتي التصور الآخر للروح على أنه عرَضٌ
في مُقابِل هذا التصور الماهوي على أنه جوهر؛ فالروح عرَضٌ
لا يبقى وقتَين، يعود ثم يفنى آلاف المرات في الثانية
الواحدة. هو روحٌ متجدِّد، صيرورة الحياة والموت، انتقال
من الوجود إلى العدم ومن العدم إلى الوجود.
٩ وهو تصورٌ أقرب إلى التصور العلمي القائم على
التوحيد بين الروح والمادة؛ فإذا كان التصور الأول يقوم
على ثنائية الروح والبدن والتمييز بينهما ومفارقة أحدهما
للآخر، فإن التصور الثاني يقوم على التوحيد بين الروح
والبدن، وعلى أحادية النظرة للإنسان. وما الروح والبدن أو
الحياة والموت إلا حالتان يتبدل عليهما الإنسان، وينتقل من
إحداهما إلى الأخرى. وفي مقابل هذَين التصورَين
الميتافيزيقيَّين تركِّز إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة
على تحريم زيارة قبور الصالحين والأولياء دون الدخول في
المتاهات القديمة؛ إما لقصورها الفكري، أو لتركيزها على
السلوك العملي للمسلمين؛ فالموت ظاهرةٌ اجتماعية، والتبرك
بالقبور وزيارتها تخلٍّ عن الاعتماد على النفس، وشرك
بالتوحيد، وإنكار للعدل؛ أي لقدرة الإنسان النظرية والعملية.
١٠
(٣) هل هناك سؤال للملَكَين؟
وسؤال الملَكَين أو جوابهما نيابةً عن الإنسان نتيجة
عودة الروح إلى الجسد؛ فلا حساب ولا سؤال أو جواب بدون
حياة. وقد يكون الهدف من إعادة الروح إلى الجسد هو سؤال
الملَكَين للميت في قبره، وامتحانه فيه، واستنطاقه مكنون
نفسه قبل يوم الحساب. وقد يكون الهدف من السؤال هو إعادة
الروح إلى الجسد، وإثبات حياة القبر؛ وبالتالي يتردد
الإنسان؛ أيهما علة وأيهما معلول؟ هل إعادة الحياة إلى
الجسد من أجل السؤال، أم إن السؤال من أجل إعادة الحياة
إلى الجسد؟ وقد تعود الروح إلى الجسد دون أن يحيا الإنسان
من جديدٍ حياة اليقظة، بل يكون أشبه بحُلم النائم؛ فإذا ما
تيقَّظ الإنسان كليةً فقد يُعارِض، وقد يفعل، وقد يختار.
والنوم موتةٌ صغرى، والموت نومةٌ كبرى. وإذا ما عادت الروح
إلى أجزاء الجسد وليس إلى جله، فكيف تتكلم أجزاء الجسد
التي دفع الله بالحياة فيها؟ كيف يتكلم القلب وحده بلا
لسان وشفتَين؟ هل هناك لغةٌ غير منطوقة بلا لسان وصوت وفم،
وبلا عقل وذهن وإدراك؟ وقد تُرَد الحياة إلى النصف الأعلى؛
لأن بها الرأس والفهم ومعظم الحواس، دون النصف الأسفل.
وكيف يمكن إحياء جزء وترك الباقي؟ أليس الوعي كيفًا خالصًا
دون كم؟ وهل يتجزأ الوعي الخالص أو يوجد في مكان؟ فإن
استعصى السؤال للبدن، فإنه يكون للروح. فالسؤال في هذه
الحالة لا يتطلب عودة الروح إلى الجسد، بل مجرد عودة
الروح. والسؤال للروح الخالص أفضل من سؤال الجسد الميت.
والأمثل هو سؤال الروح في البدن بشرط عودة الروح وحضور
البدن. ومن أين تأتي الروح؟ وإلى أين تعود؟ هل تأتي من
البرزخ، وتعود إلى القبر؟ وأين مستقَرُّ الأرواح؟
١١
والآن، لماذا يسأل الملكان والميت الحي يُجيب؟ وهل يقتصر
دور الإنسان وهو في هذه الظروف غير العادية على الإجابة؟
إن السؤال أقوى من الجواب، والجواب مشروط بالسؤال. السؤال
يدل على قوة السائل، في حين أن الإجابة تدل على ضعف
المُجيب؛ لذلك كان السؤال والجواب أقرب إلى الاستجواب، كما
يتم في أقسام الشرطة لتحرير المحاضر، أو في أجهزة
المخابرات للتعرف على الجناة. وهل هناك اعتراضات وشهود؟ هل
هناك تسجيل وتدوين؟ هل هناك تسجيل للحساب؛ مناقشة وردود
واعتراضات؟ وما الهدف من السؤال وكل الإجابات معروفة
سلفًا، قد تم تدوينها في صحائف الأعمال في الدنيا، وتُعرَض
على الإنسان في الآخرة، فيأتيها المؤمن بيمينه والكافر
بشماله؟ فإذا كان حساب المناقشة وطلب العلية أهم من حساب
العرض الإخباري الخالص، يكون سؤال الملَكَين في القبر أهم
من الحساب الختامي. ولماذا حساب المناقشة المبدئي والله
وملائكته يعلمون الرد، وكل شيء لديهم في لوحٍ محفوظ؟ لماذا
السؤال والإجابة عليه معروفة سلفًا، ومدوَّنة في صحائف
الأعمال؟ ألا يعرف الملكان الإجابة قبل السؤال؟ إذن يكون
السؤال في هذه الحالة أقرب إلى الامتحان الكاذب أو
الاختبار الخادع؛ لأنه لا توجد فرصة للمراجعة أو التعلم أو
التوبة. وإذا كانت الحكمة من السؤال إظهار المؤمنين من بين
العصاة، أليس ذلك معروفًا من قبل؟ وهل يحتاج الله إلى أن
يتباهى أمام الملائكة بالمؤمنين؟ وهل من صفات الله أن يفضح
الكافرين أمام الملائكة أم ستر عيوبهم؟ وكيف يفضح الله
الكافرين أو يشمت فيهم أمام الملائكة والزمان ما زال،
والميت في القبر، والصلاة على الميت والدعاء له مستمر من
الآخر، ويوم البعث لم يحِن بعد؟ ألا يُصيب ذلك المؤمن
بالغرور والكافر بالحسرة؟ وماذا عن دفاع الكافر بأنه ما
زال في القوس مَنزع؟ وكيف يُصدَر الحكم عليه قبل الدفاع،
ويُدان قبل المرافعة؟ إن هذا لأشبه بالحساب قبل يوم الحساب
أو بحسابٍ صغير قبل الحساب الكبيبر، بتدريب على الحساب
وتمرين عليه، بتمثيل حساب قبل الحساب النهائي الفاصل، وإلا
فكيف يبدأ الحساب قبل قيام الساعة؟ هذا هو هم الساعة قبل
الأوان. يتراءى المستقبل في الحاضر كما يتراءى الحاضر في
الماضي. والعجيب أنها كلها أسئلةٌ نظريةٌ خالصة عن
التصورات والمعارف، وليس أسئلة عملية عن النُّظم والأفعال،
وكأن الإيمان له أولوية على الأفعال، وكأن النظر له وجودٌ
مستقل عن العمل؛ فالأسئلة كلها عقائدية حول الله والرسول
والدين، وليست أسئلةً عملية حول تطبيق الشريعة أو حقوق
الإيمان وواجبات المكلَّف. والأعجب من ذلك كله عدم تساوي
الأسئلة من حيث الصعوبة بين المؤمن والكافر. فتُعطى
الأسئلة السهلة للمؤمنين والصعبة للكافرين؛ حتى تسهل إجابة
الفريق الأول، وتصعب إجابة الفريق الثاني محاباةً وتحيزًا،
وهو ما يناقض أبسط قواعد العدل وتكافؤ الفرص. وكيف تختلف
أحوال السائلين في الضعف والشدة، في الرفق أو الغلظة، في
المساعدة وعدم المساعدة، في السهولة والصعوبة، في طول
المدة أو قصرها، في وضوح الموضوع وغموضه، في تكرار السؤال
وعدم تكراره، وفي عدد السائلين؟ وهل من العدل أن يُعطى
المؤمنون أسهلةً سهلة في موضوعاتٍ واضحة في مدة طويلة مع
مساعدة الملَكَين لهم ومعاملتهم الرقيقة معهم، في حين
يُعطى الكافرون أسئلةً صعبة في موضوعاتٍ غامضة وفي مدة
قصيرة ودون مساعدة وفي معاملةٍ غليظة؟ وكيف لا تكون
الأسئلة واحدة لكلٍّ من الفريقَين، المؤمنين والكافرين،
فيُسأل البعض في أجزاء، بينما يسأل الآخر في الكل؟ كما
تكون الأسئلة عامة للبعض وخاصة للبعض الآخر. وتكون الأسئلة
عن الأشخاص بلا تعظيم لهم؛ حتى يكون للإنسان جرأة على
الحكم بلا خوف من العظماء، وبلا تبجيل لهم، كما هو الحال
في الدنيا. ويدل ذلك على إسقاط أمور الدنيا على بدايات
الآخرة عن طريق النفي والسلب، وكأن قياس الغائب على الشاهد
ليس فقط هو أساس العقليات في أصلَي التوحيد والعدل؛ ممَّا
يؤدي إلى التجسيم والتشبيه، بل والتنزيه، بل أيضًا هو أساس
السمعيات في أمور المعاد. والأعجب من ذلك كله هو حدوث غش
في الامتحان عندما يساعد الملكان المؤمن في الإجابة، ولا
يساعدان الكافر، بل إن الأمر يصل بالملَكَين إلى حد
التدليس على الكافر؛ حتى يُوقِعاه في الخطأ عنوة، ثم بعد
ذلك يُعذَّب في القبر وفي الآخرة بعد الحساب النهائي؛
جزاءً له على خطئه! وكيف يكون الملكان معصومَين من الخطأ
طبقًا لعصمة الملائكة، ثم بعد ذلك يقومان بالتدليس على
الكافر، فيزيدا شقاءه شقاءً، وعذابه عذابًا، وهو ما يناقض
الرحمة الإلهية، خاصةً إذا كان الغرض من سؤال الملَكَين هو
إعطاء فرصة للعصاة من أجل النجاة؟ وهل لا بد أن ينجح
المؤمن بالضرورة وأن يرسب الكافر بالضرورة؟ وقد يكون لدى
الكافر جوابٌ سديدٌ صريح، ولا يكون لدى المؤمن إلا النفاق
والرياء. قد يكون عند الكافر إبداعٌ أصيل، ويكون عند
المؤمن تقليدٌ مميت. يبدو أن ظروف السؤال كامتحان تناقض
العدل؛ وبالتالي تناقض السمعيات العقليات. وفي هذه الحالة
تبقى العقليات، ويُعاد تأويل السمعيات؛ حتى تتفق مع
العقليات، وتُفهَم أمور المعاد طبقًا لأصل العدل.
١٢ ويتجاوز الأمر الامتحان إلى توقيع العقاب،
فيُضرَب الكافر بالمرزبة عقابًا له على جهله أو خطئه، وكأن
الإجابة بعدم المعرفة خطأ، في حين أنه يخطئ من يفتي بغير
علم. والحقيقة أن الإنسان ما دام عقله معه فهو قادر على
الإجابة، بل قادر على أن يتحول من المسئول إلى السائل، وأن
يأخذ بتلابيب الملَكَين ويسألهما بدوره عن ربهما ودينهما
ورسولهما، فتنقلب الآية، ويصبح المسئول سائلًا والسائل
مسئولا. هذا السؤال هو فتنة القبرة، والملكان السائلان هما
فتَّانا القبر، وكأن الإنسان لم تكفِه فتن الحياة حتى
تُلاحِقه الفتن حتى القبر! ولماذا يكون في القبر فتنة وهو
مُظلِم، والميت قد انتقل من الدنيا إليه، وهو عالمٌ جديد
لم يألفه؟ ولماذا لا يكون هناك نوع من تخفيف العقاب، عذاب
الوحدة والوحشة والظلمة والقبضة والضغطة والصمت؟
ولمن يكون سؤال الملَكَين في القبر؟ أللجن والملائكة؟
وهل عاشت الجن والملائكة في الدنيا وماتت ثم دُفنت أجسادها
وواراها التراب؟ وهل هي مكلَّفة ومُحاسَبة في الدنيا، وفي
حاجة إلى فتنة في الآخرة؟ قد يكون السؤال للجميع باستثناء
الملائكة والجن. وفي هذه الحالة، لماذا لا يُسأل الملائكة؟
هل لأنهم غير مكلَّفين؟ ولماذا لا يُسأل الجن؟ هل هم
مكلَّفون مثل الإنس ما دامت لهم رسلٌ مثلنا، وما داموا
أممًا مثلنا؟ وهل للملائكة والجن قبور يتم السؤال فيها؟
وهل تموت الملائكة والجن كما نموت نحن؟ وكيف يمنع الجن
طاعة الإنسان في شهر رمضان؟ أيكون هو المسئول عن معاصي
الإنسان فيه؛ وبالتالي يصطدم عمل الجن مع أصل العدل وخلق
الإنسان لأفعاله؟ وكيف يُسجَن الجن في شهر رمضان؟ ومن الذي
يُطلِق سراحه فيما بعد؟ ومن هم سجَّانوه؟ وكيف؟ وأين؟ وقد
يُستثنى الأنبياء من السؤال وأطفال المسلمين والصِّبية
والعشرة المبشَّرون بالجنة والصدِّيقون والشهداء وقُراء
القرآن، وقد تتوالى الاستثناءات حسب الاختصاص والإعجاب!
فما الفرق بين قُراء القرآن وحملة العلم؟ وما الفرق بين
الأطفال وبسطاء الناس وحسني النية وأصفياء القلوب؟ ألا
يكون ذلك ضد قانون الاستحقاق، والحكم سلفًا قبل أن يصدر
الحكم طبقًا للأعمال؟ أم إن هؤلاء جميعًا أحكامهم بديهيةٌ
معروفة مُسبَقًا، ليست في حاجة إلى إصدار بعد مداولة؟
وماذا عن معاصي الأنبياء وذنوبهم في حالة عدم العصمة؟ هل
لأن الحسنة الكبيرة تحجب السيئة الصغيرة طبقًا لقانون
الإحباط والتكفير؟ وفي حالة عدم السؤال، كيف يُسأل
الأنبياء عن عقائد نظرية هم رسلها وحملتها والمبلِّغون بها
والمؤتمَنون عليها؟ وكيف يُسأل الأنبياء عن جبريل والوحي،
خاصةً وكأن هناك شكًّا في علمهم أو إيمانهم بها؟ وكيف
يُسأل الصِّبية والأطفال عن عقائد نظرية وهم قبل سن
التكليف؟ وكيف يُساوى في السؤال أو عدم السؤال الأنبياء
والأطفال أو الصِّبية والرسل؟ وكيف يُسأل محمد خاتم
الأنبياء والمرسلين والشاهد على الرسل والأمم؟ ولماذا لا
يُسأل مُلازِم سورة تبارك، أو من قرأ سورة الإخلاص في مرضه
ثلاثًا، أو من مات يوم الجمعة أو ليلتها؟ هل في القرآن
إنقاذ؟ وهل تتفاضل سور القرآن؟ وهل يتفاضل الموت في أيام
الأسبوع والإنسان لا حيلة له في تحديده، فلكل أجل كتاب؟
أليس من يقرأ القرآن في مرضه أخوف ممَّن يقرؤه في صحته؟
وهل هناك تفاضل في أسباب الموت؟ ومن مات بالطاعون فقد مات
غيلة، ولم تُعطَ له فرصة النجاة والتوبة. والطاعون هنا
أشبه بحوادث الطريق، والسكتات القلبية، والموت الفجائي دون
إعداد. قد يكون كل ذلك أقرب إلى الخيال الشعبي الذي يعبِّر
عن تقديس الأبطال والقديسين واحترام العلماء وتقديس القرآن
ويوم الجمعة، وتفضيل سورة على أخرى نظرًا للسهولة العملية
والمقتضيات الإجرائية، أو الموضوعات المطابقة للمواقف، مثل
قراءة سورة «يس» على المقابر.
وإذا كان السؤال للكفار دون المؤمنين، فكيف يتم ذلك
والإجابة معروفة سلفًا؟ وهل الكفر نظري أم عملي؟ وإذا كان
السؤال للمؤمنين أيضًا مع الكافرين، فالجواب أيضًا معروف
سلفًا، وإلا لما كانوا مؤمنين، ولما أمكن تمييزهم عن
الكافرين. وكيف يُلهَم المؤمن الجواب وكأنه لا يعرفه، وكأن
إيمانه أعمى، بالإضافة إلى أنه غش في الامتحان؟ وهل المؤمن
عاجز عن الاعتماد على النفس والإجابة من علمه وإيمانه
وتصديقه؟ ولماذا يضرب الكافر ولا يُساعَد مثل المؤمن في
شيء، ويُسرَع إليه العذاب وكأن وقته قد حان، وساعة الحساب
قد حلَّت؟ وإذا كان السؤال للمسلمين وحدهم، فهل يكون على
المسائل النظرية، والحساب ليس على النظريات، بل على
الأفعال؟ وما فائدة السؤال عنها والإجابة يعرفها المسلم
مُسبَقًا وإلا لما كان مسلمًا؟ وإذا كان السؤال للأمة
كلها، فمن المسئول في الأمة؟ وإذا كان السؤال للأمم كلها،
فالناس كلهم مسلمون مكلَّفون، حتى الذين لم تصِلهم رسالة
الأنبياء. وكيف يُسأل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، لنا
منهم أعمالهم دون تصوراتهم؟ وهل يكون السؤال عن عقائدهم
الخاصة ورسلهم، أم عن أعمالهم التي يتساوى فيها الجميع؟
وكيف يحاسب الملكان كل الأموات، ولدى كل الأمم في كل أطراف الأرض؟
١٣
وهل هناك فرق بين حساب المناقشة القائم على طلب العلة في
سؤال: لمَ فعلت هذا؟ وحساب العرض القائم على الإخبار في
سؤال: فعلت هذا وغفرته لك؟ والتعليل أساس الشرع، وهو
السؤال الحق، في حين أن الإخبار ليس سؤالًا. وكيف يُسأل عن
التعليل وكل شيء معلوم، خاصة في عقيدة الجبر ونظرية الكسب،
ما دام الله فاعلًا لكل شيء. وأهداف الإنسان ودوافعه
معلومة أيضًا في خلق الأفعال. وما الفائدة من حساب العرض
إذا كانت المغفرة قد أُعطيت من قبل؛ وبالتالي لا يكون
المسئول فيها في وضع المساءلة الفعلية وهو يعلم الإجابة
سلفًا، وكأنها مساءلةٌ شكلية في أوضاعٍ متميِّزة لمسئولين
من العلية؟ ومتى يقع ذلك؟ إذا كان السؤال بين النفختَين في
الصور، فذلك يكون قُبَيل البعث، وليس بعد الدفن مباشرةً
والجسد ما زال طريًّا قادرًا على تقبُّل عودة الروح
والإحساس بالعذاب. هل هو إذن استباق للمستقبل ورؤياه في
الحاضر؟ وما الفائدة منه إذا كان الحساب سيتمُّ وسيعرف
الإنسان النتيجة؟ وكيف يتم سؤال الملَكَين بين النفختَين
والملائكة تموت في الحال؟ كيف يصحُّ السؤال من ملائكة
تموت؟ وقد لا يبدأ السؤال بمجرد الموت قبل الدفن، ولكن بعد
أن يُدفَن؛ فقبل الدفن ما زالت الميت بين أهله، وحوله حياة
الصراخ والعويل، اليأس والأمل، الحب للفقيد والترحم عليه.
فالفقيد ما زال في الذاكرة لم يطوِه النسيان. وما إن يطويه
ظلام القبر تبدأ الحياة المتصلة، ويبدأ السؤال بعد التفرغ،
وكأن لحظة السؤال تتفاوت بين الآخرة والدنيا، بين آخر
الزمان قُبَيل البعث وبين أول الزمان بُعَيد الدفن.
١٤ فإذا سهل حل الزمان فإنه يصعب حل المكان.
فماذا يحدث لو لم يُدفَن الميت، ولم يُعرَف له قبر، مثل
الذي أكله السبع، أو الذي طواه اليم، أو الذي تحوَّل إلى
رماد في الحريق؟ وماذا لو انتقل الميت من قبر إلى آخر؟
وماذا لو اختلطت عظامه بعظام غيره في المدافن الجماعية إثر
الكوارث والحروب، أو في مقابر عامة المسلمين؟ وبأي لسان
يتم السؤال؟ بالعربية؟ وماذا عن غير الناطقين بالعربية؟ أم
بالسريانية؟ أم يُسأل كل واحد بلسانه؛ ممَّا يتطلب معرفة
الملَكَين بكل اللغات؟ وهل يسأل الملكان أم يكفي واحد
منهما؟ وهل من العدل التخفيف على البعض بسؤال ملاك واحد،
والتصعيب على البعض الآخر بسؤال الملكَين معًا؟ وهل من
العدل أن يجتاز إنسان امتحانًا واحدًا، وأن يجتاز غيره
امتحانَين؟ وهل من العدل أن يُسأل واحد سؤالًا واحدًا أو
ثلاثة أسئلة أو ثلاث مرات، وأن يُسأل الآخر أكثر من سؤال
وأكثر من مرة؟ وهل من العدل أن يُسأل واحد يومًا واحدًا أو
سبعة أيام، وأن يُسأل آخر أربعين صباحًا؟ إن كثرة الأسئلة
وطول مدة الامتحان تدل على أن الطالب صعب المِراس، قادر
على الصعود والحوار والجدل أكثر من صاحب الأجوبة الجاهزة
على الأسئلة القليلة في المدة الوجيزة. الأول امتحان
للكبار، والثاني امتحان للصغار. الأول امتحان يقوم على
الرأي والمقال، والثاني يقوم على مجرد وضع علامات صواب أو
خطأ على أجوبةٍ معروفة سلفًا.
١٥ وهل من العدل أن يُسأل بعضهم عن بعض
اعتقاداته، والآخر يُسأل عنها كلها؟ هل من العدل إقامة
امتحان لمتسابقَين خصمَين؛ الأول في جزء من المقرر،
والثاني في المقرَّر كله؟ وهل موضوعات الامتحان نظريةٌ
خالصة ولسانيةٌ قولية مثل الشهادتَين وأمر التوحيد؟ صحيحٌ
أن الأسئلة الشخصية مثل الإيمان بمحمد: ماذا تقول في هذا
الرجل؟ وإنما القصد منها عدم التعظيم للأشخاص؛ ليتميز
الصادق في الإيمان عن المرتاب، وحتى تُنزَع هالة التقديس
عن موضوعات السؤال. ولكن الإجابة بنعم من واحد قد لا تدل
على الصدق الفعلي، كما أن الإجابة بلا أدري من آخر لا
تستدعي الشقاء إلى الأبد؛ فالشك بداية اليقين، وعلم ببرهان
خير من إيمان بتقليد، ومن أفتى بغير علم فقد جهل، ومن لا
يعلم فإنه يقول الله أعلم. وهل يليق بالملائكة تعذيب البشر
إلى هذا الحد، وهو ما يعارض صورة الملاك ووصفه في الخيال
الشعبي وفي التجربة البشرية؟ وهل تصبح صورة الملكَين
دائمًا هي صورة عزرائيل، ملك الموت؟ كما أنه يصعب تحديد
مكان وقوف الملكين حين السؤال. قد يقِف واحد منهما عند
الرأس، والآخر عند القدمَين؛ للإحاطة بالميت من قمة رأسه
إلى أخمص قدمَيه. وهل يجوز وقوف الملاك عند القدمَين أم إن
رتبته في الشرف تتطلب الوقوف عند الرأس، فالرأس أشرف من
القدم؟ الأول على يمين الرأس، والثاني على يساره من على
الكتفَين، وكأنهما محمولان على الإنسان، قريبان من
الأذنَين والشفتَين واللسان. وهل يصل حجم الملكَين إلى هذا
الحد القليل بحيث يدخلان القبر الذي لا تتجاوز مساحته بضعة
أمتار، ويقفان على رأس الإنسان في مساحة لا تتجاوز شبرًا
واحدًا؟ والخيال الشعبي والروائيات تجعل الملاك من حيث
الحجم أكبر بكثير من حجم الإنسان، يصل حجم البعض إلى ما
بين السموات والأرض! وقد تزداد التفصيلات في وصف الملكَين
والمعاونين لهما، وكلما تزداد التفصيلات يزداد الشك في
الرواية، كما تزداد نسبة الخيال الشعبي؛ فيدخل عنصر اللون
في العيون، فتكون إحدى العينَين سوداء والأخرى زرقاء، وهما
لونان أحدهما داكن والآخر فاتح، لونا الخير والشر، الإيمان
والكفر، مثل الأسود والأبيض، وزرقة السماء مثل بياض القلب.
وقد يكون كلاهما أسودي العينَين؛ فالسواد لون البشاعة
والقبح. وقد تعني زرقة العين مجرد تقليب البصر والتحديق
إلى القبور؛ حتى يظهر بياضها، ثم تحوَّل المعنى اللغوي إلى
وصفٍ شيئي. وقد يحمل أحدهما بيده مِطرقة من حديد يضرب بها
رأس الكافر عندما يعبِّر عن لاأدريته وشكِّه، فيصيح من وجع
الضربة، بينما يتراءى للمؤمن مقعده من الجنة بعد أن أبدل
الله مقعده من النار بعد اجتيازه الامتحان والإجابة على السؤال!
١٦ وقد تظهر ملائكةٌ أخرى مساعدة، مثل ناكور
ورومان، يقومان بدور المُراقِب العام! يُعلِن رومان
الامتحان، أو يفتح محضر السؤال والجواب! وقد يُسمَّى
الملكان «رقيب وعتيد»، الثاني أعنف من الأول، كما هو الحال
في منكر ونكير، ولكن قد يسبقهما رومان الذي يطلب من الميت
أن يجتاز الامتحان كتابيًّا، وأن يكتب ما عمله في الدنيا.
ولا مجال لاعتراض الميت بأنه لا قلم له ولا مداد ولا
قرطاس؛ إذ يُخبِره رومان بأن القلم أصبعه، وبأن المداد
ريقه، وبأن الكفن قرطاسه! وهل يكتب الأصبع؟ وهل يترك الريق
الأبيض علامة على كفن أبيض؟ أو هل تتسع رقعة الكفن للكتابة
خاصةً لأعمال الأشقياء؟ ألمْ يُدوَّن كل شيء من قبل في
صحائف الأعمال؟ وهل يتذكر الإنسان وهو ميت كلَّ فعله في
الدنيا؟ وما المانع ألا يكتب إلا الخير؛ إنقاذًا للنفس؟
وكيف يكتب من دُفن ويداه مبتورتان، أو الذي لم يُدفَن وكان
بلا جسد بعد أن أكله السبع، أو ابتلعه اليم، أو التهمته
النيران؟ وأين يكتب من دُفن بلا كفن، أو من سرق كفنَه لصوص
المقابر، أو دافنو الموتى بعد مغادرة الأهل وإنهاء مراسم
الدفن؟ وبماذا يكتب من جفَّ ريقه، ولم يعُد في حلقه مداد
من هول ما يرى؟ وماذا يفعل الأمي الذي لا يعرف الكتابة؟
وهل يجوز أن يقطع رومان قطعة من الكفن، فيعرِّي الجسد؛ كي
يكتب عليها الميت أعماله، ثم يعلِّقها رومان على عنقه بلا
خيط أو مشبك؟ وماذا لو طالت القطعة، ولم يكفِ الكفن، فيصبح
الميت عاري الجسد مُغطَّى الذقن؟ وقد يظهر إبليس متشفِّيًا
منتصرًا بعد سماع إجابة الكافر، وإن لم يظهر متحسِّرًا
حزينًا على إجابة المؤمن. ولكي تكتمل الصورة قد يقعد إبليس
في ركن من القبر حتى يستكمل غوايته حتى آخر لحظة، وكأن
الوقت وقت التكليف. ولا يُثبِت النبي ولا توجد أية رقية
منه لمساعدة الميت، كما كان الحال في الدنيا عندما كان
الوحي مساعدًا للإنسان في مقابل الغواية، وكأن الإنسان في
حياته كان له مُعِين، ولكن بعد مماته يكون وحيدًا بلا
نصير.
ولإيجاد حل لكل هذه الصعوبات يُلجأ إلى الأساس النفسي؛
إذ يُخيَّل للإنسان أنه مُحاسَب بين ملكَين له خاصَّين،
فهما له وللجميع في الوقت نفسه، في كل زمان ومكان، وكأن
الأمر مجرد إحساس شعوري أو خيال شعبي يدل على تجربةٍ
إنسانية؛ تجربة الموت، وما قد يتخيَّله الإنسان المهموم
بسلوكه وأفعاله لما قد يحدث بعد الموت. ويظل الإنسان
مُطارَدًا بالغواية والإيقاع حتى ما بعد الموت، في حياة القبر!
١٧
والحقيقة أن كل هذا الوصف إنما يأتي من الروايات
والأخبار الضعيفة، والتي لم تعتمد عليها كتب العقائد
المتقدِّمة، بل امتلأت بها الشروح المتأخِّرة مستمِدَّة
مادتها من تآليف مستقِلَّة عن علم أصول الدين، بعد أن أصبح
موضوعًا مستقلًّا تكثر فيه التآليف في فترات الانحطاط؛
تعويضًا عن مآسي العصر وأحزان الزمان وهزائم المجتمعات
وانهيار الدول؛ فتنشأ الأُخرويات كتعويض عن الدنيويات،
وكانتصار للروح بعد هزيمة البدن، وكأملٍ في المستقبل بعد
ازدياد الكرب في الحاضر. كلها روايات وأخبار لا تتوافر
فيها شروط التواتر، وفي مقدمتها الاتفاق مع العقل والحس
ومجرى العادات، بل ولا حتى ترتقي إلى أخبار الآحاد. وهي
على هذا النحو لا تعطي اليقين النظري أو العملي. لم يرِد
منها شيء في أصل الوحي الأول وهو القرآن، وليس في الحديث
الصحيح كل هذه التفصيلات النظرية التي لا تهمُّ السلوك
العملي وتوجيه حياة الناس؛ فهي أمور لا تعمُّ بها البلوى،
ولا ترتبط بها مصالح الأمة. إنما يمكن فهمها بناءً على
تحليل التجارب البشرية، وهي ليست التجارب التي يعتمد عليها
المتأخِّرون لإثبات حياة القبر الصحيح منها، مثل النوم أو
المرض مثل الهلوسة وباقي الأمراض العقلية، أو ما سمَّاه
القدماء عجائب النفس، وما نشاهده من صور أو خيالات في
النوم أو اليقظة، بل التجارب البشرية العادية، مثل الرغبة
في قهر الموت وتجاوزه، واستمرار الحياة، والخوف من عواقب
الأمور، وتحسُّب نتائج الأعمال.
١٨ وقد تبدو أهمية ذلك في مراقبة النفس وحسابها،
خوفًا من الله، والرقابة على الذات واستدراك الأمور، ولكن
الخيال الشعبي حوَّلها إلى استجواب كما يحدث في المباحث
العامة، وتعذيب كما يحدث في المخابرات العامة، وتسجيل
اعترافات كالتي تقوم بها أجهزة الأمن؛ قياسًا للغائب على
الشاهد، ونقلًا من الواقع إلى الخيال. وقد كانت البداية
مجرد أسماء ثم تحوَّلت إلى أشياء بعد تحجُّر التجارب الحية
الفردية والاجتماعية، وخلقها موضوعات من ذاتها تشخِّصها
وتتعامل معها، فيسعد الإنسان بوهمه وخياله الذي صنعه. قد
يكون منكر هو العقل والقول، ونكير هو الحكم عليهما بذلك،
وليسا شخصَين أو ملكَين. تتحول الأسماء إلى معانٍ مستقلة،
ثم تتحول هذه إلى أشياء، ثم تتشخص الأشياء وتحيا وتصبح
شخصيات حية، كما كان الحال في ألقاب المسيح. فهما للمؤمن
مبشر وبشير، وبالنسبة للكافر منكر ونكير. هي أسماء تعبِّر
بدلالاتها على التجربة الإنسانية، بل إنها ألفاظ يعبِّر
بها الإنسان عن تجاربه في الحياة، ثم تتحول الأسماء إلى
معانٍ، ثم إلى أشياء، ثم إلى أشخاص، ثم تصبح مقدَّسات
وفاعلات في العالم ضد الإنسان أو معه طبقًا لعواطف الإيجاب
والسلب وانفعالات الخير والشر. وهو ما يحدث باستمرار في
ألقاب الأنبياء وصفات الآلهة.
١٩ ويقوم الخيال الشعبي المتَّصِل بنوع من
التواتر المعنوي، فيصبح مترادفًا عند عديد من الشعوب،
يعبِّر عن حكمة البشر وتجاربهم الحية عبر التاريخ. فهناك
ملك للخير على اليمين، وملك للشر على اليسار، كريمان
كاتبان، يدوِّنان كل شيء إلى يوم الحساب. وهي الثنائية
الدينية التقليدية المعروفة في الديانات القديمة القائمة
على الصراع بين الخير والشر. وقد كانت هناك أنماطٌ سابقة
من هذه الخيالات في البيئة الحضارية القديمة فيما يتعلق
بحياة القبر، سواء في ديانات مصر القديمة، مثل عودة ألكا
وألبا إلى القبر وتحنيط جثة الميت واستئناف الحياة من جديد
فيه، وكذلك في أسطورة إيزيس التي لمَّت أشلاء زوجها وأخيها
أوزوريس، فعادت إليه الحياة، أو في معجزات المسيح، وتقطيعه
الطير أربعة أجزاء، ثم جمعها وعودة الحياة إليه. يمكن إذن
بدراسة أساطير الموت والبعث دراسةً مقارنة من خلال تاريخ
الأديان معرفةُ هذه الأنماط المثالية الأولى، التي عليها
تم نسج صور حياة القبر في بيئةٍ حضارية لم تكن تريد
الإحساس بالنقص أمام سِيَر الأولين وقصصهم. وما أكثرَ
الصورَ الشعبية حول الموت وحياة الميت بعد الموت، مثل تلك
التي يطير فيها التابوت، أو يخفُّ حمله وسط تهليل
المشيِّعين وراءه بأنه من أولياء الله، يتشبَّثون به حتى
لا يطير في الهواء، أو يسير التابوت بسرعة، أو يتوجه نحو
حبيب أو شخص أليف، ثم يحطُّ في مكان ولا يتزحزح منه،
فيُدفَن فيه بناءً على رغبة الميت واختياره الأخير. وفي
حياة القديسين بعد الموت، ومقاومة رفاتهم للفناء والتحلل،
أمثلةٌ أخرى عديدة على أن الروح قادرة على أن تظل في الجسد
بعد موته، فتحافظ عليه وتحرسه من الفناء، وقادرة على
اختراق المادة، والإبقاء عليها دمًا وعظمًا في أوعية أمام
أنظار المشاهدين، على ما هو معروف في تاريخ الأديان وتقديس
رفات القديسين. وقد أفاض المتأخِّرون في هذه الأوصاف؛
اعتمادًا على الخيال الشعبي، وإلهابًا لمشاعر العامة،
ونقصًا في العقل عند الداعية والجمهور وبموافقة السُّلطة.
وكان من الطبيعي في مقابل إثبات حياة القبر وصورها كأشياء،
أن ينشأ رد فعل بالإنكار أو بالتأويل.
٢٠ والحقيقة أنه يمكن تحويل هذا الجزء كله إلى
عقليات عن طريق التساؤلات حوله؛ حتى يمكن فهمه عن طريق درء
المُعارِض العقلي؛ حتى لا تكون أمور المعاد الأُخروية أضعف
أجزاء علم أصول الدين. كما يمكن تحويلها إلى صورٍ فنيةٍ
الغرض منها التأثير على الجمهور، وتصبح جزءًا من تاريخ
الأدب الديني. كما يمكن تحويلها إلى فلسفة لتجاوز الموت؛
فلسفة أمل مثلًا، أو فلسفة حياة متَّصِلة. وقد تكون في
النهاية بدايات علوم للمستقبل، وحساب المستقبل، والتنبؤ
بمساره في صورتها الأولى عندما كانت مرتبِطة بتاريخ
الأديان.
(٤) هل يوجد عذاب في القبر؟
ويبدو أن الغاية القصوى من حياة القبر وسؤال الملكَين هو
في النهاية عذاب القبر للكافرين ونعيمه للمؤمنين؛ ولذلك قد
يكون هو الموضوع الوحيد المذكور في الأخرويات، مع البرهنة
عليه والدليل على وجوده. وأحيانًا يكون عنوانًا للموضوع
كله عن طريق تعريف الشيء بعلَّته الغائية وهو عذاب القبر،
وليس بعلَّته الفاعلة وهي حياة القبر. وبالرغم من أن
الأدلة جميعها من الأخبار والروايات البعيدة التأويل من
القرآن والمشهورة في الحديث، إلا أن بعض الأدلة يقوم على
قياس الغائب على الشاهد دون إعطاء أدلة عقلية صِرفة، ودون
الرد مُسبَقًا على المُعارِض العقلي. ومثال ذلك حياة
النائم بين الحياة والموت أو حالة المرض أو الصراع أو
المُغمى عليه. وقد يكون المَثل هو الوحي ذاته، عندما يرى
الرسول جبريل ولا يراه من حوله.
٢١ وهذه الأمثلة كلها لا يجوز القياس عليها؛
فالنوم وحالات المرض ورؤية الرسول لجبريل، كل ذلك إنما يتم
أثناء الحياة، وليس بعد الموت. ولا يمكن قياس ما يحدث بعد
الموت على ما يحدث قبل الموت؛ نظرًا لاختلاف الفرع مع
الأصل. إنما يمكن فقط إرجاع تصورات ما بعد الموت إلى
نشأتها في الحياة؛ تعبيرًا عن تجربةٍ بشرية؛ الرغبة في
تجاوز الموت، وتعدي الانقطاع، واستمرار الحياة. ومع ذلك
تظل الأدلة الغالبة لإثبات عذاب القبر ونعيمه هي الأدلة
النقلية المستمَدَّة معظمها من الحديث، وليس من مصدر الوحي
الأول وهو القرآن. وما ذُكر من المصدر الأوَّل تأويلٌ
بعيد؛ فالمعيشة الضنك لا تُشير إلى عذاب القبر، وما ذُكر
من المصدر الثاني إما أنه غير متواتر بل مشهور، والمتواتر
منه لا يعني النار فيه عذاب القبر في الدنيا في حياة
القبر، بل في الآخرة، وقد يعني البعض منها تشبيهًا وتورية
وخصوصية للرسول، وقدرته على سماع ما لا يسمعه الناس أسوةً
بالوحي. والعجيب أن مُثبِتي عذاب القبر يُئوِّلون القرآن
دون حاجة، ويأخذون الحديث حرفيًّا حيث الحاجة إلى التأويل.
٢٢ وإن تجويز عذاب القبر بناءً على جواز إحياء
الموت في القبر لأن تعذيب الجماد لا يُتصوَّر، يعود إلى
الموضوع السابق، وهو: هل تجوز إعادة الحياة إلى جسد الميت؟
ويكون إثباتًا بشيءٍ آخر يحتاج إلى إثبات، ويكون من الهدف
رد الروح إلى الجسد وتصور نوع من الحياة، بل والحياة
العاقلة، حتى يمكن للعذاب أن يتحقق منه هدفه، وهو وقوع
عذاب القبر.
٢٣ ولكن الحياة شرط العلم في الصفات، وليست شرط
العذاب في أمور المعاد. وكيف تكون الحياة شرط العلم في
العقليات، وتكون شرط عذاب القبر في السمعيات؟ ويظل
الاعتراض قائمًا: وهل يحتاج إثبات عذاب القبر إلى شرط
العلِّية وهو الحياة؟ أليس الله بقادر على إحياء الميت في
القبر دون شرط العلية، سواء كانت علةً فاعلة أو علةً
مقارنة؟ إن الله قادر على كل شيء، بما في ذلك إحداث الحياة
في الميت بلا علةٍ مقارنة.
٢٤ وقد تكون الفائدة منه الردع والزجر، وحث
الإنسان على فعل الخير. ولكن في هذه الحالة، أليس في عقاب
اليوم الآخر ما فيه الكفاية؟ وما الفائدة من هذا الردع
السابق لأوانه؟ وإن لم يرتدع العاصي من الردع الكبير، فهل
يرتدع من الردع الصغير؟ وكيف يكون هناك ردع والأفعال حسنة
وقبيحة في ذاتها؟
٢٥
فإذا ما ثبت عذاب القبر حرفيًّا وشيئيًّا، هل يكون
بالجسد، أم بالروح، أم بالروح والجسد، أم بالشخص؟ فإذا كان
في الجسد، فهل يجوز العذاب في أجزائه إن استحال الكل؟ ما
دام الله قادرًا على كل شيء، فإن النعيم والعذاب يكونان في
الأجزاء، كما يجوزان في الكل بقدرته. وعلى هذا النحو، يتم
تأييد الروايات الظنية بالقدرة المُطلَقة؛ حتى يتأكد الظن
السمعي باليقين العقلي، ويُمحى الشك بالقهر، ويُقضى على
العقل بالإيمان. وفي هذه الحالة، يجوز كل شيء بالقدرة
والإيمان، فيجوز العذاب لكل الجسد أو لأجزاء منه، مثل
مساءلة الملكَين. والجواز في العذاب أكثر قبولًا؛ لأن
الجسد يُحسُّ، في حين أن اليد والرجل لا ينطقان، ولا ينطق
إلا اللسان. ولكن كيف يجوز تعذيب من اختفى جسده كلًّا
وجزءًا، سواء أكله السبع، أو طواه اليم، أو حوَّله الحريق
إلى رماد؟ وكيف يُعذَّب الجماد بلا حياة؟ وما الفائدة من
العذاب ما دام لا يوجد إحساس بالألم؟ فإن صعب الحل يكون
العذاب للأرواح والأجساد معًا بعد أن تعود الأرواح إلى
الأجساد. وهنا أيضًا تنشأ صعوبة احتمال غياب الأجساد في
بطن السبع، أو في أعماق اليم، أو بين ألسنة النيران، فلا
تجد الأرواح ما تحلُّ فيه وتعود إليه، وكأن الأجساد شرط
وجود الأرواح. وهل يجوز تعذيب شخص في شخصٍ آخر، تعذيب
الإنسان مأكولًا أو مهضومًا في بطن السبع؟ وما الفائدة
وألم الافتراس قد تم، وأصبح الإنسان عصارة معدية لا تتألم
كإنسان، وإن تألَّمت فإن آلامها ستُصيب السبع من معاصي
الذي في بطنه؟ فإن استعصى الأمر يكون العذاب للأرواح وحدها
دون الأجساد. حينئذٍ ما فائدة إثبات عودة الأرواح إلى
الأجساد، وإيجاد مستقَر للأرواح، ومساءلة الملكَين،
والجواب باللسان، وعذاب القبر من خلال الجسد؟ لا يبقى إلا
أن يكون عذاب الأرواح صورةً فنية؛ إسقاطًا من الحاضر على
المستقبل، وتصور المستقبل بناءً على الحاضر؛ تعبيرًا عن هم
المستقبل وثقل الحاضر، والتخوف منهما معًا. فالأفعال
الماضية خاصةً القبيحة منها تُطلُّ على الحاضر، وتجثم على
المستقبل، فيشعر الإنسان بآلام الضمير ووخز النفس عندما
ينكشف الحجاب، وتسقط الأقنعة، وينتهي العمر.
٢٦
ثم يُوصَف عذاب القبر على نحوٍ تفصيلي؛ فمنه ضم القبر
وضغطه على الميت، حتى يهشم ما تبقى من ضلوع الجسد، حتى
تلتقي حافتاه ويصبح الجسد بين المطرقة والسندان! وكيف
تتحرك جدران القبر وتتحرك الأرض؟ وماذا تفعل للذي حوت جثته
الماء، أو أنياب السبع ومعدته، أو أفواه الديدان؟ وماذا
عمَّن بقي في العراء بلا قبر؟ وقد تكون ضغطة الكافر مثل
سقوط السقف على العظام، أو تهشيم الترام الأرجل، أو زنقة
القفص الصدري بين الركبتَين. أما المؤمن فضغطة القبر عليه
تكون مثل ضغطة الأم الشفيقة على ولدها من السفرة العبيقة!
وهو تصورٌ إنسانيٌّ خالص، وصورةٌ شعبية للَذة الالتصاق
التي يصعب التفرقة فيها بين الألم واللذة.
وكيف تفرق الأرض بين المؤمن والكافر، فتضمَّ الأول برفق
وتعصر الثاني وتهشم أضلاعه؟ وإن كان بالصحراء أو باليم، هل
يُضمُّ عليه الجو، أو تخنقه المياه، ويضيق عليه المكان؟
وقد يقوم بالعذاب الوحوش؛ تسعة وتسعون تنينًا تنهش لحم
الميت وتلدغه؛ لإعراضه عن أسماء الله التسعة والتسعين، كل
اسم بتنين! فإن لم تكن هناك عظام لتهشيمها فهناك لدغ
العقارب والحيات، وإن لم يكن هذا ولا ذاك فهناك الضرب.
وماذا لو مات الإنسان من شدة ضغط العظام أو نهش اللحم أو
اللدغ أو الضرب؟ هل يموت ثم يحيا ثم يموت، وهكذا إلى أبد
الآبدين؟ وهل هو تعذيب في سجون الدنيا وعذاب في القبور
طريقًا إلى الآخرة؟ وكيف تتكلم الأرض وتُنذِر الكافر
وتبشِّر المؤمن؟ كلام الأرض زهد وتصوف وسوداوية، ورفض
للعالم، واحتقار للإنسان، ولفظ له حيًّا وميتًّا. وتأتي
كثير من التصورات من التصوف، حيث يذخر بالخيال الشعبي
واصفًا حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
٢٧ ويُستثنى من عذاب القبر الأنبياء وآل البيت؛
إذ تحنو الأرض على فاطمة أم علي؛ فقد ألحدها الرسول ونزع
قميصه ووضعه عليها؛ حتى لا تمسَّها النار أبدًا!
٢٨ وهل يبقى القميص إلى يوم القيامة؟ وما شفاعة
قميص؟ كالشرطي يلصق شرائطه على الحائط ويذهب، ويقف العسكر
صفًّا أمامها لا يتحركون؛ فهي بديل عنه ورمز له، وحافظة
للنظام في غيابه. ولماذا فاطمة أم علي، وليس فاطمة زوجة
علي، وليس عليًّا ذاته أو بَنيه؟ ولماذا قارئ سورة الإخلاص
في مرضه، وليس قارئ القرآن في صحته؟ ألا يُستثنى من العذاب
إلا الإنسان في حالة الضعف وبمجرد الإيمان بالوحدانية دون
ممارسة العدل؟
ويتم عذاب القبر في البرزخ. والبرزخ يعني الانتقال من
مكان إلى مكان أو من زمان إلى زمان؛ فهو مفهوم يختلط فيه
المكان والزمان معًا. وهو لفظٌ قرآني يُشير إلى المكان
أكثر مما يُشير إلى الزمان، ويكثر استعماله في التراث
الشيعي وفي الفكر الصوفي. وقد يكون لفظًا أعجميًّا أكثر من
كونه لفظًا عربيًّا. ولماذا تكون هناك مرحلةٌ متوسطة بين
الحياة والموت، حياة هي موت، وموت هو حياة؟ ولكن إيقاع
الأصوات يدل على أن الحوادث تحدث في الزمان، وأن الزمان به
مراحل كما أن المكان به مراتب. يحيا الإنسان مرتَين، ويموت
مرتَين؛ يحيا في الدنيا ثم يموت، ثم يحيا في القبر مرةً
ثانية، وتنتهي حياة القبر بعد المساءلة والعذاب، ثم يموت
ميتةً ثانية حتى يُبعَث من جديد، فيحيا بعد البعث والنشور.
قد تكون الحياة الثانية، حياة القبر، نموذجًا أو «بروفة»
لما سيحدث بعد ذلك، وقد تكون استمرارًا للحياة الدنيا
والجسد ما زال دافئًا ولم تسرِ فيه برودة الموت بعد؛ لذلك
فهي حياةٌ متوسطة، مثل البرزخ، بين الحياة الدنيوية
والحياة الأخروية. وقد يُرفَع العذاب يوم الجمعة وفي شهر
رمضان. وإن مات الإنسان يوم الجمعة أو ليلتها يكون العذاب
ساعةً واحدة؛ وذلك بحرمة النبي. ولماذا يتفاضل الزمان؛
يومًا في الأسبوع هو يوم الجمعة أو ليلتها، أو شهرًا في
السنة هو شهر رمضان، لا تكون فيه ضغطة القبر؟ هل هي لحظاتٌ
متميِّزة في الزمان؟ ولماذا يعود العذاب بعد ذلك؟ هل هو
التعذيب؛ فالعذاب المُنقطِع أشد على الإنسان من العذاب
الدائم؛ فبعد أن تندمل الجروح ويبرأ الإنسان تتقيَّح
الجروح، وينتكس المريض ويعاوده الألم؟ وكيف يبدأ العذاب
بين النفختَين في الصور مع سؤال الملكَين، والنفخ في الصور
من علامات الساعة، والساعة لم تقُم بعد؟ والنفخ في الصور
يعني ازدواج الصورة السمعية مع الصورة المرئية. ولماذا
تموت الملائكة بين النفختَين وكلها حياةٌ أبدية، ولا داعي
لموتها؟ ومن الذي يقوم بوظائفها بعد موتها؟ وكيف يبدأ عذاب
القبر والحساب النهائي يوم البعث لم يتم بعد، والمحاكمة لم
تُعقَد بعد، ولم يُسمَع فيها قول الشهود أو دفاع
المتَّهَم، بل ولم يصدر فيها حكم القاضي؟ وما وجه السرعة
في إنزال العذاب بالكافر وبمن يستحق العقاب وهو لن يفرَّ
من قبره، ولا ملجأ أو مخبأ له؟ وهل يستعجل الله عذاب البشر
إلى هذا الحد؟ هل الله سوداوي منتقم جبار إلى هذا الحد؟
٢٩
ونادرًا ما يتم الحديث عن نعيم القبر، أو وصفه بمثل هذه
الدقة والتلذذ، كما يتم ذلك في وصف عذاب القبر! بل إن
عنوان الموضوع عذاب القبر، وليس نعيم القبر. ومع ذلك فإن
نعيم القبر يكون بأن يتحول القبر إلى جنة، بفرشها الوثير،
وروائحها الطيِّبة، وحياتها الناعسة. يصبح القبر روضًا من
رياض الجنة، به زرع وحياة وماء ورباحة في المكان. يتسع
القبر ويصبح فسحة من المكان إلى البلد البعيد الذي يشتاق
إليه الإنسان، وبه غلمان وولدان تُؤنِس المُطيع في وحدته
إن كان من أهل العلم، به نور وشابٌّ جميل بيده قنديل،
دونما ذكرٍ للجنس طبقًا لعادات البيئة الصحراوية وممارسات
البدو، وإن كانت هناك مقدماته والتمهيدات له. وقد يكون
الشاب الجميل تشخيصًا للعمل الصالح، وقد تكون صحبة الغلمان
تعويضًا عن وحدة العالم وعزلته في الدنيا مع القلم
والقرطاس؛ استباقًا للحور العين في جنة النعيم.
٣٠
وبإدراك صور النعيم يُدرَك التقابل بينه وبين العذاب،
ونشأة الصورة الفنية بقياس الغائب على الشاهد. فتوسيع
القبر في مقابل ضغطه، ورحابة المكان في مقابل ضيقه، وجعل
القنديل فيه ضوء مقابل الظُّلمة، وفتح طاقة فيها هواء في
مقابل الاختناق، وانفتاح في مقابل الانغلاق، وامتلاؤه
بالريحان مقابل عفن الجيفة، الرائحة الطيِّبة في مقابل
الرائحة النتنة. وهل في القبر نعيم، في ظلمته ووحدته
ووحشته وعزلته، وديدانه وتعفنه وتحلل الجسد فيه؟ وكيف يتم
النعيم في القبر في وحشته وظلمته ورائحته وعزلته وغربته
وصمته مثل صمت القبور، وفقره وترابه وديدانه وحشراته،
وفوقه مُوبِقات سكان القبور، وحوله شراذم العصاة
والمُذنِبين والفارِّين؟ أم إن النعيم يكون بتخفيف العذاب
والخنق والضغط والروائح العفنة؟ وبالتالي يرجع السؤال
الأول: هل هناك عذاب القبر؟ وهل هناك حية فيه؟ ومع ذلك يظل
التركيز على عذاب القبر دون نعيمه؛ للترهيب لا للترغيب،
وكأن الحياة تُوضَع خصيصًا للعذاب، وكأن الحياة للعذاب،
وكأنما تُعاد الحياة إلى الجسد في القبر كي يتعذب الإنسان
من جديد، عذاب في الحياة، وعذاب في الممات! أليست هذه
نظرةً سوداوية، واتجاهًا تشاؤميًّا في الحياة، وصادية
يتلذذ بها صاحبها بالتفنن في عذاب الآخرين؟ وهل أصبح الألم
له مثل هذا الوجود الضاغط، بحيث يتحول إلى عقيدة في علم
أصول الدين؟ ألم يُبعَث الرسول هاديًا ولم يُبعَث جابيًا؟
وكيف يكون للعذاب كل هذا الثقل ممَّن عُرِف عنهم أنهم من
أهل الرحمة؟ وكيف يُخلَق العقل للتعذيب والتمتع بالعذاب،
والعقل نور العلم ونعمة الفكر وطريق الهداية، وكأن وظيفة
العقل هي تبرير الشر وتقبله، وليس الاعتراض والتمرد عليه؟
وهل يُعذَّب العقل وهو نعمة من الله وروح منه؟ وهل خلق
الله الحياة للتعذيب أم للنعم والتمتع بخيرات الله؟ أليست
الحياة كالعقل إحدى نِعم الله؟
فإذا كان العذاب للعصاة، فإن النعيم يكون للمؤمنين؛
فالعذاب للمؤمنين الفاسقين العصاة والكافرين على حدٍّ
سواء. فإذا كان كافرًا يدوم عذابه إلى يوم القيامة، ولا
يُرفَع عنه إلا يوم الجمعة أو ليلتها، وفي شهر رمضان لحرمة
النبي، فلا يُعذَّب أحد كافرًا أو مؤمنًا لحرمته. وإن كان
مؤمنًا عاصيًا ينقطع عنه العذاب يوم الجمعة وليلتها وشهر
رمضان، ثم لا يعاوده العذاب إلى يوم القيامة. وكأن العذاب
له يدوم لمدة سنة واحدة ثم ينقطع! وإن كان مؤمنًا مطيعًا
تكون له ضغطةٌ خفيفة تذكِّره بهول الموقف؛ لما تنعَّم بنعم
الله ولم يشكر. وكأن العذاب قادمٌ قادم، والألم واردٌ وارد
عند الجميع، لا فرق بين مؤمن وكافر، ولا فرق بين مؤمنٍ
عاصٍ ومؤمنٍ مطيع.
٣١ وقد يُرفَع العذاب عن المؤمن العاصي بدعاء أو
بصدقة؛ أي بفعل الآخر، وليس بفعله هو، وهو ما يناقض قانون
الاستحقاق. وهل الصدقة وهي فعل، مثل الدعاء وهو مجرد قول؟
أليست الصدقة عطاءً والدعاء شحاذة؟ أليست الصدقة صورةً
ومضمونًا وتقوى وشيئًا، في حين أن الدعاء صورة بلا مضمون،
تقوى فارغة بلا شيء؟ العذاب إذن نوعان: دائم للكفار
والعصاة، ومنقطع لبعض العصاة بدعاء أو صدقة. ويكون دور
الآخر هو رفع العذاب عن الذات بدعاء وهو مجرد قول، أو
بصدقة وهو فعل؛ وبالتالي فهو أفضل. قد يعني ذلك استمرار
إمكانية تغير مستقبل الميت بفعل الآخر، كاستمرار فعل الميت
في حياة الآخرين. قد تكون هذه دلالة على الترابط
الاجتماعي، وقد تكون دلالة على استمرار الأمل لتخفيف
العقاب؛ إيثارًا للعفو على العقاب، وللرحمة على العدل. فلا
نهاية لإمكانية الإنقاذ، ولا مكان لليأس؛ فإنه لا ييئس من
رَوح الله إِلا القوم الكافرون. ولا يعني الإيمان في هذه
الحالة إلا الأمل المستمر بلا حدود.
عذاب القبر إذن تصورٌ شعبي للظلام والهواء الراكد الساكن
والرائحة العفنة والوحدة والعزلة والوحشة، يعبِّر عن
تجربةٍ إنسانيةٍ فعلية في الشاهد يُسقِطها الإنسان على
الغائب؛ فلا يعرف الموت إلا قياسًا على الحياة. إن إثبات
عذاب القبر كواقعةٍ شيئية تسبِّب رد فعل في إنكاره أيضًا
كواقعةٍ شيئية. وإذا قام الإثبات على الرواية والسمع، فإن
الإنكار يقوم على المُعارض العقلي، والعقل في النهاية أساس
النقل. فالميت لا حياة له؛ وبالتالي لا تعذيب له، ولم يرَ
أحد عذاب القبر، أو آثار التعذيب على جثة إذا ما فُتح
القبر، ولم تُسمَع أصوات الأنين أو تأوهات الألم. وأين يقع
العذاب إذا ما تحوَّلت الجثة إلى عظامٍ بالية، أو تقطَّعت
إلى أجزاء في أجواف السباع وحواصل الطيور وأقاصي التخوم
ومدارج الرياح؟
٣٢ وبين الإثبات والنفي للواقعة الشيئية، هناك
إثبات الدلالة التي لا يمكن نفيها؛ فالعذاب هو شعور
الإنسان بالفعل القبيح وتأنيب الضمير، والنعيم هو شعور
الإنسان بالرضا وبأداء الرسالة. العذاب والنعيم يُشيران
إلى تجربة الإنسان في النقص والكمال، في الفشل والنجاح، في
الإحباط والتحقق؛ ومِن ثَم يجد المتكلمون حقائقهم في
تأملات الحكماء.
٣٣