إذا كانت النبوة جائزة؛ أي مُمكِنة الوقوع، فما الدليل على
صدقها بعد وقوعها؟ هل المعجزة دليل على صدق النبوة؟ وماذا تعني
المعجزة؟ وما برهانها؟ وما شروطها؟ وما دلالتها؟ وما هي
أنواعها؟ وهل هي ضرورية أم جائزة أم مستحيلة؟ وما الفرق بين
المعجزة والكرامة والسحر؟ وهل مستمرة باستمرار النبوة أم
منقطعة بانقطاعها؟ لقد ركَّز القدماء على المعجزة لدرجة أنها
أصبحت الموضوع الأول في النبوة، بل وبديلًا عنها، فأصبحت
الوسيلة غاية والغاية وسيلة، ولم تنجُ من ذلك حتى الحركات
الإصلاحية الحديثة.
(٢) استحالة المعجزة
إن لم تكن المعجزة مستحيلة عقلًا لأنها واقعة مشاهدة عند
بعض القدماء والمُحدَثين، فإنها عند البعض الآخر مستحيلة
نظرًا وعملًا، إمكانًا ووقوعًا؛
١٩ فالبناء العقلي الذي تقوم عليه المعجزة بناء
هاوٍ لا أساس له، ويُمكِن التحقق من تهاوي هذا البناء
بالعودة إلى معاني المعجزة وشروطها ودلالتها، وتقوم
استحالة المعجزة على إنكار العلم بها.
٢٠ فلا يكفي القول بأن الله خالق ومالك كل شيء
لبيان إمكان المعجزة ووقوعها؛ فهذا هو تصور المُجبِّرة،
يفعل في الطبيعة ما يشاء؛ فلو كان ذلك صحيحًا لما احتاج
إلى رسول ومعجزة وتصديق وحساب وعقاب؛ فباستطاعته أن يخلق
علمًا وتصديقًا وإيمانًا وثوابًا للجميع، وقد تكون من فعل
الرسول لتميُّز نفسه على باقي النفوس بصفائها وقدراتها
الخاصة على التخيل، أو لمزاجه الخاص وقدراته الإبداعية
المتميِّزة على غيره أو لكونه ساحرًا عليمًا ببعض الطلسمات
وببعض المركبات، كالمغناطيسية والكهرباء والضوء والصوت
وسائر قوى الطبيعة، لعله علم ببعض الأجسام النباتية أو
الحيوانية لها خواص عجيبة لا يعلمها الآخرون وليست لباقي
الأجسام المألوفة، ولعله مُتصِل ببعض «الجن والشياطين»
والأرواح الفلكية أو الملائكة يُعِينونه عليها ويجعلونه
أقدر من غيره على الإتيان بالأفعال غير المعتادة، ولعله
تعلَّم صناعة النجوم وتأثيرها على هذا العالم واستعمل هذا
الفن للتأثير على الناس إنْ حقيقة أو إيهامًا، ولعل ما يقع
منه كرامة لا معجزة، مجرد أفعال لأولياء يتخيلها الناس
فيها لأنهم ينتظرون منهم أشياء على غير المألوف ما دامت
حياته كلها كذلك.
٢١ ومع أن الكرامة من نفس نوع المعجزة إلا أنها
أخف وطأة وأكثر مشاهدة وأقرب إلى الفهم، والمعجزات قدح في
العقل وإنكار لبديهيات العقول ورجوع بالتطور البشري إلى
الوراء قبل ختم النبوة، حيث كان العقل يقف عاجزًا عن فهم
قوانين الطبيعة، فيلجأ
إلى السحر والعبادة درءًا للخوف واتقاءً للمخاطر، كما أنها
إنكار لقوانين الطبيعة؛ فالمعجزة قدح في العقل وقدح في
الطبيعة. وإن تكرار المعجزات إنما يدل على أنها ليست
خوارقًا للعادات، وإنما هي حوادث تتكرر على مدى العصور، في
كل زمان ومكان؛ وبالتالي ينتفي منها الطابع الفريد، فإذا
ما تكررت الحوادث الفريدة فإنها لا تُصبِح معجزة، وقد تحدث
الحوادث الفريدة في قُطرٍ آخر أو بفاعل آخر ولا تكون فريدة
فيه أو عنده، ويجوِّز العقل وقوع أمثالها في الماضي
والحاضر والمستقبل. ما يهم فقط هو رصد حوادث التاريخ
ومعرفة تاريخ السِّير والأبطال وحياة القادة العظام، وإذا
ما تكرَّرَت الحادثة الفريدة أمكن إخضاع التكرار لقانون،
وأصبحت الحوادث الفريدة كلها إنما تتم طبقًا لقانون طبيعي،
وتُصبِح حوادث طبيعية، بل إن خرق الحادثة الواحدة الفريدة
للقانون الطبيعي العام إنما يتم وفقًا لقانون آخر وليس ضد
القانون الأول، ويُساعِد تكرارها على اكتشافه؛ ومن ثَم
تنتظم قوانين الطبيعة فيما بينها من حيث الخصوص والعموم،
ما يصدق على بعض الظواهر، وما يصدق على بعض آخر أعم من الأول.
٢٢ وقد تكون المعجزات في النهاية من فعل الأجسام
بطباعها وليس خرقًا لقوانينها، وتحدث طبقًا للطبائع وليس
قلبًا لها؛ فقوانين الطبيعة ثابتة لا تُخرَق بفعل أحد، وإن
خرقها لَأدلُّ على النفي منه على التصديق، وأدعى إلى زعزعة
الثقة بالعقل وبالعلم منه إلى إعطاء معرفة أو تصديق بديل.
هناك إذن قوانين الطبيعة وخواص الأشياء التي تمنع من
التصديق بالمعجزة؛ بمعنى مناقضتها لها وجريانها على غيرها.
المعجزات إذن ليس شيء منها من فعل الله؛ فالله قد خلق
الأجسام ثم خلقت الأجسام الأعراض بأنفسها، وليست المعجزة
حدوث أجسام وإنما حدوث أعراض في الأجسام على وجه لم تألفه
العادة، والمتولِّدات من أفعالٍ لا فاعل لها إلا الأجسام
التي تتولد عنها الأعراض.
٢٣ إن القول بالطبائع ليس إنكارًا للصفات عامة
وللكلام خاصة، أو إنكارًا للشرع وإسقاطًا للتكليف؛ فهذا
إرهاب باسم الذات والصفات للعلم وللحرية.
وإن تم التسليم بأن فاعل المعجزة هو الله، فلِمَ يفعلها
من أجل التصديق وأفعال الله غير معلَّلة بعلة أو بفرض أو
بغاية؟ ولماذا لا تكون المعجزات ابتداءً وهو أقرب إلى نفي
العلية والغائية. وقد تكون المعجزة تكرارًا لعادة
مُتطاوِلة، أو كرامة لولي، أو إرهاصًا لنبي آخر، أو
امتحانًا لعقول المكلَّفين وليس بالضرورة للتصديق. وما
حاجة الله إلى المعجزة وبقدرته مشافهة الخلق أو خلق
التصديق فيهم بلا وسيلة أو ذريعة أو مناسبة؟ وهل المعجزة
دليل صدق؟ وهل الصدق خارجي ضد العقل والطبيعة أم داخلي
باتفاقه مع بداهة العقل وقوانين الطبيعة ومصالح الناس؟ وقد
يقع التصديق بالإيهام أو بالاجتهاد أو بالتأويل، كما هو
الحال في المتشابهات، فيكون للمصدِّق نِعمَ الثواب، بل إن
التصديق على هذا النحو متعذِّر؛ فإما أن يتم التصديق بنفس
دعوى النبي وخبرُه فيه احتمال الصدق والكذب، وإما أن يتم
بأمر خارجي، إما بمشافهة مع الله، أو باقتران قول يدل على
صدق الرسول، ويكون هذا القول المقترن إما في مقدوره،
وبالتالي يكون في مقدورنا، أو في مقدور الله وحده، معتادًا
وبالتالي يكون في مقدورنا، أو على غير المعتاد فيكون فعلًا
لله وحده يُثبِت قدرته ولا يُثبِت صدق النبي. وطالما سأل
نبيٌّ معجزة في وقت معيَّن أو مكان معين، فلم تحدث لأنها
مخصَّصة بمشيئة الله وإرادته. إن اقتران بعض المعجزات
بدعوات الأنبياء إنما كانت من قبيل الاتفاق وبمحض
المصادفات، كما أن وقوعها قبل دعوته أو بعدها لا يكون
دليلًا على صدقه إن لم يكن دليلًا على كذبه.
٢٤ وما العمل إذا شك الناس حتى بعد وقوع المعجزات
ولم يحدث التصديق بها؟ هل من الضروري وجود معجزة خاصة لكل
مصدِّق، وإلا فليس أمامنا إلا التقليد أو الخبر أو الإيمان
بلا دليل؟ وماذا تفعل الأجيال التي لم تلحق بالأنبياء
وتشاهد معجزاتهم؟ هل تستمر المعجزات لهم وتتكرَّر جيلًا
بعد جيل، وبالتالي لا تُصبِح معجزات فريدة بواقع التكرار،
أم تتوقف المعجزات وتُصبِح الأجيال اللاحقة بلا دليل على
صدق النبوة؟ ليس أمام الأجيال الحالية إلا التصديق
بالأنبياء السابقين بناءً على روايات المعجزات إن كانت
متواترة، وبالتالي يكون الخبر المتواتر بالنسبة لها هو
الدليل على وقوع المعجزة. وإذا كان الخبر المتواتر دليلًا
فالأَولى أن يكون كذلك مباشرةً على صدق النبوة، بتواتر
الكتاب مباشرةً ووصوله بلا تحريف أو تبديل، بلا زيادة أو
نقصان، خاصةً وأن النبوة هي علاقة المُرسَل إليه بالمُرسَل
إليهم، وهي الرسالة وليست علاقة المُرسِل بالمُرسَل إليه
وهي النبوة.
٢٥
وإن تم التسليم بأن الله فعلها من أجل تصديق المدَّعي،
فلماذا يكون كل من صدق الله فهو صادق؟ يحدث هذا إذا ثبت أن
الكذب على الله مُحال، وهذا لا يتأتى إلا بإثبات الحسن
والقبح العقليَّين في أفعال الله، وإلا لَاستحالت معرفة
امتناع الكذب عليه. إن ارتباط العجز بصدق الله يُوجِب على
الله الصدق، وهو مخالف لأصل عدم وجوب شيء عليه، وإن عدم
وجوب الصدق يجوِّز الإضلال على الله؛ وبالتالي يجوز إظهار
المعجزات على يد كاذب، ولا يُظهِرها على يد صادق، دون أن
يكون في ذلك نقض للألوهية وإضرار بالربوبية، وإن كثيرًا من
الأنبياء لم تربط دعوتهم بالآيات والمعجزات أو بتصديقها؛
مما يدل على ارتباط صدق الرسول بالمعجزات، حتى ولو أمكن
التمييز بين المعجزات والكرامات من ناحية، وبين السحر
والطلسمات من ناحية أخرى، فكيف يتم التصديق بالأُولى
وتكذيب الثانية، والكذب والإضلال والغواية وكل القبائح
تجوز على الله، ما دام الله لا يجب عليه شيء؟
٢٦ وكيف يُجِيز الله أمثال هذه المعجزات على أيدي
الكذبة لإضلالهم دون أن يُوقِفهم أو ينهِّيهم أو يحذِّرهم
أو يُخبِر الناس بها؟ وهل يجوز على الله الإضلال والله لا
يفعل القبيح؟ شرط النبوة أنها من الله صدقًا، وأن الله لا
يفعل الكذب شرطٌ أساسي به يُمكِن التفرقة بين المعجزة على
يد صادق والمعجزة على يد كاذب، وأن ظهور المعجزات على أيدي
الكذابين مدَّعي النبوة إنما يدل على أن المعجزة ليست
دليلًا على صحة النبوة، وإذا كانت المعجزة تقع من غير
الأنبياء فما الدليل على أن كل من تقع منه المعجزة ليس
نبيًّا؟ وإذا وقعت المعجزة على أيدي الكذبة فما الدليل على
صدق النبي حتى ولو أتى بمئات المعجزات؟ وما الفرق بين
المعجزة التي تقع على يد النبي الصادق وتلك التي تقع على
يد النبي الكاذب؟ وما الفرق بينهما لو كان كلاهما خرقًا
لقوانين الطبيعة، وجريانًا على غير المألوف، وسريانًا على
نقيض العادة؟ وحرصًا على الصدق الإلهي وصدق النبي، فإن
الأقرب هو عدم ظهور المعجزة على أيدي الكذابين، حتى ولو
كان في ذلك عدم إعطاء الأولية المُطلَقة للقدرة الإلهية
على صدق النبي. أما ظهور المعجزة أو الكرامة على أيدي
أعداء النبي، مثل «إبليس» أو فرعون، فإنه مُمكِن
لاستدراجهم ثم عقوبتهم، وهي في هذه الحالة تُسمَّى قضاء
حاجات ليزدادوا طغيانًا وليزدادوا عقابًا. وكيف يجوز ذلك
على الله؛ استدراج الأعداء لزيادة العقاب، تكذيبهم وإبطال
المعجزات والكرامات لهم؟ ألا يعود الأمر من جديد كما كان،
ظهور المعجزة على أيدي الكذابين وأعداء النبي، فيبطل الصدق
الإلهي، كما يبطل صدق النبوة، وتعجز الإرادة الإلهية،
وتقوى إرادة الأعداء؟
٢٧
أما بالنسبة لمقارنة المعجزة بالتحدي وعدم المعارضة، فقد
لا يبلغ التحدي كل القادرين على المعارضة، ولعل القادرين
تركوا المعارضة تواضعًا، إعلاءً لكلمة الله، أو خوفًا من
السيف، أو انشغالًا عنها بشئون المعاش، وقد تتم المعارضة
ولا تظهر؛ لإخفائها وطمس آثارها. وإن كان البعض قد عجز عن
المعارضة فلربما لا يعجز البعض الآخر، بل إن عجز البعض
الأول لا يدل على صدق النبي، بل على تفاوُت القدرات في
الفاعلية والأثر. وشرط التحدي أن يكون المتحدَّى بمثله
داخلًا تحت القدرة حتى يصح التحدي، وإلا لو طُلِب من
الإنسان زحزحة الجبال أو إحداث زلزال فلا يكون تحديًّا بل
تعجيزًا. وإن كان التصديق يتم ضرورة، فإن الضرورة أيضًا
ليست بأولى بالتصديق من التكذيب، ورؤية المعجزة على أنها
سحر أو رؤيتها على أنها معجزة يُظهِر دافع العناد.
٢٨
فإذا كانت المعجزة دليل الصدق الوحيد على النبوة،
واستحالت المعجزة استحالت النبوة بدورها، وإن لم يكن للناس
طريق آخر لإثبات النبوة غير طريق المعجزات الخارقة للعادات
وبطلت المعجزات بطلت النبوات، وحُوصِر الطريق إلى الله.
وما الذي جعل المعجزة هي الطريق الوحيد لإثبات النبوة
وأولى بالدلالة عليها من غيرها؟ وهي لا تصدق النبوة إلا
بهذا الطريق القائم على وجود المُحال المُمتنِع في العقل
والطبيعة؟ إن المعجزة إنكار لمبادئ العقل الثابتة ولقوانين
الطبيعة المطردة، فكيف تكون دليلًا على وحيٍ يستند أساسًا
إلى مبادئ العقل وقوانين الطبيعة؟ وكيف تكون الأعراض
دليلًا على وجود الله. إذا كانت المعجزة تغيُّرات في
الأعراض وجريانها على نحوٍ غير مألوف على الأجسام، فكيف
تكون الأعراض، وهي مشروطة بالأجسام ولا تستقل بذاتها،
دليلًا على وجود الجواهر المفارقة؟ إن العرَض لا يؤدي إلى
جوهر، والمشروط لا يؤدي إلى الشارط، كما أن الفرع لا
يُثبِت الأصل، والمعجزة فرع والنبوة أصل.
٢٩ وما الفائدة من إثبات النبوة بالمعجزة الآن،
والنبوة واقعة مسلَّم بها في حين أن التسليم بالمعجزة أقل؟
لقد كان الزمن الماضي زمن نشر الرسالة والرد على مُنكِريها
وليس الأمر كذلك الآن. إن التحدي الآن هو تحويل الوحي إلى
علم يقوم على العقل، ويستند إلى الطبيعة، ويحقِّق مصالح
الناس، أو بلُغة العصر تحويل الوحي الذي أتت به النبوة إلى
أيديولوجية تملأ في الناس فراغهم النظري، وتقضي على فتورهم
ولامبالاتهم وتجنُّدهم؛ لاسترداد حقوقهم، والدفاع عن
استقلالهم وحرياتهم، والمحافظة على أراضيهم
وثرواتهم.
لقد لاحظ القدماء خاصةً الحكماء أيضًا التفسير النفسي
للمعجزات؛ فإذا كانت المعجزات إما تركًا أو فعلًا أو
قولًا، فإن الترك يحدث بانجذاب النفس إلى عالم القدس
واشتغالها عن البدن زهدًا في الحياة، وعلى ما هو معروف من
سِيَر كبار القادة والزعماء. والفعل تعبير عن القدرة
المُطلَقة الناتجة عن الإحساس بالحق وضرورة بلوغ الهدف،
والقدرة على الخيال؛ صعود الجبال، قطع الفيافي والقفار،
عبور المحيطات، ركوب الهواء والصعود إلى القمر والكواكب.
أما القول فإنه يعبِّر عن القدرة على التنبؤ بناءً على
إحساس بالتاريخ وشعور بمساره، وإدراك لقوانينه، ومعرفة
بالمراحل الماضية، وبالمرحلة الحالية، وبالمرحلة
المستقبلية. فالوعي النبوي هو وعي تاريخي، يعي دروس الماضي
من تاريخ النبوة، ويعرف بنية الحاضر، ولديه رؤية واضحة للمستقبل.
٣٠ وقد يتضخم البناء النفسي فيتحول من قدرة فعلية
إلى وهم، ومن صورة إلى حقيقة، ومن باعث إلى شيء، ومن إيجاب
إلى سلب، ومن عبقرية إلى جنون. هنا يتم الفصل بين الذات
والموضوع، فتتضخم الذات على حساب الموضوع حتى تبلغ الذات
الموضوع ويضيع الموضوع المتضخِّم، فينشأ الوهم وخداع
الحواس، وينتهي العقل وتختفي الطبيعة. وهنا تغضب الطبيعة
لموت المسيح، وينشق القمر وتنكسف الشمس لموت إبراهيم،
ويسبِّح العصا بين يدَي الرسول، ويحنُّ الجذع إليه، ويشبع
المئات بل والآلاف من لقمتَين وسمكتَين. وقد يتحول التفسير
إلى تفسير اجتماعي سياسي، ويُصبِح الأنبياء زعماء سياسيين
مهمتُهم تسييس العامة وتجنيدها وتعبئة مقدرات الأمة وشحذ
إمكانياتها؛ فالأنبياء في التاريخ القديم هم كبار
المُصلِحين والمعلِّمين، بل والقادة، لنشر مُثُل ومبادئ
تتجاوز عصورهم من أجل نقل الوعي الإنساني إلى درجةٍ أرقى،
ومرحلة تالية في طريق اكتمال النبوة، وإعلان استقلال الوعي
الإنساني عقلًا وإرادة.
٣١
وكردِّ فعل على إثبات النبوة بالمعجزة كبرهان خارجي،
يكفي سماع الخبر من الرسول وتصديقه بلا حجة أو برهان أو
دليل، أو حتى التأكد من صحة الخبر ما دام المطلوب هو
التصديق بصرف النظر عن صورة الدليل.
٣٢ إذا كان الدليل هو المعجزة، وإن لم تكن
المعجزة دليلًا، فالنبوة بلا دليل أفضل فإنها صريحة، ولكن
كيف تجوز النبوة وكيف يسمع الوحي بلا تصديق؟ والحقيقة أن
عدم الإتيان بالمعجزات، أو بدلائل إثبات صدق النبوة، لا
يدل بالضرورة على انتفاء كل دليل على ذلك؛ فقد تُوجَب
النبوة بمجرد الخبر وصدقه الخارجي في التواتر وصدقه
الداخلي في الاتفاق مع العقل والطبيعة ومصالح الناس، وأن
مجرد سماع الخبر لا يكفي لصدق النبوة، وإن كان كافيًا في
المجتمعات المضطهَدة المنتظِرة أمامها المخلِّص وسماع
ندائه وبلاغه، فالإمام يعبد ولا يُمكِنه إجراء المعجزات
أمام كل المجتمعات؛ وبالتالي يكفي السماع بظهوره. والمطلوب
تصديق الناس واتباعهم الأئمة، بصرف النظر عن البرهان ما
دام البرهان هو المعجزة وليس العقل؛ أي خلب اللب وليس دليل
العقل، استرعاء الانتباه واستيلاء الدهشة وليس المنطق
والبرهان.
وقد سبَّب رد الفعل هذا ردَّ فعلٍ ثانٍ، وهو المطالبة
بالدليل الذي ليس هو المعجزة، فالمعجزة ليست دليلًا،
والخبر يحتمل الصدق والكذب؛
٣٣ فلا يحتوي الوحي على معجزة من فعل النبي؛ أي
دليل خارجي دون تصديق داخلي، ولا يكفي مجرد الخبر دون صحة
تاريخية مشروطة بالتواتر. ليست المعجزة دليلًا خارجيًّا
يُمكِن الاعتماد عليه والتصديق به، بل مجرد شاهد خارجي على
قدرة الرسول، لا يُمكِن التحقق من صدقها إلا بدليل الحس
وبداهة العقل وشهادة الوجدان. المعجزة برهان خارجي وليست
برهانًا داخليًّا، والتصديق لا يكون خارجيًّا، ولا يكون
إلا داخليًّا. ليست المعجزة دليلًا على صدق خاتم الرسل، في
آخر مرحلة من مراحل الوحي، بل دليل الوحي ذاته من النواحي
الأدبية والفكرية والتشريعية، وليس ذلك معجزة بل إعجازًا.
ربما قامت المعجزات في المراحل السابقة للوحي لإيقاظ
الشعور، وتحريره من سيطرة القوى المادية والسياسية، ولكنها
لا تستطيع أن تحرِّر الشعور بطريقةٍ أبقى، أكثر دوامًا،
وأشد رسوخًا، بل إن المعجزة بوضعها القديم تأخذ مدلولًا
جديدًا وهي قدرة الإنسان المُطلَقة على الفعل، وتخطي
العقبات، وعلى عدم وجود المستحيل أمامه. الرسول هو القدوة
في تطبيق الوحي، والنموذج الأول لهذا التطبيق، والتجربة
الرائدة في هذا المجال.
إن دليل النبي هو صدق رسالته بتطابق ما يأتي به مع العقل
والواقع ومصالح الناس؛ فالدليل ليس خارجيًّا من المُرسِل،
بل داخليًّا، من الرسالة ذاتها. ليس دليلًا خارجيًّا من
معجزة أو بتدخل إرادة خارجية من الله أو من الرسول، أيًّا
كانت في قلوب المؤمنين لإحداث التصديق، بل دليل داخلي ينبع
من طبيعة العقل وشهادة الواقع. ليس نظام الوحي مُعجِزًا
بمعنى عدم قدرة الإنسان على الإتيان بمثله؛ إذ يستطيع
الإنسان بعقله أن يصل إلى كل حقائق الوحي. وكي لا يطول
الوقت، ويضيع العمر، ويبذل الجهد في النظر ولا يبقى شيء
للعمل، وللأمان من الخطأ، أو من تشعُّب وجهات النظر
الجزئية وتضارُبها، أعطى الوحي النظام الشامل مُسبَقًا؛
حتى يبذل الإنسان جهده في فهم التفصيلات والتطبيق وفي
التحقيق العملي. ولا يعني صدق الرسالة مجرد سلامتها من
أخطاء القياس، بل
تطبيقها في الواقع، ومعرفة صدقها بالتجربة وفي حياة الناس.
وفي هذه الحالة يكون صاحبها صادقًا، لا بمعنى أنه أتى من
عند الله، فالجانب الغيبي في النبوة لا يدخل فيها، بل يعني
أن رسالته صادقة في الواقع، يُثبِتها العقل، وتؤيِّدها
التجربة، ويجد الناس فيها حلولًا لمشاكلهم وبناءً لمجتمعهم.
٣٤