ثانيًا: غياب البِنية في العرض الأدبي (التوحيدي)
بالرغم من غلَبة ثنائيات الفكر على أبي حيان إلا أنها لم تظهر لديه في بنية محكمة
لعلوم الحكمة وظهرت موضوعات الحكمة لديه مسائل مُتناثرة أو نظرات مُتفرِّقة، مجرد
«مقابسات» أي قبس من ضوء وحدوس مُتناثِرة لا يجمعها جامع.
١ فالحكمة ليسَت نسقًا ولا نظامًا. هي أشبه بومضات الصوفي، هوامعه
ولوامعه، تلويحاته ومطارحاته، وإشاراته الإلهية أو بخيالات الأديب، ببيانه وبديعه،
ألفاظه وعباراته، أو بمُسامرات الليالي، ومناظرات العلماء في جلسات الأمراء للإمتاع
والمؤانَسة. هي موضوعات مُتفرِّقة يجمعها أبو حيان من الرواة، هوامل في حاجة إلى
شوامل، وأسئلة تستدعي أجوبة، وذخائر تتطلب بصائر، وتجميع أقوال حول موضوعات أدبية
أخلاقية إنسانية عامة مثل «الصداقة والصديق».
يُروِّج أبو حيان لأفكار الآخرين، المترجمين والشراح والفلاسفة أو العلماء.
٢ ويرسم شخصياتهم في إطار من الشعوبية السائدة وذكر فضائل العرب والعجم،
والمناظرات بين الحساب والبلاغة، بين المنطق والنحو، ومقارنة أخلاق الإنسان بأخلاق
الحيوان، وبعض موضوعات النفس مثل السكينة، وبعض الموضوعات الفلسفية الخالصة مثل
الممكن والواجب، وبقايا الموضوعات الكلامية مثل القضاء والقدر. وتتفاوت فيما بينها
من حيث الكم، أطولها المناظرة بين المنطق والنحو بين متى بن يونس وأبي سعيد
السيرافي، وأصغرها القضاء والقدر وخصائص الشعوب.
٣ بل إنَّ الليالي في «الإمتاع والمؤانَسة» ليس لها عناوين أو موضوعات
مما يدلُّ على غياب الموضوع أو التصور. وتَتناثر موضوعات الجزء الثاني بين الأدب
وأقوال السلف وبعض الفلاسفة وجمع الأحاديث النبوية والحكم والأمثال.
٤ أطولها عن إخوان الصفا، وأقصرها عن الحسِّ والعقل. وتتوزع موضوعات
الجزء الثالث بين النفس واللغة والطعام والسياسة والفلسفة والدين. أطولها الطعام
والشبع وأقصرها اللغة.
٥
ويمكن إعادة بناء الأربعين موضوعًا فلسفيًّا في «الإمتاع والمؤانسة» على النحو
الآتي:
- (١)
بعض الموضوعات من مرحلة النقل مثل المُترجمين الأوائل والحكماء
المتقدمين.
- (٢)
بعض الموضوعات من مرحلة التحوُّل؛ أي العرض والتأليف والتراكم
الفلسفي مثل إخوان الصفا والعامري وباقي الفلاسفة، ورسم بعض الشخصيات،
وأساطين العلم.
- (٣)
بعض الموضوعات الكلامية الباقية لتجاوُزها في علوم الحكمة مثل الجبر
والقدَر والمُصادفة والبخت والاتِّفاق، والدين والأديان (الكلام والفرق
والمذاهب).
- (٤)
بعض الموضوعات من العلوم النقلية مثل الأحاديث النبوية، وتفسير بعض
الآيات لغويًّا، وموضوعات لغوية صرفة، وشرح بعض أقوال السلف.
- (٥)
بعض الموضوعات المنطقية في بداياتها مثل المناظرة بين الحساب
والبلاغة، والمنطق واللغة، والنَّثر والنَّظم، وحضور البديهة في
الردود.
- (٦)
بعض الموضوعات الطبيعية على مُستوى تحديد الألفاظ مثل القديم والعتيق
والمُحدَث تتداخل مع الإلهيات، بينما تغيب الإلهيات المباشرة.
- (٧)
موضوعات النفس، الحس والعقل والروح وهي أقلها بالرغم من النزعة
الصوفية.
- (٨)
موضوعات الأخلاق مثل السكنية، والمجون والطرب، والطعام والشبع
والممالحة (الطعام)، وأخلاق الإنسان وأخلاق الحيوان، وبعض الموضوعات
الفلسفية الأخرى.
- (٩)
بعض الموضوعات الاجتماعية والسياسية والتاريخية مثل خصائص الشعوب،
وفضائل العرب والعجم، والحِكَم والأمثال والأشعار (حِكَم الشعوب)، وبعض
الحكايات عن العامة والسلطان، وانهيار المجتمعات ونهاية الدول.
٦
وواضح غلبة الموضوعات الأخلاقية ثم الاجتماعية والسياسية والتاريخية، ثم تَتساوى
الموضوعات النقلية مع الموضوعات المنطقية، ثم موضوعات النقل والتحوُّل من عرض
وتأليف وتراكم. ثم تَتساوى الموضوعات الكلامية مع موضوعات النفس والحس والعقل. ثم
تأتي الطبيعيات، وأخيرًا تأتي مرحلة النقل والترجمة.
٧
والمناظرة هي الشكل الغالب، ست عشرة مُناظرة أطولها الثامنة، مناظرة السيرافي
ومتى بن يونس في الليلة العاشرة، وأصغرها السادسة عشرة في الجبر والقدر. والكمُّ
يدلُّ على الكيف.
٨ والمُناظرتان الحادية عشرة والثانية عشرة غير موجودتَين ربما لخطأ في
العدد. وقد تمتدُّ المناظرات عدة ليالٍ، وقد تَشمل ليلة واحدة مُناظرتَين. والليالي
ليست على التوالي نظرًا لخلوِّ بعض الليالي من المناظرات. ولو كانت الموضوعات
مُقسَّمة على الليالي لبرَزت الموضوعات أكثر ولتحوَّلت من ليالٍ فلسفية إلى نسَق
موضوعي. وتقلُّ الموضوعات الفلسفية بتوالي الليالي أكثرها في الليالي الأولى،
وأصغرها في الليالي الأخيرة.
٩
أما «المقابسات» فموضوعاتها فلسفية في مُعظمها كما يبدو ذلك من عناوين مُقابسة.
١٠ وطبقًا للتوزيع الكمي تأتي موضوعات النفس والطبيعة أولًا، ثمَّ الكلام
والفلسفة، ثم الله، والعلم، واللغة والمنطق، والأدب، والنجوم والأخرويات، ثمَّ
الناموس الإلهي، وأخيرًا الأخلاق والطب، مما يدلُّ على الاتجاه الإنساني الطبيعي
عند التوحيدي. وهو أكثر مُؤلَّفات أبي حيان إبرازًا للموضوعات الفلسفية بالرغم من
غياب البنية.
١١
وفي «الإشارات الإلهية» وهي ناقصة لا يُوجد منها إلا الجزء الأول تظهر الحروف
الأبجدية على نحوٍ رمزي، فردية ثم ثنائية لتُعطي قسمة الموضوعات على نحو صوري دون
عناوين له باستثناء أربعة منها. الأولى في البداية، واثنان بعد الربع الأول،
والرابع في المُنتصَف. وتتكرَّر بعض الحروف مثل ز. والحروف الثنائية البعض يبدأ
بالياء، والآخر بالكاف، والبعض الثالث باللام باستثناء واحدة فقط تَسبقها الألف.
وأحيانًا يُساوى الحرفان الثنائيان بحرفٍ أو حرفَين. وأحيانًا يُساوي حرف واحد
حرفين. وأحيانًا يُوضع الحرفان ثم الحرف دون علامة المساواة.
١٢ أما العناوين الأربعة فإنها تُشير إلى المعرفة الصوفية وهو ما يُعادل
المنطق في بِنيته المحكمة. وتَختفي الطبيعيات والإلهيات. وهي عبارات طويلة لا تشير
إلى تصورات، بل إلى إلهامات وتعبيرات إنشائية أدبية صوفية مثل العنوان الأول.
١٣
وتتضمَّن «الهوامل والشوامل» مائة وخمسًا وسبعين مسألة تتنوَّع عناوينها في
الخمسين الأولى. ثم يُوضع عنوان على المائة وخمس وعشرين الثانية بلا عنوان.
١٤ ويَغلب عليها الطبيعيات سواء بفردها أو باقترانها بخلقية أو بأسرار
وحروف لغوية أو باختيارية.
ويُلاحظ غياب المنطق والإلهيات. ثم تظهر الموضوعات الخلقية، مُقترنة بالطبيعة
وبالإرادة اللغوية. ثم تظهر الاختيارية، ومبادئ العادات. وإذا كانت اللغة بديلًا عن
المنطق فتظهر المسميات، الحروف اللغوية مقرونة بالأسرار الطبيعية، واللغوية،
والزجرية اللغوية، والإرادية الخلقية اللغوية، مما يدلُّ على ارتباط اللغة بالطبيعة
وبالأخلاق والإرادة أو الزجر بالإضافة إلى اللغة بمُفردها. ثم تظهر النفس والرؤيا
والموروث الشعري الأول في معنى قول الشاعر.
١٥
أما «الصداقة والصديق» فتَجربة شخصية لأبي حيان من غدر الأصدقاء دون بنية مما يدل
على المصدر الوجودي الذاتي لعلوم الحكمة.