لم يظهر الوحي مرة واحدة، بل وقع على مراحل؛ لا توجد إذن
نبوة واحدة، بل عدة نبوات مُتتالِية منذ أول الأنبياء وهو أول
البشر، آدم، حتى آخر الأنبياء، دون أن يكون آخر البشر، محمد.
فما الصلة بين مراحل الوحي السابقة؟ وما الصلة بين هذه المراحل
جميعًا وآخر مرحلة التي بها خاتم النبوة؟ ما صلة السابق
باللاحق واللاحق بالسابق؟ هل صلة تقدُّم واكتمال، تغيُّر
وثبات، تطوُّر وبناء؟
وقد سمَّى القدماء ذلك «النسخ»، ولا يعني النسخ فقط تبديل
آية بدل آية، كما هو الحال في آخر مرحلة من مراحل الوحي، بل
ظهور وحي تابِع لوحي آخر، وظهور نبوة بعد نبوة. يُعَد النسخ
هنا بين مرحلة وأخرى، وليس بين آية وآية داخل نفس المرحلة. هو
النسخ العام وليس النسخ الخاص، نسخ النبوة وليس نسخ الآية، نسخ
المسيحية لليهودية، ونسخ الإسلام للمسيحية مثلًا. والنسخ لا
يكون إلا في الشرائع والنُّظم والعبادات والأعراق، أما في
العقائد فلا يوجد نسخ؛ فالقوانين النظرية واحدة لا تتبدل، أما
كيفية ممارساتها وتطبيقاتها وصياغاتها في قوانين وتشريعات، فهي
التي يقع فيها النسخ. لا يعني النسخ إذن الإبطال والإزالة، بل
يعني التطور والتقدم وتكييف الشريعة طبقًا لدرجة تقدُّم الوعي
البشري في الأصول والفروع، ودفعها درجة أخرى إلى الإمام
إسهامًا في عملية الإسراع في التطور؛ من أجل الوصول إلى تحقيق
الغاية من الوحي، وهو استقلال الوعي الإنساني عقلًا وإرادة، في
حين أن النسخ في آخر مرحلة يتوجه فقط إلى الفروع دون
الأصول.
ولم يقتصر القدماء على ديانات الوحي المذكورة فيه فحسب، بل
ضموا إليها الديانات البشرية الأخرى، التي قد تكون في أصلها
نبوات إلهية، أو تكون نبوات إنسانية صرفة؛ لذلك لا يقتصر
القدماء على الحديث عن اليهودية والمسيحية والإسلام كبرى
المراحل، بل أيضًا عن البراهمة والصابئة والمجوس، خاصةً وأن
لهم مواقف بالنسبة لديانات الوحي، ويعترفون بأنبيائهم ويُقِرون بنبواتهم.
١ وقد تعرَّض القدماء للفِرَق والديانات التي عرفها
العرب والمسلمون؛ فاليهودية والمسيحية فِرَق عربية، ولا شأن
لها باليهودية والمسيحية كما عرفها الغرب بعد ذلك، ثم نقلنا
نحن معرفتها بهم منه، اللهم إلا إذا كان هناك استمرار بين
الفِرَق العربية القديمة والفِرَق الغربية الحديثة. الفِرَق
اليهودية والمسيحية هي الفِرَق داخل الحضارة وليس خارجها،
وكذلك البراهمة والصابئة والمجوس هي الفِرَق التي عرفتها
الحضارة وانتشرت داخلها بعد أن تحوَّل أصحابها إلى الدين
الجديد، أو بقى البعض منهم على دياناتهم القديمة، أو عرفها
المسلمون فقط تاريخيًّا إثر الترجمة ومعرفة ديانات الأمم
السابقة ومِلَلها، سواء كانت بلادها مفتوحة أو لم تُفتَح بعد،
واقتصر الأمر على نقل تراثهم. وأخذ القدماء معارفهم عن
الديانات القديمة من مصادرها الأولى؛ أي من الكتب المقدَّسة
لكل دين وملة، وليس من كتب تاريخ الفِرَق القديمة، أو رواية
وسماعًا دون التحقق من المصادر؛ وبالتالي فإن معرفتهم بها
موثَّقة، وليست كمعرفتنا نحن بآراء الخصوم وفِرَق المعارضة،
التي لا نعلمها في الغالب إلا مِن كتب تاريخ الفِرَق التي
كتبتها الفِرَق الناجية. ويُثبِت القدماء نبوة كل الأنبياء وكل
مراحل الوحي السابقة؛ دفاعًا عن اكتمال الوحي وشموله ضد
مُنكِري إحدى مراحله نيابةً عن باقي الفرَق، فكأنهم يقومون
بعملهم وبعمل غيرهم، وكأن آخر مرحلة هي الأمينة على شمول الوحي
واكتمال النبوة، وهي القادرة على تبني الوحي في تمامه وكماله
حرصًا عليه، وليس دفاعًا عن قوم أو ملة أو عنصر أو جنس،
وتنكرًا للأقوام والمِلَل والشعوب الأخرى؛ فكلُّ ملة تقطع
مراحل الوحي وتُوقِفه عندها، وآخر مرحلة تعترف بالمراحل
جميعًا، ولا تُوقِف الوحي إلا عند اكتمال النبوة وتحقُّق غاية
الوحي في التاريخ، وقد قام بذلك البعض دون البعض، سواء في نشأة
الحضارة أم في ذروتها، في المشرق أو في المغرب؛ فقد بدأت الأمم
المغلوبة بعد الفتح التوجه إلى الدين الجديد من الخلف، بعد أن
عجَزت عن مواجهته من الأمام بنشر دياناتها السابقة وعقائدها
القديمة في حضارةٍ تقوم على التسامح الديني والحوار الفكري
وتعدُّد الأديان.
٢
(١) هل يستحيل النسخ بين المراحل؟
إذا كان من المُمكِن تناوُل موضوع النبوة إمكانًا
ووقوعًا على نحوٍ نظري خالص، فإنه يصعب فِعل ذلك حين
الحديث عن تطور النبوة؛ فما دام الأمر مع التاريخ فلا بد
من أسماء أنبياء وأسماء فِرَق ومذاهب، ويتحول علم أصول
الدين بالضرورة من علم للعقائد إلى علم للفِرَق. وتطوُّر
النبوة إنما يعني بتعبيرٍ اصطلاحيٍّ «النسخ»؛ فالتطور يعني
المراحل، والنسخ هو أحد أشكال العلاقات بين هذه المراحل.
ولما كانت النبوة متطوِّرة، وكان الوحي قد وقع على مراحل
عدة، كان من الضروري أولًا إثبات النسخ ضد مُنكِريه وهم
اليهود، وتُنكِر اليهود النسخ لأنها تتضرر منه مرتَين؛ مرة
بنسخ المسيحية لليهودية، ومرة بنسخ الإسلام للمسيحية؛ ومن
ثَم كانت المحاولات لإثبات النسخ (بالإضافة إلى التحريف
الذي تُشارِك فيه المسيحية) موجَّهة أساسًا ضد اليهود مع
تعديد فِرَقهم المختلفة، وهم قسمان؛ القسم الأول أبطل
النسخ ابتداءً كاستحالة عقلية ولم يجعله مُمكِنًا؛ إذ
يستحيل أن يأمر الله بشيء وينهى عنه، فينقلب الحق باطلًا
والباطل حقًّا، وتتحول الطاعة إلى معصية والمعصية إلى
طاعة، ويُوقَع الله في الجهل والندم، ويُحدِث تغيرًا في
العلم الإلهي، وتقلبًا في الإرادة الإلهية، وهو سؤال
البداء: هل يجوز البداء على الله؟ ولكن نظرًا لاختلاف
الفِرَق اليهودية فيما بينها حول النسخ فيما يتعلق بأي
النبوات تنسخ، فلم تفصِّل في هذه الحجة الأولى، حجة
البداء، ولكن فصَّلت فيها الفِرَق الإسلامية المُنكِرة
للنسخ طبقًا لهذه الحجة النظرية المبدئية.
٣ والقسم الثاني أجاز النسخ، ولكنه أنكر وقوعه
في نبوته وإن وقع في نبوات الآخرين، واعتمادًا على حجة
نقلية من موسى يحرِّم فيها وقوع النسخ في التوراة. الفِرَق
اليهودية كلها تُثبِت النسخ، ولكنها تختلف في المنسوخ
ومداه ووجهته.
إن جواز النسخ عقلًا وعدم وقوعه نقلًا يجعل العقل
مُعارِضًا للنقل، كما يجعل الجواز العقلي فارغًا بلا مضمون
ما دام لا يقع، في حين أن الجواز العقلي والإمكان الواقعي
شيء واحد، والاعتماد في ذلك على النقل يُضعِف من الجواز
العقلي، فالمُعارِض العقلي أقوى من النقل؛ وبالتالي إن
نُقِل عن موسى قوله إن شريعته آخر الشرائع فإنه يكون
مُعارَضًا بالعقل؛ لأن نبوة موسى إحدى مراحل الوحي، وهناك
فرق بين وقوعه سمعًا وعدم وقوعه نقلًا؛ فقد يقع سمعًا ولا
يُنقَل، وعدم نقله لا ينفي عدم وقوعه، فإن وقع ونُقِل؛ أي
فإن قاله بالفعل فقد يعني ذلك مجازًا بأن شريعته شريعة
عظيمة، وأنه ليس في الشرائع أعظم من التوراة. والتوراة
بالفعل لا تُنسَخ؛ لأنها تحتوي على مجموع القيم الإنسانية
العامة، وأعيد تثبيتها في شريعة عيسى كليًّا وفي شريعة
الإسلام جزئيًّا. ويمثِّل هذا القول خطورةً أعظم إذا ما تم
الانتقال من نسخ الشرائع إلى نسخ النبوات، ومن عظمة
التوراة وشريعتها التي لا تُنسَخ إلى إنكار النبوات
التالية لموسى، مثل نبوة عيسى ونبوة الإسلام. ويبدو أن
الهدف من إنكار النسخ ليس التمسك بشريعة التوراة اعتمادًا
على قول موسى، بل إنكار لنبوتَي عيسى والإسلام؛ لأن مِن
اليهود مَن يُقِر بنبوات تسعة عشر نبيًّا بعد موسى. وقد
يكون الدافع الأول والأخير هو إنكار نبوة الإسلام، وليس
نبوة عيسى الذي يثبت شريعة التوراة ويعمل بها، ولكن فقط
يجدِّدها من الداخل ويُعيد إليها روحها وتقواها الباطنية،
فلو جازت نبوة الإسلام لجاز نسخ الشرائع قبله؛ وبالتالي
تبطل شريعة التوراة مع أن نبوة الإسلام تُثبِتها. والنسخ
في الحقيقة ليس رفعًا، بل تبديل حُكم بحكم آخر مثله أو خير
منه، وكل نظرة تراثية تأخذ بأقوال الأحبار فإنها ترفض
النسخ، فالنسخ تجديد في حين أن أقوال الأحبار تقليد.
٤
وقد يُنكَر نسخ الشرائع عقلًا وسمعًا؛ فنسخ الشرائع محال
عقلًا وجاء السمع بتأكيد حكم العقل. وهو موقف أكثر اتساقًا
من جواز النسخ عقلًا وامتناع نقله سمعًا. وتقوم الاستحالة
العقلية على بعض المقولات الإسلامية التي كانت سائدة
بالأندلس، سواء عند بعض الفِرَق الإسلامية، مثل البداء
وتجويز الجهل على الله، أو في علم أصول الفقه باستحالة نسخ
الأشياء قبل امتثاله وقت فِعله، فالشريعة اليهودية كانت
متمثَّلة منذ موسى، وكان وقت فِعلها قد حان، ومثل نسخ
الأخف بالأثقل على سبيل العقوبة للمكلَّف، وشريعة عيسى
وشريعة الإسلام ليست بأثقل من شريعة التوراة إن لم تكن
أخف. ويظهر الأثر الإسلامي على هذه الفِرقة اليهودية في
أخذها التوراة وحدها وما في كتب الأنبياء، وتكذيب أقوال
الأحبار. أما النقل عن موسى فسنده ضعيف، وإن صح فمعناه
مشروط بعدم خلو نبي آخر، فإن بطل استحالة النسخ عقلًا
وشرعًا صح جوازه.
٥
وقد يكون الهدف من النسخ التوقف عند مرحلة دون مرحلة،
والاعتراف بنبي وإنكار نبي آخر، وهو ما يُعارِض مسار
التطور والهدف من توالي النبوات. قد تعظُم مرحلة بالنسبة
إلى أخرى، وقد تُشير مرحلة إلى تغيُّر كيفي بينما تُشير
الأخرى إلى مجرد تغير كمي؛ لذلك كانت نبوة موسى وهارون
ويوشع لا يُمكِن إنكارها؛ فموسى صاحب التوراة، وهارون صاحب
المعبد والخلافة، ويوشع غازي الأرض والآخذ بيد اليهود من
التيه والمستقر في فلسطين. فبينما تُقصَر النبوة لقصورها
على أنبياء «الشريعة والأرض» تُوسَّع لتُصبِح كل مَن تظهر
عليه المعجزات من أجل رد الاعتبار لباقي الأنبياء من بني
إسرائيل، ثم تُعتبر المعجزات في حالة عيسى ومحمد حِيلًا
ومخاريق تُبطِل نبوتَيهم، ثم يُستثنى عيسى كنبي صادق بأنه
لم يظهر بعد، وأنه سيظهر في نهاية الزمان. ونهاية الزمان
على الأرض؛ لأنه لا يوجد بعث وحياة بعد الموت. ونظرًا
للخلاف التاريخي حول التوراة، فقد يكون لكل فرقة توراتها،
تقرأ فيها عقائدها، وترى فيها نفسها، فالتوراة هي السجل
التاريخي لكل فرقة. أما أرض المعاد فالشام وليس فلسطين،
ونابلس وليس القدس، ما دام سليمان ليس نبيًّا؛ مما يدل على
أن القدس لم يكن لها هذه الدلالة التي لها الآن في
اليهودية، لا قبل سليمان ولا بعده.
٦
ويُمكِن الاعتراف بنبوات المراحل السابقة، بشرط ألا تكون
نسخًا لبعضها البعض، وكأن نبوة وحي مُستقِل بذاته، وليست
حلقة في مسلسل النبوات؛ وبالتالي تنتفي الحكمة من التسلسل،
ألا وهو تطوُّر البشرية وارتقاؤها من مرحلة إلى أخرى. كل
نبوة مستقلة بذاتها؛ وبالتالي لا يحدث تراكُم كمي يؤدي إلى
تغيُّر كيفي، ولا يحدث تواصُل بين النبوات، وتبدأ كل نبوة
من الصفر ومن حيث بدأت الأولى لدى شعب آخر؛ وبالتالي ينتهي
خط التقدم الذي يخترق النبوات، أو على الأقل يغيب التصور
الحلزوني لها الذي يجمع بين الدائرة والخط، بين العود
الأبدي والتقدم. وكل نبوة محدودة بقوم وجنس، وليست عامة
للبشر جميعًا، ولا توجد نبوة واحدة قادرة على اختراق حدود
القومية والجنس بما في ذلك اليهودية؛ فالنبوة خاصة وليست
عامة، فإذا كان النسخ جائزًا عقلًا ولكن غير واقع عملًا،
فإنه يكون بلا فائدة، ويكون الجواز العقلي مجرد افتراض
صوري لا أثر له ولا فاعلية فيه، فإذا ما تم الاعتراف
بنبوتَي عيسى ومحمد، كلٌّ منهما لقومه، عيسى لبني إسرائيل،
ومحمد لبني إسماعيل (وأيوب لبني عميص، وبلعام لبني مواب)،
فإنهما لا ينسخان شريعة موسى، فلا تواصُل بين النبوات، ولا
أثر لأحدهما على الأخرى. ولما كان عمر الدنيا قصيرًا لا
يتحمل التغيير والتبديل، ونسخ شريعة وإحلال أخرى، ظلت
شريعة موسى باقية، وكأن الحياة تعني الثبات دون التغير،
وكأن حياة الإنسان وسيلة وبقاء الشريعة غاية. والحقيقة أن
التواصل بين النبوات، ونسخ الشريعة المتقدمة للشريعة
السابقة، اعتراف بوحدة الوحي وتطوُّره حتى اكتماله في خاتم
النبوة التي تصبح عامة للناس كافة. إن عموم الرسالة لا
ينقض خصوص النبوة، كما أن خصوص النبوة لا يُعارِض عموم
الرسالة، فما من قوم إلا وفيهم نذير، وقد يكون لقوم واحد
رسولان، وفي هذه الحالة يتفقان في الشريعة، وقد يكون رسول
في قوم دون قوم، وقد يظهر رسول عند قوم ورسول آخر عند
آخرين، وفي هذه الحالة لا يؤدي اختلاف الزمان إلى اختلاف
في الواجبات العقلية، فإذا كان عموم الرسالة مشروطًا
بالتبليغ بالرغم من خصوصية النبي وقومه، إلا أن هناك
رسالات عامة حملها أنبياء للناس جميعًا؛ فقد كانت نبوة آدم
إلى جميع ولده الذين أدركوه، وكانت نبوة إدريس لجميع الناس
في عصره، وكانت نبوة نوح أيضًا كذلك، وإلى ما بعد الطوفان،
إلى أوان النبي الذي بعده، حتى لا يخلو البشر من رسالة،
وكانت نبوة إبراهيم إلى الناس كافة، ومنها رسالة محمد إلى
البشر كافة والذين نعرفهم في الدنيا.
٧
وقد يُثبَت النسخ لأن فيه فائدة للملة، وتُنكَر نبوة
محمد لأن فيها إنكارًا لها. وهذا موقف مُتناقِض تتعارض
نتائجه مع مقدماته؛ فإثبات النسخ يتضمن التسليم بتطور
الوحي وباكتمال النبوة؛ أي بنسخ كل مرحلة لاحقة للمرحلة
السابقة، وبنسخ المرحلة الأخيرة للمراحل السابقة كلها،
ونفي النسخ يجعل من المراحل السابقة مجرد تمهيدات وإرهاصات
لها، وأن أنبياء بني إسرائيل ما هي إلا صور مكرَّرة
ومصغَّرة للصور الكبرى الفريدة، السيد المسيح.
٨
ويُمكِن اختيار إحدى مراحل النبوة، واعتبارها هي النبوة
كلها طبقًا للاتفاق في المزاج والهوى، وتقوم بذلك الديانات
التاريخية التي تختار النبوات التي تتفق معها، ثم تختزل
باقي المراحل فيها؛ فقد تكون النبوة لآدم وحده دون غيره من
الأنبياء، فآدم هو الإنسان الأول وهو النبي الأول، وبعد
ذلك تستطيع الإنسانية أن تسير بمفردها برسالة التوحيد
والعدل؛ أي بالعقليات دون السمعيات، والعقليات جوهر
العقيدة وأساسها، ودون أن يتلقى آدم رسالة، فقد يكون
معذورًا إذا كان جَحودًا ناكرًا؛ لأنه لم يأتِه نذير. أعطت
النبوة الأولى دفعة أولى للإنسان علمًا وخلقًا؛
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ
كُلَّهَا. وإذا كانت النبوات جوهرها واحد فلمَ
التكرار؟ ليست الشرائع جوهر التوحيد، والإنسان قادر على
صياغة شرائعه طبقًا للظروف، ولكن التوحيد غير متطوِّر؛
وبالتالي فلا نبي إلا آدم.
٩ والحقيقة أنها نظرة مثالية طوباوية، تجعل
الخاص عامًّا، وترى أن الإنسانية قادرة على التعليم من
نبوة واحدة، وأن الحقيقة النظرية لها الأولوية على التشريع
العملي، ولكن في واقع الأمر تحتاج الإنسانية إلى نبوات
مُتتالِية؛ حتى تتعلم من تجارب الصواب والخطأ، وحتى تتراكم
عندها الخبرات، وحتى تتسع دائرة الخاصة أكثر فأكثر، وتقل
دائرة العامة. وقد يتم اختيار إبراهيم وحده دون غيره؛
فإبراهيم أبو الأنبياء، صاحب التوحيد الطبيعي ومؤسِّس دين
الفطرة؛ دين العقل والحنفاء، دين الأخلاق والعمل الصالح
والتقوى الباطنية. ولما كان الإسلام دين إبراهيم، الحنيفية
السمحة، كان الدين واحدًا، والنبوة واحدة؛ الدين الشامل
للإنسانية جمعاء، وإن إبراهيم بمفرده كان أمة، ومن يرغب عن
دينه فإنه لا يكون موحِّدًا.
١٠ وهي نظرة طوباوية توحِّد بين الخاصة والعامة،
بين الحكيم والناس. وكم في البشر من إبراهيم؟ وكم من الناس
يوحِّدون على الطبيعة اعتمادًا على العقل واستئناسًا
بالفطرة؟ وإذا كان البراهمة يرفضون نبوة موسى وعيسى،
فالتوحيد الطبيعي ليس في حاجة إلى خلاص ولا إلى تشريع، فإن
المانوية تُثبِت نبوة عيسى لإشراقه في النفس، كمعلِّم
داخلي، والذي لا يحتاج الإنسان معه إلى تشريع. والحقيقة أن
كل محاولة لإثبات النبوات اللاحقة بعد النبوة السابقة هي
في نفس الوقت دليل لإثبات تطوُّر النبوة في آخر مراحلها
حتى خاتم النبوة.
١١ وقد تتوقف النبوة على شيث وإدريس وعلى
كتابَيهما، بالرغم من التظاهر بالاعتراف بنبوة عيسى، حتى
يُعتبَروا كالنصارى في الحقوق الاجتماعية.
١٢ وقد تقتصر النبوة على زرادشت. ولما ضاع معظم
أجزاء كتابه التي بها الشرائع، تحوَّل الدين المجوسي إلى
دين سري لا يُباح منه بشيء، ودخلت فيه الأساطير التي تتحدث
عن وحدة أول البشر وأول الرسل مثل آدم. فلما قتله الشيطان
خرج من صلبه نطفةٌ غاصت في الأرض ونبتت منها يباستان،
فصارتا ذكرًا وأنثى؛ أصل البشر جميعًا. فإذا سهل فهم
اختزال النبوات على بعض الأنبياء العظام، آدم وإبراهيم،
فإنه يصعب قَصرها على أنبياء للديانات التاريخية تُعارِض
العقل والطبيعة، وتكون أكبر حجة على حاجة الإنسانية إلى
نبوات حتى يرقى وعيها ويستقل عقلًا وإرادة.
١٣
(٢) جواز النسخ بين المراحل
وقد تحوَّل موضوع النسخ بين المراحل في العقائد
المتأخِّرة إلى أحد موضوعات الإيمان، من حيث الكم وإن لم
يكن من حيث الكيف، من حيث العدد وإن لم يكن من حيث
الدلالة، من حيث التراكم والتكرار وإن لم يكن من حيث
المعنى والتطور. فيجب معرفة الرسل المذكورة في القرآن
تفصيلًا وغيرهم إجمالًا. هناك إذن مجموعتان من الأنبياء
والرسل، مجموعة لم يذكرها القرآن ومجموعة أخرى ذكرها، فعدد
الأنبياء والرسل في الواقع أكثر بكثير مما ورد في القرآن،
فلا توجد أمة إلا خلا فيها نذير، ولكن القرآن قص البعض ولم
يقصص البعض الآخر.
١٤ ربما قص ما هو مخزون في الوعي العربي، وما
يتناقله الناس، وما ترسَّب في أذهانهم، خاصةً إذا كانوا
موضع تبجيل واحترام مثل إبراهيم، وربما قص ما له دلالة
أكثر من غيره حتى يتم التركيز على بعض النماذج المثالية،
كما هو الحال في أصول الأحكام، ثم قياس الفروع عليها
لاشتراك معها في العلة أو الدلالة، وربما قص البعض رغبةً
في الاختصار، فيستحيل ذِكر عشرات الآلاف من الأنبياء
والرسل، وإلا كان مجرد سجل تاريخي لا يستوعبه الناس، ولا
يُدرِكون دلالته، واستحال حفظه، وتحوَّل الوحي إلى سجل
للتاريخ وحوليات له.
١٥ فإذا أمكن معرفة مجموعة الأنبياء والرسل التي
ذكرها القرآن، فكيف يُمكِن معرفة المجموعة الأخرى خارج
الإشارة العامة عن وجودهم استنباطًا من القرآن، وخارج
الإشارة إلى عددهم في الأحاديث رغم تفاوتها في درجة الصحة
التاريخية؟ هل للأرقام المذكورة مثل ١٠٠٠٢٤ صحيح؟ هل له
دلالة رمزية؟ وهل يُمكِن استنباط أن عدد الأمم السابقة هو
مثل هذا العدد، ما دامت كل أمة لها نبي أو رسول؟ وما هي
هذه الأمم والأقوام والمجتمعات وأين كانت؟ وماذا كانت
نبوات الأنبياء ورسالات الرسل؟ وهل اندثرت كليةً أم ما
زالت باقية آثارها؟ وهل منها خارج بني إسرائيل والعرب؟ هل
منهم من ظهر في شعوب آسيا؛ الصين والهند وفارس؟ هل منهم
لاوتزي وكونفوشيوس وبراهما وماني؟ هل منهم حكماء الصين
والهند وأنبياء فارس الذين نادَوا بالتوحيد وبالعمل الصالح
وعزفوا عن الدنيا وزكَّوا الروح؟ هل ظهر البعض في أفريقيا
أو في الأمريكتَين؟ وما أكثر الديانات في القارات الثلاث
والحضارات التي قامت على أُسُسها؟ وإذا كان أولو العزم من
الرسل المذكورة في القرآن، فهل يمتد الأمر ويتسع ويُصبِح
كلُّ زعيمٍ وقائد ومرشد وكبير للقوم وساحر ومعلِّم وفاضلٍ
نبيًّا أو رسولًا؟ هل يُصبِح كلُّ من يحمل دعوة أو رسالة
نبيًّا، وكل مُحارِب ومُقاتِل ومُجاهِد وقائد ورئيس
رسولًا؟
والخلاف عند القدماء في عدد الأنبياء والرسل يتراوح بين
١٠٠٠٢٤ على أكثر تقدير، وبين خمسة وعشرين على أقل تقدير،
فالعدد الأول لا سند له إلا الرواية التي قد تصح وقد تضعف
تاريخيًّا، وقد يكون للعدد مدلول رمزي غير مألوف بتركيبه
وإن كان مألوفًا بجمع أعداده؛ ٤ + ٢ + ١ = ٧، والرسل منهم
٣١٣ معتمدًا على نفس السند الظني، وله نفس الدلالة
الرمزية؛ ٣ + ١ + ٣ = ٧، وقد يكون لذلك سند تاريخي آخر،
وهو عدد الذين جاوزوا النهر مع طالوت في قتل جالوت، وعدد
أصحاب النبي في غزوة بدر، وإلى هذا الحد تبلغ نسبة الرسل
من الأنبياء ١ : ٣١٩٥ تقريبًا، وكأن العقائد النظرية وفي
مقدمتها التوحيد أصعب بكثير في الاقتناع بها من الشرائع
العملية، ولكن هناك اتفاق على أن أولهم آدم وأن آخرهم
محمد، وعلى أن الكتب أربعة؛ التوراة على موسى، والزبور على
داود، والإنجيل على عيسى، والفرقان على محمد،
١٦ وهناك شِبه إجماع على أن العدد الأصغر وهو ٢٥
هم الأنبياء والرسل المذكورة في القرآن تفصيلًا، وكأن نسبة
ما ذكر القرآن إلى نسبة ما لم يذكُر القرآن ١ : ٤٠٠١، وكأن
القرآن لم يذكر شيئًا على الإطلاق، وذلك يدعو إلى مزيد من
التشكك في صحة العدد الكبير الأول.
١٧
ولا يوجد تفضيل
نبي على آخر أو رسول على آخر، بل هناك مراحل كمية وكيفية،
أساسية وفرعية، تطوُّر مستمر وتطوُّر منكسِر؛ أي تطوُّر
وثورة في تاريخ النبوة ومسار الوحي. ليس التفاضل بين أشخاص
الأنبياء، بل بين رسالاتهم كمراحل متتالية لتطوُّر وحي
واحد؛ فتفاضُل الرسالات ليس من حيث القيمة، بل من حيث
درجتها في تطوُّر الوحي في التاريخ، وقد يُتجاوَز التفضيل
إلى إنكار النبوات أو بعضها، أو يخف إنكارها ويتحول إلى
تفضيل، وفي كلتا الحالتَين يدل الاختزال أو التفضيل على
شعوبية أو قومية، وتعصُّب كل ملة لأنبيائها والتضحية بكمال
الوحي ووحدته من خلال التطور. ومن الطبيعي أن تعتبر كل ملة
نبيها آخر الأنبياء وأن لا نبي بعده، أو أن نبيها أفضل
الأنبياء وأن لا نبي أفضل منه، وهو على رءوسهم يوم القيامة
شهيدًا عليهم جميعًا. وما هو مقياس التفضيل؟ هل هي طريقة
مخاطبة الله للنبي سواءٌ مباشرة أو بواسطة وأفضلية الأولى
على الثانية؟ النبوة الرأسية؛ أي صلة الله بالنبي وطريقة
الاتصال به لا شأن لنا بها، ولا يُمكِن معرفتها أو التحقق
من صدقها، وما يهمنا هو النبوة الأفقية؛ أي صلة النبي
بالأجيال التالية وتبليغها الرسالة وحفظها صحيحة تاريخية
بمناهج نقل مضبوطة شفاهًا أم كتابة، وقد تكون الواسطة
أفضل؛ لأنها تدل على رُقيٍّ أعظم من حيث التنزيه لله ودرجة
التطور في النبوة؛ فالاتصال بلا واسطة يعني التشبيه (النار
مثلًا) في حين أن الواسطة تعني التنزيه (الملك). وهل يكون
مقياس التفضيل الأبوة والبنوة ونسب الرسول وسلالته؟ قد
يخرج الابن الكافر من الأب المؤمن، أو الابن البار من الأب
العاق. ولا يكون المقياس المعجزات أو الكرامات كيفًا أو
كمًّا؛ فخاتم الأنبياء ليس له معجزات، وليست المعجزة
بالمعنى القديم؛ أي خرق قوانين الطبيعة دليلًا على صدقه،
وإلا كان عيسى من هذه الناحية صاحب أكبر قدر مُمكِن من
المعجزات، واعتبار خاتم الأنبياء صاحب معجزات بالمعنى
القديم هو قراءة للماضي في الحاضر، وليس قراءة الحاضر في
الماضي، وإسقاط المعنى القديم للمعجزة على المعنى الجديد
لها، وليس قراءة المعنى القديم للمعجزة وتفسيره بالمعنى
الجديد لها. المعجزة الجديدة في الإبداع الأدبي الفكري في
النُّظم والتشريع، في النظر والعمل، في العقيدة والشريعة.
ولا يكون مقياس التفضيل أيضًا درجات الثواب، ومراتب الجنة
التي لم تقع بعد، والتي لا نعلم عنها شيئًا، والتي هي
نتيجة للأعمال، ولكن قد تكون مقاييس التفضيل الخصوص
والعموم في الرسالة طبقًا لمراحل الوحي؛ فالمرحلة السابقة
للخاصة والمرحلة اللاحقة للعامة. قد تكون درجة الانتشار
ومقدار النفع الذي تحقِّقه النبوة في التاريخ؛ فكلما كان
انتشارها أوسع ونفعها أكبر كانت أقرب إلى الفطرة والعقل،
وبالتالي أقرب إلى خاتم النبوة واكتمال الوحي. وقد يكون
المقياس هو رتبة النبوة وليس النبي، ودرجة الرسالة وليس
الرسول في تطوُّر الوحي، في البداية أم في النهاية، أبعد
عن الاكتمال أو أقرب إليه؛ فالفضل يرجع إلى الرسالة وليس
إلى شخص الرسول، وأواخر الأنبياء أقرب إلى اكتمال النبوة
من أوائل الأنبياء.
١٨
وقد يكون التفضيل أحد وسائل تقليص عدد الأنبياء والرسل
في خمسة وعشرين نبيًّا ورسولًا إلى خمسة فقط، وهم أولو
العزم من الرسل، وهم الأنبياء والرسل الذين أصبحوا قادة
أمم وزعماء شعوب، وحوَّلوا الرسالة من النظر إلى العمل، من
العقيدة إلى الشريعة، وجعلوا الوحي دولة ونظامًا للعالم.
هم أكثر من الصابرين على البلاء، ذوو الحزم والجِد والصبر،
نجباء الرسل، بل هم المأمورون بالجهاد وبالقيادة،
والقادرون على الزعامة المؤهَّلون للرياسة، أصحاب السياسة،
ومنهم خاتم النبوة، وقد كانت القيادة لشعبَين؛ اليهود،
فلما فشلت أصبحت للعرب؛ لذلك قد يكون عشرة منهم أولو
العزم؛ خمسة عند اليهود وخمسة عند العرب.
١٩ فإذا كان نوح وإبراهيم وموسى ومحمد أنبياءً
زعماء، ورسلًا قادة، فهل الأمر كذلك عند عيسى؟ يبدو أن
أُولي العزم ليسوا فقط أنبياءً
زعماء، ورسلًا قادة، بل
هي مراحل أساسية في تطور النبوة؛ عيسى للحقيقة، ونوح وموسى
للشريعة، وإبراهيم ومحمد للدين الطبيعي. وقد يُستبعَد آدم؛
لأنه لم يكن له عزم بسبب الغواية. وقد يوضع يوسف وأيوب ضمن
الخمسة؛ لأن كلًّا منهما صاحبُ بلاء وصمود. ويخضع ترتيب
الخمسة إلى التطور الزماني للوحي في التاريخ.
وآخر الشرائع ناسخة لكل الشرائع السابقة، بفعل التطور
وارتقاء التاريخ واكتمال النبوة. ولما كانت لا توجد شريعة
بعدها فهي ناسخة لا منسوخة، وباقية في التاريخ كبناء بعد
اكتمالها كتطور، ولا يعني ذلك استمرار تغيُّر المصالح
والمنافع وبقاء الشريعة على ثباتها الأول، بل يعني أن
أُسُسها العامة أصبحت تعبِّر عن كمال العقل وازدهار
الطبيعة، وأن التغير بعد الاكتمال إنما هو في التفاصيل
وطرق التطبيق، وذلك متروك للاجتهاد وطرق الاستنباط. أما
العقائد النظرية فلا نسخ فيها، مثل التوحيد والعدل
والمضمون الاجتماعي للرسالة، ومستقبل الإنسانية (المعاد).
٢٠ ولماذا يخرج عمل الفرد ونظام الدولة، وهما
الموضوعان الأخيران في السمعيات، من العقائد النظرية؟ أما
سؤالُ على أي شرع كان خاتم الأنبياء قبل البعثة فهو سؤال
شخصي لا يمس جوهر الرسالة، فحياة الرسول قبل البعثة ليست
جزءًا منها، وحياته بعد البعثة تطبيق لها وليست جزءًا من
البعثة بذاتها. ومع ذلك فالإجابة على السؤال هي أنه لم يكن
على شريعة سابقة، بل كان على دين الفطرة، دين العقل
والطبيعة، أصل دين إبراهيم، فشريعة موسى أصبحت منسوخة
بشريعة عيسى، وشريعة عيسى لم يتم نقلها نقلًا صحيحًا ووقع
التحريف فيها، والصحيح منها نقله رواةٌ لم تسلم عقائدهم
النظرية أيضًا من التبديل والتحريف، وفي مقدمتها استبدال
التثليث بالتوحيد، والذين سلِموا من التحريف النظري قلةٌ
لا يبلغ عددهم يقين التواتر.
٢١
ولا يعني اكتمال الوحي إلغاء الرسالات وإعدام الأنبياء،
بل يعني أن العقل هو وريث الوحي، وأن الوحي قد أكمله وبه
استقل الشعور، فلا يُقال إن الأنبياء اليوم ليسوا أنبياء
ولا إن الرسل رسل، وإن رسول الله ليس كذلك الآن؛ لأن ذلك
خلطٌ بين مراحل التاريخ. كان الأنبياء أنبياء وكان الرسل
رسلًا، وأدَّوا أدوارهم في التاريخ، وتحقَّقت غاية الوحي
المرحلية، وهم كذلك الآن تاريخيًّا، ولكن بطبيعة الحال، لا
يظهرون اليوم كأنبياء وكرسل من جديد؛ فقد تطوَّر الزمان،
وتحقَّقت الغاية، واكتملت النبوة، وأصبح العقل قادرًا على
التمييز بين الحسن والقبيح، والإرادة حرة قادرة على
الاختيار؛ فالقول إذن خلطٌ في مراحل التاريخ بين الماضي
والحاضر، بين الوسيلة والغاية، بين الوقوع والاكتمال، بين
التطور والبناء. وإذا كانت الحجة في ذلك أن الروح عرَض،
وأن العرَض يفنى أبدًا ولا يبقى زمانَين، فإن ذلك يكون
خلطًا بين المستوى الطبيعي والمستوى الإنساني؛ فالروح ليست
عرَضًا بل هي جوهر مُستقِل، وهي ليست فانية، بل باقية من
حيث هي فكر، كما أنه خلط بين المُرسَل إليه والرسالة، بين
الشخص والمبدأ، فإن فني المُرسَل إليه فالرسالة باقية
تواترًا عبر الأجيال، شفاهًا أو كتابة، نظرًا أو عملًا،
عقيدة أو شريعة، وإن انقضى الشخص فالمبدأ يتمثله الإنسان،
وتحقِّقه الجماعات، وتطبِّقه الأمة، ويكون أساس الدولة.
٢٢
وقد استطاعت الحركة الإصلاحية الحديثة إدراك تطوُّر
الوحي، من خلال مفهوم التقدم، وأن مراحل الوحي الكبرى
تنتهي إلى كمال الإنسانية ممثَّلة في استقلال العقل وحرية
الإرادة، وتشبيه الإنسانية بالكائن الحي وأدواره من
الطفولة إلى الصبا ثم إلى الرجولة. هناك إذن توازٍ بين
تطوُّر الوحي ورُقيِّ الإنسان واكتمال كلَيهما في آخر
مرحلة فيه. أخذ الوحي طابعًا تجريبيًّا تعليميًّا للإنسان
تأكيدًا على أهمية التجربة وتكييفًا للشريعة طبقًا لقدرات
الإنسان وطاقته، فإذا ما تحقَّقت غاية النبوة اكتملت؛
فالنبوة وسيلة لا غاية، والوحي طريق وليس نهاية، وتلك كانت
الحكمة من التطوُّر والتدريج والمراحل؛
٢٣ لذلك تُخاطِب الأديان العقل والحس والوجدان؛
حتى تكتمل إدراكات الإنسان، وتزدهر وسائل معرفته. تُخاطِبه
بالعقل وتُطالِبه بالبرهان، وتجمع بين الحس والعقل، بين
التجربة والمنطق، وترفض التقليد واتِّباع الآباء والأجداد
بلا برهان، وتدعو إلى الاجتهاد وإلى إعمال النظر، وتحث على
العلم والتفقه، وتجعل العلماء ورثة للأنبياء. ووصل العقل
إلى درجة من الكمال في المرحلة الأخيرة، حتى إدراك الذات
والصفات والأفعال، وصل إلى أعلى درجة في التنزيه ضد مظاهر
التأليه والتجسيم والتشبيه في المراحل السابقة. لقد كان من
أهم مَهام الوحي توضيح اللَّبس في النظر، وإزالة الخلط في
المبادئ العامة، ورفض الشرك والتوسط والأسرار والتقاليد،
وكل ما يُعارِض العقل من وهم وظن وشك، والتأكيد على الوضوح
والتميز والبداهة في النظر والعمل، في العقيدة والشريعة؛
مما يفسِّر سهولة الإسلام ويسر أحكامه وعدالة شريعته. أصبح
الإسلام لذلك دين الفطرة، دين العقل والطبيعة والحرية،
ينتشر بسهولة ويسر دون غزو أو قوة أو سيف، وفي نفس الوقت
أصبح الإنسان قادرًا على التأثير في الطبيعة، وقادرًا على
الاختيار الحر؛ فاستقلال العقل مُطابِق لحرية الإرادة،
وإعمال النظر مُتزامِن مع الالتزام وتحمُّل المسئولية. وقد
ظهرت ممارسات الحرية في الواقع في نُظُم الحكم التي سادت
في الأندلس، حتى هاجَر إليها يهود أوروبا هربًا من
الاضطهاد الديني، كما ظهر في الحركات الإصلاحية الحديثة
الإحساس بالتماثل بين الوحي وبين ما ظهر في أوروبا في عصر
التنوير، من إعلاء لمبادئ استقلال الفكر وحرية الإرادة،
واعتماد على العقل والطبيعة، وحرص على التقدم ورؤية
للإنسان وللمجتمع، وبالرغم من حملة الغرب على الشرق حملة
واحدة إبان الحروب الصليبية لمدة مائتَي عام، إلا أنهم
رجعوا منه بالعلم والفكر، ثم أصلحت أوروبا حالها، واعترف
الغرب بفضل الإسلام وما نهل منه، وما كان وراء نهضته
الحديثة من عقلانية وتنوير.
٢٤ انتشر الإسلام بسرعة لم يُعهَد لها نظير في
التاريخ؛ لحاجة الأمم إلى الإصلاح، وتعبير الإسلام عن
حاجات الجزيرة العربية للوحدة والعدالة، وحاجة العالم
القديم إلى مُثُل جديدة قادرة على إعادة بناء نُظُمه بعد
تهاوي الإمبراطوريتَين القديمتَين، نتيجة للحروب
المتبادلة، وبسبب السيطرة والقهر والتدمير المتبادل. لقد
ثبَّتت الأديان مصالح الناس، وكانت دافعًا على تقدُّمهم
وبقائهم في التاريخ، وأصبحت التجارب الإنسانية كلها رصيدًا
لرُقيِّ البشرية، وتحوَّلت الشعائر والطقوس من رموز في
الديانات القديمة وحركات صورية، إلى أفعال للأمة؛ للفرد
وللجماعة، إلى إصلاح في الأرض ومواجهة الإفساد فيها، إلى
أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحفاظ على وحدة الأمة، ومنع
للفتن والشِّقاق والحروب.
ومع ذلك فلم تسلَم الحركات الإصلاحية الحديثة من بعض
النقائص، بالرغم من تركيزها على دور النبوة في التاريخ
كعامل للتطور الإنساني والرقي البشري. فليست النبوة الآن
في حاجة إلى إثبات؛ فلا أحد يُنكِر النبوات، سواء في
مراحلها أو في المرحلة الأخيرة، والتحدي الأعظم اليوم هو
في تخلُّف الأمة، التي غاية الوحي فيها هو تحقيق التقدم في
مقابل أمم توقَّفت عند مراحل الوحي السابقة، اليهود
والنصارى، وأنكرت خاتم النبوة، ومع ذلك تقدَّمت اعتمادًا
على العقل والطبيعة، وممارسة لحرية الإرادة، وإثباتًا
لحقوق الإنسان والمجتمع. التحدي الآن هو الإجابة على
الاعتراض المشهور؛ كيف تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ أو
هو الفَرق بين الإسلام والمسلمين وكأنهما نقيضان. لقد عرف
الغرب الإنسان ووجوده في التاريخ، وهو لبُّ علم أصول الدين
في بابَيه الرئيسيَّين؛ العقليات والسمعيات. ما زالت
الحركة الإصلاحية الحديثة في حاجة إلى مزيد من الأحكام؛
التركيز على الرسالة دون الشخص، وإعادة اكتشاف الإنسان
والتاريخ يتجاوز الأسلوب الأدبي والطرق الخطابية، والتحول
الجذري من الأشعرية إلى الاعتزال، ثم من الاعتزال إلى واقع
المسلمين؛ حتى لا يظل سوء توزيع ثرواتهم مؤسَّسًا على
التفاوت في الرزق بقدر من الله، ولا يبقى للإنسان إلا
الإحسان لأخيه الإنسان.
٢٥
(٣) النسخ في آخر مرحلة
ويمتد موضوع النسخ من تطوُّر الوحي وعلاقة كل مرحلة
سابقة بمرحلة لاحقة، إلى آخر مرحلة وتطوُّرها على مدى ثلاث
وعشرين سنة، منذ بداية الوحي حتى آخره. فإذا كان النسخ
الأول بين المراحل هو النسخ الخارجي، فإن النسخ داخل آخر
مرحلة يكون هو النسخ الداخلي. غاية النسخ بين المراحل هو
إحداث تقدُّم في البشرية، بينما غاية النسخ في آخر مرحلة
هو الإسراع في التطور داخل مجتمع واحد، وفي وعي بشري
محدَّد؛ فقد أصبح الإسراع في التطور من أجل اللحاق بالبناء
ضروريًّا، لدرجة أن يحدث النسخ في مرحلة واحدة؛ مما يدل
على سرعة التغير والتطور في المرحلة الأخيرة، كالعدَّاء
الذي يُسرِع في آخر الخُطى لينال السبق والفوز. والنسخ في
المرحلة الأخيرة موضوع رئيسي في علم الأصول بشقَّيه، علم
أصول الدين وعلم أصول الفقه، في الحديث عن الأدلة الشرعية
الأربعة؛ الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وفي الحديث
عن الدليل الأول خاصة، كما ظهر في موضوع التعادل والتراجيح
لحل مشكلة تعارُض النصوص، فلربما كان أحدهما ناسخًا والآخر
منسوخًا، بل إنه يكون موضوعًا مستقلًّا باسم علم الناسخ
والمنسوخ في علوم القرآن، أو كبابٍ في علم أصول الفقه فيما
يتعلق بالأخبار، إلا أن للفِرق الكلامية عدةَ آراء فيه،
ولكن النسخ هنا مستمَد من مادة علم أصول الدين وحده نظرًا
للتمايز بين العلوم.
والنسخ في آخر مرحلة من مراحل تطوُّر النبوة ليس فقط
جائزًا، بل هو واقع بالفعل. فهو جائز إسراعًا في التطور،
وتكييفًا للشرائع طبقًا لها. وهو واقع بالفعل، يرصده علماء
النسخ كشرط لاستنباط الأحكام.
٢٦ ومع ذلك فقد يتم إنكار النسخ إلى أنه
«البداء»؛ أي إن الله يبدو له شيء ثم يبدو له شيء آخر،
فيتغير علمه وتتغير إرادته، وهو ما لا يجوز على الله.
وتغيُّر العلم يعني الجهل، وتغيُّر الإرادة تعني الخديعة،
وكلاهما ضد الحسن والقبح العقليَّين، وضد مصالح الناس؛ قلب
الحق باطلًا والباطل حقًّا.
٢٧
والحقيقة أن البداء ليس مشكلة موجودة في الواقع، بل هو
وضع لمشكلة المعرفة الإنسانية، مشكلة المظهر والحقيقة. هل
العلم مُطابِق للمَظهر أم للحقيقة؟ ولما كان العلم مدفوعًا
إلى حد الإطلاق بدافع عواطف التأليه، فإنه يكون بطبيعة
الحال مُطابِقًا للواقع وللحقيقة، سواء عن وعي وهو تطور
العلم بناءً على اكتشاف واقع جديد، أو عن لا وعي كما يحدث
في الإدراك الخاطئ. فإذا ثبت العلم متغيِّرًا تكون الصفات
حادثة، والحدوث في الصفات أقل شرفًا من القِدم. النسخ أمر
شرعي يتعلق بأفعال العباد، وليس بصفات الله، مثل العلم أو
القدرة؛ لذلك كان موقف أصول الفقه أسلم بالحديث عن النسخ
حديثًا وضعيًّا صرفًا؛ أي التطور في الأحكام، لا شأن له
بالتغير أو الحدوث في صفات الله. البداء ليس مشكلة في
الصفات وافتراض حدوث تغيُّر في العلم، بل هو مشكلة إنسانية
خالصة تتعلق بصلة الفكر بالواقع، كما هو معروف في تاريخ
العلم، وفي التجارب الإنسانية القائمة على المحاولة
والخطأ. فإنكار البداء إنما يُبقي في الحقيقة التنزيه، ولا
شأن له بالنسخ، أو بآثار هذا الإنكار على النسخ؛ أي على
تطوُّر الحياة الإنسانية. إنكار البداء دفاع عن العلم
الإلهي ضد الجهل، ودفاع عن الله وعلمه الضروري غير
المكتسَب أو المستفاد، دفاع عن العلم الاستنباطي، واعتبار
العلم الاستقرائي حطة في شأن العلم الإلهي، دفاع عن العلم
الثابت؛ لأن العلم المتجدِّد تغيُّر ونقص.
٢٨
فإذا كان عِلم الله تابعًا لتغير الواقع يكون السؤال: هل
عِلم الله على شرط؟ والإجابة نفيًا تُثبِت العلم المُطلَق
وتنفي التغير منه، وتضع الشرط في المعلوم لا في العالم،
ويكون العلم هنا صفة أزلية، علمًا مُطلَقًا يحتوي على كل
شيء، الماضي والحاضر والمستقبل، لا يتغير بتغيُّر الحوادث،
يحتوي على جميع المعلومات؛ وقائع ومُمكِنات، الظاهر منها والباطن.
٢٩ والإجابة إثباتًا تُثبِت تغيُّر العلم تبعًا
لتغيُّر الواقع، أو يكون العلم أوسع نطاقًا من الواقع حتى
يستطيع أن يتقبل كل احتمالاته؛ ومن ثَم تكون الأولوية
للواقع ولفعل الإنسان؛ وبالتالي يكون العلم الإلهي والفعل
الإلهي تابعَين لفعل الإنسان؛ فالإنسان هو الذي يحدِّد
بفعله نتيجة العلم والفعل الإلهيَّين. الفعل الإنساني هو
الشارط والفعل الإلهي هو المشروط. والشرط هنا لا يعني شرط
الوجود، بل يعني أولوية الفعل؛ لا يعني الشرط هنا شرطًا
منطقيًّا، بل يعني مجرد أولوية الفعل من حيث العمل.
٣٠ والحقيقة أنه لا توجد بداوات، بل تحقُّق أولًا
حتى تتم المعرفة التجريبية وتتحقق الغاية من البداء؛ فلا
يعني البداء الجهل، أو نفي الحسن والقبح العقليَّين، أو
قلب الحق باطلًا والباطل حقًّا. ليس البداء مجرد تغيير
الرأي بلا سبب تعبيرًا عن مُطلَق القدرة وعظمة المشيئة، بل
هو درس تعليمي في العلم التجريبي، وقدرة الفكر حسب الواقع
بعد نداء الواقع للفكر في «أسباب النزول»، ولا يحدث خارج
الوقت، أو في أيِّ وقتٍ اتفُق في تطوُّر الزمن والتغير في
التاريخ من السابق إلى اللاحق. يُشير البداء إلى مشكلة
التغير في الزمان، وأن العلم يتغير بتغير الواقع؛ كلما
تغيَّر الواقع تغيَّر العلم طبقًا له، وهو معنى النسخ عند
الأصوليين. إثبات البداء وجهة نظر إنسانية خالصة تُعطي
الأولوية للإنسان، وإلى تغيُّر العلم حسب الواقع ودرجة
تطوره. فالوحي تجريبي بمعنى أنه لا يكون وحيًا نهائيًّا
إلا إذا تطابق مع الواقع. الواقع هو وسيلة تحقيق صدق
الوحي؛ ضِيقه أو اتساعه. كان الوحي قديمًا مُتسِعًا
بالنسبة للواقع، كان يحتاج إلى تطوير وإلى دفعة خارجية له،
ثم ترك الواقع لتطوُّره الطبيعي ومساره التاريخي، وأصبح
الوحي بعد ذلك مُتحِدًا مع التطور الطبيعي للواقع. والواقع
هنا ليس هو الواقع المُصمَت الخالص، بل هو الواقع التاريخي
الذي يشمل البشر وممارسة الشعوب وإرادة الجماعات. وقد
تصوَّر البعض أن إثبات البداء فيه خطورة على الفعل
الإنساني الذي تحقَّق بالرأي الأول، ثم عليه الآن أن يتغير
طبقًا للرأي الجديد؛ لذلك يُمكِن إثبات البداء فيما لم
يعلمه الإنسان، ونفيه عما يعلمه ويطلع عليه؛ خشيةَ أن يفعل
الإنسان طبقًا للعلم الأول، فيفشل فعله، فيرفض العلم كله.
وهي تفرقة أقرب إلى نفي البداء منها إلى إثباته؛ لأن ما لم
يطَّلع عليه الإنسان لا يعلمه، وما دام لا يعلمه فلا
يحدِّد سلوكه بالنسبة إليه.
٣١ وكما يُمكِن إنكار البداء لإطلاقية العلم
وثبوته وقِدمه، يُمكِن إنكاره أيضًا بالتمييز بين صفة
العلم وصفة الإرادة، التمييز بين النظر الثابت الذي لا
يتغير وبين العمل الذي يتغير من مكان إلى مكان، ومن زمان
إلى زمان، إثباتًا للتنزيه وللعلم المُطلَق الذي لا يتغير.
٣٢ يُشير البداء إذن إلى الفرق بين العلم
والإرادة؛ فقد يكون هناك علم لا تتبَعه إرادة، وقد تكون
هناك إرادة تابعة لعلم جديد. وقد عبَّر القدماء عن هذه
الصلة في سؤال: هل يجوز على الله الترك؟ فالإجابة نفيًا
إثبات لعدم تغيُّر العلم والإرادة معًا؛ وبالتالي إثبات
قوانين عامة في الطبيعة وفي الحياة الإنسانية، والإجابة
إثباتًا تعني أن التغير مُمكِن في العلم والسلوك، إما مما
أخبر عنه من ثواب وعقاب قد لا يحدث، ما دامت الغاية منه،
التأثير على النفوس وإقامة حياة خلفية كاملة، قد تحقَّقت،
وإما أن الرحمة قد تفرض العفو دون العدل، وكلاهما من الصفات.
٣٣ وبالرغم من أن القول بالبداء نشأ في ظرف
تاريخي معيَّن، كتبرير لحدوث شيء غير متوقَّع، وبالتالي
يُمكِن رده إليه، إلا أن رد الأفكار إلى مجرد الوقائع
التاريخية وقوعٌ في النزعة التاريخية الخالصة؛ لذلك يظل
البداء دلالة نظرية لتجربة شعورية.
٣٤
إن النسخ أمر وضعي يتعلق بالشريعة والقدرة الإنسانية،
وليس بالعلم والإرادة الإلهية، فتوالي النصوص في الزمان
يجعل بعضها ناسخًا وبعضها منسوخًا؛ لذلك يكون من عيوب منهج
النص استعمال المنسوخ بدل الناسخ، سواء داخل كل مرحلة، أو
داخل آخر مرحلة يكتمل فيها الوحي. ويعني النسخ بهذا المعنى
تطوُّر الوحي في الزمان وبيان مدة العبادة؛ فالعبادة تتم
في الزمان، والزمان وقت، والوقت تطوُّر، والتطور تاريخ،
ولا يهم بعد ذلك رفع الحكم أو عدم رفعه؛ فالمهم هو بيان
وقته. وسواء كان ذلك رفعًا أم غير رفع؛ فذلك خارج عن نطاق
الحكم؛ لذلك كان من شروط النسخ انفصال الناسخ عن المنسوخ
بمدة من الوقت. فالزمان هو الأساس «الأنطولوجي» للنسخ،
وكأن الإنسان يحدث في حياة الإنسان، فهو تطوُّر في الزمان
الوجودي وليس في التاريخ، فالغاية من تطوُّر الوحي في
التاريخ هو تطوُّر الشعور وارتقاؤه نحو الكمال، وكأن
الناسخ أقوى من المنسوخ، وتتحدد قوته بمدى احتوائه العلم
والعمل على السواء، ولكن يتم النسخ بالفعل في العمل وليس
في النظر. لا يوجد نسخ للعلم النظري، بل في كيفية التطبيق
العملي، وإن تغيُّر الأساس النظري للسلوك ليس نسخًا، بل
تغيُّر له من حيث الامتداد والاحتواء.
٣٥
والنسخ أمر لا يتعلق بالتلاوة، بل يتعلق بالأحكام
وبالسلوك البشري؛ فالنص مع أنه عمل أدبي يُتذوَّق
بالتلاوة، إلا أن النصوص كلها أدب على هذا النحو، لا فضل
لنص على نص من الناحية الجمالية، ولكن نص الوحي جمال
وتشريع، تذوُّق وسلوك، كما لا يعني النسخ تغيير الفكر
المسجَّل في لوح أبدي، فتلك صورة فنية الغايةُ منها إثبات
تدوين العلم؛ فالعلم المدوَّن أكثر حفظًا من العلم المروي
شفاهًا، أو المحفوظ في الذاكرة، أو المتصوَّر في الذهن؛
لذلك قامت المعاملات على التدوين في وثائق، ودوِّنت العهود
والمواثيق، وكان حظ الكتب المقدَّسة التي لم تدوَّن ساعةَ
إعلانها، أقلَّ بكثير من ناحية الصحة التاريخية من الكتب
المقدَّسة الأخرى التي دوِّنت ساعةَ تبليغها. فأم الكتاب
أو اللوح المحفوظ صورتان فنيتان للتدوين، وتشخيصان للوحي،
وتشبيهان له.
٣٦ وقد يقع النسخ في حكم كلي أو في حكم جزئي؛
طبقًا لحاجة التغير ومقدار التكيف مع الواقع؛ فلو كانت
الحاجة جذرية والتكيف أساسيًّا حدث النسخ الكلي، أما لو
كانت الحاجة ضئيلة والتكيف صغيرًا كان النسخ جزئيًّا.
٣٧ فالنسخ رفعٌ، وليس تبديلًا، كي يأتي حكم آخر
خير من الأول، من حيث النفع أو مثله من حيث الكمال، ولكن
هل يجوز النسخ في الأخبار كما هو جائز في الأحكام؟ إذا
احتوى الخبر على تصوُّر نظري فالنسخ لا يتعلق بالتصورات،
فالمبادئ العامة التي يقوم عليها الوحي ثابتة لا تتغير،
وإنما التغير في كيفية تطبيق هذه المبادئ في الزمان
والمكان، حسب درجة استعداد الواقع، وطبقًا لدرجة تحمُّل
الطاقة الإنسانية، أما إذا احتوى الخبر أحكامًا فإن النسخ
يقع فيها. والنسخ لا يعني البداء؛ أي تغيُّر العلم الثابت
أو وقوع الخطأ فيه، بقدر ما يعني تكييف الحكم حسب الواقع،
والوحي حسب التطور؛ من أجل تثبيت الشريعة، والمحافظة على
التقدم الذي أحرزه الشعور الإنساني بفعل الوحي ودفعاته الأولى.
٣٨
وإذا كان الوحي نوعين، قرآن وسنة، وهناك دليلان آخران
إجماع وقياس، فهل يجوز لكل من الأدلة الأربعة أن يكون
ناسخًا والآخر منسوخًا؟ إن الوحي ثابت لا يتغير بإرادة،
حتى ولو كانت إرادة المُرسَل إليه؛ لذلك لا ينسخ القرآن
إلا قرآنًا، ولا يُنسَخ القرآن بالسنة على الإطلاق؛ فذاك
بيان وتخصيص وليس نسخًا. الوحي كما هو موجود في الكتاب
قائم لا يُمكِن نسخه، إما بنفسه أو بسنة.
٣٩ فالنسخ قضية خاصة بتطور الوحي في التاريخ،
وقياس النُّظُم على أساس القدرات الإنسانية واستعدادات
الواقع، وقد اكتمل الوحي في آخر مرحلة؛ فالمنسوخ الموجود
في الكتاب لا يزال قائمًا، كواقعة، أو كمثل، أو كنموذج،
كقانون رخو مُماثِل لطبيعة رخوة. المنسوخ والناسخ إذن معًا
واقعة مثالية، وهي تكيُّف النُّظم والتشريعات طبقًا لدرجة
استعداد الواقع. إذا وقع النسخ فإنما يتم داخل كل درجة،
الكتاب داخل بعضه بعضًا، أو السنة داخل بعضها بعضًا، ولكن
السنة لا تنسخ القرآن؛ وكيف ينسخ الفرع الأصل؟ والقرآن لا
ينسخ السنة؛ فكيف ينسخ الأصل الفرع؟ كيف ينسخ اللاحق
السابق، وكيف ينسخ النظر العمل؟ القرآن لا ينسخ السنة؛ لا
لأن السنة أصل عليه، بل لأن السنة توضيح عملي لا تحتاج إلى
نسخ، والعمل يتغير بتغير الظروف، والسنة لاحقة على القرآن
في الزمان. يكون النسخ هنا بيان تفصيل ووجه عبادة، ولا
يُمكِن للقرآن أن ينسخ السنة فكلاهما وحي، وإن حدث فيكون
القرآن تصحيحًا للسنة وليس نسخًا، ولكن يُمكِن أن تنسخ
السنةُ السنة، ويُمكِن اعتبار ذلك بيانًا مُغايرًا للبيان
الأول، تغيير النُّظم بتغيير الواقع، وتظل واقعة التغيير
نفسها هي النموذج. ولا ينسخ المتواترَ إلا متواترٌ مثله،
ولا ينسخ الواحدَ إلا متواترٌ أقوى منه، ولا يُمكِن نسخ
المتواتر بالواحد أو الواحد بالواحد؛ فالواحد قد يكون
منسوخًا، ولكنه لا يكون ناسخًا، في حين أن التواتر قد يكون
منسوخًا بتواتر، ويكون باستمرار ناسخًا.
٤٠ ولا يُمكِن نسخ شيء من القرآن والسنة بالإجماع
أو بالقياس؛ فدليل النص، قرآنًا أو سنة، أصلٌ، والإجماع
والقياس كلٌّ منهما فرع، والفرع لا ينسخ الأصل،
٤١ ولكن يُمكِن تخصيص عموم النص بالقياس الجلي.
٤٢
ويُستعمَل النسخ كحلٍّ لمشكلة تعارُض النصوص. ومع أن
التعارض بين النصوص جزء من مادة علم أصول الفقه فيما يتعلق
بالتعارض والتراجيح، إلا أنه يبدو أيضًا كأحد مشاكل منهج
النص. والتعارض لا يكون بالضرورة نسخًا، بل قد يكون
مُجمَلًا ومبيَّنًا، عامًّا وخاصًّا، مُطلَقًا ومقيَّدًا،
مستثنًى منه ومستثنًى تأكيدًا على البعد الشخصي للنص.
فالسلوك منه ما تشترك فيه الجماعة، ومنه ما لا يكون إلا
شخصيًّا فرديًّا خالصًا. وقد ينشأ التعارض من وصف لنفس
الفعل الفردي، ولكن في حالتَين أو في ظرفَين مختلفَين؛ وهو
ما يدل على أن الوحي ليس نظرًا فحسب، بل هو وصف للنظر في
مواقف عملية، وهو ليس نصًّا فحسب، بل هو نص يتحقق في واقع؛
فإذا كان النظر هو الإنسان والوضوح، فإن العمل هو القدرات
الشخصية والمتغيِّرات الفردية.
٤٣ ومع ذلك فقد كان التعارض بين النصوص في حد
ذاته موضوعًا كلاميًّا مستقلًّا، ولكن من ناحية وحدة الوحي
وعدم وقوع التناقض فيه دفعًا للخلاف بين الفِرَق، وتمسَّك
كلٌّ منها بنصوص لتأييد مذهبها؛ فانتقل الخلاف بين المذاهب
نظرًا لاعتمادها على الحُجَج النقلية، إلى تعارُض بين
النصوص، وضرب الكتاب بعضه ببعض، وتجزئته والقضاء على وحدته
في المعارك الكلامية بين الفِرَق. والتشابه في الآيات له
قصد عملي في السلوك؛ فيُئوَّل طبقًا لحاجة كل عصر وظروفه،
والتعارض إنما هو مسك للأطراف جميعًا في بؤرة واحدة،
وتجميع لوجهات النظر المختلفة في رؤية شاملة، كدرس تعليمي
في الوحدة والتعدد، ما دمنا في إطار الثبات والتغيُّر
ومجرى التاريخ.
٤٤