تاسعًا: تواتُر الرسالة
إذا كانت النبوة تقوم على أربعة أطراف؛ المُرسِل والمُرسَل
إليه والرسالة والمُرسَل إليهم، وكان النبي موضوع التوحيد،
والمُرسَل إليه هو شخص النبي كتشخيص للنبوة بقيت الرسالة
والمُرسَل إليهم. وأهم ما تتطلبه الرسالة بعد التبليغ هو
تواترها؛ أي صحتها التاريخية وبقاؤها بلا تزييف أو تبديل أو
تحريف، ثم فهمها حتى يُمكِن أخيرًا تطبيقها في الحياة العلمية،
وتحويلها إلى شريعة وإلى نظام مجتمع ودولة.
١
وتواتُر الرسالة ليس معجزة قديمة، ولا حتى إعجازًا جديدًا،
ولا حفظًا إلهيًّا؛
إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ،
بل هو نتيجة لعمل علمي تاريخي في البحث عن مناهج النقل وطرق
الرواية. فصحة الوحي التاريخية ليست معجزة، بل هو عمل
المؤرِّخين والرواة والنقل وعلماء الحديث. ومما ساعد على ذلك
كتابة الوحي منذ ساعة الإعلان؛ فلم يمر بمرحلة شفوية قد يحدث
فيها التغيير والتحريف والتبديل. حُفِظت نصوص الوحي كتابة،
وانتقلت من يد إلى يد حتى جمعها، ثم جمع الحديث بعد ذلك بمناهج
النقل الشفاهي التي وضعها علماء الحديث ومنها التواتر. لقد
حُفِظ الوحي في آخر مراحله ودُوِّن كلمة ومعنًى، في حين أن
الوحي كتابة، وانتقلت من يد إلى يد حتى جمعها، ثم جُمِع الحديث
فقط لعدم تدوين الوحي لحظة الإعلان، ثم جمعه بعد ذلك دون معرفة
بمناهج النقل وطرق الرواية، بل طبقًا لمقاييس عقائدية صرفة؛
العقيدة الغالية، أو عقيدة السلطة الدينية، أو طبقًا لقرارات
هذه السلطة ذاتها؛ حصارًا للعقائد المعارضة وتطويقًا لها.
٢
والوحي المكتوب أو الشفاهي قبل التدوين هو نقل أو سمع،
وكلاهما خبر، والمُخبِر ليس جزءًا من الخبر؛ لأن الخبر يكون
جزءًا بوجود السامع، لا بوجود المتكلم، هذا بالإضافة إلى أن
المُرسِل باعتباره مُخبِرًا أولًا هو موضوع التوحيد في نظرية
الذات والصفات والأفعال، والمُرسَل إليه باعتباره مُخبِرًا
ثانيًا مجرد وسيلة؛ فالنبوة ليست شخصًا، بل رسالة؛ فلم يبقَ
إلا الرسالة والمُرسَل إليهم؛ أي الخبر والسامع.
والخبر كلامٌ يحتمل الصدق والكذب؛ أي إنه قول أو خطاب يُمكِن
التحقق من صحته وصدقه؛ لذلك لم تدخل العبارات الإنشائية ضمن
الخبر، ولكن هل يعني ذلك أن التمني والتعجب والاستفهام
والتساؤل والاستنكار وكل الصيغ الإنشائية لا يُمكِن إيجاد
وسيلة للتحقق من صدقها؟ هل هي مجرد صِيَغ إنشائية لا تعبِّر عن
واقع على الإطلاق، أي واقع، حتى ولو كان واقعًا شعوريًّا؟ وهل
الصيغ الخبرية خبرية تمامًا دون أن يكون فيها إنشاء، سواء فيما
يتعلق بسلامة الإدراك أو خطئه أو بحياد الشعور وميله أو بصحة
القضايا وكذبها؟ ألا يعبِّر الخبر نفسه عن رغبة في وصف الواقع
وإصدار أحكام عليه كما هو؟ وهل هناك واقع مجرد دون رؤية
إنسانية؟ أليس الواقع نفسه مكوِّنًا من مكوِّنات الموقف
الإنساني؟ ولماذا يدخل النفي والإثبات والمدح والذم والتعجب
عند القدماء في الخبر، ويخرج الاستفهام والأمر والنهي والأسف
والتمني والسؤال؟ أليس التعجب صيغة إنشائية مثل السؤال والتمني؟
٣
ثم تظهر قسمة الوجود الثلاثية إلى واجب ومُمكِن ومستحيل في
تقسيم الخبر، فينقسم الخبر إلى ثلاثة أقسام: خبر عن واجب وهو
الخبر الضروري، وخبر عن مُمتنِع وهو الخبر عن المُحال، وخبر عن
مُمكِن، ثم تظهر نظرية العلم في الخبر عن الضروري؛ إذ يشمل
الضروري المعرفة الحسية والمعرفة العقلية والمعرفة السمعية،
وهي القسمة الأصولية أيضًا للأخبار. وفي الخبر عن مُمكِن يتحدد
صدقه أو كذبه بالدليل، والدليل قد يكون داخليًّا بالاتفاق مع
الحس والمشاهدة والعادة، أو خارجيًّا عن طريق التواتر؛
فالتواتر جزء من نظرية الخبر باعتباره دليلًا على صدق الخبر المُمكِن.
٤
(١) شروط التواتر
والتواتر يُفيد العلم اليقيني، وما سواه من مناهج النقل
وطرق الرواية لا يُفيد إلا الظن. وإنكار ذلك يؤدي إلى
إنكار النبوة، من حيث إمكانية نقلها وصحة النقل تاريخيًّا،
وبوجه خاص إنكار صحة القرآن تاريخيًّا وانتقاله مدوَّنًا،
وإنكار صحة الحديث تاريخيًّا وانتقاله شفاهيًّا. وفي هذه
الحالة لا يبقى لصدق النبوة إلا صدقها النظري بأعمال
العقل، وصدقها العملي بتحقيقها في الواقع. ولا يُفيد
التواتر العلم اليقيني بذاته، بل بشروطه، وهي شروط أربعة
تؤدي في مجموعها إلى يقين التواتر، وإذا ما نقص شرط منها
يُصبِح الخبر آحادًا لا يُفيد إلا الظن؛ فالآحاد ليس هو
الخبر المروي عن طريق واحد، ولكنه المتواتر الذي تسقط منه
أحد شروطه الأربعة، حتى ولو كان مرويًا بأكثر من
واحد.
-
والشرط الأول للتواتر: هو العدد الكافي من الرواة. ولا يوجد
عدد معيَّن كمًّا، بل يوجد عدد محدَّد
كيفًا؛ أي العدد الذي بواسطته يحدث اليقين
بصحة الخبر دون حد أدنى بأقل الجمع وهو
ثلاثة، أو بأكثر الجمع الذي قد يصل إلى
المائة أو المائتَين إلى ما لا نهاية.
فالأخبار المتواترة بمجموعها، وليس
بآحادها تُعطي اليقين. فالتواتر كل معنوي
لا يتجزأ. العدد فيه ليس الكم المُنفصِل،
بل الكيف المُتصِل؛ أي ما يُمكِن بواسطته
الحصول على اليقين؛ فليست المائة مجموع
أرقام آحاد تبلغ المائة، ولكنها عدد معنوي
يُعطي اليقين لكونه مائة لا تنقسم. وفي
التواتر المعنوي لا يكون العلم مصادرة، بل
علمٌ بعدي ناشئ من التواتر، ويقين العلم
ناشئ من العلم الذي يكتفي بالعدد؛ فإثبات
العلم بعد التواتر، وإثبات اليقين بالعدد
الكافي. وكلما زاد عدد الرواة زاد اليقين،
حتى يحدث اليقين وتتوقف الزيادة في الرواة
عن أن يكون لها أية دلالة؛ وبالتالي يحدث
التواتر المعنوي، وهو مثل الاستقراء
المعنوي الذي هو أحد طرق استنباط في الشريعة.٥
-
والشرط الثاني: هو استقلال الرواة عن بعضهم البعض، بحيث
يمتنع تواطؤهم على الكذب، فإذا جاز الكذب
على واحد فلا يجوز الكذب على الكل؛ فالكل
ليس مجموع آحاد، بل له شخصية معنوية
جديدة، صفاتها استحالة التواطؤ على الكذب؛
نظرًا لانتشار الرواة في جميع أقطار
الأرض، وعدم اجتماعهم في مكان واحد أو في
زمان واحد، بعد سماع الإعلان بالتبليغ.٦
-
والشرط الثالث: هو تجانُس انتشار الرواية في الزمان، أو
العلم باستواء الطرفَين في الرواية،
استواء أول الرواية مع وسطها وآخرها من
حيث الانتشار؛ فقد يكون أول الرواية غير
مُنتشِر في الجيل الأول، ثم يتزايد
انتشارها في الأجيال اللاحقة؛ نظرًا
للمصالح الجديدة التي كانت وراء هذا
الانتشار، وقد تكون الرواية في أولها
مُنتشِرة في الجيل الأول، ثم تتوارى في
الأجيال اللاحقة؛ نظرًا لظهور مصالح جديدة
مُعارِضة كانت وراء الصمت عنها وكتمانها.
الحالة الأولى من الأقل انتشارًا إلى
الأكثر انتشارًا، والحالة الثانية من
الأكثر انتشارًا إلى الأقل انتشارًا. أما
تجانُس الانتشار عبر الأجيال خاصة في
الفترة الشفاهية، فيبيِّن عدم تغيُّر
الظروف وتجدُّد المصالح وحياد الراوي؛
وبالتالي أصبحت الرواية معروفة عند
الكافة، ينقلها الكافة عن الكافة، من جيل
عن جيل دون ذيوع زائد أو كتمان مُريب.٧
-
والشرط الرابع: هو الإخبار عن حس؛ فالرواية في أصلها
إخبار عن حس ومشاهدة، سمع أو بصر. وشهادة
الحس مع أوائل العقول مكوِّنان رئيسيان في
نظرية العلم قبل المكوِّن الثالث وهو
النقل. فصحة النقل قائمة أولًا على شهادة
الحس وأوائل العقل وبداهة الوجدان. يقين
التواتر إذن ليس خارجيًّا فحسب؛ أي
الاتفاق مع مجرى العادات، بل هو أيضًا
يقين داخلي بالاتفاق مع ما يُحِس به
الإنسان من نفسه وما يشعر بوجوده، وذلك ما
يجعل العلم الناتج عن التواتر علمًا
اضطراريًّا. يُعطي التواتر إذن حقائق
بديهية حسية وحدسية ووجدانية ثابتة لا
تتغير، يُدرِكها الحس، ويراها العقل،
ويشعر بها الوجدان لأول وهلة بعد سماعه.٨ ومن هنا تأتي استحالة
المعجزات؛ لأن شرط نقلها هو التواتر، وشرط
التواتر الإخبار عن حس، والمعجزة تُناقِض
ضرورات الحس وبداهات العقول. ولا يوجد
دليل عقلي على إثبات الكرامة أو المعجزة
إلا الخبر. ولما كانت رواياتها كلها
ينقصها شروط التواتر، فهي كلها آحاد لا
تُفيد إلا الظن. وإن غياب الاتفاق مع الحس
ليُعادِل رواية عشرين راويًا فيهم واحد من
المبشَّرين بالجنة،٩ وبالإضافة إلى النقد التاريخي
للروايات المتضمِّنة للمعجزات، فإنه
يُمكِن القيام بنقد داخلي؛ فعلى فرض صحة
الرواية فإنه يجوز أن تكون المعجزة خطأً
في الإدراك، أو جهلًا بالواقعة، أو خطأً
في التصورات، أو عدم دقة في التعبير،
واستعمال الأساليب الإنشائية بدلًا عن
القضايا الخبرية، خاصةً في عصر لم يكن
الشعور التاريخي فيه مُحايِدًا، بل كان
مُلتزِمًا انفعاليًّا بالوقائع المروية،
ويميل بطبيعته إلى التفخيم والتضخيم من
أجل التأثير على النفوس. فقد كانت الغاية
من الرواية نشر الدين والدعاية له، كما هو
الحال في معظم الروايات في تاريخ الأديان،
خاصةً المسيحية وانتشارها في الجماعة
الأولى.
النبوة إذن واقعة بيقين التواتر، والتواتر أساس المعرفة
التاريخية، يستحيل معه التواطؤ على الكذب، وبه نُقِلت
أعلام الأنبياء. التواتر يُفيد اليقين، وهو يقين قائم على
العادة وعلى استقراء الوقائع وحكم العادة. ولما كان الخبر
وسيلة لإعطاء بداية يقينية أولية يبدأ منها العقل كان لا
بد أن يُعطي علمًا ضروريًّا. فإذا ما أعطى بداية ظنية فإن
البناء كله، المعرفي والسلوكي، يكون ظنيًّا.
فإذا ما أفاد التواتر العلم لشروطه الأربعة، فإن الآحاد
لا يُفيد إلا الظن. وخبر الواحد ليس هو الخبر الذي يرويه
واحد، بل هو الخبر الذي يفقد شرطًا من شروط التواتر
الأربعة؛ ومن ثَم يكون ظنيًّا في العلم وإن ظل يقينيًّا في
العمل. ولما كان علم التوحيد علمًا نظريًّا لا عمليًّا
فخبر الواحد في العقائد لا يكون أساسًا لليقين، ولا يُقال
في العقائد بالظن. ولما كانت معظم روايات السمعيات آحادًا،
وخبر الواحد لا يُعطي إلا الظن في النظريات، استحال تأسيس
السمعيات وهي الشق الثاني في علم أصول الدين بعد الشق
الأول وهي العقليات؛ التوحيد والعدل. ولما كان لا ينتج
عنها عمل أو فرض أو شريعة باستثناء موضوعَي النظر والعمل،
والإمامة والسياسة، فأهميتها في الحياة العملية أهمية غير
مباشرة عن طريق الأثر النفسي للعقائد، وليس عن طريق
الواجبات والفروض؛ لذلك يُمكِن اللجوء إلى البناء الشعوري
لخبر الواحد، والبحث عن شروط الراوي الواحد؛ حتى يكون
للرواية أكبر قدر مُمكِن من الصحة التاريخية؛ وبالتالي من
اليقين العلمي. وهي أيضًا شروط أربعة: الإسلام والعدالة
والضبط والبلوغ، وهي صفات موضوعية لشعور الراوي، تضمن
سلامة إدراكه وخلوه من الهوى وحياده. فالإسلام شرط
الالتزام بالتبليغ والانتساب إلى حضارة والولاء لمبادئها.
والعدالة شرط أخلاقي؛ حياد الشعور وسلامته من الهوى.
والضبط شرط إدراكي بالنسبة لسلامة الحواس؛ السمع والحفظ
والأداء، الأذن والذاكرة واللسان. والبلوغ شرط عقلي حتى
يتم الاتفاق بين الحس والعقل والنقل. وما سوى ذلك من شروط
خاصة إذا كانت لا تتوافر فيها الموضوعية لا تدخل كعامل في
اليقين. أحوال الشعور إذن، وضعه أم حياده، ضرورية لمعرفة
صدق الخبر. وتُعلَم هذه الأحوال بتحليل الشعور وليس
بالخبر، وإلا تحوَّل الأمر إلى دَور؛ تُعرَف الأحوال
بالخبر، ويُعرَف الخبر بالأحوال، مثل أن يكون أحد الرواة
من العشرة المبشَّرين بالجنة، أو من أهل الجنة الذين لا
يُحصى عددهم، والذين ما زالوا في غياب المجهول لم تتم
أعمالهم بعد حتى يكون لهم استحقاق.
١٠ ولا يوجد وسط بين التواتر والآحاد. المشهور
الذي هو في الأصل آحاد، ثم أصبح متواترًا هو آحاد؛ لأنه
تواترٌ ينقصه شرط التجانس في الزمان. ولما كان الآحاد هو
التواتر مع نقص أحد شروطه، فإن الخبر في النهاية لا يكون
إلا متواترًا حتى يُفيد العلم القطعي.
١١
فإذا ما استحال يقين التواتر لسند الرواية بضرورة
مطابقتها للحس والعقل، فإنه يبقى ضرورة مطابقة متن الرواية
أساسًا، ليس فقط مع الحس والعقل، بل مع الواقع أيضًا. وإن
لم يكن تواتر الرسالة دليلًا على صدقها تكون مطابقتها
لمبادئ العقل وضرورات الواقع أدلةً أخرى على صدقها؛
فالمطابقة لا تكون مع التاريخ وحده، بل أيضًا مع بداهات
العقل ومع مصالح الناس. الوحي إثبات لحقائق العقل والواقع.
وقد يدخل الشعور في التعريف، وتكون المطابقة أو عدم
المطابقة بعلم أو بغير علم. وقد يدخل بُعدٌ ثالث للتعريف
في نشأة القضية ذاتها؛ هل هي خبر؛ أي سمع ونقل من وحي، أم
هي خبر قائم على الإدراك والتصور ثم الإيصال والمشافهة؟ لا
يُعلَم صدق الخبر أو كذبه إلا بعد التحقق في الواقع لا
قبله، وقبل التحقق يكون الخبر مجرد افتراض. مضمون الخبر لا
يقل أهمية عن روايته، ومتن الرواية أحد وسائل تحقيق صدقها
مثل سندها. والتحقق من صدق المتن لا يقل أهمية عن التحقق
من صحة السند.
١٢
(٢) تطبيق شروط التواتر على الكتب المقدسة
وشروط التواتر ليست خاصة برسالة دون رسالة، أو بكتاب دون
كتاب، أو بأمة دون أمة؛ فهي شروط واحدة تنطبق على أية
رسالة، وعلى أي كتاب، ولدى أية أمة. ولو أنها تخرج من كتاب
خاص وحالة خاصة، إلا أنه يُمكِن تعميمها حتى تستقل كمناهج
رواية، وطرقِ نقلٍ يصح تطبيقها على كل الكتب المقدَّسة
الأخرى في مراحل الوحي السابقة، أو حتى روايات الأدب
الشعبي، وروايات الشعر العربي القديم. وتبرز قوة الوحي في
آخر مرحلة له، من حيث تواترُ الرسالة، وصحتها في التاريخ،
ونقده لتحريف الكتب المقدَّسة الأخرى تاريخيًّا وعقائديًّا
وسلوكيًّا، من حيث الصحة التاريخية، وفهم العقائد، وسلوك
أهل الكتاب.
١٣
فإذا ما طُبِّقت شروط التواتر ومناهج النقل وطرق الرواية
على الكتب المقدَّسة السابقة، التوراة والإنجيل؛ فسرعان ما
يظهر تحريفها وتبديلها كما وصف القرآن، وكأن الاكتمال
يفترض التاريخ، والبناء يكشف عن التطور، وتدوين آخر مرحلة
مقياس لما كان يُمكِن أن يتم في المراحل السابقة. وقد
يستقل هذا الموضوع عن النبوة، ويُصبِح جزءًا مستقلًّا،
ويكون موضوعًا جديدًا أقرب إلى تاريخ الأديان ونقد النصوص،
وهو ما تحوَّل بعد ذلك في حضارة أخرى، هي الحضارة الغربية
الحديثة، وبفضل الحضارة الإسلامية إلى علم مُستقِل باسم
«النقد التاريخي للكتب المقدَّسة»، كما استقل من قبلُ أحد
أوصاف الذات الست وهي الوحدانية، لتُصبِح تاريخًا
للوحدانية مقلوبًا؛ أي عقائد الشرك والوثنية في الفِرَق
غير الإسلامية.
١٤ وتظهر المناهج الإسلامية، سواءٌ من علم أصول
الفقه أو من مصطلح الحديث، والتي استمد منها علم أصول
الدين هذا الجزء عن تواتُر الرسالة في موضوع النبوة. وترفض
النظريات اللاهوتية في النقد مثل رفع الله كلامه من الصحف؛
لإنقاذه من التحريف، وهو مثل حفظ الله كلامه في القرآن؛
فالتوراة الصحيحة والإنجيل الصحيح لم يرفعهما الله، بل
ضاعا؛ إما في مرحلة الشفاهي، أو تم تحريفهما وتبديلهما
زيادةً ونقصانًا في مرحلة النقل الكتابي.
ويُمكِن تصنيف أحكام القدماء على التوراة والإنجيل، وكيف
أنهما لم يستوفيا نقلهما شروط التواتر في ثلاث قضايا
رئيسية؛ الأولى تحريف النصوص وتبديلها وتغييرها؛ وبالتالي
عدم صحتها تاريخيًّا، وتُستعمَل لإثبات هذه القضية مناهج
تحليل النصوص، وذِكر أهمها وأسمائها وضياع النصوص، مع ذكر
العوامل الاجتماعية والسياسية التي كانت وراء النقل، وحال
الدولة قبل السقوط وبعده، ودور الأخبار في التزييف.
والثانية سوء فهم هذه النصوص المحرَّفة، وتزييف عقائدها،
وضياع التوحيد والعدل، وإنكار النبوات والمعاد، ونهاية
العمل الصالح، وسقوط الدولة؛ فأصبح التحريف مُضاعَفًا؛
تحريف النصوص أولًا، ثم تحريف العقائد الثانية. والثالثة
سوء أفعال أهل الكتاب، وعدم قيام النصوص بدورها الرئيسي في
توجيه سلوك الأفراد والجماعات.
فالتوراة التي بين أيدينا اليوم محرَّفة ومبدَّلة، وليست
منزلة من عند الله، ولم تبقَ التوراة واحدة لم تتغير ولم
تتبدل عبر الأجيال؛ فتاريخ النص يُثبِت هذا التغيير
والتبديل، سواء أثناء قيام الدولة أو بعد انقراضها.
وتُخالِف السبعينية توراة عزرا الأولى وليست مطابقة لها.
ولا يوجد اتصال بين الأنبياء والرواة، بل تنقطع سلسلة
الرواة ولا تتعدى كونها مشهورة، وهي مملوءة بالأخطاء
التاريخية؛ فهناك تواريخ يقص فيها موسى حياته قبل مولده
وبعد وفاته، وضعها الأحبار على لسانه؛ فقد كان لهم دور
بارز في التحريف والتبديل في النصوص والشرائع، وهي مملوءة
بالاضطراب الزماني، وتحتوي على خلط في الأنساب، واضطراب في
إحصاء الأجيال، كما أنها مليئة بالوقائع المعارضة لحوادث
التاريخ وعلوم الطبيعة والجغرافيا، في وصف أنهار الأرض
ومَصابها ومنابعها وروافدها، ويُناقِض بعضها البعض من حيث
التحديدات المكانية؛ مما يكشف عن خطأ المترجم ووضع
الأحبار؛ فالتوراة مُناقِضة للواقع التاريخي والجغرافي
(النقد الخارجي)، ومُتناقِضة فيما بينها (النقد الداخلي،
ومراجعة الكتاب على نفسه).
١٥ وبالنسبة للقضية الثانية، سوء فهم العقائد،
فهي مملوءة بالتشبيه وهو مضادٌّ للتنزيه، وتُوحي بعض
عباراتها بتعدُّد الآلهة. وكيف يُصارِع يعقوب الله أو
الملائكة؟ كيف يُعجِز اللهَ صراعُ يعقوب؟ وما الفائدة من
صراع نبي ومَلاك؟ كل ذلك مظاهر للتشبيه. وكيف يجوز البداء
على الله؟ وكثيرًا ما تبطل النبوات ويُنكَر البعث والجزاء.
وفي المعجزات تقوم السحرة كما تقوم الأنبياء بإجراء
المعجزات، وكثير من رواياتها تُناقِض الحس والعقل.
١٦ أما القضية الثالثة الخاصة بالسلوك فإن كثيرًا
من أشعارها مثل «شعر الأشعار» (نشيد الإنشاد) كلامٌ أحمق
لا يُعقَل، مضادٌّ للأخلاق ولتنزيه الله. وكثير من
مَطالبها مضادة للكمال الخلقي، ومحالٌ أن تأتي شريعة
الأنبياء بما لا يُفهَم أو يُضاد الأخلاق. وتتناقض التوراة
مع القانون الخلقي للاستحقاق ثوابًا أو عقابًا في إهلاك
قوم لوط؛ الصالحين والطالحين. والنبي مضاد للأخلاق كما هو
الحال في قصة ضيوف إبراهيم المُنتحَلة؛ إذ كيف يرتكب
الأنبياء المحرَّمات؟ وكيف يقع أبناؤهم وبناتهم في
المحرَّمات؟ كيف يُطيع النبي أهواء قومه؟ وأخيرًا لم يتحقق
المعاد في التوراة باحتلال العبرانيين من الفرات إلى النيل
وإن كانوا قد احتلوا فلسطين وأجزاءً من لبنان وسوريا ومصر.
١٧
أما بالنسبة للإنجيل فتبرز نفس القضايا الثلاث: التحريف
في النصوص، سوء فهم العقائد، وأخيرًا قضية السلوك الخلقي.
فبالنسبة للقضية الأولى يبدأ تاريخ المسيحية بمؤامرة
يهودية نفَّذها بولس، مثل مؤامرة عبد الله بن سبأ، فبولس
هو المسئول عن تبديل المسيحية ووضع شِرعة جديدة، وهناك
عديد من المُتناقِضات داخل كتب النصارى مع التاريخ
والوقائع والحوادث، واختلاف في التواريخ وعمر الأجيال من
آدم إلى إبراهيم، وهو خلاف قائم أيضًا بين السبعينية
وتوراة اليهود. وفي الأناجيل أيضًا تناقضات بالنسبة
للتوراة، فهل هي نَسخ لها؟ والاختلافات في الروايات في
الزمان والمكان والرتبة والمال كثيرة، مثل رواية اختيار
المسيح للتلاميذ في الأناجيل الأربعة، وروايات جحد
التلاميذ له مرة قبل أن يصيح الديك ومرة بعده، وتناقضات في
روايات الإيمان عند التلاميذ. وكيف يُعطي المسيح للتلاميذ
قوة على الأسباط الاثنَي عشر وفيهم يهوذا؟ وهناك اختلافات
كثيرة بين الأناجيل الأربعة، كما أن هناك أناجيل أخرى
كثيرة غير الأناجيل الأربعة تحتوي على كثير من أقوال
المسيح الصحيحة، ولكن لا تعترف بها الكنيسة؛ لأنها لا
تُقِر بعقيدة التثليث. وهناك تناقضات في دخول المسيح
القدس، وتناقضات في نسب المسيح في بدء الخلق وهي فواتح
الأناجيل الأربعة، كما أن معجزاته مُضطرِبة ومُتناقِضة
تقوم على الكذب في النقل. ولا توجد تفرقة بين السحر
والمعجزة كما هو الحال في التوراة؛ فالأنبياء الكذابون
يقومون بإجراء المعجزات. وكثير من أمثال المسيح غير مطابقة
للواقع؛ مما يدل على وضعها خاصة في أمثال الزرع، والمسيح
غير خبير بالفلاحة مثل الذي وضعها. وتُثبِت مقدمة إنجيل
لوقا بأن الأناجيل مؤلَّفة باعترافه من نصوص سابقة، وليست
رواية متواترة أو شهادة عيان مباشرة.
١٨ أما بالنسبة لسوء فهم النصوص وتزييف العقائد،
فتأتي عقيدة التثليث كنموذج فريد؛ فقد تمَّت استعارة لغة
الأبوة والبنوة من التوراة ومن الديانات القديمة، والتي
على أساسها قامت كل العقائد الأخرى الباطلة المُناقِضة
لشهادة الحس وأوائل العقل وبداهة الوجدان. وهي لغة مجازية
تم تأويلها حرفيًّا لتُصبِح حقيقة، مع أن كثيرًا من النصوص
من داخل الأناجيل نفسها تؤيِّد أن المسيح إنسان وليس
إلهًا. ويعترف المسيح نفسه وعلى لسانه بأنه نبي وأنه ابن
الإنسان، وقال ذلك مرات عديدة أكثر مما قال إنه إله أو ابن
الإله؛ فالألوهية قد أُعطِيت للمسيح فيما بعد من الأجيال
اللاحقة؛ فهي رؤية بعدية، إسقاط من الحاضر على الماضي،
وليست رؤية قبلية من الماضي إلى الحاضر، وقد ساهم في ذلك
أبناء الكنيسة، وكانوا وراء كل ضلال. وزاد على ذلك أثر
اليهودية على النصرانية، بالرغم من تحذيرات سلس، وتأكيده
على التمايز والانفصال ضد الخلط والاتصال، وقد اتضح هذا
التناقض أيضًا في نظرية الكلمة في أول إنجيل يوحنا. وهناك
تطاوُل على القدرة الإلهية وطعن في التوحيد، فليس المسيح
إلا نبيًّا لا شأن له بالأب. وكيف يتوالد الابن عن الأب؟
وهي كلها في الحقيقة معانٍ مجازية تدل على درجة القرب
والتعاطف بين البشر، ولكن تحوَّلت ألقاب المسيح، مثل الابن
والمعلِّم والسيد، إلى عقائد فعلية شخصية شيئية، وليس مجرد
وصفه بأنه الابن الصالح، كما أن علاقة المسيح بالكون
مُتناقِضة؛ إذ إنه بشر وإله وطبيعة في آنٍ واحد، وامتحان
الشيطان للمسيح يدل على أنه أقوى منه؛ فكيف يكون الشيطان
أقوى من الله؟ وهناك تناقضات عديدة أخرى في رواية الصلب،
حول مَن حمل جثة المسيح، وحول اللصَّين؛ مرة كلاهما كافر،
ومرةً واحد كافر والآخر مؤمن، وكذلك في أقوال المسيح على
الصليب. وقال المسيح بالرجعة ولم يرجع؛ مما يدل على عدم
تحقيق النبوة، كما وعد المسيح أنه أتى ليتكلم بلغةٍ لا
يعلمها أحد ولم يتحقق الوعد. وهناك أيضًا تناقضات في رواية
البعث وفي تصوراته؛ فكيف يجلس المسيح على يمين الله؟ وهناك
تناقضات أخرى عديدة بالنسبة للملائكة وأمور المعاد. والروح
القدس ليس خاصًّا بالمسيح وحده، ولكنه عام لكل الأنبياء؛
وبالتالي فلا مجال لتفضيل نبي على بني أو في تفضيل البشر
على الأنبياء، وتشويه صور الأنبياء السابقين، مثل
التناقضات التي في رواية يحيى المعمدان. وكيف يقوم
التلاميذ بمعجزات وفيهم الجبان والخائن؟ وكيف يشك التلاميذ
المؤيِّدون بالروح القدس في المسيح وفي نفس الوقت يُجرُون
المعجزات؟ وهل كانت مريم على دين المسيح والتلاميذ أم على
أي دين؟
١٩ أما بالنسبة لقضايا الأخلاق والسلوك فإن عقائد
الخطيئة الأولى والخلاص والفداء تُعارِض حرية الاختيار
والمسئولية الفردية وقانون الاستحقاق. هناك إجبار مُتبادَل
من الله على الإنسان ومن الإنسان على الله، وكلٌّ ضد العدل
كما كان التجسد ضد أصل التوحيد، كما أن كثيرًا من الوعود
التي أعطاها المسيح بالنسبة إلى مغانم الدنيا لم تتحقق.
وكثير من الشرائع المنقولة عنه لا تُطابِق العقل والواقع،
ولا ندري من خلال النصوص؛ هل رسالته رسالة حرب أم سلام؟
والحقيقة أن كل هذه النتائج لها ما يؤيِّدها في علم النقد
التاريخي للكتب المقدسة، الذي نشأ بعد ذلك في الحضارة
الغربية الحديثة بأكثر من ألف عام. اعتمد القدماء فيها على
المادة الموجودة في عصرهم، ولم يستعملوا أحكام القرآن على
الكتب السماوية الأخرى، إلا كافتراضات يُمكِن التحقق مِن
صدقها في التاريخ.
٢٠