الناسخ والمنسوخ
تعدُّ ظاهرة النسخ التي أقرَّ العلماء بحُدوثها في النص أكبر دليل على جدلية العلاقة بين الوحي والواقع؛ إذ النسخ هو إبطال الحكم وإلغاؤه، سواء ارتبط الإلغاء بمحو النص الدالِّ على الحكم ورفعه من التلاوة أو ظل النص موجودًا دالًّا على «الحكم» المنسوخ. لكن ظاهرة النسخ تُثير في وجه الفكر الديني السائد والمُستقِر إشكاليتَين يَتحاشى مُناقشتهما. الإشكالية الأولى: كيف يُمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتَّب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء وبين الإيمان الذي شاع واستقرَّ بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ؟ والإشكالية الثانية التي تُثيرها ظاهرة «النسخ» هي إشكالية «جمع القرآن» في عهد الخليفة أبي بكر الصديق. والذي يَربط بين النسخ ومشكلة الجمع ما يُورده علماء القرآن من أمثلة قد توهَّم بأن بعض أجزاء النص قد نُسيت من الذاكرة الإنسانية. ولكن علينا قبل مناقشة هاتين القضيتَين أن نُحلِّل مفهوم النسخ ووظيفته عند علماء القرآن ونُناقشهم في تصوُّراتهم لأنواع النسخ وأنماطه.
(١) مفهوم النسخ
يَعتمِد العلماء في تحديد معنى النُّسخ على نصَّين من القرآن أحدهما مكي والآخر مدني. أما النصُّ المكي فهو قوله تعالى:
ولا شكَّ أن معنى «الآية» في هذا النص المقصود به بعض النص ووحدته الأساسية، فسياق النص قراءة القرآن والبدء بالاستِعاذة من الشيطان، ثم ردَّ تهمة الافتراء وبيان أن القرآن من عند الله نزل به الروح الأمين، والرد أيضًا على اتهام مشركي مكة بأن ثمة من يُملي على محمد القرآن. في هذا السياق يكون «إبدال» آية مكان آية معناه تغيير الحُكم الوارد في نصٍّ بنصٍّ آخر مع إبقاء النصَّين، ولذلك كان بناء الآية على الشرط، وكان جواب الشرط اتهام أهل مكة لمحمَّد بالكذب. وليس لهذا الاتهام من معنى سوى تصوُّرهم لوجود تناقض في النص. والنص الآخر الذي يَستند إليه العلماء في تحديد معنى النسخ نص مدني هو قوله تعالى:
وسياق هذا النص مُغاير لسياق النص السابق من حيث أنه يُشير إلى معاداة أهل الكتاب للمسلمين ومخالفتهم لهم في كل شيء. ولا شكَّ أن أهل الكتاب كانوا قد أحسُّوا باهتزاز مَكانتهم وبضعف تفوُّقهم على «الأميين» الذين صار لهم «كتاب» أيضًا. ولذلك كانوا كثيرًا ما يلجئون إلى اتهام آيات القرآن بالتناقُض، والأمثلة على ذلك كثيرة: منها مثلًا اعتراضهم على إلغاء النص للربا في حين أن النص يعدُ المؤمنين الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين ضعفًا، فكان قولهم «نعجب لرب محمد كيف يحرِّم علينا الربا ويُعطيناه». ومعروف أن «الربا» كان يُمثل بالنسبة ليهود «يثرب» مصدرًا هامًّا من مصادر سيطرتهم على حركة المجتمع. والمثال الثاني، وهو مثال أدخله العلماء في «النسخ» هو تحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن كان النبيُّ والمسلمون يتوجَّهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، ولا شكَّ أنَّ توجُّه المسلمين إلى بيت المقدس في الصلاة كان من شأنه أن يُثير الطمع في نفوس اليهود الذين ظنُّوا في هذا التوجه اتباعًا لليهودية، ولذلك اعترضوا عند تحويل القبلة:
«فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنتَ عليها وأنت تزعم أنك على ملَّة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه. فأنزل الله تعالى فيهم: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ (أي ابتلاء واختبارًا) وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ (أي من الفتن: أي الذين ثبَّت الله) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (أي إيمانكم بالقِبلة الأولى وتصديق نبيكم، واتباعكم إيَّاه إلى القبلة الآخرة، وطاعتكم نبيكم فيها: أي ليُعطينَّكم أجرهما جميعًا) إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.
ولعلَّنا من هذا السياق نفهم أن الآية في النص السابق — التي يقع عليها النسخ أو النسيان — ليس من الضروري أن تكون بمعنى الوحدة الأساسية في النص — الآية القرآنية — ولعلَّ المقصود بها المعنى اللغوي للآية، بمعنى العلامة الدالة. ويُؤكِّد هذا الفهم من جانبنا الحديث عن ملك السموات والأرض أولًا، ثم الحديث عن طلبٍ طلبه أهل الكتاب والمشركون من النبي، طلبٍ يُقارنه النص بما سبق أن طلبه قوم موسى منه؛ وهو طلبهم رؤية الله جهرة. لقد كان طلب أهل الكتاب من النبي هو أن قالوا:
وليس لهذا الطلب من معنى سوى أنهم كانوا يَطلبون «علامة» أو «آية» يستدلون منها على صدق النبي. ويكون معنى الآية بناءً على هذا أن العلامات الدالة على النبوة يُمكن أن يُغيِّرها الله، وأن ما يُغيِّره الله من هذه العلامات أو يسحب عليها أذيال النسيان يأتي من العلامات بما هو أفضل منها في الدلالة، أو يأتي على الأقل بما يُماثلها. إن هذا الفهم يتجاوز تعدُّد قراءات «أو نُنسها» وهي قراءات تراوحت بين نَنْسَها بإسناد الفعل إلى الله، أو نُنْسِها بجعل الفعل على صيغة «أفعل» من «أنسى» لا من «نسَّى» والقراءة الثالثة «نَنْسَأْها» بالهمز بمعنى التأجيل، وهي قراءة يستدلُّ منها الزركشي على أن النسخ بمعنى تأجيل الحكم لا بمعنى إلغائه، وهو:
ويكون على ذلك معنى النسخ هو إبدال نصٍّ بنصٍّ مع بقاء النصين وعلى ذلك يصعب أن نتقبل كثيرًا من النصوص والأنواع التي يُوردها العلماء داخل قضية «الناسخ والمنسوخ»، خاصة تلك النصوص التي يجعلون آخرها ناسخًا لأولها. إن أنماط النسخ يمكن أن تتضح أكثر إذا ناقشنا وظيفة النسخ وغايته.
(٢) وظيفة النسخ
لا شكَّ أن إبدال نصٍّ بنصٍّ بما يترتَّب عليه من إبطال حكم بحكم آخر يمكن أن يُدرَس من زوايا عديدة، أهمها التدرج في التشريع خطوة خطوة مراعاةً لقانون التدرج في عملية التغيير. وإذا كان النص في مفهومه الأساسي من حيث كونه وحيًا انطلق من حدود مفاهيم الواقع، فلا شكَّ أنه في تطوُّره كان لا بد أن يراعي هذا الواقع. ولا يصحُّ أن يكون هذا الفهم محجوجًا بتصور أن الله لا يجوز عليه التغير، وأن علمه الشامل للماضي والحاضر والمستقبل وللكليات والجزئيات يمنع من أن يحكم بحكم ثم يُغيِّر هذا الحكم؛ فالتغيُّر صفة ثابتة في الواقع لازمة له من حيث هو حركة مستمرة سيَّالة دافقة. وما دام النص نصًّا متوجهًا للواقع فلا بد أن يراعي شروط الواقع. لقد قارب علماء القرآن هذا الفهم وإن عبروا عنه بلغة عصرهم ومن خلال مفاهيمهم:
إن تغايُر أفعال الله في العالم لا يعني تغيرًا في ذات الله أو في علمه، وكذلك إبدال آية مكان آية وتغيير الحكم لا يعني «البَداء» أو أن الله يُقرِّر أمرًا ثم يبدو له فيه رأي آخر. إنَّ النظر دائمًا إلى «الله» في مناقشة قضايا الوحي والنص إغفال للبُعد الآخر الهام وهو الواقع والمُتلقِّين. إن الأحكام الشرعية أحكام خاصة بالبشر في حركتهم داخل المجتمع، ولا يصحُّ إخضاع الواقع المُتغير لأحكام وتشريعات جامدة لا تتحرَّك ولا تتطوَّر.
وهذا ما يجعل تحديد الناسخ والمنسوخ ليس دائمًا أمرًا سهلًا. ولعلَّ ذلك كان السبب في مُغالاة علماء القرآن في النماذج التي ناقشوها في هذا الباب. لقد جعلوا كل اختلاف نوعًا من النسخ، وخلطوا في ذلك بين أدوات التخصيص اللغوي داخل الآية الواحدة وبين تغيير الحكم لتغير الظروف والملابسات.
قال ابن العربي: قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ناسخة لمائة وأربع عشرة آية، ثم صار آخرها ناسخًا لأولها وهي قوله: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ.
وإذا كانت وظيفة النسخ هي التدرُّج في التشريع والتيسير، فلا شكَّ أن بقاء النصوص المنسوخة إلى جانب النصوص الناسخة يعدُّ أمرًا ضروريًّا؛ وذلك لأنَّ حكم المنسوخ يُمكن أن يَفرضه الواقع مرةً أخرى. وقد أدرك العلماء ذلك حين ناقشُوا موقف النص بين أمر المسلمين بالصبر على أذى الكفار وبين أمره بقتالهم، وقالوا إن الأمر بالصبر من قبيل «المنسأ» الذي يتأجَّل العمل به، أو يُلغى إلغاءً مؤقتًا لتغير الظروف، فإذا عادت الظروف إلى ما كانت عليه قبل ذلك عاد حكم المنسأ إلى الفعالية والتأثير.
بمعنى أن كلَّ أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لِعلَّة ما توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدًا … ومن هذا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية، كان ذلك في ابتداء الأمر، فلمَّا قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمُقاتلة عليه، ثم لو فُرِض وقوع الضعف كما أخبر النبي ﷺ في قوله: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ.» عاد الحكم، وقال ﷺ: «فإذا رأيت هوًى مُتبعًا، وشُحًّا مُطاعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك.» وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه ﷺ حين ضعفِه ما يليق بتلك الحال رأفة بمن اتبعه ورحمة؛ إذ لو وجب لأورث حرجًا ومشقَّة، فلمَّا أعز الله الإسلام وأظهره ونصَره أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مُطالبة الكفار بالإسلام، أو بأداء الجزية — إن كانوا أهل كتاب — أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب.
وإذا كان علماء القرآن قد أخرجوا هذا «المنسأ» من باب الناسخ والمنسوخ فإن تحديد وظيفة النسخ في التسهيل والتيسير والتدرُّج في التشريع تجعل المنسوخ كله من باب «المنسأ»، ويكون معنى التبديل في الآيات التي ناقَشْناها قبل ذلك هو تبديل الأحكام لا تغيير النصوص بإلغاء القديم بآخر جديد لفظًا وحكمًا. وإن فهم معنى «النسخ» بأنه الإزالة التامة للنص تتناقض مع حكمة التيسير والتدرج في التشريع.
(٣) أنماط النسخ
يُصنِّف القدماء أنماط النسخ في القرآن طبقًا لمفاهيم مختلفة ومُتغايرة للنسخ، فإذا نظَرنا إلى طبيعة النصوص الناسخة والمنسوخة كنَّا في دائرة المقارنة بين القرآن والسنة، فهل يجوز أن تُنْسَخ نصوص من القرآن بنصوص من السنة؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال اختلف العلماء:
«فقيل لا يُنسخ القرآن إلا بقرآن؛ كقوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا، قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيرًا منه إلا قرآن.
وقيل بل يُنْسَخ القرآن بالسنة لأنها أيضًا من عند الله، قال تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى وجعَل منه آية الوصية … والثالث إذا كانت السنة بأمر الله من طريق الوحي نسخت وإن كانت باجتهاد فلا، حكاه ابن حبيب النيسابوري في تفسيره.
والحقيقة أن مثل هذا التعارض بين الآراء نابع من عدم التَّفرقة بين النصوص الدينية، ومن عدم إدراك الحدود الفاصلة بينها. ويعدُّ موقف الشافعي هنا أقرب المواقف إلى سياق النص من حيث إصراره على التماثل في مستوى النصوص فيما يتَّصل بنسخ الأحكام. وإذا كان الزركشي يَعترض على الشافعي قائلًا:
فإن هذا اعتراض شكلي فإن «الرجم» حدٌّ أقصى من «الجلد» فكيف يُمكن الجمع بينهما، ناهيك أن إقامة حد «الرجم» على «الثيب» الذي حكمه حكم الأعزب نوع من العقاب «بالأثر الرجعي» على أساس ما كان. إن السنة الصحيحة المُوحى بها تُفسِّر القرآن وتوضِّحه، ولكنَّها لا تلغي أحكامه. وآية الوصية المشار إليها لم يتغيَّر حكمها بالسنة، بل تغير بالقرآن أيضًا وهو ما يُشير إليه الزركشي عند حديثِه عن وجوب تأخُّر الناسخ عن المنسوخ في ترتيب النزول حيث يقول:
وإذا كان القرآن والسنة نصَّين دينيَّين فإنهما يختلفان من وجوه أخرى جعلت الفقهاء والأصوليين يضعون السنة في مرتبة تالية من حيث الأهمية للقرآن. وإذا كان إهدار السنة في التعامل مع القرآن يعدُّ إهدارًا لجانب هام في فهم النص، فإن التسوية بين القرآن والسنة لا تقلُّ في خطرها عن خطر إهدار السنة إهدارًا كاملًا.
وإذا نظرنا إلى قضية الناسخ والمنسوخ من هذا المنظور نجد للعلماء تصنيفًا للآيات الناسخة والمنسوخة يدور حول الأنماط التالية:
-
(١)
الآيات التي نُسِخَت تلاوتها وبقي حكمها.
-
(٢)
الآيات التي نُسخ حكمها وبقيَت تلاوتها.
-
(٣)
الآيات التي نُسخ حُكمها وتلاوتها معًا.
وإذا كان النمطان الأول والثالث يَفترضان حدوث تغيير في النص حُذفت منه بعض الآيات سواء بقيَ حكمها كما هو الأمر في النمط الأول، أو نُسخ حكمها أيضًا كما هو الأمر في النمط الثالث، فإن هذا الافتراض له دلالته الخطيرة التي سنعود لمناقشتِها في الفقرة التالية: ونكتفي هنا بتحليل الأمثلة التي يُعطيها العلماء للنمط الثاني، وهو النمط الذي نميل إلى حصر مفهوم النسخ فيه دون غيره من الأنماط.
وفي حدود هذا الفهم لظاهرة «النسخ» لا يَسلم القدماء من الخطأ النابع من حِرصهم على عدم اتخاذ موقف نقدي مِن مرويات علم «الناسخ والمنسوخ» واعتمادهم على مجرَّد النقل عن القدماء والتوفيق بين الآراء والاجتهادات والروايات، رغم أنها قضية ترتبط — كما سلَفَت الإشارة — بمعرفة أسباب النزول، وهي من ثم تحتاج إلى اجتهادات تتجاوَز حدود التوفيق بين المرويات:
وليس في الأمر نسخ؛ فالآية الأولى آية خبرية لا تَفرض حكمًا يُمكن أن تنسخه الآية الثانية. ومن مثل هذا الخلط تصوُّرهم أن الأمر يُمكن أن يُنسَخ قبل تنفيذه، أو تصوُّرهم أن ما أتى به النص من أحكام تخالف ما كان عليه الناس قبل الإسلام يُعدُّ من قبيل «الناسخ»، وهو توسع يجعل النص كله تقريبًا نصًّا ناسخًا ويخرج عن حدود النسخ داخل النص. هكذا يُدخل الزركشي النمطَين السابقين في حدود الناسخ حيث يقول:
- الأول: «نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهذا الضرب هو النسخ على الحقيقة كأمر الخليل بذَبحِ ولده. وكقوله تعالى: إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ثم نسَخَه سبحانه بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ … الآية.
- الثاني: ويُسمَّى نسخًا تجوزًا، وهو ما أوجبه الله على مَن قبلنا كحَتمِ القصاص، ولذلك قال عقب تشريع الدية: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، وكذلك ما أمرنا به أمرًا إجماليًّا ثم نُسخ، كنَسخِه التوجه إلى بيت المقدس بالكعبة، فإن ذلك كان واجبًا علينا من قضية أمره باتباع الأنبياء قبله، وكنَسخ صوم يوم عاشوراء برمضان.»٢٢
ويتَّفق السيوطي في اعتبار هذه النماذج نَسخًا مع الزركشي رغم أنه على المستوى النظري يُنكر هذا الاتساع. وإذا كان السيوطي يؤكد أن النسخ لا يقع.
فإنه يعود ليُؤكِّد أن فرض التوجه إلى الكعبة في الصلاة نسخ، ويُعطي نماذج أخرى لا تدخل في إطار النسخ؛ وذلك اعتمادًا على المرويات التي يجمعها على النحو التالي:
ولقد سبق أن ناقشنا الآية الأخيرة من سورة «المزمل» وبيَّنا أنها مدنية، ولكن المهم هنا أن نلاحظ التسابق على اكتشاف ناسخ ومنسوخ في المرحلة المكية. لقد صار العالِم المتأخر مجرد جامع للروايات، وحين يحاول الاجتهاد فإنما ليُضيف إلى هذه الروايات رواية من عنده. وقد أدَّى تزيُّد العلماء في قضايا الناسخ والمنسوخ إلى ما هو أخطر من ذلك؛ وذلك عندما تصوَّروا أن من النصوص ما نسخ حكمه وتلاوته، ومنها ما نُسخت تلاوته دون حكمه.
(٤) الانفصال بين الحكم والتلاوة
في مناقشة علماء القرآن للنمط الذي نسخ حكمه وتلاوته من الآيات يُوردون بعض النصوص التي تُوهم بحدوث تعديل في النص بعد وفاة النبي وانتهاء الوحي:
ولكن الذي يُعارض هذه الرواية أنه ليس في القرآن نص خاص بتحديد الرضعات المُحرِّمة. وإذا كان ثمة نسخ في هذا الحكم فلا بد أنه كان نسخًا في مجال السنة لا في مجال القرآن. ويُؤكِّد هذا الرأي ما ذهب إليه مكي حين قال:
لكن موقف علماء القرآن من هذه الرواية يَتراوح بين الإنكار استنادًا إلى أنه من خبر الآحاد، وبين محاولة التأويل. وإذا كان الزركشي يُورِد عن الواحدي مثالًا آخر للمنسوخ حكمًا وتلاوة يرويه عن أبي بكر هو «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر»، فإنه يورد الرأيَين السابقَين على النحو التالي:
«وحكي عن أبي بكر في «الانتصار» عن قوم إنكار هذا القسم؛ لأنَّ الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها.
إنَّ هذا الموقف التأويلي في حقيقته موقف تبريري، فإذا كان بعض القرآن يمكن أن يُنسى ويَندرِس مثل كتب الله القديمة، فلا شك أن هذا — إن صحَّ وقوعه — نوع من النسخ بمعنى الإلغاء والإزالة. وما دام النسخ ممكنًا بعد وفاة الرسول فإنَّ ذلك يفتح الباب واسعًا أمام الشكِّ في مصداقية النص لا من الوجهة الدينية فحسب، بل من الوجهة الثقافية أيضًا. ومهما كانت الدوافع وراء هذه التأويلات حسنة النية فإنها تنتهي في امتداداتها المنطقية إلى إلغاء مفهوم النص ذاته. لقد كان على المُفكِّر القديم أن يتحلَّى بقدر أكبر من الجرأة في مواجهة هذه المرويات بدلًا من أن يحاول الجمع بينها بافتراضات تؤدي إلى أسوأ مما حاول الهرب منه. ولو ركن العلماء إلى مبدأ أن النسخ لا يتضمَّن إلغاءً للنصوص وإنَّما يَكتفي بتعليق أحكامها، وأنه لا يقع إلا داخل النص الواحد، سواء كان قرآنًا أم سنة لاستندوا إلى مبدأ هام يَعصمُهم من هذه المتاهات والغايات المتشابكة من المرويات. وإذا تساءلنا عن الحكمة من وراء نسخ نص ثابت التلاوة — حسب حديث عائشة — بنصٍّ آخر غير ثابت التلاوة، لردَّ علينا العلماء ردًّا منطقيًّا شكليًّا استنادًا إلى تصورهم لوجود نصوص ثابتة التلاوة منسوخة الحكم مثل آية الجلد في حالة الزنا التي نُسِخَت — فيما يتوهَّمون — بالرجم، وقد كانت ثمة آية للرجم نُسخت تلاوتها وبقيَ حكمها. وهكذا ندور في دائرة مُغلقة لا ندري أين تبدأ وأين تنتهي.
«كما رُوي أنه كان يقال في سورة النور: «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتَّة نكالًا من الله.» ولهذا قال عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله، لكتبتُها بيدي. رواه البخاري في صحيحه مُعلَّقًا.
وإذا كان الزركشي يذهب إلى أن امتناع عمر بن الخطاب عن كتابة هذه الآية في القرآن راجع إلى اعتقاده أنها من أخبار الآحاد التي لا يَثبت بها القرآن، فإن السيوطي يرى أن ذلك مردود:
وإذا كان الامتناع عن التدوين مصدره النبي نفسه فليس وراء هذا دلالة على أنها ليسَت جُزءًا من النص الذي نعلم الحرص على تدوينه من جانب النبي. وتفسير نسخها بأن العمل بها على غير الظاهر من عمومها تفسير مُتهافت فكثير من آيات الأحكام يُمكن أن تكون كذلك ولم يكن ذلك مُبرِّرًا لنَسخها لأنَّ السنة بمَثابة نصٍّ ثانوي يُفسِّر النص الأصلي ويَشرحه ويُجلي غوامضه. لكن التسليم بالمرويات القديمة على علاتها كان من شأنه أن يؤدي إلى ذلك. ويستعرض السيوطي — بدوره — عضلاته الذهنية ليَطرح تأويلًا آخر لسبب نسخها:
وليس في إلغاء النص تلاوة دون إلغائه حُكمًا تخفيفٌ كما يذهب السيوطي، بل فيه ما فيه من تحويل أحكام الشريعة إلى أسرار لا يعلمها إلا الخواص، خاصة إذا كانت أحكامًا تتعلَّق بالعلاقات الطبيعية بين البشر في المجتمع. وفي رواية أخرى عن عمر بن الخطاب أيضًا يبدو فيها أنَّ السبب وراء عدم تدوين هذا النص هو التخفيف عن الناس، ولكنه يرُدُّ ذلك إلى انتشار الزنا في المجتمع، فكأنَّ عدم تدوين النص — بناءً على هذه الرواية — كان بسبب عدم تنفير الناس من الإقبال على الإسلام:
(٥) النسخ وأزلية النص
لم يُناقش العلماء ما تؤدي إليه ظاهرة نسخ التلاوة، أو حذف النصوص، سواء بقي حكمها أم نسخ أيضًا، من قضاء كامل على تصورهم الذي سبقت الإشارة إليه لأزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ. وإذا كان:
فإن نزول الآيات المثبتة في اللوح المحفوظ ثم نسخها وإزالتها من القرآن المتلوِّ ينفي هذه الأبدية المُفترَضة الموهومة، ويجب أن نفهم الآيات الدالَّة على ذلك فهمًا غير حرفيٍّ. ولا يُمكن للمُفسر القديم التمسُّك بالمقولتين معًا. فإذا أضفنا إلى ذلك المرويات الكثيرة عن سقوط أجزاء من القرآن ونسيانها من ذاكرة المسلمين ازدادت حدَّة المشكلة التي كان على العلماء القدماء ومن يتابعهم من المحدثين حذوك النعل بالنعل أن يواجهوها. يقول السيوطي راويًا:
«وأمثلة هذا الضرب كثيرة. قال أبو عبيد: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: ليقولنَّ أحدكم قد أخذتُ القرآن كله، وما يَدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليَقُل قد أخذت منه ما ظهر.
وقال حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي ﷺ مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نُقدِّر منها إلا ما هو الآن.
وقال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن المبارك بن فضالة عن عاصم بن أبي النجود عن ذر بن حبيش قال لي أُبي بن كعب: كم آية تعدُّ سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتَين وسبعين آية أو ثلاثًا وسبعين آية، قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم، قلت: وما آية الرجم: قال: والشيخ والشيخة فارجموهما البتَّة نكالًا من الله، والله عزيز حكيم.
وقال حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان عن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله ﷺ آية الرجم: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة.
وقال: حدثنا حجَّاج عن ابن جريج أخبرني ابن أبي حميد عن حميدة بنت أبي يونس قالت: قرأ عليَّ أبيٌّ وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وعلى الذين يُصلُّون في الصفوف الأولى. قالت: قبل أن يُغيِّر عثمان المصاحف.
وقال حدثنا عبد الله بن صالح عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد الليثي كان رسول الله ﷺ إذا أُوحي إليه أتيناه فعلمَنا مما أُوحي إليه، قال: فجئتُ ذات يوم فقال: إن الله يقول: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديًا لأحبَّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان إليه الثاني لأحب أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
وأخرج الحاكم في المستدرك عن أبي بن كعب قال: قال لي رسول الله ﷺ: «إنَّ الله أمَرَني أن أقرأ عليك القرآن»، فقرأ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ. ومن بقيَّتها «لو أن ابن آدم سأل واديًا من مال فأُعْطِيَه سأل ثانيًا، وإن سأل ثانيًا فأُعطيه سأل ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذات الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية والنصرانية ومن يعمل خيرًا فلن يُكْفَره.»
وقال أبو عبيد: حدثنا حجَّاج عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبي موسى الأشعري قالت: نزلت سورة نحو براءة ثم رُفعَت وحفظ منها أن الله سيُؤيد هذا الدين بأقوام لا خَلاق لهم، ولو أنَّ لابن آدم واديَين من مال لتمنَّى واديًا ثالثًا، ولا يَملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على مَن تاب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال: كنا نقرأ سورة نُشبهها بإحدى المسبِّحات نسيناها، غير أني حفظَت منها: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتُكتب شهادةً في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيامة.
وقال أبو عبيد: حدثنا حجَّاج عن سعيد عن الحكم بن عتيبة عن عدي بن عدي قال: قال عمر: كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفرٌ بكم، ثم قال لزيد بن ثابت: أكذلك؟ قال: نعم. وقال حدثنا ابن أبي مريم عن نافع بن عمر الجمحي حدثني ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف ألم تَجد فيما أنزل علينا أن جاهِدُوا کما جاهدتم أول مرة فإنا لا نجدها؟ قال: أُسقطَت فيما أُسقط من القرآن.
وقال حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن عمرو المغافري عن أبي سفيان الكلاعي أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتَين في القرآن لم يُكتبا في المصحف، فلم يُخبروه وعندهم أبو الكنود سعد بن مالك، فقال ابن مسلمة: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المُفلحون والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون.
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله ﷺ فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يُصليان فلم يَقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديَين على رسول الله ﷺ فذكرا له ذلك فقال إنها مما نُسخ فالهوا عنها.
وفي الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر مؤتة الذين قتلوا وقَنَتَ يدعو على قاتليهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع: أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا.
هل يُمكن أن نفترض من هذه الروايات سقوط بعض نصوص من القرآن من ذاكرة الجَماعة رغم كثرة الروايات التي تدلُّ على حِرص النبي والمسلمين على التدوين والحفظ معًا؟ أم هل نفترض أن جمع عثمان للناس على مُصحف واحد بعد اختلافهم في القراءة — وما أدَّى إليه ذلك من تدوين القرآن على حرف واحد من الأحرُف السبعة — كان بمثابة توحيد لقراءة النص على لهجة قريش؟ وهو افتراض يُمكن أن نجد له سندًا في قول عثمان للجنة جمع القرآن وتدوينه:
أم هل نَفترض أن هذه الروايات كلها مكذوبة مدسوسة وأنه لم يسقط شيء من القرآن؟ ونَستنِد في ذلك إلى أن كثيرًا منها ورَد على لسان أُبي بن كعب وهو من أحبار اليهود. لكن أيًّا كان الافتراض الذي يُمكن أن نَفترضه، فالذي لا شك فيه أن هذه النماذج كلها لا تدخل في باب «النسخ» بالمعنى الذي حدَّدناه من قريب أو من بعيد لا من حيث المفهوم ولا من حيث الوظيفة. والذي لا شكَّ فيه أيضًا أن فهم قضية النسخ عند القدماء لا يُؤدي فقط إلى معارضة تصوُّرهم الأسطوري للوجود الخطي الأزلي للنص، بل يُؤدي أيضًا إلى القضاء على مفهوم النص ذاته.
لقد رأينا الترابط بين قضايا الناسخ والمنسوخ وبين قضايا أسباب النزول بحيث يُمكن أن نعدهما من منظور علاقة الترابط بين النص والواقع قضية واحدة أو نوعًا واحدًا من أنواع علوم القرآن، لكن الفصل بينهما في هذه الدراسة كان ضروريًّا لمناقشة مفهوم القدماء والكشف عن طرائقهم في الفهم والتحليل.
وإذا كنا في الفصول السابقة كلها قد ركزنا على بعد علاقة النص بالواقع والثقافة فإنَّنا في الفصول التالية نودُّ أن نركز على آليات النص سواء من حيث صلته بالنصوص الأخرى داخل الثقافة أو من حيث طرائقه في إنتاج الدلالة، وهذا كله موضوع الباب التالي.