أولًا: قسمة، أقسام، تصنيف، إحصاء
ويتداخَل العرض التاريخي مع الوصف البنيوي لإحصاء العلوم. وكانت الأولوية للبنية على التاريخ. وقد تكوَّنت البنية الثلاثية عند الكندي على نحو مباشر بتغلغُل نظرية المعرفة ومناهج البحث في مُعظَم رسائله. وهي ما تُعادل المنطق قبل أن يُصبح منطقًا، ثم يُقسم العلم إلى علمٍ إنساني وعلم إلهيٍّ، وهو ما يُعادل الطبيعيات والإلهيات. عرف الكندي مضمون القسمة الثلاثية في نشأتها دون إعطائها صورتها كما فعل ابن سينا. وأحكمت البِنية عند ابن سينا في قسمته الثلاثية للحكمة في «الشفاء» و«النجاة» ولو أنه في «الإشارات والتنبيهات» أضاف قسمًا رابعًا عن المقامات والأحوال ضامًّا التصوف إلى الفلسفة في الفلسفة الإشراقية فأصبحت القسمة رباعية مثل إخوان الصفا. وبالرغم من استقرار البِنية في أقسام الحكمة الثلاثية عند ابن سينا إلا أنَّ الفضل يرجع إلى الإخوان الذين هم أول مَن قسَّموا الحكمة بعد عصر الترجمة في القرنَين الثاني والثالث.
وبالرغم من أنَّ الفارابي تالٍ لإخوان الصفا فقد تحوَّلت البِنية من رباعية عند الإخوان إلى خماسية عند الفارابي إلى ثلاثية عند ابن سينا. فتطوُّر التاريخ ليس ارتقائيًّا بالضرورة، بل يتقدَّم بالزيادة أو النقصان، من القسمة الرباعية إلى الخماسية، ومن الخماسية إلى الثلاثية.
وبالرغم من أن التوحيدي (٤٠١ﻫ)، تالٍ للفارابي (٣٣٩ﻫ)، إلا أنه لم يستطع بناء الحكمة، بل اكتفى بالموضوعات المُتفرِّقة نظرًا لأنه لم يكن فيلسوفًا من أجل الصنعة، بل كان يجمع بين النظرات الفلسفية والأحوال الصوفية والصياغات الأدبية والتحليلات اللغوية والروايات التاريخية. كان الفارابي وهو سابقٌ عليه أكثر قدرة على بناء الحكمة في «إحصاء العلوم»، ثم تلاه ابن سينا في «أقسام العلوم العقلية».