وفي أصل الوحي يُسمَّى يوم الفصل ويوم الحشر ويوم القيامة
واليوم الآخر. وما يحدث فيه يُسمَّى الصافة والقارعة والطارق
والصارخة؛ أي بالدلالة الصوتية للتنبيه والإنذار. كما يُسمَّى
الطامة والغاشية؛ نظرًا لوقعها الثقيل على النفوس من رهبة
الحساب. والحقيقة أنه يصعب التفرقة بين اليوم الآخر في الدنيا
واليوم الأول في الآخرة، كما يصعب التفرقة بين علامات الساعة
في الدنيا ومناظر القيامة ابتداءً للآخرة؛ ممَّا يدل على اتصال
الزمان، وتغير أشكال الحياة فيه.
(١) الموقف، والحوض، والقصاص
ويبدأ اليوم الآخر بأهوال الموقف، وكأن التعذيب قد بدأ،
والحساب قد انتهى، والحكم قد صدر. وتتفصل أنواع التعذيب
دون أنواع النعيم؛ رغبةً في إيلام الذات وإيلام الآخرين،
تضيقًا على النفس، وزيادةً في الكرب، وحملًا للهموم،
وإعلانًا من المصائب؛ فمنها طول الوقوف والانتظار للحساب
وبداية العذاب، عذاب الحشر، وطول الانتظار والجهل بالمصير،
وكأن الطوابير والترقب وجهل المصير في الدنيا وفي الآخرة.
يطول الانتظار، ويشتد الزحام تحت حرارة الشمس وفي عز الحر،
وكأن القيظ يُلاحق الناس في الدنيا والآخرة، وكأن حرارة
جهنم قد بدأت تباشيرها، وامتد لهيبها. وتكون الشمس فوق
الرءوس عمودية على الناس؛ حتى يشتد قيظها دون دفء الصباح
أو نسمة الغروب. وكيف تكون الشمس وقد كُورت من قبل كأحد
علامات الساعة ودب فيها الفناء؟ وهل الفناء يكون للأرض فقط
دون الشمس والقمر والنجوم؛ لأن الأرض وحدها هي المسكونة،
أم يكون الفناء للمجموعة الشمسية؟ ويتصبب عرق الناس من
لهيب الشمس تفوح منه رائحة نتنة، يصل العرق إلى الكعبَين
للبعض، وإلى الركبتَين للبعض الآخر، وإلى الأحشاء عند
فريقٍ ثالث، وإلى الأذقان عند فريقٍ رابع، كلٌّ قدر
أعماله! وكيف يتم تقييم الأعمال والحساب لم يتم بعد؟ وما
ذنب المؤمنين في الحشر عندما يلحقهم عرق العصاة ورائحة
عرقهم النتنة والجسد ملاصق للجسد، والكتف في الكتف؟ ولا
يتكلم الإنسان إلا بإذن الله. والصمت في هول الموقف عذابٌ
مضاعف؛ لأن الزحام يولِّد الكلام تعبيرًا عن الهول
وتخفيفًا للكرب، والواقف المنتظِر لا حق له فيه، ولا
يستثنى من ذلك إلا الأنبياء والأولياء والصلحاء. وهل
يتساوى الأولياء والأنبياء؟ وهل يتساوى الصلحاء مع
الأولياء؟ وكيف يتم الاستثناء في وسط الجمع الحاشد؟ وهل
يتميز البعض في طوابير الانتظار كما يحدث في الدنيا عندما
تُحشَد الدهماء والجموع، بينما يُقضى للمتميِّزين حاجاتهم
دون وقوف أو انتظار؟
٢
وتخفيفًا من أهوال الموقف وحرارة الشمس، يكون لكل نبي
حوض يشرب منه المؤمنون، ويُمنَع عنه الكافرون إلا النبي
«صالح»؛ فحوضه ضرع ناقته! وقد يكون حوض النبي أعرض ما دام
خاتم الأنبياء تضم نبوته سائر النبوات كما يضم حوضه سائر
الأحواض، ويكون أكثر ورودًا. وقد يكون لخاتم الأنبياء وحده
حوضه كرامةً له! فإذا كانت أهوال الموقف مماثلة في قيظ
الشمس عذابًا قبل العذاب، فإن الحوض نعيم قبل النعيم، وكأن
العذاب والنعيم قد بدآ مِن قبل.
٣ وكيف تكون للرسول كرامة وهو بشر مثل باقي
البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ فإثبات الحوض قائم
على إثبات الكرامة؛ فإذا ما تم إنكار الكرامة تم إنكار الحوض.
٤ وكيف يكون الرسول وهو أرحم البشر أجمعين بهذه
القسوة، يمنع العطشان من الحوض، وهو متدلي اللسان لاهث
النفس، والرسول إنسان؟ وماذا عن باقي الأمم إن لم يكن لكل
نبي حوض؟ ولماذا يكون حوض صالح ضرع ناقة إن لم تكن المعجزة
في النبوة رصيدًا في الميعاد؛ وبالتالي يحد الماضي
المستقبل بتصوراته وتخيلاته؟ وتزداد التفصيلات في وصف
الحوض مكانًا؛ طولًا وعرضًا وعمقًا، ولونًا ورائحة. فمن
حيث الشكل هو حوض أو نهر لا تنافس بينهما ما دام المعنى
واحدًا، وهو الدلالة وتخفيف عذاب العطش، وهو متصل بالجنة
ونهرها، وكلاهما كوثر؛ فالحوض مصدر النعيم مثل أنهار
الجنة، مع أن الكوثر لغويًّا تعني الخير البالغ في الكثرة،
وقد لا تعني شيئًا حسيًّا ماديًّا مكانيًّا. مكانه مع
الوقف وقبل الصراط؛ لأن الناس يخرجون عطشى من القبور، وكأن
الإنسان في القبر ما زال له جسد ولسان وحلق يشعر بالعطش!
وقد يكون هناك حوضان: الأول قبل الصراط والميزان، والثاني
في الجنة. الحوض قبل الصراط؛ فالناس عطشى، والحوض بعده
إرهاصًا للجنة. وقد يُعترَض من القدماء بأن الحوض لو كان
قبله لحالت النار بينه وبين الماء الذي ينصبُّ فيه من
الكوثر، وكأن النار متوسطة بينهما، أو أنه يستحيل التغلب
على هذه الصعوبة بالالتفاف والكباري والسدود، أو أن القدرة
الإلهية ليس في استطاعتها الإجابة الفعلية على هذا
الاعتراض. مكانه على الأرض المبدَّلة، وهي أرضٌ غير الأرض
التي فنيت، ولا سبيل إلى معرفتها إلا قياس الغائب على
الشاهد. هو جسمٌ مخصوصٌ متَّسِع الجوانب على أرضٍ بيضاء
كالفضة. فهو حوضٌ حسي حتى لا يكون مجرد خيال أو وهم،
متَّسِع الجوانب تعبيرًا عن الفيض والكرم، على أرضٍ بيضاء
كالفضة تعبيرًا عن الصفاء والنور والطهارة. واتساعه لمسافة
ما بين أيلة ومكة، أو ما بين صنعاء ومكة، أو بين بيت
المقدس ومكة، فهناك طرفٌ ثابت وهو مكة، وطرفٌ آخر متحرك
وهو آيلة أو صنعاء أو بيت المقدس. الأول في وسط الجزيرة،
والثاني في جنوبها أو في شمالها. وقد تكون المسافة ما بين
المدينة وبيت المقدس، فتحل المدينة مكان مكة، ويكون القياس
شمالًا لا جنوبًا. وقد تكون المسافة في جنوب الجزيرة ما
بين عدن وعمان على طول حضرموت، حتى يحدث التقابل بين ظمأ
حضرموت وريِّ الحوض. وقد تتحدد المسافة أكثر فأكثر
بالمسيرة بين نقطتَين؛ فالمسيرة بين عدن وعمان شهرًا، وما
بين مكة وأيلة شهرًا، وما بين صنعاء والمدينة شهرَين، وقد
كانت هذه الجهات تمثِّل أطراف الأرض القصية في الجزيرة
العربية؛ وبالتالي يدل قياسها على اتساع الحوض وكثرة الماء
بالتقابل مع قحط الجزيرة.
٥ زواياه مربَّعة دليلًا على الاتساق الهندسي،
مستوٍ ماؤه ضد الهيجان، صفحته هادئة ضد الأمواج حتى يصحَّ
الشرب في هدوء وسكينة، لونه أبيض ناصع مثل اللبن، مثل كل
شراب الجنة، وطعمه أحلى من العسل، ورائحته أطيب من رائحة
المسك. أمينه جبريل عليه حارس مع علي، ويصرف أمته بالضرة
والتحجيل؛ ممَّا قد يدل على بعض الصور التي تنشأ في مجتمع
الاضطهاد والانتقال من الفقر التام إلى الغنى التام. من
الناس من يشرب منه لدفع العطش، ومنهم من يشرب للتلذذ،
ومنهم من يشرب لتعجيل المسرَّة. الشرب الأول حاجة، والثاني
متعة، والثالث ازدياد. على الحوض ولدانٌ صغار ذكورًا
وإناثًا يخدمون الآباء والأمهات، وهي صورة المجتمع البدوي
القبلي. في أيديهم أكواب وأقداح ومناديل لتجفيف الفم،
وعليهم قباب الزخرف والنقوش. قد تكون الأقبية من الديباج،
والمناديل من نور. بأيديهم أباريق من فضة وأقداح من ذهب.
كيزانه كنجوم السماء باعتبار العدد أو اللمعان. يسقي
الولدان آباءهم وأمهاتهم إلا مَن سخط الله عليهم فلا
يسقونهم، فيتفرق الولدان عن آبائهم وأمهاتهم، وتُمحى عاطفة
الرحمة والبر بالوالدَين في يوم الفراق، وكأن الله يفرِّق
بين الابن وأبيه والبنت وأمها على الحوض. مَن شرب منه يوم
القيامة لم يظمأ أبدًا، وكأن في شربه أعظم لذة من شراب
الجنة. ولا يشرب منه إلا من قُدِّر له عدم دخول النار،
وكأن من يدخل النار قد قُدِّر له العطش في الأولى وفي
الآخرة، قبل الحساب وبعده،
٦ بل ولا يشرب منه كل من يُنكِره، وكأن إنكار
الحوض يحتاج إلى عقاب بالعطش، وهي حجةٌ تهديديةٌ توعدية
أكثر منها حجة عقلية، وكأن الاجتهاد والرأي جريمة يستحق
صاحبها العقاب. كما قد يُدعى على المنكرين له بألا يشربوا
منه هجومًا على الشخص دون حوار مع الأفكار، مع أن الإنكار
هو نوع من تأويل الحوض بالخير الكثير أو النبوة أو القرآن
أو الرضا والرضوان.
٧ ولا يمكن رد الإنكار إلى أثرٍ خارجي دون تناول
للصورة ذاتها، هل هي حسٌّ أم تخييل، واقع أم إيهام، حدثٌ
تاريخي أم بنيةٌ نفسية؟ لذلك قد لا يكفر مُنكِره، بل
يُخطَّأ فحسب؛ لأنه ممَّا لا يجب اعتقاده.
٨ وعلى هذا النحو، لا يقع التعطيل فقط في
الإلهيات، بل يقع أيضًا في الأخرويات، وهو قائم أساسًا على
رفض مادية المعاني وحرفية النصوص.
وأخيرًا يأتي القصاص كأحد أحداث الموقف، قصاص المظلوم من
الظالم، وكأن أداء حق البشر قبل الحساب سابق على أداء حق
الله بعد الحساب.
٩ وهو مُشابِه لقوانين الاستحقاق والتعويض
والإحباط والتكفير والموازنة؛ وبالتالي يكون أدخل في العدل
منه في المعاد، أو يكون المعاد تحقيقًا لمبادئ العدل، ولكن
ألا يكون القصاص هنا رغبة في الانتقام لا يجوز في هول
الموقف؟ ألا يكون تسرعًا في تطبيقٍ مشخَّص للعقاب وأخذًا
بالثأر دون انتظار الحساب؟ ألا تغيب فيه روح التسامح لا من
الإنسان ولا في غيره. إنه في الحقيقة سبق للحساب؛ فقد يكون
لدى الإنسان عذرٌ مقبول أو دافعٌ نبيل. وهل يجوز للإنسان
أن يقتص بيده أم إن الله هو الذي يقتص له كما يقتص له
الإمام في الدنيا؟ وإذا ما اقتص المقتول بيده مِن قاتله،
فكيف يُحاسَب القاتل؟ هل يُبعَث من جديد حتى يتم حسابه
وينال عقابه؟ وهل هناك قصاص من القاتل عندما يقتل قاتله في
الدنيا؟ ألا يكون ذلك أشبه بدورةٍ لا نهاية لها، مثل الأخذ
بالثأر في صعيد مصر؟ وكيف يكون القصاص بين الحيوانات وهي
غير مكلَّفة، خاصة إذا قام الله بذلك بنفسه؟ وقد وضع الله
قانون الغاب. هل أكل القوي للضعيف قانونٌ طبيعي مِن صنعه؟
هل يقتص الله من الأسد لأنه أكل أرنبًا، أو من القطة لأنها
أكلت فأرًا؟ وكيف يعيش الأسد والقط؟ ولماذا لم يضع الله
فيها عقلًا كما وضع في الإنسان، ويكون ذلك أصلح لها من
القصاص؟ وإذا كان الصياد يصطاد الأسد، والسبع يأكل القط في
الدنيا، فلماذا لا يكون ذلك قصاصًا؟ يتضح من ذلك أن
السمعيات لا يمكن أن تتأصل إلا على نحوٍ عقلي أسوةً
بالعقليات، خاصةً وأن معظمها قد أتى من الشروح المتأخِّرة،
ومستمَدًّا من كتب التصوف حين توقَّف العقل، فاستمدَّت
العقائد الأشعرية مادتها منه.
(٢) الحساب، والميزان، والحفظة، والكتبة، وإنطاق
الجوارح
بعد الموقف والحوض والقصاص يأتي الحساب والميزان والحفظة
والكتبة وإنطاق الجوارح. وإثبات أحدها يؤدي إلى إثبات
الآخر، كما أن تأويل أحدها يؤدي إلى تأويلها كلها.
١٠ ويبدأ الحساب بالوقوف بين يدَي الله. ولا يعني
الوقوف هنا الحركة وانتصاب القامة بقدر ما يعني بداية
الحساب والامتثال أمام القاضي في ساحة العدالة.
١١ ثم يبدأ الحساب بعد الوقوف. والحساب يعني
التحقيق الفعلي والنهائي لقانون الاستحقاق. ومع أن الله
يعلم كل شيء، ولا فائدة تعود عليه من الحساب، ولكنه صورة
القضاء العادل؛ حتى يعرف الإنسان أعماله، حسنات أو سيئات،
وحتى تُعطى له كل الفرص للدفاع وللمحاجَّة. الغاية من
الحساب إقناع الإنسان، وليس فرضًا عليه، وإعطاؤه أكبر فرصة
للدفاع عن النفس، لا أن يكون متهَمًا لا يعرف التهمة،
ويصدر عليه الحكم وهو لا يعرف السبب، كما تصوِّر ذلك
الروايات الإنسانية والآداب عند كل الشعوب. وقد لا يحتاج
الإنسان إلى حكم يصدر عليه من حاكم أو قاضٍ؛ إذ يحكم على
نفسه بنفسه بعدما يشهد على نفسه. وليس الهدف من الحساب
معرفة قدر الأعمال من حيث الكم فحسب، بل أيضًا معرفة
الكيف؛ فالقياس كمي وكيفي في آنٍ واحد؛ حتى يتحقق العدل.
وبالرغم من أن الحساب علني، إلا أن الله قد يُخفي سيئات
العبد عن العباد حفاظًا على كرامتهم، وتسترًا على سوءاتهم،
مغفرةً لهم، وكأن المغفرة تتم مباشرةً قبل السؤال والجواب
وبلا توبة. كما تتفاوت درجات الحساب؛ منها اليسير ومنها
العسير، منها الجهر ومنها السر، والحساب منه الفضل ومنه
العدل. ويكون الحساب فردًا فردًا. قد يطول عند البعض وقد
يقصر عند البعض الآخر، ولكن من الذي يقوم بالحساب؟ قد يقوم
الله نفسه به، وقد يُنيب الملائكة عنه، وقد يقوم به الله
والملائكة معًا، ولكن هل يتحدث الله بصوتٍ قديم فالكلام
صفةٌ قديمة، أم بصوتٍ مخلوق لأن الصفات حادثة؟ هل يخلق
الله صوتًا في أذن السامع أم يكشف عن الإنسان الحجاب ليعلم
الحساب دون صوت؟
١٢ وقد يتم الحساب من خلال الطير من تحت العرش،
فتلتصق بعنق صاحبها، فيأخذها الملك وينادي على صاحبها،
ويدفعها له بيمينه، أو بعد ثقب ظهر الكافر، ويأخذها منه
بشماله! فكل إنسان أُلزم طائره في عنقه؛ أي حمل مسئوليته
ونتائج أعماله، وليس طيرًا حقيقيًّا حول العنق. واليمين
حسن والشمال سيِّئ طبقًا للسنة في الطعام باليد اليمنى
ودخول المسجد بالرجل اليمنى. ويُستغَل ذلك في السياسة لجعل
السُّلطة أهل اليمين والمعارضة من أهل اليسار، فتحسن
السُّلطة وتقبح المعارضة.
١٣ ويُستثنى الملائكة والأنبياء وسبعون ألفًا من
هذه الأمة ومن تبعهم من الحساب، وهم الذين وصلت أعمالهم
الحسنة من البداهة بحيث تصبح نتيجة الحساب معروفة سلفًا.
وأفضل من يُحاسَب وأولهم أبو بكر. وماذا عن الصِّبية
والمجانين والمعذَّبين في الأرض؟ ولماذا يُستثنى سبعون
ألفًا يتبع كلًّا منهم سبعون ألفًا، فتكون النتيجة
٤٩٠٠٠٠٠٠٠٠؛ أي ما يقارب الخمسة مليارات، وهو ما يعادل
سكان الأرض تقريبًا؟ وهل التقليد يُغنِي عن الحساب؟ وإن
استثناء المعصومين من الحساب يدل أيضًا على أثرٍ شيعي، وأن
كل فريق يستثني أصحابه بأن الحساب، ويضع فيه خصومه. وتكون
أمة الإسلام آخر أمة في الحساب، مع أنها أولها في الفضل
والخير، فهل هذا عدل أم كرم أم موضوعيةٌ صِرفة؟ هل لأن
أخطاءها قليلة أم إن مسئولياتها جسام؟ أليست محتلة
ومتخلِّفة ومقهورة ومستغَلة ومجزَّأة ومغرَّبة ولا مبالية،
تعرف الحق ولا تعمل به، وهو أسوأ ممَّا لا يعرف الحق؟ هل
سيكون ترتيب الحساب للأمم طبقًا لترتيب ظهور الأنبياء، وهو
أقرب إلى العدل، ومراعاةً لتطور التاريخ؟ مع العلم بأن آخر
المُحاسَبين هو أطول الواقفين والمنتظرين! لذلك كان
الفضلاء أول المُحاسَبين من كل أمة، وأسهلهم وأسرعهم
حسابًا. وإذا تم إنكار الحساب للكل، أو حساب الكفار وحدهم،
فلأن نتائج الأعمال جزء لا يتجزأ منها، وتحتوي على الثواب
والعقاب من داخلها. فالحساب هنا زيادةٌ خارجية وإضافةٌ
صورية على شيء قد تحقَّق بالفعل. وكيف يُحاسَب مَن جهل
الحق نظرًا، وهو حال الكفار، ولم يجد عليه برهانًا؟ قد
يُحاسَب على أعماله الطبيعية وعقله البديهي بطريقةٍ أسرع
وأسهل وأخف.
١٤ ويكون الحساب والمساءلة، أي السؤال والجواب،
وأخذ الأقوال، وفتح محضر التحقيق، حتى يمكن نزع الاعتراف
من المتَّهَم حتى تثبت التهمة عليه.
١٥
وبعد الحساب والمساءلة يأتي الميزان؛ إذ هناك ترتيب في
أمور الحساب. الميزان قبل الصراط وبعد الحساب.
١٦ والسؤال هو: هل هو ميزانٌ ذو لسان وكفتَين؟
ولماذا تكون الكفتان من ذهب؟ وهل هناك صنج؛ أي وحدات قياس؟
١٧ والذهب مادةٌ قيِّمة تسترعي الانتباه، وتُثير
الخيال، وتدل على العظمة والشرف أكثر من الحديد والنحاس،
فينضمُّ قياس المرتبة والشرف والأولى إلى قياس الغائب على
الشاهد، ولكن ما هو الموزون؟ إذا كانت صحائف الأعمال فهي
رقائق؛ صحف من ورق أو من جلد، ثقلها أو خفتها لنوعها وليس
للكتابة فيها. هل الموزون جسمٌ يخفُّ ويثقل؟ هل هو كاغدٌ
مكتوب عليه خيرات العباد وشرورهم، ثم يخلق الله فيه ثقلًا
أو خفة فيترجَّح به الميزان؟ إن لكل شيء ميزانًا، المعيار
للخفة والثقل، والمكيال للأحجام، والذراع والفرسخ والميل
للمسافات، والعدد للمعدودات، وميزان الأعمال والأقوال ما
يليق بها. ومع ذلك يظل السؤال: هل الموزون الأعمال أم
صحائف الأعمال؟ المعاني والقِيم أم تشخيصها في صحفٍ
مكتوبة؟ وهل الأعمال حبر على ورق، ومداد على صحائف؟ وماذا
عن صنف الورق أو الجلد وعدد الصحائف؟ قد تكون صحائف الخير
على ورقٍ رقيقٍ شفَّاف، وصحائف الشر على ورقٍ غليظ، فترجح
كفة الشر على الخير. وما نوع الخط ونظامه وكيفية كتابته؟
فقد يُكتب الكثير في مساحةٍ قليلة، وقد يُكتب القليل في
مساحةٍ كبيرة على ما هو معروف في فن الخط العربي. تُوزَن
الحسنات في كفة من نور، وتُوزَن السيئات في كفةٍ أخرى من
ظلمة، وكأن نوع الأعمال يؤثِّر في كل كفة تأثيرًا من نوعه.
والأمر كله تشبيه وتخييل تعبيرًا عن أحكامٍ قيِّمة، ولكن
هل يمكن إثبات الميزان ونفي وزن الأعراض لأنها لا وزن لها؟
وكيف تدخل الأعراض في الحساب؟ إن عدم وزن الأعراض هو أحد
حجج النفي؛ وبالتالي يكون الموقفان، إما إثبات الميزان
الحسي أو إثبات الميزان المعنوي.
١٨ ويزداد تفصيل الصحف، نوعها ومكان تعليقها
وكيفية أخذها وقراءتها؛ فكتاب المؤمن أبيض، وكتاب الكافر
أسود. وهي لغة النور التشبيهية التي تعبِّر عن التقابل بين
النور والظلمة تشبيهًا للحسنة والسيئة، ولكن كيف تأتي
الكتب وتُعلَّق في العنق؟ تطيِّرها الريح من خِزانة تحت
العرش، فلا تُخطئ كل صحيفة عنق صاحبها، ثم تأخذها الملائكة
فتُعطيها لهم باليد. إلى هذا الحد بلغت دقة التصويب!
ولماذا لا تأتي في اليد مباشرةً وتأتي على حركتَين؟ ويدخل
أبو بكر كرئيسٍ بلا صحف؛ لأن حسناته بديهية وأكثر من
سيئاته. وعمر أول من يأخذها بيمينه كدليل على منهجَين؛
النص عند أبي بكر، والواقع عند عمر. وأبو مسلم أول من
يأخذها بشماله؛ لأنه أول من حارب النبي يوم بدر. فهذا
تصوير لمواقف دنيوية. يأتي ليأخذ كتابه بيمينه، فيجذبه
ملك، فيخلع يده، فيأخذه بشماله وراء ظهره. وهي صورةٌ فنية
أقرب إلى الحركات المسرحية لتصوير الصراع بين الخير والشر،
والتقابل بين الحسنة والسيئة. وإذا كانت «لا إله إلا الله»
مكتوبة في صحيفة، فإنها تُعادل كل السيئات، وكأن الإعلان
عن التوحيد مجرد عبارة مكتوبة، وليست شهادةً فعلية بالقول
والعمل، بالإقرار وبالفعل. وهل يقرأ كل إنسان كتابه أم
يُقرأ عليه؟ وماذا عن الأمي؟ وماذا عن الأعمى أو الأصم؟
وبأية لغة تُكتَب الصحف وتتم قراءتها؟
١٩ والذي يزن الأعمال هو جبريل مع أنها ليست
وظيفته، ويقوم ميكائيل أمينًا على جبريل منعًا للسهو أو للخطأ،
٢٠ ولكن هل يزن الله بنفسه أم ينظر إلى الملائكة
تزن بدلًا عنه؟ وقد تُوزَن بعض الأشياء بذاتها في غير ما
حاجة إلى وازن، الحكم بالنفس على النفس. فهل هذا ممكن؟ هل
تتوفر الأمانة في حساب الذات خاصةً ولو كانت السيئات أعظم؟
وما السبب؟ هل انشغال الملائكة وترفع الله أم بلاءً
وامتحانًا للمؤمن أو ثقةً به؟ وماذا لو رغب المؤمن أيضًا
زيادة مراتبه في الجنة وأفاض المكيال ووفى الميزان؟ ولماذا
يُستثنى سبعون ألفًا من الميزان يدخلون الجنة بغير حساب
ولا صحف؟ وبأي مقياس يتم الاختيار؟ وهل هو ميزانٌ واحد
بالرغم من تعدد الخلق، أم هي موازين عِدة متشابهة يجمعها
اسم الجنس أو النوع؟ إن كل هذه التساؤلات تجعل الميزان
مجرد صورة حسية للعدل والقسطاس سيرًا على طبقة التخييل،
وهي أساس الإعجاز عند البلاغيين، ولا ترفض إحالة الموضوع
كله إلى مقررات العقول؛ فالتأويل هو السبيل للخروج من جدل
الإثبات والنفي. وجعل الموضوع كله خارج عقول البشر هو هدم
لإمكانية تأسيس العلم طبقًا لنظرية العلم في المقدمات
النظرية الأولى. والإثبات ثم التوقف في الكيف تحصيل حاصل،
خطوة إلى الإمام وخطوة إلى الخلف.
٢١
وما دامت هناك صحفٌ منشورة أو معلَّقة، فهناك كتبة،
وكتبة من الملائكة. وما دامت هناك صحيفتان، فهناك ملكان،
وكأن ملكًا واحدًا لا يكفي لكتابة الحسنات والسيئات، أو أن
اليد الكريمة التي تخطُّ الحسنات لتستنكف أن تخطَّ
السيئات. وكيف يكون هناك ملاك للسيئات؟ أليس ذلك تناقضًا
بين الفاعل والفعل، بين الشخص والوظيفة؟ الأقرب إلى كتابة
السيئات أن يكون الشيطان الذي يُسَر بكتابة السيئات ويحزن
لكتابة الحسنات. وأين ستحدث الكتابة في الدنيا مكان الحدث
أم في الآخرة مكان التسجيل؟ وبأي لغة؟ وبأي قلم؟ وفي أي
قرطاس؟ وهل يخفى على علم الله شيء حتى تُدوَّن أفعال
العباد؟ قد يكون ذلك احترامًا للتدوين وتنفيذًا للشرع في
كتابة الوصاية والديون والعقود. وهل يعرف الملائكة القراءة
والكتابة وعديدًا من اللغات واللهجات للأمة الإسلامية؟
وماذا عن الأمم والشعوب الأخرى ولغاتها وأفعالها وقِيمها؟
هل هناك مقاييس للحكم على الأفعال؟ وهل الأفعال من الوضوح
بحيث يسهل تصنيفها بين الخير والشر؟ وكيف يمكن تقييم الفعل
وهو مُتشابِك بين النية والغاية، بين القدرة والقيمة؟ وهل
على الملاك ملاك إلى ما لا نهاية؟ وهل على الجن والشياطين
والأنبياء والأولياء والصالحين ملائكة؟ وماذا يفعل ملك
الشمال الذي لا يجد شيئًا يكتبه للملائكة والأنبياء
والأولياء والصالحين والمعصوم، في حين يئنُّ ملك اليمين من
كثرة الكتابة وتدوينه للحسنات؟ وماذا سيفعل ملك اليمين
الذي لا يجد شيئًا يكتبه للكفار وللذين حبطت أعمالهم،
بينما يئنُّ ملك الشمال من كثرة كتابته للسيئات والمعاصي؟
هل في ذلك مساواة للأعمال؟ وإذا كان الكتبة يُفارقون
الإنسان في أوقات البول والغائط وعند الجماع والغسل، ولا
يفارقونه ما دون ذلك، ولو كان في بيته جرس أو كلب أو صورة،
فهل يمكن للإنسان أن يأتي ما يشاء من أفعال في هذه الأوقات
وهو ضامن عدم التسجيل عليه؟ ولماذا لا يُفارق الحفظة العبد
في هذه الأوقات مثل الكتبة، ويُصرُّون على مصاحبته؟ هل
يحفظونه من الضرر، أو لما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل
أو اعتقاد؟ وهل الإنسان عاجز عن أن يحرس نفسه بنفسه؟ وكيف
تقع المصائب للإنسان وعليه حفظة؟ وإذا كان القدماء لا
يعرفون كيفية ذلك، فلماذا إدخاله في علم العقائد، وهو علم
مهمته النظر والبحث عن الأسس العقلية التي تقوم عليها
دفعًا للشبهات عنها؟
٢٢ وقد تزداد التفصيلات حول المكتوب والكتبة؛
فالمكتوب ليس الأقوال، بل الأفعال والاعتقادات والنيات،
كذِكر القلب سرًّا بعلامة يعرفونها بها، ولكن أليس من
الأقوال ما هو بمثابة الأفعال؛ فالكلمة إعلان عن حق وأمر
بفعل؟ ولماذا لا تُكتَب الأقوال بينما تُكتَب النيات
والاعتقادات؟ وماذا تفعل الكتبة بما يهمُّ الإنسان به دون
أن يفعله؟ وماذا تفعل بما تاب الإنسان عنه؟ هل تمحوه؟
وماذا تفعل بالأفعال الجماعية؟ لأي الأفراد تنسبها؟ وكيف
تحدِّد الكتبة المسئولية في الأفعال المشتركة؟ وإذا كانت
أفعال الصِّبية والمجانين لا تُدوَّن لأنها ليست أفعال
تكليف، فهل لهم كتبة؟ وماذا يفعلون؟ وماذا تفعل الكتبة في
أفعال الكفار؟ كيف تقيِّمها، خاصةً إذا أتى الكافر بأفعالٍ
صادقةٍ حسنة النية؟ وقد يزداد العدد من اثنَين إلى أربعة
أو عشرة أو عشرين، عشرة بالنهار وعشرة بالليل بالتناوب،
وكأن الملائكة ينتابها تعب ونصب! بل وتتحدد أماكنها؛ واحد
عن يمينه، وواحد عن شماله، واثنان بين يدَيه، واثنان على
حاجبَيه، وواحدٌ قابض على ناصيته، إن تواضع رفع وإن تكبَّر
خفض، واثنان على شفتَيه لا يحفظان عليه إلا الصلاة،
والعاشر يحرسه من الحية أن تدخل فاه! فاليمين والشمال
مفهوم لتدوين الحسنات والسيئات، ولكن ما وظيفة الملكَين
بين يدَيه وعلى حاجبَيه؟ هل يكتبان ما تفعل يداه وما تنظر
عيناه؟ وإذا كانت وظيفة الاثنين على الشفتَين الحفاظ على
الصلاة، فأين صِدق النية والعزم دونما حاجة إلى ملكَين؟ أم
إن وظيفتهما تدوين الأقوال وكل ما يخرج أو يدخل من الفم؟
أما هذا العاشر الذي يحرس الإنسان من أن تدخل الحية في
فمه، فأين هذه الحية؟ وماذا تعني؟ وهل رأينا إنسانًا تدخل
حية في فمه إلا إذا كان ساحرًا؟ وكيف يقِف الملكان على
الحاجبَين والشفتَين وكأنهما حواة أو بهلوانات في سِرك؟
ولماذا يراجع الإنسان ما دوَّن الملكان كل يوم خميس حتى
يُقرَّ بما فعل ويلقى ما سواه؟ وهل يُخطئ الملكان في
التدوين وتكون الرقابة في النهاية للإنسان عن نفسه؟ وماذا
لو نشأ نزاع بينهما، بين الإنسان والملائكة، فمن الحكم؟
ولمن القول الفصل؟ قد يعني الملكان مجرد شهود بين الله
وخلقه طبقًا لقانون العدل وضرورة الشهود على ما هو معروف
في الدنيا وفي الشرع.
٢٣ وقد تكون هناك صلة بين هذا التدوين وما يحدث
في المجتمعات الحالية من تدوين كل شيء على الإنسان، وتسجيل
ما يصدر منه من أقوال وأفعال، ورصد ما يبدو منه من حركات
وسكنات، واستعمال شتى وسائل جمع المعلومات وأجهزة التصنت
والتجسس على حياة الناس الخاصة والعامة. ففي مجتمعاتنا
رقباء على الرقباء، ومتصنِّتون على المتصنِّتين، حتى تتجمع
الخيوط كلها في يد الحاكم الأعظم. وقد يُسمَّى الملكان؛
فأحدهما رقيب والآخر عتيد، أسوةً بمنكر ونكير. وبصرف النظر
عن الأسماء، هل تشير إلى مسميات أم لا، فقد تشير الأسماء
إلى وظائف، وليس إلى أشخاص وظائف الرقابة والحفظ. ولما
كانت ثنائية الخير والشر أصيلة في الخيال الشعبي، فالأول
لكتابة الحسنات والثاني لكتابة السيئات، يُلازمانه طيلة
حياته، يدوِّنان حسناته وسيئاته. وهذا يتطلب عددًا من
الملائكة ضعف عدد البشر في الماضي والحاضر والمستقبل؛ حتى
يكفي بالناس، لكل فرد اثنان. وقد يكون لكل فرد ملكان؛
اثنان بالنهار واثنان بالليل؛ فتكون الملائكة أربعة
يتعاقبون عند صلاة العصر وصلاة الصبح؛ أي بعد منتصف النهار
وبعد منتصف الليل؛ وبالتالي يكون عدد الملائكة أربعة أضعاف
عدد البشر، ولا يتغايران عليه ما دام حيًّا. وإذا مات
يقومان على قبره يسبِّحان ويكبِّران ويهلِّلان، ويكتبان
ثوابه إلى يوم القيامة إن كان مؤمنًا، ويلعنانه إلى يوم
القيامة إن كان كافرًا. دورهم إذن يتعدى دور الكتبة إلى
دور الحاكم والمُقيم والداعي بالخير أو الشر، بالبركات أو
اللعنات. يدوِّنان الأعمال في الزمان والمكان لمزيد من
الضبط والإحكام. ملك اليمين أمير على ملك اليسار، ولا يكتب
ملك اليسار شيئًا إلا بإذن ملك اليمين. لا تُدوَّن السيئة
إلا بعد ست ساعات من وقوعها؛ فلعلَّ الإنسان يتوب عنها.
ولماذا ست ساعات تمامًا لا أقل ولا أكثر؟ وهل يُعطي ذلك
الإنسان الحق في أن يفعل ما يشاء ثم يتوب عنه قبل انقضاء
الساعات الست بدقيقتَين، أم إن ذاك يُعتبَر نوعًا من
الحِيل الفقهية أو سوء النية في الأخلاق؟ فإذا ما انقضت
الساعات الست، لماذا يدعو عليه الملاك بالموت ويُناصبه
العداء؟ ألم تنشأ بينهما صداقة طول العمر؟
٢٤ والحقيقة أن هناك اشتباهًا بين جعل الكتابة
بكاتبَين وآلة وقرطاس ومداد، وجعلها كنايةً عن الحفظ
والعلم. وقد يصل التشبيه إلى حد جعل الملكَين معلَّقَين
على ناجذَي الإنسان أو عاتقَيه أو عنقه أو ذقنه. وقد تتعدد
الكتب؛ فهناك كتب أعمال العباد، وهناك كتب اللوح المحفوظ،
وهناك كتب الملائكة التي بها أوامر التصرف في العالم. صحف
الحفظة موضوعة تحت العرش رمزًا للحفظ في الخزانة. وما
الحاجة إلى كل هذه الكتب والتدوين البعدي فيها بعد وقوع
الحوادث، واللوح المحفوظ قد دُوِّن فيه كل شيء مِن قبل؟ إن
الهدف من كل ذلك هو مجرد تصوير فني للرقابة على النفس،
ومعرفة النفس بكل أفعالها لتذكِّر الإنسان بأن كل شيء
معروف، وأنه لا أسرار هناك تُكتم وتخفى. ويحدث ذلك خاصةً
بالنسبة لأفعال الحلال والحرام، أو حتى أفعال الندب
والكراهة. أما أفعال الإباحة فإنها لا تُكتَب؛ لأنها لا
تتطلب رقابةً نفسية، بل مجرد تعبير عن طبيعة.
٢٥
وإنطاق الجوارح للشهادة على الإنسان. فالجوارح التي قامت
بالأفعال؛ أي الأعضاء المباشرة مثل الأيدي والأرجل والألسن
والسمع والبصر والجلد، بالإضافة إلى الأرض؛ أي المكان،
والليل والنهار؛ أي الزمان؛ فالفاعل وميدان الفعل مكانًا
وزمانًا، الكل يشهد على الفعل. وقد تتكلم الأعضاء بلا
لسان، وقد يشهد كل عضو بمفرده طالما أن له بنيةً حية
ويتكلم بلا لسان، أو قد ينوب اللسان في الشهادة عنه.
والشهادة الأولى أقوى؛ لأنها مباشرة ولا وسيط، وأبلغ من
حيث الخيال الشعبي. وسواء نطقت الجوارح أم أنطقها الله،
فإن المهم هو شهادتها على الإنسان في أفعاله، وإلا لتحوَّل
الموضوع إلى صفة القدرة في مبحث الصفات. ويبدو هنا أيضًا
رصيد المعجزات في إنطاق الجوارح، وكيف أن رصيد النبوة
يصبُّ في المعاد؛ فنطق العجماء مثل إنطاق الجوارح؛ فإذا
كانت الأفعال في الدنيا تدور في نطاق السر والكتمان، فإنها
في المعاد تصبح مكشوفة على الملأ وأمام الأشهاد، وابتداءً
من البدن في الزمان والمكان.
٢٦
(٣) العرش، والكرسي، والقلم، واللوح
وكلها مَناظر القاضي على منصة الحكم؛ العرش والكرسي،
وبعده القلم واللوح، وبه سِجل الأعمال والكاتبون؛ أي
الكتبة الكرام.
٢٧
فالعرش جسمٌ عظيم، والعِظم عكس الصغر، مصنوع من نور عكس
الظلام، عُلوي ضد السفل، من زبرجدة؛ أي من أحجارٍ كريمة في
مقابل الأحجار العادية. لونها أخضر، وهو اللون الديني
المفضَّل لعباءة النبي وللطُّرق الصوفية، أو أحمر وهو لون
الحمية والنار والفاعلية والشيطان. ليس كرويًّا، بل قبة
فوق العالم؛ ممَّا يدل على الاحتواء، فالتحديب أفضل وأسمى
من التقعير. أعمدته أربعة، وهي صورة للعرش والحمل. تحمله
الملائكة كمحفة تأكيدًا للعظمة، وفي الآخرة ثمانية زيادةً
في العظمة. تصل رءوس الملائكة عند العرش في السماء السابعة
وأقدامهم في الأرض السفلى؛ تعبيرًا عن طول القامة وعِظم
المهابة،
أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. قرونهم كقرون
الوعل، ما بين قرن وقرن خمسمائة عام؛ ممَّا يدل على اتساع
الجبهة كي تقدر على حمل العرش. وعِظم الحامل يدل على عظمة
المحمول. ومع أن صورة القرن للشيطان وليس للملاك، إلا أن
الوعل المقرن صورةٌ بدويةٌ كريمة.
٢٨ وكل ذلك رجم بالغيب وقول بلا دليل.
أما الكرسي فهو أيضًا جسمٌ عظيم من نورٍ تحت العرش،
مُلتصِق به، فوق السماء السابعة، ثابت معه لا يتزحزح،
والسماء السابعة أعلى وأشرف من السموات الست الأولى طبقًا
للعدد الرمزي سبعة، بين الكرسي والعرش مسيرة خمسمائة عام؛
فالعدد خمسة أيضًا عددٌ رمزي في الديانات القديمة، في
اليهودية والنصرانية وفي أطراف الإنسان. والقصد هو الدلالة
على العظمة. اتساع الكرسي والعرش مثل اتساع جبهة الوعل،
والتقدير بالمسيرة الزمنية أعظم وأبعد من التقدير بالمسافة المكانية.
٢٩
والقلم جسمٌ عظيم يتناسق مع الكاتب واللوح وعِظم المادة
المكتوبة، مصنوع من نور، فالنور مادةٌ شفافة، والشفاف أرقى
من المُعتِم. وقد يكون مصنوعًا من اليراع، وهو القصب؛ حتى
يكون أسوة بقلم الدنيا الذي يستعمله الخطاط لتحسين الكتابة
وتجميلها. يخطُّ كل شيء، وكأن القلم جبريٌّ يتفق مع عقيدة
الجبر؛ فالجبر في الأفعال يتفق مع التجسيم في أمور المعاد.
وهذا يتناقض مع صحائف الأعمال عند الكتبة الذين يكتبون
علمًا بعديًّا، في حين يكتب هذا القلم علمًا قبليًّا.
والعلم القبلي الذي أمر الله بكتابته أشرف من العلم البعدي
عند الكتبة.
٣٠
والكاتبون هم الذين يدوِّنون ما في صحف الملائكة
الموكَّلين بالتصرف في العالم كل عام أولًا بأول، ثم
يدوِّنون كتابًا واحدًا به جميع ما كتبوا في الصحف
المتفرِّقة، ويضعونه تحت العرش. هناك إذن ثلاثة كتب: صحف
الأعمال التي يدوِّنها الملكان في الدنيا، وصحف الملائكة
التي يكتب فيها الكاتبون أوامرهم كل عام، وكتاب تُجمَع فيه
هذه الأوامر تحت العرش، نسخةٌ أخرى جامعةٌ عند الله في خزانته.
٣١
أما اللوح فإنه ليس للكاتبين ولا للكتبة؛ لأنه لا يكتب
فيه أحد من الملائكة بالقلم على قرطاس، وبمداد وخط، ولكن
يُكتَب فيه بمجرد القدرة الإلهية. مصنوع أيضًا من نور،
فالنور أشرف من الظلام، وله وجهان؛ أحدهما به ياقوتة
حمراء، والآخر به زمردة خضراء؛ أي إنه قلمٌ مُزركَش مثل
أقلام الأغنياء وعلية القوم، وهو أشرف من أقلام الرصاص أو
الأقلام الجافة عند عامة الناس، تتهادى بها النخبة،
وتوقِّع بها المعاهدات بين الدول. واللون الأخضر لونٌ
قدسي، لون عمامة النبي ووشاح الصوفي وبيارقه، واللون
الأحمر لون الشفق والفورة والهيجان،
٣٢ وهما الحجران الكريمان نفسهما الموجودان في
العرش. يُكتَب فيه العلم القبلي، العلم الإلهي قبل أن تقع
الحوادث، ويكتبها الكتبة في صحف الأعمال كعلمٍ بعدي. هناك
إذن أربعة كتب من الأدنى إلى الأعلى: صحف الأعمال يكتبها
الكتبة كعلمٍ بعدي بعد حدوث الأفعال، وصحف الملائكة التي
يكتب فيها الكاتبون أوامر الله لهم كل عام، ينقلونها من
اللوح المحفوظ كنوع من تكليف الأعمال، والكتاب الذي تُجمَع
فيه هذه الأوامر كلها ويُوضَع تحت العرش في خزائن الله،
وكما يحدث في الدنيا في أرشيف صاحب العمل أو رئيس الديوان،
وأخيرًا اللوح المحفوظ الذي تضع فيه القدرة الإلهية العلم
الإلهي مدوَّنًا، فيكون في الأعيان وليس فقط في الأذهان.
وإن دعوة القدماء بالإمساك عن الجزم عن اليقين تعني أن كل
ذلك قياس للغائب على الشاهد، ورجم بالغيب.
(٤) الصراط
والصراط هو الطريق إلى الجنة أو إلى النار بعد انتهاء
الحساب والحكم بالثواب أو العقاب، وكأن المؤمن أو الكافر
لا يستطيع أن يدخل كلٌّ منهما الجنة أو النار مباشرةً ومن
أوسع الأبواب، بل لا بد للمرور في طريق هو الصراط، خروجًا
من قاعة المحكمة إما إلى العالم الفسيح إذا كان بريئًا، أو
إلى ظلمات السجن إذا كان مُذنِبًا. قد يكون ذلك إجحافًا
بالمؤمن الذي يود أن يقفز من قاعة المحكمة إلى رحابة
العالم دون المرور بالصراط، وحتى لا يتساوى مع الكافر الذي
يستحق السير في الدهليز الطويل. وكما يكون ممدودًا إلى
الجنة والنار، فإنه قد يكون ممدودًا بينهما مثل الأعراف،
وقد يكون ممدودًا إلى النار فقط، وقد يكون منصوبًا فوق
جهنم، وقد يكون ممدودًا بين النار والجنة؛ النار أولًا
والجنة ثانيًا. والأفضل أن يكون منذ مخرج القاعة معبران؛
معبر للمؤمنين ومعبر للكافرين؛ حتى لا يختلط المؤمن
بالكافر بعد الحساب. وقد يكون الصراط بين ظهراني جهنم،
وليس معبرًا فوقها.
وفي هذه الحالة، ما ذنب المؤمن كي يسير فيه ويمر إلى
الجنة من خلال جهنم؟ الأقرب ألا يمر عليه الكفار، بل
يذهبون إلى النار قذفًا أو تعذيبًا إلا إذا كان المقصود
العذاب البطيء، وألا يمر عليه المؤمنون إلا إذا كان
المقصود تشويقًا إلى الجنة وتمرينًا لهم على النعيم؛ حتى
لا يُصابوا بصدمةٍ عصبية عند رؤية الحور العين. وقد يكون
الصراط طريقًا واحدًا يتشعب إلى طريقَين؛ طريقٍ يمنى
وطريقٍ يسرى. الأول لأهل السعادة، والثاني لأهل الشقاء.
٣٣ أما بالنسبة إلى شكله أو حجمه، فهو أحد من
السيف وأدق من الشعرة، وهي صورةٌ شعرية تُلهِب الخيال
وتُثير العجب. فهل يستطيع مثل هذا الخيط الرفيع أن يحمل
المؤمنين والكفار كلهم من أول الخليقة حتى آخرها؟ وإذا كان
السير عليه صعبًا وفيه مهلكة، فلماذا يسير عليه المؤمنون
ولا يسير عليه الكفار وحدهم؟ هل يستطيع أن يتحمل ثقل
الإنسانية جمعاء؟ وما طوله؟ وأي قوة تحمله؟ وما بدايته؟
وما نهايته؟ أين يتعلق في البداية والنهاية؟ وهل يتقوس من
ثقل الحمل؟ وهل يمكن ذلك دون أن تكون هناك حوامل أخرى بين
الحين والآخر؟ كيف يسير الناس عليه والوقت زحام شديد،
فرارًا وهرولة؟ وما الترتيب؟ صغارًا وكبارًا؟ أنبياء
وأولياء؟ إنسًا وجنًّا؟ وكيف يكون أحدَّ من السيف وأدق من
الشعرة ويختلف في الضيق والاتساع؟ يبدو أن المبالغة لا
تلتفت إلى التناقض في الصورة الفنية. المهم أن يكون الطريق
طويلًا وعريضًا. وكيف يُقاس الخيط صعودًا وهبوطًا وهو ممتد
أفقيًّا لا رأسيًّا؟ هناك فرق بين السير على الجبل وبين
التسلق عليه.
٣٤ ويختلف الناس من حيث السرعة في السير عليه،
كلٌّ حسب عمله؛ فمنهم من يجتازه اجتياز الريح، مثال
الأنبياء، والبرق الخاطف بلا تعب ولا نصب، وبالمقابل يسير
عليه الكافر ببطء مثل بطء السلحفاة تعذيبًا له. ومتى سيصل
الكافر إلى النار وهو بمثل هذا البطء؟ وهل عذاب السير على
الصراط أعظم من طريق النار؟ إن التباطؤ في مثل هذه الحالة
على الصراط نعيم بالقياس إلى لهيب النار. بل إنه من الأصلح
للكافر أن يتباطأ وأن يزداد طول الصراط إبعادًا لوقت
الحريق قدر الإمكان. إن اختلاف أشكال العبور عليه في
السرعة، مثل البرق والريح والطير والجواد والسعي والمشي
والحبو على الرجلَين أو اليدَين أو الجر على الوجه، لتصوير
اختلاف الأحكام طبقًا للأعمال سيرًا إلى الجنة أو النار.
وهو موقفٌ شعوري وليس موقفًا ماديًّا، إحساس ذاتي وليس
وصفًا موضوعيًّا، ورؤيةٌ كيفية وليست حسابًا كميًّا.
الزمان على الصراط شعوري كالمسافة منه. منهم من يمر عليه
في الأزمان، ومنهم من تستغرق فيه الأعوام والأعوام مثل
أشيل والسلحفاة؛ فالمسافة تُقاس بالزمن ويتحول المكان إلى
زمان. وإذا كان المسير عليه ثلاثة آلاف سنة، فمتى يدخل
الإنسان الجنة أو النار؟
٣٥ يتسع الصراط على أهل الجنة ويضيق على أهل
النار؛ فالمكان شعوريٌّ أسوة بالزمان، وكما تتسع جدران
القبر على المؤمن وتضيق على الكافر، وكما تُفتَح طاقة في
القبر على المؤمن ويختنق الكافر. وأثناء السير على الصراط
تتدخل الملائكة، فتدفع الكفار للوقوع في النار، وهم
مكبَّلون بالنواصي والأقدام، وكأن القسوة والإسراع في
العذاب من شيم الملائكة! ولماذا لا تتدخل ملائكةٌ أخرى
للدفاع عن المؤمنين وحرصهم من الوقوع، أو على الأقل
مساندتهم حتى يصلوا إلى بر الأمان؟ يُوضَع للمؤمنين عليه
مائدة يأكلون منها ما يتدلى من ثمار الجنة، وكأنها وليمة،
وليست امتحانًا أو اختبارًا. وكيف تُنصَب الموائد على
الصراط الذي هو أحدُّ من السيف وأدق من الشعرة؟ وكيف
تُوضَع الموائد والناس من فوق الصراط طوابير الواحد تلو
الآخر؟ وكيف التمييز بين المؤمنين والكافرين إلا إذا كان
هناك طابوران منفصلان لكل فريق، وحتى لا يزاحم الكافر
فيقعد على مائدة المؤمن درءًا للجوع، خاصةً وأنه قد حُرم
الشراب من الحوض في الموقف قبل الحساب؟ وقد يقع الكافر على
الصراط إذا ما تشابكت كلاليبه به وكأنه مسمار، فيتشبَّث به
بكلتا يدَيه، فيعتدل ويسير أعوامًا وأعوامًا. وقد ينجو بعد
ذلك وكأن الأمر جذب لانتباه المشاهدين، وتلاعب بعواطف
النظارة كما هو معروف في الفنون المرئية باسم التعليق
Suspense.
٣٦
وهناك أسئلة على الصراط، وكأن الناس لم يشبعوا أسئلة،
وكأن المحاكمة لم تنتهِ بعد. وهي أسئلةٌ سهلة عن الصلاة
والصوم والزكاة والحج، يعرفها كل إنسان، ولا تمثِّل أية
صعوبة أو امتحان أو ابتلاء أو اختبار. بعض الأسئلة فقط عن
ظلمات الناس وحقوقهم. ويسأل جبريل الناس عن عمرهم فيما
أفنوه، وعن شبابهم فيما أبلوه؛ لأنه هو الموكول بالوحي
والعلم، وعن علمهم ماذا عملوا به. وميكائيل يسأل مع جبريل؛
لأنه هو الموكول بالآجال. وهل من وظائف جبريل وميكائيل
سؤال المؤمنين على الصراط؟
٣٧ وأحيانًا يتدخل الله نفسه لإنقاذ من يشاء
بإرادته المُطلَقة، أو يترك ذلك للمصادفة، وكأن الله
والمصادفة على المستوى نفسه كعوامل مرجِّحة. وما الحكمة من
الصراط ما دام هناك ترجيح من عوامل خارجية؛ الله أو
المصادفة؟ ويختلط الصراط بالأعراف الذي يسير فيه من تساوت
حسناته مع سيئاته ولا يستطيع أن يدخل الجنة أو النار. قد
يتفضل الله عليه فيُدخِله الجنة أو قد يُترَك للمصادفة،
إما إلى الجنة أو إلى النار. والترجيح الأول أقرب إلى
العدل؛ فإنه في حالة تساوي الخير والشر يتغلب الخير؛ لأنه
أقرب إلى الطبيعة. أما ترك الأمر إلى المصادفة فإنه إنكار
لطبيعة الخير إن وقع في الجنة، وتغليب للشر إن وقع في النار.
٣٨ والحقيقة أن الصراط لا يعني شيئًا مجسَّمًا
حسيًّا على ما يصف القدماء، بل يعني مجرد الطريق المستقيم.
ولا سبيل إلى تأويل الروايات التي قد تُوحي بذلك إن لم تكن
ضعيفة أو موضوعة من الخيال الشعبي. والتوقف خطوة إلى
الوراء وخطوة إلى الخلف. والتفويض مجرد إرجاء وتأجيل
للموضوع وإحالته إلى الآخر الأقدر. وأيهما أفضل، الإبقاء
على الظاهرة وتفويضها؛ أي الوقوع في الخطأ ثم إعلان الجهل،
أم تأويلها عقليًّا إنسانيًّا؟ وقد دخلت هذه العقائد كلها
إلى الشروح المتأخِّرة من كتب التصوف عندما ازدوجت به
الأشعرية، وقامت عليه بعد أن ضعف أساسها العقلي الذي منه
قامت في البداية. فالصراط مقدمة للمعراج ما دام الأمر كله
عبورًا وسيرًا وصعودًا. وهناك فرق بين التحليلات العقلية
والأذواق الصوفية.
٣٩ إن اللجوء إلى القدرة الإلهية المُطلَقة لهُو
عود بالمعاد إلى الصفات، وإيثار المعجزة في الدنيا
والآخرة، وكأن إحدى معجزات المعاد السير على الحبل كما هو
الحال في السِّرك والألعاب البهلوانية. وإن الوجود لا يعني
المرور على جسر، بل مجرد العبور إلى جهنم بعد المحاكمة.
فإذا أدَّى الإثبات إلى الإنكار فإن التأويل قادر على
تحويل الشيء إلى معنًى؛ وبالتالي تأصيل العقائد والاقتراب
بالسمعيات من العقليات.
٤٠