قد يدخل الإعجاز مع صفة الكلام في مبحث الصفات، وهو بهذا
المعنى لا يكون دليلًا على صدق دعوى النبي؛ لأن الكلام
موضوع مستقل بذاته، وليس وسيلة لإثبات شيء آخر، أو تصديق
شخص، أو تكذيبه.
١٠ وبالرغم من الاختلاف في سبب الإعجاز فإن هذا
الاختلاف لا يمنع من وجود أوجه متعددة له بالرغم من
الاختلاف حولها؛ فالاختلاف في سبب الإعجاز لا يقدح في
واقعة الإعجاز.
١١
(أ) هل الإعجاز في النظم والبلاغة؟
إذا لم يكن القرآن معجزة بمعنى خرق قوانين الطبيعة،
أو هدم مبادئ العقل، فهو إعجاز أدبي بمعنى استحالة
التقليد. القرآن إذن عمل أدبي أصيل ليس تقليدًا ولا
يُمكِن تقليد مثله. يتم تناوُل القرآن إذن هذه المرة
كعمل شعوري، وليس كموضوع صوري، كما هو الحال في خلق
القرآن، أو قِدَمه وربطه بإرادة خارجية مُطلَقة، ولا
هو موضوع مادي؛ أي القرآن كجسم أو كشيء مقروء أو مسموع
مكتوب أو متلوٍّ، ينتقل أو لا ينتقل. فهل القرآن
مُعجِز بنظمه وفصاحته نظرًا لأن الإنسان ناطق، ولقد
كرَّم الله آدم وعلَّمه الأسماء كلها، واللغة شرف
والفصاحة بيان؟ قد يبدو لأول وهلة أن القرآن إعجاز
بنظمه وبلاغته؛ فالعرب أهل جزالة وفصاحة ونظم وبلاغة،
وقد خُيِّر العرب بين السيف والمعارضة، فاختاروا أشد
القِسمَين وهو المعارضة. وإذا كانت كل معجزة قد أتت
طبقًا لعلم كل قوم ومستوى ثقافتهم؛ الطب عند عيسى
والسحر عند موسى؛ فقد أتى القرآن كإعجاز في النظم؛
فالعرب أهم شعر وفصاحة. وإذا كان الرسول أفصح العرب
فقد أتى بعمل في مثل فصاحته.
١٢ والعمل الأدبي لا ينقسم إلى أجزاء بل هو
كل واحد. ليس العمل الأدبي كمًّا بل هو كيف، ولا
يُمكِن أخذ جزء منه وتذوُّقه تذوقًا أدبيًّا دون كله،
وقد عُرِف ذلك من العرب جملة وتفصيلًا.
١٣ وقد يُتجاوَز النظم إلى البلاغة؛ أي
القدرة على التعبير عن المعاني بأدق الألفاظ؛ فقد
اشتمل القرآن على معانٍ تعجز العلوم الإنسانية كلها أن
تصل إلى دقيقاتها.
١٤
وقد اعترض بعض القدماء على ذلك بحُجَج عقائدية
ولغوية معًا؛ فإذا كان القرآن قديمًا فلا يُمكِن
للحادث تقليده، وإن أمكن تقليده فلا بد أن
يكون القرآن
حادثًا، وإذا كان الكلام من فعل الله فكيف يتحدى الله
نفسه؟ ليس الإعجاز إذن في ترتيب الحروف أو النظم؛
فالكلام إنساني خالص، وليس كلامًا إلهيًّا؛ لأن الكلام
الإلهي يُبطِل التحدي.
١٥
وإن تطبيق قواعد النظم والبلاغة التي اشتقها الإنسان
من اللغة لتجعل كلام الله إنسانيًّا خالصًا تطبَّق
عليه مقاييس لغة البشر وكلامهم.
١٦ أما حفظ القرآن لدى نقلته ورواته فليس
مُعجِزًا، فالمهم هو القرآن وليس حفظه أو نقله الذي
يخضع لمناهج الرواية، كما أن حافظه وناقله مسلم؛
وبالتالي لن يدعي النبوة، وإن لم يكن مسلمًا وكان
حافظًا للقرآن، فليس القرآن هو الدليل الوحيد؛ فهناك
التواتر وإجماع الأمة وتحقيق الوحي في التاريخ.
١٧ كما اعترض بعض القدماء على وجوه البلاغة؛
فإذا كانت البلاغة هي ما قل ودل فإن أبلغ خطبة من خطب
العرب وأشعر قصيدة من قصائدهم، توفِّي بهذا الغرض دون
تفاوت كبير بينها وبين بلاغة القرآن، والشواهد على ذلك
كثيرة. وقد اختلف الصحابة في بعض القرآن، حتى لقد
استبعد البعض منهم بعض سوره؛ لأنها لا تنطبق عليها
قواعد البلاغة العربية وأصولها. وقد سبب ذلك مشكلة عند
الجمع، ولم تُوضَع الآية في المصحف إلا عن بيِّنة أو
يمين. وإذا كان لكل صناعة مراتب فلا ريب أن محمدًا كان
أفصح أهل عصره ولا ريب. وهذا هو سبب إعجاز القرآن.
١٨ وقد يُقال أيضًا إن بالقرآن شعرًا بالرغم
من نفي القرآن لذلك، وإن فيه لحنًا، وإن فيه تكرارًا
بلا فائدة، وإن فيه كثًّا من الخُطب والقصائد الطويلة،
بحيث لو تتبَّعها البلغاء لوجدوا فيه سقطًا وتناقضًا،
بل وزيادة ونقصانًا. وإذا كانت في القرآن ألفاظ
فارسية، فكيف يُمكِن القول بفصاحته وبلاغته؟
١٩ لذلك اعتبر البعض أن القرآن من جنس كلام
العرب، مجرد أعراض لا تدل على الله ولا على الرسول،
يقدر العرب على مثله؛ وبالتالي ليس مُعجِزًا من حيث
النظم والبلاغة، بل يقدر الناس على ما هو أحسن منه.
فليس في النظم إعجاز، لا في كلام الله ولا في كلام
العباد، بل إن الزنج والتُّرك الخزر قادرون على
الإتيان بمثله وبأفصح منه، حتى ولو لم يعلموا قواعد
النظم وأصول التأليف. ولا يُمكِن أن يكون الإعجاز في
النظم؛ فقد ضاعت النصوص الأصلية للتوراة والإنجيل، بل
لم تُحفَظ على الإطلاق بلغتها الأصلية، وما زال الناس
يتعبَّدون بها إلى اليوم.
٢٠ إن ما قيل في إعجاز النظم والبلاغة هي
أمور متفاوتة في النظم والأشعار، ولا يوجد بين القرآن
وبينها إلا اختلاف في الدرجة وليس في النوع؛ فالنظم
الغريب أمر سهل بعد سماعه ويُمكِن تقليده.
٢١ وكيف يكون الإعجاز لغير العرب من الأمم
الداخلة في الإسلام أو المعادية له، والتي يقبل
شعراؤها التحدي؟ ليس الإعجاز إذن في النظم والبلاغة
فقط، بل يتجاوز ذلك إلى المعنى، وقد يكون المعنى فكرًا
أو نظامًا، عقيدة أو شريعة، وقد يقع هذا لمن لا يعرف
العربية، وقد آمن كثير من غير الناطقين بالعربية
بالوحي بعد اقتناعهم بخصائصه ونظمه وإن لم تحدث لهم
انطباعات جمالية بأسلوبه، وقد يكون ذلك فيما بعد
دافعًا إلى التعريب، وتعلُّم العربية؛ فالإسلام ليس
فقط عقيدة نظرية أو شريعة عملية، بل هو حركة تعريب،
كما أن كل علم باللغة العربية هي مقدمة للاقتناع
بالإسلام؛ لذلك كان كل المسلمين عربًا وكل العرب
مسلمين. واللغة نفسها، في حالة الإعجاز بالنظم
والبلاغة، تُحِيل إلى المعنى. اللفظ مجرد وسيلة لإيصال
المعاني، والوحي ليس فقط بيانًا وصياغة، بل هو مضمون
ومعنًى؛ فالقرآن قبل أن يكون نظمًا هو معنًى، وإلا لما
كان دليلًا. ولا يُمكِن الإيمان به دون فهمه، ولا
يُمكِن فهمه دون أن يكون له معنًى، والمعنى مستقل عن
الله وعن الرسول وعن الإمام وعن المفسِّر، معنًى مستقل
في الذهن، يُدرِكه العقل، ويشعر به الوجدان، ويراه
الحس متحقِّقًا في الأعيان. وإن وجود المُحكَم
والمتشابه، والظاهر والمؤوَّل، والحقيقة والمجاز،
لَيدل على ضرورة أحكام المعنى بوضع قواعد مضبوطة
لتحديد الصلة بين اللفظ والمعنى. وإن فهم المعنى لهو
السبيل إلى الكشف عن ما يسمَّى بالمتناقضات فيه، بل
لقد تحوَّل ذلك في علم أصول الفقه إلى علم بأكمله هو
علم التعارض والتراجيح.
٢٢
وفي الحقيقة إن القضية كلها موضوعة وضعًا خاطئًا في
الإعجاز النظمي؛ فإذا كان الإعجاز الأدبي لا يعني حدوث
معجزة على يد الرسول، بمعنى حدوث شيء خارق للعادة، وهو
تبليغ رسول أمِّي بهذا العمل الأدبي الفريد، فذاك
تصوُّر للإعجاز على أنه معجزة. وإذا كان الإعجاز هو
استحالة التقليد والإتيان بمثله، فهو تحدٍّ للقدرة
الإنسانية على التأليف والخلق. فالمقصود بالإعجاز تحدي
قدرة الآخرين، وليس إظهار قدرة النبي أو قدرة خارجية
على يد النبي بمعنى المعجزة التقليدي، وهو الخروج على
المألوف وخرق قوانين الطبيعة وهدم مبادئ العقل. ليس
الإعجاز بهذا المعنى خرقًا لقوانين الإبداع الفني من
قِبَل إرادة خارجية لإثبات صدق النبي، فهذا هو معنى
المعجزة القديمة، بل تحدي البشر على الإتيان بمثل هذا
العمل الأدبي. والحقيقة أن الإعجاز حتى بهذا المعنى
الجديد يظل قاصرًا.
فإذا كان المُعجِز هو النظم، أي ترتيب الكلام على
نحوٍ فني لا يُمكِن معه لأي فنان آخر أن يأتي بمثله،
يكون الإعجاز هنا إعجازًا أدبيًّا خالصًا. وهذا يحدث
في كل عمل فني؛ فالعمل الفني الأصيل لا يُمكِن تقليده
أو الإتيان بمثله، بل إن المقلِّد نفسه لا يكون
فنانًا. هذا بالإضافة إلى استحالة فصل النظم عن المعنى
والمعنى عن الشيء أو القانون؛ نظرًا لارتباط الشكل
بالمضمون ارتباطًا عضويًّا، كما يقتضي بذلك تعريف
البلاغة عند القدماء. فما يُقال إذن عن احتمال أن يأتي
الناس بمثله احتمال خاطئ فنيًّا أساسًا، فلا يستطيع
فنان أن يقلِّد عملًا فنيًّا آخر، حتى ولو كان في
إمكانية ذلك ولديه العلم والمهارة الكافية، فلا يكون
عمله في هذه الحالة عملًا فنيًّا أصيلًا، بل مجرد عمل
مقلِّد، وتكون مهارته في التقليد وليس في الإبداع، في
الصنعة وليس الطبيعة. ولما كان التقليد أصلًا ليس
أسلوبًا فنيًّا، وبالتالي لا تُثبِت استحالة التقليد
إعجاز القرآن بقدر ما تُثبِت أن الفنان الذي يقلِّد
ليس فنانًا على الإطلاق؛ فالتقليد في نهاية الأمر ليس
طريقًا إلى الخلق الفني.
(ب) هل الإعجاز في الإخبار بالغيب؟
يتجلى الإخبار بالغيب عند القدماء في القصص القرآني
وإخبارنا بأخبار الأولين. لم يعرفها العرب ولم يعرفوا أمثالها.
٢٣ والحقيقة أن العرب كانت لديهم أمثال هذه
القصص في أقوال الكهان والقصص العربي، وفي
الإسرائيليات التي كانت معروفة في الأوساط العربية
اليهودية، بل إن أسباب نزول القصص هي معارضته للقصص
القائم، قصصًا بقصص حتى لا يكون المسلمون أقل قصصًا من
غيرهم. والماضي ليس غيبًا؛ فحوادث الماضي قد وقعت
بالفعل ويُمكِن معرفتها عن طريق علم الآثار ودراسة
الوثائق والحفريات؛ فالقصص القرآني بهذا المعنى وذِكر
أخبار الأولين ليس بمُعجِز؛ إذ يُمكِن للوثائق
والحفريات وعلوم التاريخ أن تقوم بذلك. وحتى لو حدث
ذلك، لو أخبر القصص القرآني بأخبار الأولين كما تفعل
الوثائق في علوم التاريخ، فليست المعجزة في أن هذا
النبي الأمي يقص هذا القصص ولم يكن مؤرخًا، ولا عالم
آثار، أو حتى كاتبًا؛ فذلك أيضًا تصوُّر للإعجاز
الجديد على أنه معجزة قديمة بالمعنى التقليدي؛ أي خرق
قوانين الطبيعة، كما أن حجة الأمية لتُوحي بأن محمدًا
هو مؤلِّفها؛ وبالتالي تؤدي إلى إنكار الوحي، بل إن
الإعجاز هو أخبار السامعين بحوادث مضَت واندثرت،
وتضاربت فيها الآراء، وضاعت الحقائق وسط الظنون
والأوهام. الإعجاز هو إمكان التحقق من صدق هذا القصص
بنتائج البحوث التاريخية الحالية، والتحقق من صدق
روايات القرآن عن عقائد الأمم السابقة وأحكامه عليها
بالنتائج الحالية لعلوم النقد التاريخي للكتب المقدسة.
والحقيقة أن الغاية من القصص لا هذا ولا ذاك، بل إعطاء
الدرس الأخلاقي من التجارب السابقة، والاستفادة من
الرصيد التاريخي للإنسانية وخبراتها؛ فهو قصص تعليمي
وليس إخباريًّا، يحتوي على معانٍ ولا يُشير إلى حوادث.
هو إعادة عرض للمعاني عن طريق الوعي التاريخي وليس
الوعي الفردي، وعرضه كقانون للتاريخ وليس كمعنًى
مستقل. وهذا التحقق التاريخي للمعنى هو أحد براهين
صدقه بالإضافة إلى البرهان النظري العقلي.
٢٤
وقد يتمثل الإخبار بالغيب لا في قصص الأولين
والإخبار عن الحوادث الماضية، بل في التنبؤ بحوادث
المستقبل والإخبار بها، وهو أقرب إلى الغيب من أخبار
السابقين؛ لأن المستقبل لم يقع بعد في حين أن حوادث
الماضي قد وقعت؛ فعدم العلم بها ليس غيبًا إلا بمعنى
الجهل بالمعلوم، كما أن وقوع حوادث يعلمها البعض ولا
يعلمها البعض الآخر لا تكون غيبًا، والإخبار بها لا
يكون تنبؤًا بالمستقبل.
٢٥ والحقيقة أن الإخبار بحوادث المستقبل ليس
إخبارًا بالغيب بمعنى معرفة المجهول الذي لا يقع، بل
هو قدرة على معرفة مسار الحوادث في المستقبل بناءً على
تجارب الماضي والمعرفة بتاريخ الأمم والشعوب؛ فالتنبؤ
قائم على معرفة بقوانين التاريخ، وليس اكتشاف علم غيبي
لا وجود له. هو تحقيق قوانين التاريخ في المستقبل، كما
تحقَّقت في الماضي. وحتى لو كان محمد أميًّا، فإن
معرفة قوانين التاريخ لا تحتاج إلى قراءة أو كتابة أو
معرفة بالآثار والوثائق، بقدرِ ما هي معرفة فطرية
بحركة الشعوب؛ فالوعي التاريخي أساس الوعي السياسي،
ويتمتع القائد السياسي والزعيم المحنَّك بكلَيهما، حتى
ولو كان أميًّا، وتاريخ القادة والزعماء شاهد على ذلك.
لا تعني النبوة إذن الإخبار عن المستقبل بمعنى الإخبار
بالغيوب؛ لأن الإخبار بالمستقبل مُمكِن باستقراء حوادث
التاريخ، ورصد تجارب الأمم، وتحليل الأوضاع الحاضرة،
ومعرفة مصير الأمة طبقًا لقوانين التاريخ. وهذا علم
إنساني، علم التاريخ، أو فلسفة التاريخ، أو علوم
المستقبل، وليس علمًا غيبيًّا، فلا شيء يحدث في العالم
في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، إلا ويُمكِن للإنسان
معرفته. وجعل الإعجاز الجديد إخبارًا عن الغيب وتنبؤًا
بالمستقبل هو رجوع بوظيفة النبوة إلى الوراء، وهي ليست
وظيفة الوحي في مرحلته الأخيرة. ليس الإخبار عن الغيوب
دليلًا على النبوة أو أحد أوجه الإعجاز القرآني؛ فليست
وظيفة النبوة الإخبار بالغيب والتنبؤ بالمستقبل، كما
كان الحال في مراحل الوحي السابقة، ولكن يُمكِن معرفة
المستقبل باستقراء حوادث التاريخ، وقوانين التطور
البشري التي تُثبِت وجود قوانين لبقاء المجتمعات أو
لفنائها، ابتداءً من قوانين السلوك البشري الفردي أو
الجماعي. يُمكِن إذن باستقراء السلوك الحاضر لجماعة
معيَّنة في الماضي والحاضر معرفةُ مصيرها في المستقبل،
وليس هذا غيبًا، بل معرفة للمستقبل بناءً على شواهد في
الماضي وقرائن في الحاضر. إن تحقيق النبوة ليس تنبؤًّا
بالغيب، بل قراءة للحاضر في الماضي عن طريق استقراء
حوادث الماضي ومعرفة قوانين التطور، وقراءة للماضي في
الحاضر عن طريق إسقاط الحاضر على الماضي وتحويله إلى
ماضٍ نمطي موجَّه وقرائن الحاضر. فهناك قوانين للصراع
الاجتماعي والتاريخي فيما يتعلق بالهزيمة والنصر.
فعندما يتعادل الحق والباطل، أي عندما يتصارع باطلان،
تكون الغلبة يومًا لهذا ويومًا لذاك؛ فالأمر يعود إلى
القوة المحضة التي لا يُسانِدها حق، وعندما يكون
الصراع بين الحق والباطل فالغلبة بالضرورة للحق على
الباطل، إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل، ولو كانت
معظم النبوءات تعبيرًا عن الأول في النصر، تُخبِر بها
الجيوش شحذًا لعزيمتها وتقوية لمعنوياتها، ثم تتحقق
الرؤية ويظن أنها تحقق للنبوءة.
٢٦ ومن قوانين التاريخ الاتفاقُ على مبادئ
عامة تحكم سلوك الشعوب، منها حرية الاعتقاد والسلوك
طبقًا لمبادئ عامة إنسانية تعترف بها كل الشعوب.
وبالرغم من توجيه القدماء بعض الاعتراضات على هذا
الوجه من الإعجاز، فالتنبؤ بالغيب قد يكون كرامة وليس
معجزة، كما أنه يقع من المنجِّمين والكهنة، وليس فقط
من الأنبياء. وهو إقصار للمعجزة على الغيب، وكأن ما
ليس بغيب لا يكون مُعجِزًا.
٢٧ إلا أن الحركة الإصلاحية الحديثة تجمع بين
إعجاز القدماء وقوانين التاريخ، في أسلوب أدبي خطابي،
في وصفها انتشار الإسلام بسرعة لم يُشهَد مثيلها في
التاريخ، وكأن هذا الانتشار نفسه معجزة قديمة أو إعجاز
جديد، دون صياغة عقلية لقوانين التطور ومسار التاريخ.
والحقيقة أن التنبؤ بالمستقبل، كأحد وظائف النبي، لها
أنماطها السابقة لدى بني إسرائيل، وكما هو واضح في
نبوءات المسيح. ولماذا يكون محمد وهو آخر الأنبياء
وخاتم النبوة أقلَّ قدرة من الأنبياء السابقين؟ أما
أمور المعاد فليست غيبية؛ لأنها تخضع لقانون
الاستحقاق، وتحقيقًا لأصل العدل، كما أن أمور الحلال
والحرام ليست أمورًا غيبية، بل هي أدخل في علوم
التشريع.
(ﺟ) الإعجاز التشريعي
ويندرج الإعجاز التشريعي من قانون الاستحقاق وتطبيق
أصل العدل، وهي الأُسُس العقلية التي تقوم عليها أمور
المعاد، وفي مقدمتها الوعد والوعيد حتى وضع الشريعة
وإقامة الدولة. فأمور المعاد ليست أمورًا غيبية، بل
يُمكِن معرفة أُسُسها العقلية، مثل قانون الاستحقاق
بالعقل. أما أمور الحلال والحرام فتدل على قواعد
السلوك البشري، وما يجب وما لا يجب؛ الأوامر والنواهي
في كل ملة ودين. وقد لاحظ القدماء ذلك على مستوى
المعنى؛ أي الحكمة الأخلاقية والفضائل العملية. أما
علماء أصول الفقه فهم الذين دقَّقوا في الحكمة
التشريعية؛ فبالنبوة تثبت معانٍ كبرى قائمة على كمال
العقل والتحقق في التاريخ، ولا تتحقق هذه المعاني فقط
في شخص الرسول، ولكنها معاني مستقلة يُدرِكها كل عقل،
ويتحقق من صدقها كل إنسان، بلا حاجة إلى معجزات بمعنى
خوارق العادات، ولا يحتاج الإنسان لتصديقها إلا إلى
استقلال العقل وحرية الإرادة.
٢٨ ولكن المعاني الخلقية والحقائق الإنسانية
العامة قد تحوَّلت إلى نُظُم وشرائع، وتحقَّقت عمليًّا
في حياة الأفراد والجماعات، وأسَّست دولًا، وأصبحت
حركات في التاريخ. ولو كانت مجرد حقائق علمية
واكتشافات رياضية، لَكانت في العلوم الهندسية
والرياضية والحسابية وفي العلوم الطبيعية أمثلةٌ لها.
٢٩ فالإعجاز التشريعي يخص آخر مراحل الوحي
عند اكتماله، ولا يخص المراحل السابقة. كانت مهمة
المراحل السابقة المساهمة في تطوير الوعي الإنساني،
بالتركيز على جوانب دون جوانب أخرى؛ مرة على القانون
في شريعة موسى، ومرة على الحب في شريعة عيسى، ولكن عند
اكتمال الوحي أمكن إعلان استقلال الشعور الإنساني،
وأنه لا وجه للتركيز على جانب واحد، وإنما الحاجة إلى
نظام تشريعي مُتكامِل، وحقيقة كلية شاملة لكل العصور
والأمكنة في مبادئها الأولى، وأن التحدي التشريعي قائم
إلى يوم الدين، ليس في الماضي فقط كما هو الحال في
المعجزات القديمة، ولا في الحاضر فقط كما هو الحال في
الإعجاز البلاغي والتحدي في الخلق. فالتحدي بالنظام
الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني، أي التحدي
بالمذاهب الفكرية، هو القائم والباقي. وإذا كُنا نعيش
في عصر الأيديولوجيات، فالتحدي الأيديولوجي هو الوريث
لكل التحديات القديمة بمعجزاتها وإعجازها. فالعصر عصر
أيديولوجية وليس عصر بلاغة ونظم أو إخبار بالغيب، إلا
عن طريق حساب الاحتمالات للمجهول، أو التنبؤ بالمستقبل
كما هو الحال في العلوم المستقبلية. ويضم الإعجاز
التشريعي جانبَين: الأصول العامة التي تقوم على الحكمة
البشرية ورصيدها في التاريخ، ثم استنباط أحكام الشريعة
وتحقيقها في الزمان والمكان، في فنون وصناعات
واجتماعيات وسياسات. وكما تُساعِد قواعد اللغة على
إحكام المتشابهات، تقوم قواعد الاستنباط وطرق البحث عن
العلة بتكييف المبادئ طبقًا للزمان والمكان، وبتحقيقها
في الواقع فيحلُّ التعارض النظري. وما ظنه البعض على
أنه تناقُض على مستوى المبادئ هو في الحقيقة تكيفات
طبقًا لظروف كل عصر. فالإعجاز التشريعي في علم أصول
الفقه؛ أي في الشق الثاني من علم الأصول.
٣٠ والإعجاز التشريعي ليس فقط على المستوى
النظري الاستنباطي في الاجتهاد، بل أيضًا على مستوى
التحقق الاجتماعي والتاريخي؛ فهو إعجاز في الفكر وفي
الواقع، في النظم وفي التاريخ، من حيث القدرة على نشر
الدعوة، وتجنيد الجماهير، وتغيير الأبنية الاجتماعية،
وبناء دولة جديدة أصبحت وريثة لأكبر إمبراطوريتَين
قديمتَين، الفرس والروم، في أقل وقت ممكن. تحوَّلت
قبائل الجزيرة العربية إلى طلائع واعية لحركة تغيُّر
اجتماعي وتاريخي، وأعطت مثلًا في التنظيم وفي القيادة
ما زالت تمثِّل في وجدان الأمة قدرةً على التمثل
والاقتداء ورفض الواقع والتطلع إلى عالم أفضل، لدرجة
أن أصبح التقدم في التاريخ هو لحاقًا بقدوة الصحابة
وبسيرة الخلفاء.
٣١