بعد الصراط، يدخل المؤمنون الجنة والكفار النار؛ فالجنة دار
للمتقين، والنار دار للفاسقين.
١ ليست الجنة تفضُّلًا، وليست النار انتقامًا، بل
الجنة ثواب والنار عقاب طبقًا لقانون الاستحقاق.
٢ وهما مخلوقتان؛ لأنهما جزء من العالم، بل إن نعيم
الجنة وعذاب النار مخلوقان كذلك؛ فقد خلق الله النعيم في الجنة
والعذاب في النار، وكأن القدرة الإلهية وراء الإنسان بالمرصاد،
تخلق نعيمه في الجنة وعذابه في النار، وتمنعه حتى من أن يذوق
نعيم الجنان بنفسه، وأن ينال عذاب النار عن استحقاق كقانونٍ
طبيعي، الجزاء من جنس الأعمال. والله لا يقدر أن يزيد أو
يُنقِص نعيم أهل الجنة أو أهل النار، وإن قدر الإنسان على
الظلم، فالله ليس بقادر عليه طبقًا لقانون الاستحقاق.
٣
(١) أوصاف الجنة والنار
يبدو أحيانًا أن القدماء قد أفاضوا في وصف الجنة أكثر من
وصف النار على عكس عذاب القبر؛ إذ تم وصفه أكثر من نعيمه.
تُوصَف الجنة على أنها في مكان، مكانٍ مُتناهٍ محدودٍ ما دامت جسمًا، وتُوصَف أحيانًا
بأنها الجنة التي كان فيها
آدم وزوجه، وهي جنة على الأرض، وليست جنة في السماء.
والدليل على ذلك أمر آدم بالهبوط. وقد يتحدد مكانها
جغرافيًّا بين فارس وكرمان، أو بأرض عدن، أو بفلسطين كورة
بالشام طبقًا لقدسية المكان. وقد تكون جنة آدم مخالفة لجنة
الخلد؛ ومِن ثَم تكون الجنة في الآخرة فوق السموات السبع
وتحت العرش، وهو ما يُعادل أيضًا عظمتها وقدسيتها.
٤ ولو كانت جنة الخلد لما أكلا من الشجرة رجاء
أن يكونا من الخالدين. وجنة الخلد لا كذب فيها، وقد كذب
إبليس. وقد اكتشف فيها آدم عريه والجنة ليس بها عري. وشعر
آدم بالحر والبر والجنة ليس بها قيظ ولا زمهرير. والقضية
الآن: هل هذا موضوع، جنة آدم في السماء أم في الأرض؟ أليست
الجنة تعويضًا عن بؤس خلفائه في الأرض؟ وتزداد التفصيلات
في وصفه الجنة؛ فأبوابها متفاوتة تصويرًا لتنوع الشعائر؛
فهناك باب للصلاة وباب للصوم تركيزًا على خصوصية الأفعال.
أبوابها ثمانية عشر، وأكبرها باب الصلاة، يدخل منها من
يُكثِر النفل، والبعض منها لا يدخله إلا الصائمون. ويدخل
الناس الجنة بيضًا مكحولين؛ فالبياض لون الصفاء والكحل
الأسود في العين جمالٌ عربي. وماذا عن لون الشعر؟ ليس لهم
لحية إلا آدم؛ رمزًا لمهابة آدم أو لفطريته وبدائيته؛ فهو
أبو البشر، الإنسان الأول، ولكن أليست اللحية سنة عن
الرسول في الدنيا، فلماذا لا تكون كذلك في الآخرة؟ وهل
تُحلَق لِحى أهل الجنة بما في ذلك الأنبياء؟ ويكونون في
طول آدم ستين ذراعًا، وعرضه حوالَي سبعة أمتار؟ وماذا عن
حجم الأبواب التي تسمح بمرور هذه الأجسام في مثل هذه
الضخامة؟ وماذا عن حجم الأطفال الصغار أو القصار؟ هل
يضيعون بين أرجل هؤلاء العمالقة؟ قد يتساوى الصغير مع
الكبير، ويصبح الجميع في حجمٍ واحد، ذو قامة واحدة. وفي
هذه الحالة، ألا يؤدي ذلك إلى الملل في الرؤية بسبب غياب
التمايز والفردية؟ والجنة بها درجات طبقًا للأعمال، وكلها
متصلة بمقام الوسيلة، حيث مشاهدة الرسول. نُشرت الشمس على
أهل الجنة كلهم. أكبر نعيم فيها رؤية وجه الله ومشاهدة
الرسول على ما يقول الصوفية. للجنة سبع درجات متجاورة،
أوسطها أفضلها. والعدد سبعة عددٌ رمزي في الديانات القديمة
يدل على طهارة الروح وكمال النفس. والأقرب أن تكون متعالية
وليست متجاورة، وبطبيعة الحال يكون العرش أعلاها. وذلك يدل
على رغبة الإنسان في السعي إلى الدرجات العليا أسوةً بما
كان يفعل في الدنيا من الصعود الاجتماعي والارتقاء الطبقي.
ومن أعلى درجة وهو الفردوس تتفجر أنهار الجنة، ثم تنتقل
إلى الدرجات الأخرى؛ وذلك تعبيرًا على البيئة الصحراوية
وحاجتها إلى الماء. الفردوس أعلاها، ثم جنة المأوى، جنة
الخلد، جنة النعيم، جنة عدن، دار السلام، دار الجلال.
ويُطلَق على الجميع جنة عدن تعبيرًا عن السلام والطمأنينة
وغياب أي خوف وذعر. حارسها رضوان سيد خزنة الجنة، يفتحها
أولًا لسيد الخلائق.
٥ تتم لهم فيها مجامعة الحور العين، وهن
مطهَّرات حِسان، عُربٌ أتراب، يجامعن بحماس وعفية، ويشاركن
أهل الجنة لذة الجماع. وقد خُلقن ليلتذ بهن المؤمنون. ولا
تموت الحور العين أبدًا لدرجة السؤال عن أفضليتهن على
الأنبياء والملائكة! الواحدة منهن تلبس سبعين حلة للزينة
والتجمل والتغير جذبًا لانتباه أهل الجنة، نور ساقها يُضيء
منها كما فعلت ملكة سبأ مع سليمان، فرصيد النبوة يصبُّ في
المعاد، يزيِّنَّ آذانهن بالقرط. وقد سُمِّين الحور لشدة
بياض العين مع سواد الحدقة. ووصفهن بالعِين لاتساع عيونهن.
وفي كل مرة تُفضُّ الأبكار تعود البكارة دون دماء البكارة
وآلام الفض. وأين متعة شهر العسل بعد فض البكارة دونما
حاجة إلى بكارةٍ جديدة؟ ينكحهن الجن والإنس؛ فالجن مثل
الإنس تكليفًا وحسابًا، ثوابًا وعقابًا. قد تكون البِكر
صورة للطهارة والجدة والبراءة، ولكن يظل السؤال: لماذا هو
فعلٌ قبيح في الدنيا وفعلٌ حسن في الآخرة؟ هل ما يُحرَم
الناس منه في الدنيا يُباح لهم في الآخرة؛ وبالتالي يكون
إشباع الآخرة تعويضًا عن حرمان الدنيا؟ وكيف يتم لهؤلاء
العملاقة مجامعة الحور العين، ومن صفات جمالهن الصغر
وتناسق الأجسام؟ وماذا عن طول ذَكرهم وصِغر فروجهن؟ وهل
تقوى الحور العين على مجامعة هؤلاء العمالقة؟ وماذا عن
عددهن؟ يبدو أن كل ساكن من أهل الجنة له ما يشاء من الحور
العين دون عدد معيَّن، فهن مِلك يمينه دون حد أقصى بأربعة
كما هو الحال في الدنيا في الزواج الشرعي. وبالإضافة إلى
الحور العين هناك الولدان المخلَّدون مثل غلمان الدنيا
جمالًا وبهاءً، مزيَّنون بالجواهر لشرح الصدر والقرط في
آذانهم. وهم أولاد الكفار الذين يموتون قبل البلوغ متعةً
للمؤمنين! ويبدو أن المجتمع العربي بما فيه من شذوذ جنسي
وحب للغلمان قد أسقط متعته على الآخرة، فتصورها على غرار
الدنيا! والنعيم لا يُحصى، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب بشر كما يقول الصوفية.
٦
ومن الطبيعي في مقابل هذا التجسيم والتشبيه للجنة كحوادث
ووقائع أو أشخاص، فتصبح الجنة رجلًا والنار رجلًا، كما
شخصت عواطف التأليه والشرائع من قبل أن يأتي الإنكار.
٧ وتئوَّل النصوص بحيث تدل على معاني النعيم
الروحي كما يفعل الحكماء، والتأويل أولى من التفويض؛
فالتأويل اجتهاد وعلم، والتفويض اعتراف بالجهل، وكلاهما
يمنع من الوقوع في التفسير الحرفي للنصوص.
٨ ولا مفرَّ من أخذ المُعارض العقلي في
الاعتبار؛ إذ كيف تُوصَف الجنة ماديًّا طولًا وعرضًا؟ هل
العالم كله جنة؟ وهل عالم الأفلاك كله جنة؟ وأين العالم
الذي ليس بجنة؟ هل تبلغ الجنة كل شيء، أم إن ذلك مجاز
الاتساع ضد ضيق المكان والحشر في الحجرات، وهو ما تأنفه
النفس في زحمة المكان؟ وأين مكان النار لو ابتلعت الجنة
المكان كله؟ ولو كانت الجنة موجودة بعرض السموات والأرض
لأدى ذلك إلى التناسخ، حيث تنتقل النفس إلى عالم العناصر
وتعود منه. وما الفائدة من وجود الجنة والنار الآن
فارغتَين، احتلال مكان واستهلاك مياه، وتعيين خدام، إناثًا
وذكورًا دون عمل؟ فالأولى عدم وجودهما الآن ووجودهما آخر
الزمان عندما تنشأ الحاجة لها. فالوظيفة تُنشئ الشيء
وتوجِده. وإن إنكار الدرجات في الجنة تأكيد لمبدأ المساواة
المُطلَقة؛ فالتفاوت الطبقي من آثار الدنيا، وليس من سمات
الآخرة. وينفي حشرَ السباع والطيور والحشرات في الجنة أن
البلوغ والعقل شرطا التكليف، وأن الجنة دار استحقاق. فإذا
دخل كل ذي روح الجنة، فإن ذلك يكون لأن الحياة في نفسها
قيمة يحافظ عليها. فإذا تساوى الموت والحياة، فالحياة أقرب
إلى الطبيعة، كما أنه إذا تساوى الشر والخير، فالخير أقرب
إلى الطبيعة.
أما النار فمكانها في الأرضين السبع، كما أن الجنة في
السموات السبع، سفل في مقابل عُلو، وهبوط في مقابل صعود.
ومنها نار الدنيا بعد أن وُضعت في البحر مرتَين حتى تقل
حرارتها، ويسهل استعمالها، ويُنتفع بها. أُوقد عليها ألف
سنة حتى ابيضَّت، ثم ألف سنة حتى احمرَّت، ثم ألف سنة حتى
اسودَّت، فخرجت سوداء مُظلِمة، وجمرها أحمر مُحرِق. وهي
جسمٌ لطيفٌ مُحرِق يميل إلى جهة العلو. لها أيضًا سبعة
أبواب أو سبع طبقات طبقًا للعدد الرمزي سبعة. وكما أن
رضوان حارس الجنة، فإن «مالك» وكيل النيران. له أصابع بعدد
أهل النار، ولو وضع أصبعًا على السماء لأذابها!
٩ وهي كلها صورٌ فنية من أجل المبالغة والتأثير
في النفس لا تمنع من بروز المُعارض العقلي. فكيف تكون في
الأرض وفي الوقت نفسه دار عقاب بعد فناء الأرض ومن عليها؟
وكيف تبرد في ماء البحر مرتَين والنار والماء نقيضان لا
يجتمعان؟ وبأي نيران يُحمى عليها ألف سنة؟ وهي نيران في
حاجة إلى نيرانٍ أخرى؛ كي يُحمى عليها، وتبرز ألوانها
البيضاء في الألف سنة الأولى، والحمراء في الألف الثانية،
والسوداء في الألف الثالثة، وكل نيران في حاجة إلى نيران
إلى ما لا نهاية حتى الوصول إلى نيرانٍ أولى ليست في حاجة
إلى نيرانٍ أخرى لتحميتها. والألوان نوع من الزركشة في
الخيال الشعبي حتى تكون أكثر إيقاعًا في النفوس. وكيف يكون
لخازنها أصابع بعدد أهل النار؟ كيف يكون حال اليد إذن وحال
الذراع والجسد كله؟ وما وظيفة كل أصبع؟ وكيف يُذيب الأصبع
السماء كلها، والخازن في السماء والعرش في السماء؟ وزيادة
في العذاب يكون داخل النار الزمهرير والحيات والعقارب حتى
يُثير التضارب بين الحار والبارد الخيال، وتجتمع لسعة
اللهيب مع لسعة العقرب ولدغة الحية، وكله إحساس بالجلد
وبسطح البدن. وكما في الجنة درجات كذلك في النار درجات
طبقًا لدرجات العذاب أو لمجموعات المعذَّبين. وتقوم
الدرجات إما على أجزاء البدن ومساحة الأعضاء المعرَّضة
للعذاب، أو على شدة النيران وخفتها، أو على طول المدة
وقِصرها. ويظهر هذا التفاضل في صيغةٍ حسية؛ فكما أن للجنة
درجاتٍ سبعًا فكذلك للنار درجاتٍ سبعًا؛ أعلاها جهنم،
وتحتها لظًى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم
الهاوية. وباب كل واحدة من داخل الأخرى على الاستواء، مثل
الحمام العمومي وحجراته المتداخلة طبقًا لشدة البخار. وبين
أعلى جهنم وأسفلها خمس وسبعون سنة، أحرُّها هواءٌ مُحرِق،
لا حجر لها سوى بني آدم وأحجار الأوثان، وهي أحجارٌ قابلة
للاشتعال من عظمة جِرمها، وكأن الأحجار كائناتٌ حية مثل
بني آدم، استقبلت محرقاته وقرابينه. كل درجة لها طائفة؛
فاللظى لليهود، والحطمة للنصارى، والسعير للصابئين، وسقر
للمجوس، والجحيم لعبدة الأصنام، والهاوية للمشركين، وجهنم
لمن يُعذَّب على قدر ذنبه من المؤمنين، ثم تصير خرابًا
بخروجهم منها، وكأن النار تعرف الطائفية الدينية والتفرقة
بين الأديان! يتفاضل أهلها في العذاب؛ أقلهم عذابًا توضَع
حجرتان من نار في أخمصَيه، ولا يكون الأشد إلا إلى جذب
الأذون! يُعذَّب المؤمن العاصي على الصراط وهو على متن
جهنم، يُصيبه لفح النار ولهبها، فيتألم بمقدار عصيانه، ثم
يدخل الجنة. وقد يصل عذاب آخر مثل الجثة المقلاة على نارٍ
متأجِّجة! وأخفها إحساس بالعذاب لحظة ثم يصير الإنسان
بعدها كالنائم لا يُحسُّ بها فعل لحظة من عذابها.
١٠ قد يتحول عوام الدهرية والنصارى والزنادقة
ويصيرون في الآخرة ترابًا، وكذلك الأطفال والبهائم،
١١ وكذلك السقط الذي أُلقيَ فيه الروح، تُعاد
إليه ويدخل الجنة كأهلها في الجمال والطول، وإن لم يبلغ
ذلك يصير ترابًا. والحقيقة أن كل ذي روح تعود له روحه
حفاظًا على الحياة كأحد مقاصد الوحي الضرورية. إنها كلها
صورٌ فنية تعبِّر عن القبح؛ فجهنم من الجهامة، وهي كراهة
المنظر. تنشأ النار من الحسد؛ أي إنها تعبيرٌ حسي عن
انفعالٍ إنساني، وتصويرٌ فني لأحد المواقف الإنسانية. فإذا
كان الإنكار رد فعل على الإثبات، وكلاهما يتحدث في واقعةٍ
حسية، فإن التأويل رد فعل عليهما معًا عندما يبحث عن أسسها
النفسية وصورها الفنية. والتأويل أولى من التفويض؛ لأن
التفويض اعتراف بالجهل وتخلٍّ عن تأصيل العلم، في حين أن
التأويل اجتهاد علم ولو بغلبة ظن.
١٢ ورغبةً في تنزيه الله عن الشر، قد يتنعم أهل
النار في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة؛ وبالتالي لا
عذاب ولا ألم.
١٣ وفي مقابل اعتبار النار في الحقيقة والعذاب في
الحقيقة؛ وبالتالي يثبت فعل الله للشر والضرر تكون النار
مجازًا ويكون العذاب مجازًا؛ فبالتأويل يمكن تنزيه الله عن
الشر، واعتبار الشر مجازًا في العالم؛ وبالتالي يتحقق
هدفان في العدل وفي المعاد.
١٤
(٢) هل تفنى الجنة والنار؟
ويرتبط هذا السؤال بدوام الاستحقاق والتخليد؛ فالجنة
والنار هما مكان الثواب والعقاب وتنفيذ قانون الاستحقاق.
فإذا كان الاستحقاق دائمًا، فهل الجنة والنار كذلك؟ إذا
بقيتا شاركتا الله في الخلود، ولم يتفرد الله بصفة البقاء،
وإذا فنيتا لم يدُم الاستحقاق ولم يُخلَّد. القول بدوام
الجنة والنار وأبديتهما إنما يخضع للتفسير الحرفي للنصوص
«خالدين فيها أبدًا»، ولا يتحول الإنسان من الجنة إلى
النار أومن النار إلى الجنة إلا بقانون الموازنة أو
بالتوبة. وقد يكشف القول بدوام الجنة والنار عن صادية، حيث
ينعم المؤمنون إلى الأبد ويتعذب الكفار إلى الأبد دونما
تغيير أو أمل. ومع أن الله قادر على إفنائهما إلا أنهما
باقيان لا يفنيان. وقد يبدو ذلك متناقضًا؛ فإذا كانت الجنة
والنار مخلوقتَين، فإنهما بالضرورة فانيتان. الخلق يتبعه
الفناء، والقِدم يتبعه البقاء، ولا يوجد مخلوق يبقى أو
قديم يفنى.
١٥ لذلك كان الأقرب للتنزيه حفاظًا على صفة
البقاء لله وحده أن تفنى الجنة والنار، وذلك أيضًا ظاهر في
النص الذي يقول بفناء كل شيء إلا الله، وبقياس عرض الجنة
والنار بالسموات والأرض وهما فانيتان. قد يغتمُّ أهل
الجنة، ولكن يفرح أهل النار! ويمكن رفض التخليد بناءً على
حججٍ طبيعية، وليس فقط على حججٍ إلهية. فما دامت القوة
الجسمانية مُتناهية، فلا بد من فنائها، كما أن دوام
الإحراق مع بقاء الحياة مستحيل عقلًا؛ فالإحراق يُحيل إلى
رماد وينتهي الشيء المحروق، والنار تفنى بالرطوبة؛
وبالتالي تنتهي إلى عدم، وتقل حرارتها كلما طال الزمان،
وتفقد الطاقة جزءًا منها؛ وبالتالي فمصيرها إلى النهاية والفناء.
١٦ وانقطاع حركات أهل الجنة والنار حلٌّ وسط بين
البقاء والفناء؛ فالسكون الدائم يجمع بينهما. وإذا ما أتى
وقت الفناء، وكان المؤمن قد تناول بإحدى يدَيه كأسًا
وبالأخرى «مزة»، وأتى وقت السكون، فإنه يبقى دائمًا على
هيئة المصلوب! والحقيقة أن ذلك يرتبط بالتوحيد قدر ارتباطه
بالمعاد. فلأن مقدورات الله لها كلٌّ وغاية، وحدٌّ ونهاية،
تنتهي قدرته على الخالقية؛ وبالتالي يسكن أهل الجنة فيها،
وهو ما يضر التوحيد وإطلاقية الصفات، كما أنه لا يحل مشكلة
مشاركة الجنة والنار في صفة البقاء؛ لأنهما يظلان باقيَين
وإن كانا ساكنَين. فهذا الحل الوسط لا يُرضي متطلبات
التوحيد في الصفات وفي المعاد.
١٧
(٣) الخلود في الأرض
ظهرت دعاوي التجسيم والتشبيه والتنزيه ليس فقط في
العقليات، بل في السمعيات، وليس فقط في التوحيد، بل في
أمور المعاد. فالتجسيم في التوحيد تجسيم في المعاد،
والتشبيه في التوحيد تشبيه في المعاد، والتنزيه في التوحيد
تنزيه أيضًا في المعاد.
١٨ والحقيقة أن أمور المعاد كلها خطأ في تفسير
النصوص وتحويل للصور الفنية إلى وقائع حادثة؛ فأمور المعاد
لا تشير إلى وقائع مادية وحوادث فعلية، وعوالم موجودة
بالفعل في مكانٍ ما يعيشها الإنسان في زمانٍ ما، بل هي
بواعث سلوكية ودوافع للفعل للتأثير على السلوك، والحث على
الطاعة ترغيبًا تارة، وترهيبًا تارةً أخرى. وليس المقصود
بالدوافع الثواب على الحسنة والعقاب على السيئة؛ فالأفعال
الصالحة لا تحتاج إلى ثواب وعقاب. ويمكن ممارسة الحياة
الخلقية بلا جزاء، ثوابًا كان أم عقابًا. أليس حسن الأفعال
في ذاته مدعاة للإتيان بها، وقبح الأفعال لذاته مدعاة
لتجنبها؟ وهل ينتج أسلوب الترغيب والترهيب فتحسن الأفعال
في الدنيا، أم إنه قد ينتج عند البعض ولا ينتج عند البعض
الآخر؟ هل المعاد باعثٌ نفسي على صلاح العالم تخويفًا
للظالمين، أم إنه يقود برد فعل وهو تعويض المظلومين؟ قد
ينجح الترغيب عند الفقراء تعويضًا عمَّا هم عليه من فقر،
ولكن قد لا ينجح الترهيب عند الأغنياء؛ فالحاضر لديهم أولى
من المستقبل. قد لا ينجح مع الظالمين والطغاة والمستغلين
إلا الثورة عليهم بالفعل، واسترداد حقوق الفقراء منهم،
وحصول الناس على حرياتهم المسلوبة، حتى لو تصدَّق
الأغنياء، فهل الدار الأخرى مكافأة لهم أم لعقابهم على
فائض أموالهم؟ وهل أعمال الخير هي الصدقة وإطعام المساكين
وبناء المساجد والزوايا والتكايا، أم إعادة توزيع الثروة؟
١٩
إن أمور المعاد في نهاية الأمر ما هي إلا تعبير عن عالم
بالتمني عندما يعجز الإنسان عن عيشه بالفعل في عالم يحكمه
القانون ويسوده العدل؛ لذلك تظهر باستمرار في فترات
الاضطهاد، وفي لحظات العجز، وحين يسود الظلم ويعم القهر،
كتعويض عن عالمٍ مثالي يأخذ فيه الإنسان حقه، ويُرفَع
الظلم عنه. أمور المعاد في أحسن الأحوال تصويرٌ فني يقوم
به الخيال تعويضًا عن حرمان في الخبز أو الحرية، في القوت
أو الكرامة، في الرزق أو الحق، في عالم يحكمه القانون
ويتحقق فيه العدل. وهي تعادل في علم أصول الدين المدن
الفاضلة في علوم الحكمة. تنشأ أمور المعاد إذن نشأةً
سياسيةً اجتماعيةً اقتصادية.
٢٠
وبطبيعة الحال أن
ينشأ رد فعل على التصور الثنائي، وأن ينشأ تصورٌ بديل هو
التصور الواحدي للعالم؛ فهناك دنيا واحدة وآخرةٌ واحدة هي
نفسها الدنيا. فالجنة والنار هما النعيم والعذاب في هذه
الدنيا، وليس في عالمٍ آخر يُحشَر فيه الإنسان بعد الموت.
الدنيا هي الأرض، والعالم الآخر هو الأرض. الجنة ما يصيب
الإنسان من خير في الدنيا، والنار ما يصيب الإنسان من شر
فيها. وهو ما قاله الفلاسفة أيضًا عن النعيم الروحي
والعذاب الروحي في هذا العالم، وإنكار النعيم البدني
والعذاب البدني في عالمٍ آخر. ولا يهم ماذا تعني الدنيا،
هل هي الهواء والجو، أم هي كل ما خلقه الله من الجواهر
والأعراض، بل يكفي أنها دار عمل وحياة وبقاء. إن واقع
النعيم والعذاب في الدنيا لا يمكن إنكاره، سواء كان ذلك
امتحانًا للإنسان وابتلاءً له ليزداد إيمانه وشكره، أو كان
ثوابًا وعقابًا على أفعاله دون انتظار؛ إذ إن نتائج الفعل
قد تظهر في الحال أو في المآل، في حياة الإنسان أو بعد
مماته، كما هو الحال في السنن والآثار.
٢١ ويؤكِّد ذلك عددٌ كبير من الأغاني الشعبية
والأمثال العامية عن أن الجنة هي حضور الحبيب والأنس به،
والنار غياب الحبيب وعذاب الفراق.
٢٢ وقد يجعل هذا التصور الناس أكثر حرصًا على
العمل في الدنيا والتمسك بها، بدلًا من الرضا وانتظار
تعويضها في زمنٍ آخر وفي مكانٍ آخر. وقد يظهر تصور الخلود
في الدنيا في عقيدة التناسخ، وانتقال الروح المنعَّمة إلى
جسدٍ منعَّم، والروح المعذَّبة إلى جسدٍ معذَّب بالأمراض
والأسقام والشيخوخة، أو إلى جسم حيوان.
٢٣ وقد تتشخص الجنة والنار في رجلَين؛ الأول تجب
موالاته والثاني تجب معاداته؛ ممَّا يدل على ارتباط أمور
المعاد بالظروف النفسية والاجتماعية والسياسية لمجتمع الاضطهاد.
٢٤ وفي هذه الحالة لا تفنى الدنيا كما قد تفنى
الآخرة، وكأنه عندما تضيع الدنيا تخلد وتفنى الآخرة كما هو
الحال في التجسيم، وعندما تُنال الدنيا تفنى وتبقى الآخرة
كما هو الحال في التنزيه، أو كأن خلود الدنيا وفناء الآخرة
تعريض ينشأ عن حال الفقد والعجز في الدنيا بإثبات خلودها
وفناء الآخرة.
٢٥
وقد تتعدد الديار، دنيا وآخرة، لتجمع بين التصورَين
الثنائي والواحدي لعلاقة الدنيا بالآخرة؛ فقد تكون الديار
خمسًا؛ داران للثواب، والثالثة للعقاب، والرابعة للابتداء،
والخامسة للابتلاء. وقد كُلِّف الخلق في دار الابتلاء بعد
اختبارهم في الدار الأولى، ولا يزال التكوين والتكرير،
الاختبار والتكليف، في الدنيا حتى يمتلئ مكيال الخير
ومكيال الشر. فإذا امتلأ الأول أصبح العمل كله طاعةً
والمطيع خيرًا خالصًا، فيُنقَل إلى الجنة وكأنه لم يلبث
طرفة عين. ومطل الغني في الحياة وحبه لها ظلم له. وإذا
امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية والعاصي شرًّا
محضًا، فينتقل إلى النار وكأنه لم يلبث طرفة عين.
٢٦ وقد يُعبَّر عن رسالة الإنسان في الحياة
فنيًّا بالصورة، فتنشأ أمور المعاد، فتكون الدنيا دار عمل،
والآخرة دار جزاء، وتتحول رسالة الإنسان في الحياة
ليحقِّقها. فمن حقَّق رسالته ارتفع إلى أعلى عليين، في
مكانةٍ أفضل من الذين استمروا في النعيم الدائم؛ لأنهم
حصلوا على جزائهم بجهدهم لا بخلقهم. وإذا لم يحقِّقوا
الرسالة هبطوا أسفل سافلين، تُسلَب منهم الرسالة، ويتحولون
إلى أقل مرتبة من الوجود، وهي مرتبة غياب الوعي وحياة
الشعور، ثم تُعطى لهم فرصةٌ ثانية للاختبار والتكليف.
وهكذا تستمر الحياة، تكليف برسالة، ونجاح أو فشل في
التحقيق، لا نهاية ولا يأس، بل عمليةٌ مستمرة لمزيد من
الارتفاع للبعض، ومزيد من الانخفاض للبعض الآخر؛ حتى يظهر
التقابل بين الملاك والحيوان، بين النعيم المُطلَق والعذاب
المُطلَق، بين حياة الوعي وحياة اللاوعي، بين اليقظة والموت.
٢٧
صحيحٌ أن المعاد يكشف عن همِّ المستقبل لدى كل إنسان
ولدى الإنسانية جمعاء، خوفًا منه أو ثقةً فيه، ويخطِّط كل
كائن حي للمستقبل، بما في ذلك الطير والحشرات من أجل تخزين
الطعام وفقس البيض، وأن عبادة الأسلاف وأرواح الموتى
والتطلع إلى المستقبل من أجل التعرف عليه والإعداد له، قد
يجعل من المعاد أساس الحضارة، وأنه لولاه لانهارت الأمم،
وقصر نظر الإنسان. أمور المعاد هي الدراسات المستقبلية
بلغة العصر، والكشف عن نتائج المستقبل ابتداءً من حسابات الحاضر؛
٢٨ ولذلك احتوى كثير من النصوص على صورٍ فنية
لتصوير المعاد، ليس الغرض منها إصدار أحكام واقع، بل أحكام
قيمة. ليس المطلوب منها إيجاد تطابق معانيها مع وقائع
مادية، بل كشف هذه المعاني عن جوهر التجربة الإنسانية في
المستقبل. لا يُحيل النص إذن إلى وقائع مادية، بل يكشف عن
وقائع شعورية تعبِّر عن بنية الوجود الإنساني. إن قسمة
الحياة إلى دنيا وآخرة، إلى ديني ودنيوي، لتعبِّر عن تصورٍ
ثنائي للحياة يكشف عن تخلف وكبت وحرمان وتعويض وعجز
واستكانة وخور. ولا تعني الآثار المترتبة على الفعل
التصوير الفني لهذه الآثار من جنة أو نار؛ فالجنة هي
الفائدة المترتبة على النظر، والنار هي الضرر الناتج عن
غياب النظر كما هو الحال في تأويل الفلاسفة. الجنة هي آثار
الفعل الحميد في الدنيا، والنار هي آثار الفعل القبيح
فيها. أمور المعاد إذن هي أولًا خطأ في التفسير وتحويل
الصور الفنية إلى وقائع مادية، وهي ثانيًا خطأ في الاتجاه
وتحويل هذا العالم إلى عالمٍ آخر؛ ممَّا يكشف عن موقف
مغترِب منحرِف، معوجٍّ منعرِج في الحياة، وهي ثالثًا خطأ
في القصد؛ فليس المقصود منها الحساب الكمي في النهاية، بل
توجيه السلوك والتأثير فيه منذ البداية. وكلما عمقت ثقافة
الإنسان وقوي وعيه وقلَّت غربته عن العالم، فإنه لا يكون
في حاجة إلى خلق مثل هذه العوالم الوهمية، وأصبح قادرًا
على التفرقة بين عالم التمني وعالم الواقع. وفي المواقف
الثورية تغيِّر المجتمعات حالها بالفعل، وتفرِّق بين النية
والعمل، بين القصد والفعل، بين البداية والنهاية.
إن الخلود رغبةٌ إنسانيةٌ خالصة، وتعبير عن طموح الإنسان
لتجاوز فنائه وحدوثه؛ فهي رغبة على الدوام لتجاوز الزمان،
وطموح في البقاء لتجاوز الفناء. ليس في الخلود فترة انتظار
من لحظة الموت إلى لحظة قرار الخلود، بل الخلود متَّصِل لا
انتظار فيه عندما يؤثِّر الإنسان في حياته، ويستمر أثره
بعد مماته. الخلود واقع وليس تمنيًا، حاضر وليس مستقبلًا،
يُكتسَب ولا يُوهَب. وبالخلود يستمر فعل الإنسان، ويظل
الإنسان فاعلًا مؤثِّرًا من خلال جهده وأثره طالما هو
دائمًا فعَّال. يتم الخلود في هذا العالم من خلال الأثر
الذي يتركه الإنسان في شعور الآخرين وفي واقعهم. لا يحدث
الخلود في عالمٍ آخر، بل في هذا العالم، وفي حياة الناس
عندما يتحول سلوك الإنسان إلى قدوة، وحياته إلى نموذج. ليس
الخلود ميزةً فردية يستأثر بها إنسان دون آخر بصادية يفرح
صاحبها بنعيمه المقيم وبعذاب الآخرين، بل هي فردية بمعنى
أنها مشروطة بجهد الفرد في البداية، ثم تُحيل الإنسان كجزء
من الحضارة والتاريخ في النهاية. ومع ذلك فالخلود فردي قد
يحدث لفرد دون فرد؛ لأنه كسب؛ وبالتالي ليس كل البشر
خالدين. الخلود فقط لمن حوَّل حياته الزمانية إلى حياةٍ
أبدية. ليست درجات الخلود خارج هذا العالم في مراتب
اجتماعية، ومكاسب مادية، ومنازل ودور من أدوار وقصور، أو
زمان يقصر أو يطول، بل درجات الخلود في هذا العالم طبقًا
للأثر الذي يُحدِثه فعل الإنسان في حياته على الآخرين. قد
تحدث أخطاء في عملية التخليد نتيجةً للاجتهاد، خطأً أم
صوابًا، ونتيجة لضعف الباعث أو شدته، أو شوب القصد
وطهارته، أو غموض الهدف ووضوحه. تلك هي بنية الجهد
الإنساني الحر كدليل على حرية الإنسان واختياره الحر. وقد
تحدث مظاهر نكوص في عملية التخليد عندما تضعف الروح، أو
يتفتت الأثر، أو عندما يحدث أثرٌ مُضاد، ولكن هذه هي حياة
الخلود، حياة تسري عليها قوانين الحياة؛ النشوء والنماء،
الانكماش والضمور. الخلود في النهاية للحضارة وللتاريخ،
وللشعب صاحب الحضارة وصانع التاريخ. الخلود عملية يُساهِم
فيها كل الأفراد، كلٌّ يكمِّل الآخر حتى يخلد الذهن البشري
الخالق المُبدِع، وهو ما سمَّاه الحكماء خلود العقل
الفعَّال، ولكنه هذه المرة عقل الأمة أفرادًا وجماعات، حال
في التاريخ وليس مفارقًا للعالم. وإن الخلود الفردي ليجد
كماله في خلود الجماعة في الحضارة والتاريخ.