(١) هل النبوة واجبة؟
النبوة واجبة على أُسُس ثلاث؛ فهي واجبة أولًا نظرًا
للواجبات العقلية، مثل الصلاح واللطف والعوض والاستحقاق
وطبقًا للحسن والقبح العقليين، ووجوبها ضروري بناءً على
الضرورات العقلية، وهي واجبة ثانيًا لأنها أصلح للعِباد
وبناءً على نظرية الصلاح والأصلح؛ فالإنسان في حاجة إلى
الدخول في معاملات، وإلى علمِ ما يحصل به الانقياد والعون،
والحاجة إلى قوانين وسنن وشرائع، وهي واجبة ثالثًا نظرًا
لأنها لطف من الله طبقًا لنظرية اللطف والألطاف؛ فلما كان
العقل لا يستقل بالتعريفات التشريعية كان لطفًا من الله
وكرمًا منه أن يُتِم نعمته على الإنسان وهو أشرف
المخلوقات؛ ومن ثَم النبوة تعبير عن كرم المبدأ الأول؛
الله، ولطف الله بالعباد، النبوة إذن واجبة بناءً على
الواجبات العقلية ونظريتَي الصلاح واللطف.
٢
وتكون الصعوبة حينئذٍ في كيفية الجمع بين الحسن والقبح
العقليَّين، وقدرة العقل على إدراكهما كصفات موضوعية في
الأفعال، وفي نفس الوقت احتياجه إلى النبوة كعونٍ له على
التكاليف؛ فما دامت التكاليف واجبة عقلًا فإنها لا تحتاج
إلى وجوبٍ ثانٍ بالنبوة، بل إن الصلاح والأصلح واللطف
والألطاف والعوض عن الآلام والاستحقاق كل ذلك من الواجبات
العقلية؛ وبالتالي ليست أساسًا لوجوب النبوة.
وإذا كان التكليف عقليًّا، واستحقاق الثواب والعقاب
عقليًّا، والتنبيه والتحذير تأكيدًا لِما في العقول،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد الأصول العقلية
الخمسة، فكيف تجب النبوة بناءً على هذا الوجوب العقلي
المُكتفي بذاته وإلا كان الوجوب وجوبَين؛ وجوب عقلي ضروري
ووجوب شرعي إضافي زائد لا حكم له؟ وإذا كانت الحياة
امتحانًا واختبارًا وجهدًا ومعاناة، فإن ذلك إنما هو نتاج
لممارسة الحرية، وهي من العقليات وليست من السمعيات
كالنبوة. ليست النبوة إذن من الواجبات العقلية إلا بناءً
على الصلاح واللطف باعتبارهما واجبَين عقليَّين، فإذا ما
حكم العقل أن النبوة بها صلاح العباد ولطف من الله بهم،
تكون واجبة على هذا الأساس كحُكمٍ عقلي بالصلاح واللطف،
وليس كحاجة وعون ومدد نتيجةً لقصور العقل وحاجته إلى وصاية
أو هداية. وما العمل لو حكم العقل باستغنائه عما سواه،
وبقدرته على معرفة الصلاح والأصلح دونما حاجة إلى نبوة؟
٣
والعجيب أن تعتمد إحدى الحركات الإصلاحية الكبرى،
الأشعرية في التوحيد الاعتزالية في العدل، على تبرير واجب
النبوة بهدم العقل والعلم والاجتماع والسياسة؛ أي هدم
أُسُس الدين ذاته، وكأن إثبات وجوب النبوة لا يتم إلا على
حساب الأُسُس الحسية والعقلية والاجتماعية التي تقوم عليها
العقيدة ذاتها؛ وبالتالي لم يبقَ حتى نصف الاعتزال في
العدل، وأصبح نصف الأشعرية في التوحيد هو السائد في موضوع النبوة؛
٤ مما يدل على أن أنصاف الحلول في الحركة
الإصلاحية انتهت إلى الأشعرية السائدة منذ ألف عام، وقد تم
ذلك من قبلُ في حركة إصلاحية سابقة فيما وراء النهر، عندما
تحوَّلَت الماتريدية بعد عدة أجيال إلى الأشعرية
التقليدية، فهل تجب النبوة لأنها تُعطي مجموعة من المعارف
النظرية التي لا يستطيع العقل الوصول إليها؟ هل تُعطي
معرفة الصانع وصفاته والعقل قادر على الوصول إليها بإجماع
نُظار الأمة متكلِّمين وحكماء؟ هل حاجة البشر إلى الرسالة
هي حاجتهم إلى معرفة الغيبيات وفي مقدمتها حياة النفس بعد
مفارقتها البدن وقد أجمع الحكماء على إثباتها بالعقل؟ ولم
تمنع النبوة في كل دين ولدى كل ملة من منعِ فريقٍ من إنكار
خلود النفس ووجود حياة أخرى بعد الموت. إن التوحيد كله
يُمكِن إدراكه بالعقل بما في ذلك الصفات السمعية، وإلا
لَما كوَّن العدل باب العقليات في علم أصول الدين في مقابل
السمعيات ومنها النبوة، وكيف تكون النبوة طريق العلم
بالتوحيد والسمعيات لا تؤدي إلى العقليات؛ فالسمعيات ظن
والعقليات يقين على ما هو معروف في نظرية العلم في
المقدمات النظرية الأولى؟ والصفات كلها مثل الإنسان،
الإنسان الكامل وليس الإنسان المتعين، الإنسان كما ينبغي
أن يكون وليس الإنسان كما هو كائن. وفيمَ الحسن والقبح
العقليان؟ أليست هناك معارف عقلية؛ حسن عقلي وقبح عقلي؟
فالتوحيد حسن عقلي، والشرك قبح عقلي، وإذا خاف الإنسان
الخطأ النظري وقع في التردد والشك وفي الظن والجهل؛ أي في
كل مضادات العلم، فإن العقل قادر على بث الطمأنينة فيه
وتحويل التردد والشك إلى قطع، والظن إلى يقين، والعلم إلى
جهل، وإذا كانت الحاجة إلى النبوة هي أنها تُشير على العقل
بطرق الاستدلال، أليس العقل قادرًا على ذلك وهو واضع منطق
البرهان؟ وهل النبوة منطق صوري أم منهاج عملي للناس؟ وهل
تُعطي النبوة هذا المنطق الاستدلالي عن طريق النص أم أنها
في حاجة إلى العقل لاستخراج هذا المنطق؛ وبالتالي يكون من
عمل العقل في النبوة وليس من عمل النبوة وحدها؟
٥ فإذا ما اكتفت النبوة في منطق الاستدلال بالنص
وحده، فإنه يظل ظنيًّا لاعتماده على النص ولا يتحول إلى
يقين إلا بالعقل، على ما هو معروف في باب الأدلة في نظرية
العلم في المقدمات النظرية الأولى.
٦ إن العقل قادر على صياغة منطق للبرهان يقوم
على أوليات العقل وبداهات الحس وشهادة الوجدان، كما أنه
قادر على وضع نظرية في الصدق يُمكِن بها التحقق من صحة
نتائجه وصدق براهينه، في حين يظل البرهان على صدق النبوة
خارجيًّا محضًا إذا كان هو المعجزة، أو ذاتيًّا خالصًا إذا
كان مجرد الإيمان. يبدو أن الوحي ما زال معروضًا حتى في
الحركات الإصلاحية الحديثة على أنه نظرية في النبوة؛ أي
الوحي الرأسي مصدر المعارف النظرية، في حين أن الوحي ليس
فقط نظرية في النبوة، بل نظرية في التاريخ؛ أي الوحي
الأفقي مصدر التشريع العملي والأساس النظري للعمل الفردي
والجماعي؛ لذلك سرعان ما تحوَّلَت نظرية النبوة كوعيٍ رأسي
في الحركة الإصلاحية الحديثة إلى نظرية إشراقية صوفية،
وانتقلت من الفلسفة إلى التصوف، وتحوَّل النبي من منظِّر
وقائد إلى صوفي وولي. إن تفاوُت العقول في الإدراك لا يعني
أيَّ نقص في العقل، بل يعني خطأً في استعماله، ويُمكِن
بمنطق البرهان وبنظرية الصدق وبالمراجعة والاستدلال
المشترك تجاوزُ اختلاف العقول والوصول إلى الاتفاق بينها،
واتفاق العقلاء أولى من اختلافهم، وبداهات العقول
وأولياتها واحدة، عامة وشاملة، لا اختلاف عليها بين
العقلاء، والنبوة لا أسرار فيها ولا غموض، بل أفكار واضحة
ومتميِّزة يُمكِن إدراكها بالعقل السليم والتحقق من صدقها بالبرهان.
٧
هل تجب النبوة لحاجة الإنسان إلى التجريب، وكأن الإنسان
قاصر على استخدام الحواس والاعتماد على المحسوسات
والمشاهدات والمجربات وهي جزء من المعلومات طبقًا لنظرية
العلم في المقدمات النظرية الأولى؟ التجريب موضوع العلم
التجريبي ومادته الأولى، وقد برع القدماء في العلوم
التجريبية في الطبيعة والكيمياء والأدوية والطب، ولم
يكتفوا بالطب النبوي، وأسَّسوا المبادئ العامة للطب
التجريبي، ونقدوا المنطق الصوري، ووضعوا قواعد المنهج
التجريبي. العلم التجريبي علمٌ إنساني يهدف كالعلم العقلي
إلى الكشف عن قوانين الطبيعة من أجل السيطرة عليها
وتسخيرها لصالح الإنسان، وما فائدته إن كانت النبوة تغني
عنه؟ والمعروف تاريخيًّا أن العلوم النبوية كانت أقرب إلى
العلوم الإشراقية الصوفية منها إلى العلوم العقلية
التجريبية، لا تحتوي النبوة على أُسُس علم الفلك وإن كانت
توجِّه الشعور نحو الطبيعة والتأمل في الكون والنظر إلى
الأهِلة لمعرفة المواقيت، حتى يأتي العقل والتجريب ليضع
قواعد علم الفلك وأصوله. إن الصناعات والعلوم التجريبية من
اكتشاف الإنسان واختراعه؛ لذلك كانت الطبيعيات سابقة على
الإلهيات في علوم الحكمة، كما كان المنطق سابقًا على
الطبيعيات؛ فالعقل والتجريب سابقان على النبوة، بل والطريق
إليها، كما أن العقل والطبيعة سابقان على النظر إلى الله
والطريق إليه، كما بان من قبل في نظرية الوجود في المقدمات
النظرية الأولى أن المُحدَث هو الطريق إلى القديم وأن
الصنع دليل على وجود الصانع.
٨
هل تجب النبوة لحاجات عملية؛ أي للتنفيذ والتحقيق وأداء
الرسالة، ما دام الإنسان غير قادر على سن القوانين وتأسيس
الشرائع وإقامة الدول أو تجنيد الجماهير وتوجيه الأمم وفتح البلدان؟
٩ ألا يُمكِن للعقل قيادة المجتمعات مثل قيادة
الإمام لها؟ هناك أيضًا العقل الاجتماعي والعقل السياسي
والعقل التاريخي لوضع القوانين وسن الشرائع. صحيحٌ أن
النبوة تحتوي على تشريع، ولكنها توجيهات عامة في حاجة إلى
تفصيلات واستنتاجات من العقل والواقع، من واقع المجتمع
واستقراء حوادث التاريخ. صحيحٌ أن النبوة تحتوي على بعض
التوجيهات الخلقية والإرشادات العملية، ولكن لا تكفي
الدعوة إلى المحبة والتعاون أن تكون أساسًا لتكوين المجتمع
الإنساني، وهل النبوة في نهاية الأمر نظرية في التأليف
الاجتماعي أم في الصراع الاجتماعي؟ هل وظيفة النبوة حل
الصراع الاجتماعي أم حسمه؟ إيقافه أم حله؟ إن المجتمع في
حاجة لفهم تركيبه وقوانين حركته وصراعه إلى أكثر من المحبة
والعدل والمبادئ العامة والقيم النظرية. صحيحٌ أن الحاجة
إلى التعاون وتأسيس المجتمعات وإقامة الدول تكشف عن الأساس
الاجتماعي للوحي وعن البعد الأفقي له، كما تكشف المعارف
النظرية عن البعد الرأسي فيه، ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان
قاصر عن إدراك الحقائق الاجتماعية وعاجز عن توجيه الأمور
العملية، وتأسيس الدول، وتدبير الملك. إن علوم السياسة
والاجتماع والقانون والتاريخ أيضًا من وضع الإنسان مثل
باقي العلوم العقلية والتجريبية. ولماذا تُهدَم القوانين
الإنسانية وتُبيَّن مفاسدها وعيوبها من أجل إثبات وجوب
الشرائع النبوية؟ ألا تثبت النبوة إلا على أنقاض البشرية؟
إن تغيُّر القوانين البشرية ليس عيبًا بل تطوُّر واجتهاد،
كما هو الحال في الفقه، وإن اختلاف الطبائع والشعوب وارد
في القوانين البشرية والشرائع الإلهية على حدٍّ سواء.
١٠ وإن هذا التضارب
بين القانون البشري
والقانون السماوي لهو أساس الثنائية في وجداننا المعاصر،
وأحد أسباب مصائب عصرنا في الصراع بين الاتجاه العلماني
والحركة السلفية. إن وظيفة الرسل في قيادة الأمم هي نفسها
وظيفة القادة والأبطال، ولم تخلُ البشرية من كلَيهما معًا
دون أن يكون أحد الفريقَين بديلًا عن الآخر أو سببًا
لإيجاده، بل إن رئاسة الأنبياء تقوم على تصوُّر هرمي
للعالم؛ النبي في القمة، والناس في القاعدة، وما بينهما
القواد والوزراء والعمال، طبقًا لنظرية الفيض وترتيب
العقول وترتيب الأجناس والأنواع ومراتب القوى الإنسانية؛
فالنبوة عند القدماء نظام رئاسي هرمي بالضرورة كما هو واضح
في «المدينة الفاضلة»، علاقة الرئيس بالمرءوس علاقة القمة
بالقاعدة أو المركز بالمحيط، وكأن سلطة النبي سلطة مركزية
رئيسية، قاهرة ومسيطِرة، وكأن السلطان لا يكون إلا أعلى
عليين والناس أسفل سافلين!
١١
بالإضافة إلى هذه الفوائد العامة للبعثة التي تجعلها
ضرورية واجبة، هل هناك فوائد أخرى لها على التفصيل؟ هنا
تظهر العبادات على أنها الدافع الأول على ضرورة البعثة،
والتي لا يستطيع العقل أو الواقع الوصول إليها، ولماذا
تكون العبادات ضد العقل والطبيعة ومفروضة عليهما دون أن
تكون تعبيرًا عنهما؟ وهل العقل عادة والشرع عبادة والعادة
لا تكون عبادة؟ إن وضع العقل في مقابل العبادة يجعل
العبادة لا عقلية غير مفهومة وغير معلَّلة بحكمة مع أن
العلة أساس التشريع يُمكِن إدراكها بالعقل والتجريب، ولا
توجد عبادة واحدة، وكل ملة تعبد بشعائرها، وترى فيها أنسب
تعبير عن إيمانها وعقائدها، وإذا كان العمل عبادة فإن
العقل قادر على أن يصل إليه دون أشكال ورموز وصور لا
تعبِّر عن جوهر الإيمان وقصد العقيدة.
١٢
كيف تثبت النبوة إذن كضرورة نظرية وعملية على حساب العقل
من أجل هدمه، وإرادة الإنسان من أجل إعلان عجزه، ودونما
حاجة إلى القدرات البشرية وعلومها وصناعاتها وسياساتها
وشرائعها؟ إن الوحي علم مستقل بذاته يستنبطه الإنسان ويضع
قواعده وأصوله، لا هو بعلوم الدين ولا هو بعلوم الدنيا، هو
علم المبادئ الأولى التي تقوم عليها العلوم جميعًا، وهي
مبادئ عقلية وطبيعية، شعورية ووجودية في آنٍ واحد.
١٣ وإن كل ما يُمكِن التوجه به ضد العقل الإنساني
والقدرة البشرية، يُمكِن التوجه به أيضًا إلى تفسير النبوة
وتأويل الوحي الذي يقوم به عقل الإنسان، وتظهر فيه مصالحه
ويفرض فيها إرادته، وهل سلِم الإيمان من التعصب والجهل؟
أليست القوانين المُستنبَطة من الشرائع النبوية تتدخل فيها
الأهواء الفردية والمصالح الاجتماعية المتضاربة حين
تطبيقها؛ وبالتالي يقضي على حسنها في ذاتها؟ إن الشهرة
والغفلة والنسيان وكل مظاهر النقص الإنساني تعمُّ العقل،
سواءٌ عمل بمفرده أم فسَّر النبوة وأوَّل الوحي، وهل
استطاعت النبوة أن تخفِّف من نقائص الإنسان وهي أول من
يعترف بها؟
١٤ حتى أمور المعاد التي قد تكون أحد بواعث وجوب
النبوة، فإن العقل قادر على أن يصل إليها، وقد توصَّلَت
مجتمعات بأكملها إلى خلود النفس دون نبوة، كما أن العقل
قادر على أن يصل بمفرده إلى قانون الاستحقاق، وأن الجزاء
على قدر الأعمال، عقابًا أم ثوابًا؛ فلا يوجد فعل إلا وله
أثر، ولا يوجد أثر إلا في العالم، سواء كان في الحال أو في
المآل، مباشرًا أو غير مباشر.
١٥ وكيف يكون الإحساس بالقلة والقهر أساسًا لوجود
الوحي وضرورته؟ ألا يثبت الوحي إلا بقهر الإنسان وإحساسه
بالضآلة والعجز أمام قوة عظمى تعرف أفضل منه وتقدر على ما
لا يقدر عليه؟ وهل استطاعت النبوة أن تمنع الإنسان من أن
يُعمِل عقله أو يُمارِس حريته أو أن تجعله أكثر عقلانية
وأعظم قدرة؟ فالنبوة لم تمنع الإنسان من إنكار وجود الله،
أو إنكار النبوة، أو عدم التصديق بالمعجزات، أو إنكار
الشرائع ورفضها بناءً على القبح العقلي والضرر المادي، أو
إهمال التطبيق والاكتفاء بالجانب النظري كما هو حال البشر
الآن، أو إسقاط فاعلية الجانب الأخروي والتخويف بالوعد
والوعيد، أو نُشوب القتال والفتن والحروب الطائفية التي لا
تقل عن الحروب العلمانية.
١٦
إن العقل ليس بحاجة إلى عون، وليس هناك ما يندُّ عن
العقل. العقل يحسِّن ويقبِّح وقادر على إدراك صفات الحسن
والقبح في الأشياء، كما أن الحسن قادر على الإدراك
والمشاهدة والتجريب، لا طريق إلى الصانع إلا العقل والحسن،
ويُمكِن معرفة الأخلاق بالفطرة، والاستحقاق واجب عقلي،
وكمال النفس بالنظر والعمل، وذلك هو موقف الفقهاء دون
مزايدة في الإيمان أو هدم للمعرفة الإنسانية.
١٧
(٢) هل النبوة مستحيلة؟
إن القول باستحالة النبوة هو رد فعل طبيعي على القول
بوجوبها؛ فكلاهما طرفا نقيض، إثبات ونفي، وجوب واستحالة؛
فبينما يقوم الوجوب على هدم العقل والعلم والاجتماع
والسياسة والقانون، تقوم الاستحالة على تأكيد العقل والعلم
وعلى الاعتراف بقدرات الإنسان النظرية والعملية على تأسيس
العلوم الاجتماعية.
وهناك ثلاثة دوافع للقول بالاستحالة، إما الامتناع من
حيث المبدأ والإمكانية النظرية الخالصة (العقل الأولاني أو
المبدئي)، أو الامتناع من حيث كفاية العقل دونما حاجة إلى
مصدر آخر للمعرفة (العقل النظري)، أو الامتناع من حيث
التكليف العملي وإن كانت مقبولة نظريًّا (العقل العملي).
١٨
(أ) الاستحالة المبدئية
تقوم الاستحالة المبدئية؛ أي الإنكار الميتافيزيقي
للنبوة وإثبات استحالة البعثة، على حُجَج ثلاث؛
الأولى: لا بد أن يعرف المبعوث أن المُرسِل له هو
الله، ولا طريق إلى معرفة ذلك؛ فلعل المُرسِل هو الجن،
والحقيقة أن هذه الحجة تجعل النبوة متوقِّفة على
المُرسِل، في حين أن النبوة واقعة تاريخية، يقينها في
وقوعها الذي يفرض إمكانها، وبرهان صدقها داخلي ولا
يتوقف على المُرسِل أو حتى على المعجزة كدليل على صدق
النبي، كما أن افتراض الجن افتراض غيبي غير مرئي،
كالمُرسِل سواء بسواء، والنبوة مسارها في التاريخ ما
بعد الرسول وليس ما قبله؛ أي البعد الأفقي وليس البعد
الرأسي. النبوة الرأسية ليست جزءًا من النبوة؛ أي من
السمعيات، بل هي جزء من الإلهيات؛ أي العقليات في
صفتَي الكلام والإرادة. لا يهم في النبوة مصدرها؛ أي
ما قبل الإعلان، بل تبليغ الرسالة بعد الإعلان وضمان
صحتها التاريخية، وهو اليقين الخارجي، ثم ضمان صدقها
النظري وإمكانيات تحقيقها ومطابقتها للواقع وهو يقينها
الداخلي، وليس المطلوب في النبوة لمعرفة صدقها إمكانية
التمييز بين كلام الله وكلام الإنسان ما دام يأتي في
صوت إنساني وبلغة إنسانية ولرسول إنساني ليبلغه للناس،
ولا يسمع كلام الله مباشرةً إلا بالصوت من خلال الأذن
الإنسانية. صحيحٌ أنه لا يوجد اضطرار بأن ما تلقَّاه
الرسول علمٌ من الله، ولو أراد الله علمًا لاضطره
إليه، ومع ذلك فإن الإنسان قادر بمفرده عن طريق
الاستبصار واستشراف الباطن معرفة ما يدور في نفسه وذلك
بانعكاس نظرته إلى الداخل والتركيز على شعوره، كما
يستطيع أن يستشرف شعور الآخرين ببصيرته، خاصةً إذا
كانت تربطه بهم علاقة حب، والحدس يقين لا ظن، يُمكِن
أن يتكرر. قد يُخطئ مرة ولكن لا يُخطئ كل المرات، ولا
يعني خطؤه عدم وقوعه أو استحالته.
١٩ والحجة الثانية أن الرسول من الله كمُرسَل
إلى الرسول كمُرسَل إليه إن كان جسمانيًّا فلا بد أن
يكون مرئيًّا؛ وبالتالي تستحيل النبوة لأن الرسول من
الله إلى النبي جسماني لم يرَه أحد. والحقيقة ألا يهم
أيضًا كيفية وصول الوحي من الله إلى الرسول؛ فذلك أدخل
في نظرية النبوة في علوم الحكمة وليس في علم أصول
الدين. صدق النبوة في صدق الكلام ومطابقته للواقع
ومصالح الناس، صدق النبوة في صحتها التاريخية ونقلها
المتواتر أولًا، ثم في صحة تفسيرها طبقًا لقواعد اللغة
وأسباب النزول ثانيًا، ثم في إمكانية تحقيقها تحقيقًا
لمصالح الناس ثالثًا، وكما هو الحال في علم أصول الفقه.
٢٠ ويُمكِن أن تكون وسيلة الاتصال غير مرئية
بخلق علم ضروري في النفس دونما رسول، ويُمكِن أن يكون
الرسول مرئيًّا للمُرسَل إليه وحده دون غيره أو يكون
مرئيًّا له ولغيره دون أن يتعرف الغير عليه كرسول.
٢١ والحجة الثالثة أن التصديق
بها يتوقف على
العلم بوجود المُرسِل، وذلك لا يحصل إلا بغامض النظر
وغير مقدَّر بزمان، ولما كان للمكلَّف الاستمهال ودعوى
عدم العلم فيلزم إفحام النبي وعبث البعثة، وإلا لزم
التكليف بما لا يُطاق وهو قبيح عقلًا، والحقيقة أن
التصديق بالنبوة لا يتوقف على وجود المُرسِل، بل على
الصدق الداخلي وبرهان العقل ومصالح العباد، بالإضافة
إلى الصدق الخارجي عن طريق التواتر لإثبات الصحة
التاريخية للنصوص؛ أي للوحي المكتوب. وقد يكون البرهان
واضحًا بديهيًّا وليس غامضًا، ويُمكِن في عمر الإنسان
الوصول إليه ويكون في العمر بقية للتنفيذ، وربما
يعبَّر عن هذه الاستحالة بالتساؤل حول كيفية اتصال
المُطلَق بالنسبي واللامرئي بالمرئي، فإذا كان الاتصال
لا يتم إلا بين نوعَين متجانِسَين، فكيف يتم اتصال بين
طرفَين مختلفَين؟ فإذا كان الله غير مُشاهَد أو مرئي،
فكيف يتم الاتصال بينه وبين الرسول وهو مُشاهَد مرئي؟
وإذا كان الرسول مُشاهَدًا مرئيًّا، ألا يقتضي ذلك أن
يكون الطرف الآخر كذلك؟ ويسهل الرد على هذا التساؤل
بالتفرقة بين المُطلَق والنسبي اعتمادًا على حُجَج
العقول، واستنادًا إلى نظرية الوجود بالتفرقة بين
القديم والحادث، أو بين الواجب والمُمكِن، أو حتى
بالرجوع إلى المبادئ العامة الأولى في التفرقة بين
العلة والمعلول.
٢٢
وقد يُعترَض على وجوب النبوة بمسألة التفضيل أو
الاختيار، فإذا كان البشر مُتساوين فكيف يفضَّل إنسان
على آخر يُختار كي يكون نبيًّا؟ لا يكفي لتبرير
الاختيار الحر مجرد إرادة المختار؛ لأنه تبرير لا
عقلي، ولا يكفي أن يكون سبب الاختيار والتفضيل عمل
النبي واجتهاده؛ فكثيرٌ هم العاملون المُجتهِدون؛
وبالتالي يظل السؤال قائمًا: لمَ هذا العامل المُجتهِد
بعينه؟ ولا يكفي أيضًا أن يكون سبب الاختيار هو اضطرار
النبي للعلم؛ إذ يظل السؤال قائمًا: لماذا اضطرار هذا
الإنسان بعينه كي يكون نبيًّا
دون غيره، فضلًا عن
أن اضطراره لا يفسِّر سبب الاختيار والتفضيل بقدر ما
يفسِّر كيفية تلقِّي الوحي، ولا يكفي أيضًا أن يُقال
إن سبب الاختيار هو قدرات طبيعية لدى الرسول؛ لأن
القدرات خلقية لا دخل فيها لمسئولية الأفراد
واستحقاقهم الشخصي؛ وبالتالي يظل سؤال الاختيار
قائمًا، خاصةً وأن الرسول ينال أعظم أجر وأفضل منزلة،
والحقيقة أنه لا رد على هذا السؤال الشخصي، وسيظل
باستمرار واردًا في هذا الشخص أو ذاك.
٢٣ إنما الرد الوحيد هو ضرورة وجود الرسول
كوسيلة لتلقِّي الوحي، ولما كان الشخص مجرد وسيلة، فإن
سبب التعيين يكون سؤالًا افتراضيًّا صرفًا. الرسول هنا
هو عموم الشخص وليس خصوص الرسول.
تقوم إذن الاستحالة المبدئية على إنكار النبوة على
أساس مبدئي ومنهجي قبل أن تتناولها كموضوع تاريخي؛
وبالتالي لا يُمكِن التعرض لها إلا على هذا الأساس؛ أي
بيان إمكان النبوة قبل بيان وقوعها.
(ب) الاستحالة العقلية
وتقوم الاستحالة العقلية على اكتفاء العقل دونما
حاجة إلى مصدر آخر للمعرفة، فالمعرفة مصدرها واحد وهو
العقل، ففي العقل الكفاية لكل أنواع المعارف؛ وبالتالي
تستحيل النبوة، ويكون إنكار النبوة على درجتَين، إما
أن تُنكَر النبوة على الإطلاق بلا استثناء، أو تُثبَت
نبوة وتُنكَر أخرى؛ الأولى أقرب إلى الإنكار المبدئي
الميتافيزيقي، والثاني إنكار عملي شعوبي طائفي يفضِّل
نبيًّا على آخر، ويعترف بنبوة دون أخرى، ويصعب التوفيق
فيه بين الإنكار المبدئي والاعتراف الجزئي.
٢٤
ولا يعني إنكارُ النبوة، نظرًا لاكتفاء العقل،
إنكارَ التوحيد؛ فالتوحيد من العقليات، فلا تعارُض إذن
بين توحيد الصانع وإنكار النبوة، إثباتًا للعقليات دون
السمعيات. يقوم التوحيد الفطري على العقل والطبيعة
وليس في حاجة إلى نبوة كأحد المعارف العقلية أو
الواجبات العقلية، وما دام العقل يستطيع أن يصل إلى كل
ما يصل إليه الوحي في النظر والعقائد وفي العمل
والشرائع، فلا حاجة إلى النبوة كنظرية في المعرفة أو
كنظرية في الأخلاق. إن إنكار النبوة على الإطلاق إنما
يدل على الثقة بالعقل البشري وإلى الاعتراف بالطبيعة
والفطرة، فإذا كان العقل والطبيعة قادرَين على هداية
الإنسان، فما الحاجة إلى النبوة؟
٢٥
وقد تقوم الاستحالة العقلية على تحسين العقل
وتقبيحه؛ فما حسَّنه العقل يُفعَل وما قبَّحه العقل
يُترَك، وما لم يحكم فيه العقل بحسن أو بقبح يُفعَل
عند الحاجة، ويُترَك عند عدمها؛ فالعقل والطبيعة هما
أساس الحكم على الأشياء، بل إن العقل قادر على الوصول
إلى التكليف وإلى الواجبات العقلية، ومنها شكر
المُنعِم والعوض عن الإيلام بلا استحقاق، مثل إيلام
البهائم عند الذبح. وقد تستعمل قاعدة الحسن والقبح
العقليَّين كحجة جدلية لإثبات استحالة النبوة عقلًا؛
فإما أن يكون النبي مُستدرَكًا بالعقل أم لا، فإن كان
الأول فلا فائدة من انبعاثه، وإن كان ضد العقل فلا
يُمكِن قبوله. وقد أكمل الله العقول، وجعلها قادرة على
إدراك الحسن والقبح والتمييز بينهما، وجعلها دليلًا
على الخالق ومرشدًا
لمصالح الخلق منعًا للظلم ووسيلة للعلم، فلا حاجة
للنبوة في وجود العقل، وإن أتت مُتفِقة مع العقل فهي
إضافة زائدة لا لزوم لها ولا غاية، وإن أتت مخالفة له
فلا يُمكِن قبولها لما كان العقل هو الأساس.
٢٦
واعتبار الناس محجوجة بعقولهم لا يدل على أي أثر
خارجي، بل يعبِّر عن ضرورة داخلية في نظرية الحسن
والقبح العقليَّين عند المعتزلة، وأن العقل أساس
النقل، وأن كل ما يُتوصَّل إليه بالسمع يُمكِن معرفته
عقلًا، حتى الشرعيات والعبادات إن لم تُعرَف بخواصها
فإنها تُعرَف بغاياتها، ويستحيل أن يكون السمع أساس
العقل؛ لأن الأدلة والبراهين عقلية خالصة لا سمع فيها،
كما أن معرفة الحسن والقبح واردة قبل السمع، وقد أمكن
إدراك التوحيد والعدل بالعقل، وهما البابان الرئيسيان
في العقليات وهي الإلهيات، ويشترك في النظر جميع
العاقلين بشرط الوعي، فلا يكفُّ عن النظر إلا نائم أو
مجنون أو ساهٍ، وإن الاستشهاد على منع النظر بمن يمنع
النظر لهو استشهاد على الطبيعي بالشاذ، والطبيعة تؤدي
إلى النظر أكثر مما تؤدي إلى الجهل، فالطبيعة عاقلة،
٢٧ بل إن الإنسان بعقله قادر على تحدي النبوة
مثل قدرة «الشيطان» الذي طلب الاستمهال فاستُمهل، ولما
كانت النبوة ترتكز على العقل فلا خوف من تحدي العقل
للنبوة، وإلا كان العقل يتحدى نفسه وهو البناء الذي
تقوم النبوة عليه.
٢٨
وفي كل عقل خاطران؛ خاطر للإقدام من الله، وخاطر
للإحجام من «الشيطان». وللإنسان حرية الاختيار بين
الخاطرَين أو الباعثَين. الخاطران في القلب؛ الأول
يدعو للحق والثاني يدعو للباطل، ويقع التكليف بوقوع
هذَين الخاطرَين، وإن غفلة الغافل عن الخواطر ليست
نقضًا للخواطر، بل نقض للغافل، كما لا يعني تعارُض
الخواطر الشك وتكافؤ الأدلة، بل تعني حرية الإنسان
وضرورة اختياره بين الخير والشر، وأن عدم وقوعها من
إنسان لا يعني أنها لا تقع ضرورةً عند كل إنسان،
والخاطران ليسا عقليَّين فحسب، بل هما في القلب باعثان
يكشفان عن صراع العواطف وحياة الوجدان، ويكوِّنان شرط
الحرية والاختيار دون إلجاء، ويتفق هذان الخاطران مع
الثنائية المُتعارِضة المعروفة في كل دين وملة بين
الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الفضيلة والرذيلة،
بين الحسنة والسيئة، وما ينتج عنها من ثنائية الجزاء
في الثواب والعقاب.
٢٩
وتُحِيل الخواطر إلى موضوع الحرية والاختيار أكثر من
إحالتها إلى موضوع العقل المكتفي بذاته دونما حاجة إلى
نبوة؛ فقد يوجد الخاطران متضادَّين، الأول من الله
والثاني من «الشيطان»، وعلى الإنسان أن ينصر الأول على
الثاني في معركة الخواطر.
٣٠ وقد يكون خاطر الدعوة إلى الطاعة أمرًا
خفيًّا للطاعة من الله، يُقابِله أمر خفي للعصيان من
الشيطان، وقد يكون الخاطر قولًا جليًّا من الله بلا
واسطة أو بتوسط رسول مقرون بمعجزة، وقد يكون الخاطران
مجرد باعثَين في القلب على الإقدام والإحجام؛ أحدهما
للطاعة، والثاني للمعصية، من أجل الاختيار بينهما
دونما حاجة إلى تجسيم أو تشخيص أو تشبيه، وإلا لَزِم
في حال الشيطان تكليفه بخاطرَين؛ واحد من الله والآخر
من شيطان آخر، ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية.
٣١ والحقيقة أن الخواطر إنما هي البواعث
النفسية والمرجِّحات العقلية التي تجعل الإنسان يختار
بينها، وهي أقرب إلى طباع النفس وميولها ورغباتها، وما
تميل إليه وما تنفر منه طباعًا؛ فالعقل والطبيعة
صنوان.
قد يستطيع الإنسان معرفة الحسن والقبح عن طريق
التصفية؛ فالأفعال الإنسانية إن كانت خيِّرة ترتفع نفس
فاعلها بحيث تكون أقرب إلى الملائكة والنفوس المجردة؛
وبالتالي لا تحتاج إلى نبوة من خارجها وإلى أنبياء
يُرشِدونها وكان ذلك ثوابها. أما إذا كانت أفعالها
سيئة هبطت إلى أسفل واقتربت من عالم الحيوان، وكان في
ذلك عقابها، وهي نظرية التناسخ التي هي أقرب إلى
النظريات الإشراقية التطهرية الأخلاقية؛ الصعود إلى
النور والهبوط إلى الظلمة. لا تحتاج عالمًا آخر للثواب
أو العقاب، بل يتم ذلك في هذا العالم في دورات الحياة
المتعاقبة. العقل هنا هو تصفية القلب، العقل الباطني
الذي لا يحتاج أيضًا إلى نبوة أسوة بالعقل الاستدلالي.
٣٢
والحقيقة أن هذه النظرة لا تصدُق إلا على الصفوة
العاقلة صاحبة الوعي المتميِّز، ولكنها لا تصدُق على
عامة الناس، هي ليست تكذيبًا للأنبياء على الإطلاق،
ولكنها تبيِّن أن عقل الصفوة قادر على الاستغناء عنها.
٣٣ فبالنسبة للعامة هناك أمور، خاصةً
العبادات وأشكالها، في حاجة إلى نبوة لبيانها؛ إذ لا
يستطيع العقل الاهتداء إليها وإن استطاع معرفة الحكم
منها وغايتها، ويظل الأمر بالنسبة للخاصة أن العبادات
وأشكالها لا تكون جوهر النبوة التي هي في حقيقتها
معارف نظرية يستطيع العقل أن يصل إليها. قد تكون
النبوة ضرورية لعامة الناس الذين لم يتعودوا على
ممارسة النظر وإعمال العقل، ولكنها ليست ضرورية للخاصة
الذين تعوَّدوا على النظر وعلى إعمال العقل، وقد ينشأ
هذا التعود إما بالطبيعة وإما بالاكتساب وإما بكلَيهما
معًا، وهو ما أكَّده الفلاسفة أيضًا، ومع ذلك يُمكِن
للعامة أيضًا بحسها الشعبي وببصيرتها التلقائية أن
تُدرِك حقائق النبوة، خاصةً العملية منها، مثل
المساواة والعدالة، وهي الحقائق التي تتوق إليها
الجماهير الغفيرة نظرًا لما تُعانيه من فقر وضنك؛
فالخاصة بعقولها، والعامة بضنكها يُمكِنها إدراك حقائق
النبوة، كما يُمكِن بواسطة نشر التعليم تحويل العامة
إلى خاصة، فيُصبِح كل أفراد المجتمع من الخاصة، وإذا
كان العقل يستطيع أن يعرف كل شيء نظرًا وعملًا، عقيدة
وشريعة، فقد تظل مُمكِنة لإباحة بعض الأشياء يحظرها العقل.
٣٤ وإذا كان العقل في غنًى عن الرسل، فقد كان
بإمكان الله اضطرار العقول إلى معرفته دونما حاجة إلى
اللف والدوران وتأسيس الوحي على العقل وجعل من يقدح في
العقل يقدح في النقل، وإذا كان العقل هو الأساس ففيمَ
النقل؟ وما الفائدة من الرسل إذا كان في العقل مندوحة؟
إذا كان العقل يحسِّن ويقبِّح، فما فائدة الوحي؟
٣٥ ليس القول باكتفاء العقل استبدادًا
بالرأي، ولكنه ثقة بالعقل وإعلان لاستقلاله، وهو ما
ترمي إليه النبوة؛
٣٦ فالمُدافِع عن النبوة ضد العقل إنما يتمثل
النبوة في مراحلها الأولى قبل اكتمالها، والمدافع عن
العقل مُكتفيًا بذاته دونما حاجة إلى نبوة إنما يتمثل
النبوة في آخر مراحلها بعد اكتمالها؛ فالنبوة وسيلة
لاكتمال العقل، وكمال العقل غاية النبوة.
(ﺟ) الاستحالة العملية
وتقوم الاستحالة العملية على نفي التكليف ابتداءً أو
نفي اعتبار الشرائع مضادًّا للعقل. فما الداعي إلى
الخلق ثم التكليف؟ وإذا كان الخلق نعمة فإن التكليف
نقمة؛ وبالتالي يكون الفعل مُتناقِضًا بين أوله وآخره،
وتتمثل استحالة التكليف تفصيلًا في عدة أمور؛ إذ كيف
يكون التكليف مُمكِنًا مع جبر الأفعال لما كانت
الأفعال كلها واقعة بقدرة الله ومعلومة من قبل؟ إن
ضياع حرية الإنسان أمام إرادة مُطلَقة تعلَم كل شيء
سلفًا يقضي على شرعية التكليف أولًا، وعلى أسباب وجود
النبوة ذاتها ثانيًا. كيف يُبعَث نبي ومعلوم سلفًا
مصير الإنسان وماذا سيفعل وإذا كان سيهتدي أم لا؟ ما
فائدة التبليغ ومصير الإنسان مقدَّر من قبل؟ كيف
يُعاقَب الإنسان وهو معروف سلفًا أنه سيموت كافرًا حتى
ولو أُرسِلت إليه الرسل؟ ذلك سفه، والعقاب ظلم قبيح،
كما أن التكليف إضرار لما يلزمه من التعب والنصب في
حالة الفعل، والعقاب في حالة الترك؛ فهو تعب في الدنيا
وعقاب في الآخرة، وإذا كان التكليف لا لغاية فإنه يكون
عبثًا، وإذا كان لغرض يعود على الله فالله منزَّه عن
الأغراض وغني عن العالمين، وإذا كان لغرض يعود على
الإنسان فإما أن يكون ضررًا وهو مُنتفٍ يرفضه العقل،
وإما أن يكون نفعًا وهو ما لا وجود له؛ فالتكليف إضرار
بالعقاب، خاصةً للكفار وللعصاة، وإذا كان التكليف مع
الفعل فلا فائدة لوجوبه ما دام في الفعل غنًى عنه،
وإذا كان قبل الفعل فإنه يكون تكليفًا بما لا يُطاق؛
لأن الفعل قبل الفعل مُحال، وأخيرًا فإن التكليف
بالأفعال الشاقة يشغل عن التفكير ويحيد عن معرفة الله،
فالفاعل لا يكون حكيمًا والحكيم لا يكون فاعلًا.
٣٧
والحقيقة أن كل هذه الحُجَج ضد التكليف يُمكِن الرد
عليها؛ فالخلق بلا تكليف مجرد طبيعة دون عقل، ومادة
دون حرية، وإن ما يميِّز الإنسان عن باقي الظواهر
الطبيعية هو التكليف الحر، وإلا كان مجرد مخلوق مثلها؛
٣٨ فكما أن الخلق نعمة فإن التكليف نعمة
الخلق في الطبيعة ونعمة التكليف في الحرية، صحيحٌ أن
التكليف يبطل بعقيدة الجبر، فكيف يتم التكليف وكل شيء
يتم بقدرة الله بما في ذلك أفعال المكلَّف، ولكنه لا
يبطل بحرية الاختيار وهي أحد مُكتسَبات العدل. إن
التكليف يكون قدحًا في النبوة على افتراض الجبر، ولكنه
لا يكون قدحًا إذا كان قائمًا على حرية الاختيار؛
وبالتالي يكون للوحي مبرِّرات وجوده، وإذا كان التكليف
إضرارًا عاجلًا فإن ذلك من أجل منفعة آجلة؛ مشقة
الاستيقاظ مبكِّرًا للصلاة لا تُعادِلها منفعة الأفعال
المبكِّرة وفوائد الصلاة، ومشقة الصيام لا تُعادِلها
مآثره في السيطرة على النفس والإحساس بالآخرين، ومشقة
الجهاد والتضحية بالنفس لا يُعادِلها نصر الأمة وبقاء
الحق، والثواب والعقاب متضمَّنان في الأفعال.
٣٩ والفعل القبيح يتضمن عقابه من داخله؛
تأنيب الضمير وحكم الناس، والقصاص من الأفراد فيه حياة
للمجموع، وإن غاية التكليف هو تحقيق الرسالة وازدهار
الحرية وكمال الطبيعة وتحقيق إمكانيات الوجود
الإنساني، والتكلف تكليف قبل الفعل بما يُطاق، في حدود
الطاقة والقدرة والأهلية؛ وبالتالي فهو مُمكِن، وليس
تكليفًا من الخارج، بل هو التزام داخلي تعبيرًا عن
قدرات الإنسان على تغيير العالم. ليست الغاية معرفة
نظرية بالله، بل هي تكليف عملي، وهو تحقيق المعرفة
النظرية بالفعل، فالفعل ليس ضعفًا في النظر، بل تحقيق
وإتمام له.
فإذا ما تم الاعتراف بالبعثة وإمكانها، فإنه قد
يمتنع وقوعها نظرًا لمعارضة الشريعة لمقتضيات العقل؛
وبالتالي لا تكون من عند الله، مثل ذبح الحيوان
وإيلامه، وتحمُّل الجوع والعطش في أيام معيَّنة، ومنع
الملاذ التي بها صلاح البدن، والتكليف بالأفعال
الشاقة، وتفضيل بعض الأماكن على البعض الآخر، والإتيان
ببعض الشعائر التي لا تُوافِق العقل، والالتزام ببعض
الأحكام التي تُعارِضه، مثل تحريم النظر إلى الحرة
الشوهاء وإباحته إلى الأمة الحسنة.
٤٠ والحقيقة أن هذه الأشياء لا تطعن في
النبوة وتجعلها مستحيلة؛ لأنها ليست جوهر التوحيد،
فالوحي لا طقوس فيه ولا شعائر، والعبادات فيه صورة
والمعاملات هي المضمون، ويُمكِن القيام بالصورة دون
المضمون أو تمثُّل المضمون بصور أخرى، فالطقوس لا تمس
جوهر الوحي، ومع ذلك يُمكِن إدراك دلالاتها وأخذ
الدلالة وترك الأشياء الدالة؛ فالبعض منها رموز مثل
رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة، ويُمكِن إيجاد
دلالاتها في التجربة البشرية فيما يتعلق بالذكريات
ورغبة الإنسان في زيارة الآثار والأطلال وأماكن
المحبين ومنازل الشعراء وآثار المفكِّرين للرجوع
بالذهن إلى الماضي وتذكُّر سيَر الأبطال واسترجاع حياة
المجاهدين، والسعي رمز للجهاد، ورمي الجمرات رمز
للنضال، كما يُمكِن إسقاطها كليةً كما فعل الحكماء،
ولكن العامة في حاجة إلى طقوس وشعائر واحتفالات
ومواكب، والوحي أتى للجميع، عامة وخاصة؛ وبسبب هذا
الجانب اللاعقلي في صور العبادات رفض الفقهاء التعليل
وأبطلوا القياس، ولكن يظل التعليل أساس الأحكام ويظل
القياس أصلًا من أصول التشريع؛ فليس كل ما في الشريعة
مضادًّا للعقل، بل إن الأحكام التي بها صلاح العِباد،
أي كل ما يتعلق بالمعاملات، يُمكِن فهمها بالعقل
وإدراك غايتها وقصدها.
والشريعة في نهاية الأمر وسيلة لا غاية، وسيلة يحصل
بها الإنسان على فائدة، ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة؛
فالصيام مثلًا وسيلة للإحساس بالآخرين جوعًا وعطشًا،
ولكن يُمكِن للإنسان أن يشعر بذلك دون الصيام وحده،
وذلك بالالتزام بقضايا الفقر ومشاكل الجماعة، وإذا كان
الصيام نوعًا من الراحة للبدن، فإنه يُمكِن للإنسان أن
يخفِّف من طعامه وشرابه وقايةً للبدن وحرصًا على صحته،
وإذا كان الصيام يدل على أن للإنسان إرادة على بدنه
وقدرة على التحكم في وظائفه العضوية، فيُمكِن للإنسان
أن يُمارِس هذه الإرادة في مواقف اجتماعية في حالة
حصار أو سجن أو فقر، وبنفس الطريقة إذا كانت الغاية من
الصلاة هي الاطمئنان الداخلي وحضور الفكر اليومي
والرجوع إلى الباطن لتُعادِل الكفة مع مشاغل اليومية،
فيُمكِن تحقيق هذه الغاية لا بالصلاة وحدها بل بالتفكر
أو التأمل أو الاكتفاء بالفنون والآداب والعلوم، وإذا
كانت الغاية من الصلاة الإحساس بالوقت ووقوع الأفعال
في الزمان والإحساس بالفور، وبأن لكل لحظة فعلًا، وإلا
لَكان الفعل قضاءً، فإنه يُمكِن الحصول على هذا
الإحساس بالزمان ليس بالصلاة وحدها، ولكن بالإحساس
بالعمر والشعور بالغاية والرسالة وبضرورة العمل على
تحقيقها، ووضع خطة يومية للتنفيذ على مراحل، وإذا كانت
الغاية من الصلاة صحة البدن وسلامة الأعضاء ونظافة
الجسم بالحركات والقيام والقعود والوضوء والطهارة، فإن
الإنسان يستطيع أن يحصل على هذه الفائدة لا بالصلاة
وحدها ولكن عن طريق الرياضة البدنية وبالنظافة
الدائمة، وأخيرًا إذا كانت الغاية من الزكاة هي إحساس
الإنسان بأن ما يملك ليس له، وبأن للآخرين حقًّا فيه،
فإن الإنسان بطبيعته وبفكره وبنظام الوحي لا يملك
شيئًا، وكل ما في الواقع يستخدم لمصلحة الجماعة؛ فلا
يوجد حق للأنا وللآخر، بل يوجد حق للجماعة، وإذا كانت
الغاية من الزكاة سيولة المال ورفض كنز الأموال، فإن
الإنسان بفكره وتنظيمه لاقتصاده يمنع اكتناز الأموال؛
فالمال للاستثمار وليس للاكتناز. العبادات إذن معقولة
ولها أُسُسها الواقعية في مصلحة الإنسان، ولا تقوم على
مجرد قرار أو سلطة أو رسم أو صورة، حتى إنه من الصعب
وصفها بأنها طقوس أو عبادات، بل هي أفعال.
٤١
وبالتالي يَبرز سؤال، لماذا إذن العبادات والشرعيات
إذا كان الإنسان يستطيع الوصول إلى غاياتها بأساليب
أخرى؟ لا يستطيع ذلك إلا من أُوتي حظًّا من الوعي
والثقافة، وهو ما لا يتأتى للجميع، ولما كان الوحي
أسلوبًا في مخاطبة الجميع فإنه أتى بهذا الأسلوب في
التعامل حتى يسهل على الجميع فهمه وتطبيقه والعمل به،
فالخاصة والعامة معًا قادرون على حدٍّ سواء على فهم
العبادات، ولكن الخاصة وحدهم هم القادرون على الحصول
على الغايات بوسائل أخرى، وإذا كان المجتمع كله خاصة
واستطاع أن يكون على درجة من الوعي والثقافة، فإنه يصل
إلى نفس الغايات بوسائل متعددة، ولكن اتحاد الوسائل قد
يكون أيضًا نوعًا من توحيد السلوك وأكثر ضمانًا للوصول
إلى الغايات من وسائل أخرى ما زالت تحت التجربة، وهو
ما لاحظه الحكماء من قبل؛ فالفلسفة والشريعة متفقتان
في الغاية وهو صلاح النفس وتحقيق كمالها، وكأن الأخلاق
هي نقطة الالتقاء بين الفلسفة والشريعة؛ فإذا ما أدَّى
تطبيق الشرائع إلى نفاق بغياب الفضائل الداخلية وحضور
الصور الخارجية أتت الفلسفة لتُعيد إلى الصورة مضمونها
وإلى الشريعة حياتها، وإذا خُيِّر العاقل بين التقوى
دون الشرائع أو بين غياب التقوى وحضور الشرائع لَكان
الأول هو الأكمل. أما فيما يتعلق بذبح الحيوان وإيلامه
فلا يكفي لإثبات شرعية ذلك أن يُقال إنه مسموح به من
قِبل المالك، فهذا تصوُّر خارجي للشرعية، وجعل العقل
والطبيعة معًا تابعَين لإرادة خارجية إنما يُمكِن فهم
ذلك باعتبار أن الإنسان سيد الكون، وكل شيء مسخَّر له.
ولماذا الرفق بالحيوان والرفق بالإنسان أولى؟ لذلك
هناك قانون الاستحقاق وقانون العوض عن الآلام كي يعيش
الإنسان راضيًا عن نفسه مقيمًا للعدل ونافيًا للجور
والظلم.
(٣) النبوة ممكنة
إن لم تكن النبوة واجبة أو مستحيلة فهي مُمكِنة أي
جائزة، والقول بوجوبها وضرورتها لا يحتاج إلى إثبات،
والقول باستحالتها في حاجة إلى دلائل نفي. أما القول
بإمكانها فهو في حاجة إلى إثبات، ووقوعها بالفعل دليل على
إمكانها وكأن وقوع الشيء بالفعل أكبر دليل على إمكانه. لا
يثبت إمكان النبوة أولًا ثم وقوعها ثانيًا على ما هو معروف
من أسبقية الفكر على الواقع، والمبدأ على الحادثة، ولكن
يثبت إمكان النبوة بعد وقوعها؛ أي بأسبقية الواقع على
الفكر. لا يتم إثبات النبوة قبليًّا استنباطيًّا بل يتم
بعديًّا استقرائيًّا. يثبت الإمكان من الوقوع ولا يثبت
الوقوع من الإمكان، وهو ما يتفق مع التوجيه العام لعلم
أصول الدين في اعتبار مبحث الوجود سابقًا على التوحيد، وأن
معرفة الحادث هو الطريق إلى معرفة القديم، وبلُغة الحكماء،
سبق الطبيعيات على الإلهيات. ما دامت الرسالة واقعة
فالنبوة مُمكِنة الوقوع؛ ومن ثَم كان إنكار النبوة أو
القول باستحالتها إنكارًا للواقع وهدمًا للضرورة، وما دامت
نبوة محمد، ونحن عليها، قد وقعت، فالنبوة جائزة حتى لا
يقول أحد أنا لا أدري هل النبوات السابقة قد وقعت أم لم
تقع؛ فإمكان وقوع النبوة من وقوعها بالفعل كما أن إثبات
الحركة يكون بالحركة بالفعل، ولكن، ماذا نفعل بمن لا
يسلِّم بوقوعها ويُنكِر حدوثها بالفعل؟ هناك القرائن
الحسية وفي مقدمتها الكتاب المدوَّن والمقروء والنقل
المتواتر. وهل يُثبِت الواقع فكرًا؟ وهل تشرِّع الواقعة
للمبدأ؟ نعم، فلا شيء يسبق الواقع شرعًا، وشرعية المبدأ
إنما تكمن في واقعيته، وفي علم أصول الفقه أن وضع الشريعة
ابتداءً ووضعها للأفهام هو في نفس الوقت وضعها للامتثال
ووضعها للتكليف.
٤٢ وهل يثبت العام من الخاص؟ فالعام تجريد والخاص
واقع، كما تثبت النبوة في آخر مراحلها أولًا قبل أن تثبت
النبوات السابقة التي يُخبِر عنها في ختم النبوة المنقولة
نقلًا متواترًا، وهناك فرق بين إمكان النبوة ووقوعها من
ناحية وبين تحقيقها من ناحية أخرى، فالأُولى إمكانية نظرية
خالصة بينما الثانية إمكانية عملية تتحقق بحرية الأفعال.
٤٣
وقد يكون الوحي مُمكِن الوقوع بدليل وجود الحدس والمعرفة
المباشرة في الحياة الإنسانية، والحقيقة أن تفاوُت البشر
في العقول وإلهام البعض وإبداع البعض الآخر والذكاء الخارق
لفريق ثالث لا يعني إثبات النبوة، بل يُشير إلى إبداع
الإنسان وقدراته على الخلق، والنبوة في النهاية ليست معرفة
نظرية فقط، بل هي تشريع عملي وتحقيق فعلي، ولا يحتاج إمكان
وقوع الوحي إلى إثبات وسائط غير مرئية أو مرئية، فالرؤية
المباشرة لا تحتاج إلى وسائط.
٤٤ وقد يثبت إمكان النبوة عن طريق نظريتَي الصلاح
واللطف؛ فالنبوة بها صالح العِباد، وهي تَفَضل ولطف، وذلك
إثبات للنبوة بالعودة إلى الحسن والقبح العقليَّين والعقل
الغائي، كأحد مظاهر العدل.
٤٥ وقد تثبت النبوة بدليل نظري خالص مُستمَد من
التوحيد؛ أي وجود الله وصفاته، خاصةً الكلام والقدرة،
فالله متكلِّم وقادر؛ وبالتالي تكون النبوة من كلامه
والبعثة في قدرته. النبوة مُمكِنة لأن أفعال الله جائزة،
ولما كانت النبوة تستعمَل أيضًا طبقًا لمنهج النص والشواهد
النقلية لإثبات وجود الله، فإن استعمال وجود الله لإثبات
النبوة وقوع في الدور. وما الفائدة من استعمال النبوة
تراجعيًّا لإثبات وجود الله وقد تم من قبلُ إثباته في
التوحيد؟ وكيف تُثبِت السمعيات العقليات؟ ولماذا تتراجع
النبوة إلى المُرسِل أي إلى ما قبل النبوة، ولا تتقدم إلى
المُرسَل إليهم وإلى الرسالة في التاريخ أي إلى ما بعد
النبوة؟ وهل مصدر النبوة بالنسبة لنا الله أم أسباب النزول؟
٤٦
وقد تثبت النبوة نظرًا بأنها تُعطي التفصيلات بعدما
يُعطي العقل العموميات، وفي هذه الحالة يكون العقل فوق
النبوة، وتكون النبوة تابعة للعقل، وقد يستغني الإنسان
بالعموميات عن التفصيلات؛ فالعموميات هي الأساس، وما
التفصيلات إلا تطبيقات فرعية لها، العموميات هي الروح
والتفصيلات هي الجسد. وماذا لو قال آخر إن النبوة تُعطي
العموميات في حين يجتهد العقل في استنباط التفصيلات وهو
أقرب إلى صلة النبوة بالعقل؟ أما المجرَّبات فهي من العلم
الطبيعي وليست من الوحي، ولا يُمكِن أن تتوقف العلوم
الطبيعية والتجريبية على السمع، فإذا كانت التجربة ليست
يقينية لتغيُّرها حسب الأفراد، فإنها مُطرِدة من فرد إلى
آخر ومن مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر، كما أن العقل ليس
هو العقل الصوري المجرد، بل هو العقل الشامل للطبيعة
والتاريخ ومجرى العادات وشهادة الحس والوجدان؛ أي كل ما
لدى الإنسان من بديهيات حسية أو عقلية أو وجدانية أو
إنسانية عامة تؤيِّدها تجارب العصور وخبرات الشعوب. أما
المعارف النظرية الأخرى مثل معرفة الله وصفاته، فالعقل
قادر على الوصول إليها بعد أن أصبحت من مُكتسَبات التوحيد.
أما أمور المعاد مثل الوعد والوعيد وكل ما يتعلق بالغيبيات
فلا تثبت إلا بعد ثبوت النبوة؛ لأن طريق العلم إليها
الروايات والأخبار.
٤٧
وقد تثبت النبوة عملًا بإثبات حاجة الإنسان إلى التعاون؛
وبالتالي إلى الرئاسة. ولما كان الإنسان لا يستطيع أن
يُقيم معاشه إلا بالاشتراك مع آخر، لزِمَت النبوة كي تضع
قانونًا ينظِّم العلاقات الاجتماعية وتسن الشرائع وتضع
النظم، وكأن النبوة لا تثبت إلا ببيان أن الإنسان وحش
لأخيه الإنسان، وأنه لا بد من حاكم عادل ونظام وشريعة
لصلاح الخلق تأتي من الخارج لتحقيق الصلاح مع غياب أي
تصوُّر داخلي لعقد اجتماعي حُر قادر على تحقيق التعاون
وتنظيم شئون الرئاسة. إن تنوُّع حاجات الإنسان النظرية
والعملية أيضًا لا محدود، لديه الحدس والاستدلال، العلم
الضروري والعلم النظري، ولديه القدرات الفردية والجماعية
على العمل والتحقيق، فإذا ما أعطت النبوة النظر والعمل
لتلبية حاجات الإنسان إلى معلِّم أصبح الإنسان قاصرًا في
حاجة إلى وصي، وكأن الإنسان عاد إلى ما قبل النبوات، وكأن
النبوة لم تصل بعد إلى خاتمها. ولماذا تثبت النبوة بتدمير
الإنسان وجعله قاصر الفهم والإدراك، عاجزًا عن الفعل
والحركة، تفرض عليه الوصاية بدعوى الهداية؟ يبدو أن حُجَج
وجوب النبوة قد عادت لإثبات إمكانها حتى لحق الإمكان
بالوجوب، وكأن الإمكان هو مجرد وجوب مُقنِع.
٤٨
إن إمكان النبوة قد يؤدي إلى الأدوار
الآتية:
- (أ)
يُعطي الوحي بداية يقينية مُطلَقة حتى يتجنب
الإنسان محاولات الخطأ والصواب إلى ما لا
نهاية، ويبقى احتمال الخطأ في الفهم والتطبيق
أقل. صحيحٌ أن العقل قادر على الوصول إلى هذه
البدايات اليقينية، ولكن الوحي يقصِّر الوقت
ويقلِّل الجهد ويعطي دفعة للعقل بالأوليات
الأولى، ثم تكون مهمة العقل بعد ذلك الاستدلال
وإيجاد الأنساق المُحكَمة والتطبيقات العملية
والتكيف حسب الزمان والمكان. علاقة الوحي
بالعقل إذن هي علاقة الحدس بالبرهان، علاقة
المقدمات بالنتائج. إن البداية اليقينية شرط
لليقين في الاستدلال، وإن الفكر كله هو علم
البدايات أو علم الأوليات، خاصةً أن هذه
البدايات قد تم تجريبها في الوعي الإنساني على
مدى تطوُّر البشرية، وأصبحت مجرَّبة من قبل
ومحقَّقة في التاريخ.
- (ب)
قد يشرع الوحي لبعض الأعمال ويسن بعض
النُّظم والقوانين محقِّقًا بذلك النظريات في
صيغة تشريعات؛ وبالتالي يقوم بتأسيس النظر
والعمل معًا. ولا يعني ذلك مجرد الشعائر التي
قد تكون ضرورية للعامة كطريق للعمل الصالح، بل
أيضًا النُّظم السياسية والاقتصادية التي
يُجهِد المنظِّر نفسه في الوصول إلى أفضلها
وأكثرها تحقيقًا للمصالح العامة. وعندما يقوم
ذهن واحد بوضع النظريات والتشريعات
المُستنبَطة منها يكون ذلك أقل احتمالًا للخطأ
من وضع النظريات وحدها وترك التشريعات
لاستنباط ذهن آخر. الوحي هنا ضرورة عملية لما
كانت حياة الناس في حاجة أولًا إلى نُظُم
وتشريعات حتى وإن لم تُدرِك الأسس النظرية
التي تقوم عليها، ويبقى للذهن البشري أيضًا
استنباط نظريات تفصيلية من التشريعات العامة
طبقًا للزمان والمكان، وكلما كان الضبط في
البدايات أحكم كانت الدقة في الاستنتاجات
أعظم، فإذا كان الحدس الأول هو حكمة التشريع
أو فلسفته، فإن النظرية العامة تكون هي أساس
استنباط القوانين وصياغة التشريع.
- (جـ)
يُعطي الوحي نظرة كلية شاملة للحياة مُقابِل
النظرة الإنسانية المتجزِّئة؛ فنظرًا لوضع
الإنسان في زمان معيَّن ومكان معيَّن وفي
مجتمع محدود في طبقة بعينها؛ أي باختصار نظرًا
للموقف الإنساني ولكل المحدِّدات الإنسانية،
لا يستطيع الإنسان إلا أن يُدرِك موقفه الخاص
مهما كانت لديه من قدرة على الحياد والتجريد
وعلى العموم والشمول. يستطيع الوحي أن يُقابِل
هذه التجزئة ويُعطي نظرة شاملة كلية للحياة؛
وبالتالي يأمن الإنسان من الوقوع في وجهات
النظر الخاصة المحدَّدة، ونظرًا لما قد ينتاب
النظرة الخاصة من نقص في الحياد ومن صعوبة
التمييز بين الرأي والهوى، فإن الوحي يحمي من
هذا الخطر؛ فالوحي باعتباره تعبيرًا عن الوعي
الخالص يُعطي تصورًا مُحايدًا لا يقوم على
هوًى أو مصلحة أو انفعال. صحيحٌ أن الفيلسوف
يُمكِنه أن يتجرد عن الهوى كما يُمكِنه أن
يحقِّق حياد الشعور، ومع ذلك يظل الوحي يمثِّل
ضمانًا أكثر لعديد من المنظِّرين. الوحي إذن
قادر على إعطاء هذه المعرفة الشاملة الموضوعية
الخالية من وجهات النظر التي يتميز بها
الإنسان، وخاليًا من الأهواء والرغبات
والتميزات التي تخضع لها الأحكام البشرية.
حقائق الوحي مُنصِفة غير متحيِّزة، لا تأخذ
نظر فرد دون فرد أو مصلحة جماعة دون جماعة،
وكأن التاريخ قد اكتمل والحقائق البشرية
العامة قد عُرِفت.
- (د)
يُمكِن للوحي توفير الجهد وتقصير المسافة
واختصار الشوط؛ فلو أن الإنسان بجهده الخاص
أراد الحصول على النظريات ثم استنبط منها
التشريعات لَكان في حاجة إلى عدة أعمار. يأتي
الوحي لتخفيف الحمل، ويكفي الإنسان مئونة
البحث النظري في الأسس العامة للتطبيق حتى
يكرِّس الإنسان وقته وجهده للعمل والتحقيق.
ولا يعني ذلك إبطال الإنسان لعمل العقل، فمهمة
العقل هنا عملية في التفسير وهو ما سمَّاه
الأصوليون تخريج المَناط وتنقيح المناط وتحقيق
المناط؛ أي معرفة العِلل المؤثِّرة في الواقع
والتي على أساسها قامت الأحكام، وهنا تُمحى
التفرقة بين العقل النظري والعقل العملي، بين
فهم العالم وتغييره. النظر كيفية العمل،
والفهم من أجل التغيير. أعطى الوحي اليقين
النظري حتى يركِّز الإنسان جهده على التطبيق
العملي؛ فلو ظل الإنسان طيلة حياته يبحث عن
اليقين النظري فربما انقضى نحبه ولم يصل إليه
بعد. فمتى يتمثل هذه الحقيقة ويستفيد منها؟
وماذا يفعل قبل أن يكتشفها؟ يُمكِن للوحي
تقصير المسافة إلى النصف، فيُعطي الإنسان
اليقين النظري حتى يخصِّص عمره وجهده للتطبيق
العملي. وإجابةً على السؤال الأوَّل: هل
النبوة ضرورية أم مُمكِنة أم مستحيلة؟ يُمكِن
القول بأن النبوة كانت ضرورية قبل آخر مرحلة
فيها، قبل أن يكتمل الوعي الإنساني ويستقل
عقلًا وإرادة، ثم أصبحت مُمكِنة لحظة اكتمال
الوحي، وهي الآن مستحيلة بعد اكتمال الوحي
واستقلال الإنسان.
٤٩