تمهيد
وقبل أن نُقدِم على العمل ندوِّن هنا خلاصة مشروعنا؛ ليكون القراء على بينة مما قصدناه. نفتح اليوم سياق مذاكرات شتى، نتابعها على صفحات «المشرق» بسرعة كافية، مع مراعاة الظروف والأحوال، ويكون ابتداء كلامنا في أبحاث عمومية عن موقع سورية الجغرافي، وما نالته هذه البلاد في سالف الزمان لفضل مركزها من المنافع والمرافق، وما ينتظرها أيضًا بسببه في المستقبل من النجاح، ثم ننتقل إلى وصف صورتها وتخطيطها، ثم نذكر جبالها ومياهها مع البحر الذي يماسُّ سواحلها، ثم نصِف مواردها من معادن ونبات وحيوان، وإذا انتهينا من هذا النظر العمومي ننتقل إن شاء الله إلى أوصاف كل جهة بحِدَتها، ونعرِّف خواصَّ حواضرها وتاريخ أبنيتها القديمة، وآثارها الجليلة، وكل ذلك على التقريب يوافق الفصول التي خصَصْناها بلبنان وأحواله.
فمن هذا الرسم الوجيز ترى سعة الموادِّ التي تشملها أبحاثنا؛ إذ لا تتناول فقط الأحوال الحاضرة، بل تمتد أيضًا إلى ما سلف عهده. وأملُنا أن القارئ يصحبنا في هذه الرحلة الطويلة دون أن يأخذه الملل، ولا ريب أنه يستدرك هذا الخطر إن صرف نظره إلى ما يقال، ليس إلى مَن يقول؛ لأن الموضوع ذو بالٍ، كثيرُ الشُّعَب، متعدد المناظر، يعاين فيه المطالع — مع طوله — مَشاهِدَ فتَّانة تتناوب وتتوالى، فيقر إليها بصره ولا يحسُّ بسأم، وزِد على ذلك أن الذي نصِفُه ليس بأمر غريب عن القراء، لكنه أمر قريب تحنُّ إليه أضلاعهم، وتمسُّه مشاعرهم، أعني سورية مسقط رأسهم ووطنهم العزيز، فكل ما ينوط به يهمهم شأنُه ويجدر بهم الالتفات إليه. وهذا الذي حدانا إلى مباشَرة العمل، كي نزيد قرَّاءَنا اعتبارًا لبلادهم، إذا ما عرفوا كل ما أودعه الخالق من المحاسن والكنوز، فمن الله نطلب أن يمدَّ إلينا يد المساعدة؛ لنقوم بهذا المشروع قيامًا أهلًا بسموِّ شأنه، فنحقِّق أماني القراء فينا.
وها نحن نُصدِّر مقالاتنا بفصل إعدادي، نبحث فيه عن موقع سورية جغرافيًّا؛ لنستدل به على تاريخها القديم؛ ولهذا الفصل مقدمةٌ غاية في الاعتبار، تعود إلى أصل العِتْرة البشرية كلها؛ أعني كون سورية مهد الجنس البشري.
سورية ومهد الجنس البشري
نِعم القول، يسرُّنا أن ننقلهُ عن كاتب بليغ، فنحلِّي به مَطلع هذه الدروس التي أفردناها لسورية وآثارها.
لا أريد أن أحكم في هذا القول، أهو عين صواب، أو هو بالحري وصف تخيلي لشاعر متفنن؟ وليست غايتي أن أنسب له حلَّ هذا المشكل العويص، ولكن يمكننا أن نعتبر هذا البحث من وجه آخر، فنحصره في حدودٍ معلومة، ولا يخفى عليَّ بأنه يلذ القراء أن يستقْرُوا أخبارَ الشعوب جيلًا بعد جيل ليعرفوا مهد الجنس البشري، ويتبيَّنوا موقع الفردوس الأرضي، لكن هذا البحث يخرج عن حيز الممكنات، وإنما نستطيع أن نقتصر في البحث عما ورد في تاريخ السلالتين العظيمتين من السلالات البشرية، اللتين لعبتا في العالم أشرفَ الأدوار، نريد الأممَ السامية والهندوأوروبية، فنقول:
أما السلالة الهندوأوروبية التي تهمنا من وجوه متعددة، فإن رأي العلماء في أصلها كرأيهم في الساميين، فإنهم لا يتفقون في تعيين مهدهم الأول، وإن كانوا يجعلونه في آسية، ليس بعيدًا من البلاد التي سبق القول فيها بأن الساميين إخوة الآريين سكنوها في طَوْرهم التاريخي.
ومن ثَم نقول أيضًا عن سورية إنها من الأقطار التي استوطنتها المستعمراتُ البشرية الأولى، إن لم تكن أولَ أرض وطِئَها الإنسان بقدَمه، وما لا ريب فيه أن سورية قد تفرَّدت مع بلاد بابل والقُطر المصري بكونها حفظتْ أقدمَ ما وُجِد من الآثار المُنبِئة بوجود الإنسان، الناطقة بأعماله الأولى، وهو لعمري مجدٌّ أثيل أحرزته لها في ميدان لم يُجَارِها فيه إلا القليل.
موقع سورية الجغرافي
لسورية — فضلًا عن كونها من مواطن البشرية الأولى — فضلٌ آخَر، وهو موقعها العجيب في وسط المعمور، فإنها قائمة في حدود الشرق كالحارس يصونها، وهي مع ذلك قسم صالح من حوض البحر المتوسط الذي يوصلها بأقطار الغرب، تراها منفصلة عن آسية المتقدمة بجبال طورس الشامخة، وبصحاري جزيرة العرب، يصلها بأفريقية برزخ دقيق «برزخ سويس»، واقعة على سواحل البحر المتوسط، الذي كان يُعَد إلى أواسط القرن السادس عشر كبحر المسكونة كلها، فأسرع سكان الشام وسلكوا هذه الطريق اللاحِبَة، ودخلوا ذلك الباب الواسع المفتوح في وجه نشاطهم، وتقاطروا إلى الجزائر النازحة والبلاد السحيقة الواقعة في الغرب، فطبعوا فيها صورةَ تمدُّنهم وآثارَ حياتهم، فكأنه تبارك وتعالى لم يجعل سورية على جوار البحر المتوسط — الذي أضحى منذ ٣٠٠٠ سنة من أخص سبل التمدُّن — إلا ليجعل أهلَها في مقدمة روَّاد المدنيَّة ونَقَلة الأُلفة، فقاموا بهذه المهمة أحسن قيام مدةَ نيِّف وألف سنة.
قد قلَّد الله كل شعبٍ دعوةً يفيد بها الهيئة الاجتماعية، أما خاصة الفينيقيين وأهل سورية فإن دعوتهم إنما كانت نشر التمدُّن. نعم، إن التمدن بلغ في بابل وآشور مبلغًا أعظم منه في أنحاء الشام، كما أن عقول الآشوريين لم تكن أقل توقُّدًا من جيرانهم. لكن فعلهم في نشر الترقِّي المدني كان دون فعل الفينيقيين، فماذا أنقصهم لذلك؟ إنهم لم يُعطَوْا هبةً نالها السوريون فامتازوا بها في كل أجيالهم؛ نريد الإقدامَ على نشر المشروعات؛ لأن الآشوريين لم يجدوا بقُرْبهم بابًا بحريًّا يخرجون منه إلى بقية أنحاء العالم، وينشِّطهم على العمل، ويشدِّد أزرَهم للتوسُّط في المعاملات بين الشعوب المتباينة، وكل ذلك قد أصابه السوريون لوجود موطنهم بين بلاد متوغلة في التمدن، وبلاد جديدة كانت منتظرة نعمة هذه المدنيَّة. وكان السوريون دون جيرانهم البابليين والمصريين قدرةً وثروة، فسدُّوا ما ينقصهم من هذا الوجه بما أتاحهم الله من حُسن الموقع والمنافع الجغرافية.
ولما نالت سورية هذا المقام في الوضع الطبيعي، صارت في كل الأزمنة هي الوصلة بين الشرق والغرب، تنوط بهما جميعًا، دون أن تختص بأحدهما، فإن اعتبرت سكَّانها ولغتها ورسومها فهي شرقية، وإنْ لحظت جيرتها من بحر غربي ومُعامَلاتها المتوالية مع الأمم الساكنة في حوض البحر المتوسط، وأخلاق أهلها المتنوعة العامة، وميلهم الطبيعي إلى التهاجر ومخالطة الشعوب ومعاطاة الأشغال، فهي أشبه بالغرب.
وهنا لا يجوز لنا أن نضرب الصَّفْح عن أمرٍ لم يكن في الحسبان، وهو تأثير غابات لبنان في أحوال أهلها وتدبير شئونهم، فإن هذه الأحراج هي التي أكسبت الفينيقيين نقابةَ البحر؛ لأن منها كانوا يستمدُّون الأخشابَ اللازمة لتجهيز السفن، فصاروا بذلك في مقدمة الملَّاحين، يتولَّون التجارة البحرية مع البلاد البعيدة، لكن هذه المنافع أيضًا قد حرَّكت مطامع الشعوب المحيطة بهم للاستيلاء على بلادهم، فترى كيف الأهواء البشرية تتعرَّض لأحكامه تعالى، فتبلبل النظام الذي سنَّه لكل بلاد، وقد سبق أن سورية في رسم الخالق وُضِعت لتكون بلدًا وسطًا، يجمع في التحابِّ والأُلفة الشعوبَ المتنائية.
ليس التاريخ إلا صدًى لاصطدام الأهواء البشرية، ولما ينجم عن التحامها من النكبات ومن الحروب ومن الخرائب، وعلى خلاف ذلك السلام والخير والفضيلة، فإنها لا يُسمَع لها جلبة، وبناءً على هذا قد قال القائل: «طُوبى للأمم التي ليس لها تاريخ.» وهذا لا يصح في سورية كما رأينا، وكان الأولى بها وبأهلها أن تبقى في عزلتها، دون أن تستلفِتَ إليها نظرَ العالم، لكن الشعوب كما الأفراد لا يمكنها أن تؤثر لها خطة تجري عليها باختيارها، وتنسج على منوالها حياتَها العمومية؛ لأن الشعوب في التفكير والله في التدبير.
•••
وفي هذا لعمري عِبرةٌ للمعتبرين، لا سيما إذا قابلوا بين صِغَر بلاد فينيقية وسِعَةِ مستعمرات أهلها وبُعدِها السحيق. وليس في ذلك ما تُنكَر صحته أو يُرَد برهانه؛ لأن التاريخ قد بيَّنَ مُذ ذاك العهد أن الدول التي ضاقت مساحةُ أملاكها إذا ما كانت مجاورةً للبحر في إحدى جهاتها، كانت أسرع إلى الاستعمار وأحكم فيه من الدول الكبيرة ذات التخوم الفسيحة؛ لأن هذه الدول لا يمكنها أن تستعمر في الخارج قبل أن تقوم باستعمارها الداخلي، فتحسن أملاكها وتستثمر أراضيها، وكل ذلك يقتضي زمنًا مديدًا، بل أجيالًا طويلة، ويستفرغ قوى الأمة، ولو سهَتْ عن ذلك وقدَّمت الاستعمارات الخارجية عرَّضتْ نفسَها إلى التهلكة كما حدث آخِرًا لروسية، التي تملك في أوروبة على أنحاء متسعة وأقطار فسيحة بينها السهول القَفرة، التي لم تُحسن زراعتها، فأرادت أن تزيد في أملاكها الآسيوية إلى حدود الشرق الأقصى، فكان من أمرها ما كان، وأصابها من الويلات ما هو فوق نكبات حربها مع اليابان، ولنا بينة على صدق هذا القول في تاريخ البرتغال والبندقية وجنوة وهولندة، وفي أيامنا هذه في تاريخ بلجكة، فرأينا ما نالته هذه الدول الصغيرة من الفوز والتقدم في استعماراتها.
وقد سبق السوريون وأدركوا ما لموقع بلادهم من المحاسن، وعرفوا أنهم يصيبون الهدف إذا ما عانوا الأسفار البحرية، وتكلَّفوا أعمال التجارة، فإنَّ توسُّطَهم بين الدول القديمة — أعني بابل ومصر — كان كافيًا لأن يُكسِبهم الثروةَ الواسعة، فينقلون إلى أهلهم السلع المتعددة ويبتاعون منهم محصولات بلادهم المتوفرة، فيربحون على الوجهَين الأرباح الطائلة؛ إذ يبيعون بالأسعار الغالية ويشترون بالأثمان المتهاودة، وفي ذلك سرُّ غِناهم العظيم، وكما أنه كان أقوى مهماز لتنشيط أعمالهم.
إن نظرت إلى لبنان رأيت سلسلته تمتد موازية للبحر، لكنها من مسافة إلى أخرى تلقي في البحر رءوسًا تنتصب فوقه وتُشرف عليه، أخَصُّها الرأسُ الأبيض بين عكَّا وصُور، ثم رأس نهر الكلب، ولا سيما رأس الشقعة الناطح بطرفه الهائل بين بترون وطرابلس، وليس بين هذه الرءوس الضخمة مكانٌ إلا لأودية حرجة عميقة، أو لسهول متوسطة في سعتها، أو لشقق مستطيلة من الرمل والصلصال تخترقها الصخور على صورٍ شتى، منها داخل في البحر، ومنها راكب بعضها على بعض، ومنها المسنَّن، ومنها المُرَوَّس والمدرَّج؛ فاقتضى على الأهلين الذين قطنوا في هذه الأرض الحرجة بين البحر والجبل أن يوجِّهوا بنظرهم إلى مياه العرمرم، لينالوا منها ما يسد رمقهم، إما بالصيد، وإما بالمتاجَرة بين مدينة وأخرى، فهكذا كانت صيداء مقامًا للصيد، كما يدل عليه اسمها قبل أن تُضحِي مركزًا بحريًّا عظيمًا.
وهذه الملحوظات عن غرائب الساحل السوري كادت اليوم تبرح عن الخواطر، بعد أن امتدت على سيف البحر طرقُ العربات، بل مُدَّت الأسلاك الحديدية لقواطر البخار، فيسير المسافر على الطريق السوِيَّة الممهَّدة دائرًا حول رءوس الساحل، وقاطعًا لركام الصخور دون أن يحجزه حاجز، اللهم إلا رأس الشقعة الذي لم يتمكَّن المهندسون من قطعه حتى الآن، ولكن هيهات أن تجد مثل هذه الطريق السهلة في المسالك القديمة، فإنك لو نهجتها لَعلمتَ ما يتكلَّفه السائر في سيره من المشقة لينتقل من وادٍ إلى آخر، وما يَحُول دون مَرامِه من توريبات السكة، ومن المراقي الصعبة قبل أن يبلغ مكانًا قريبًا لو أمكنه قطعه على طريق مستقيم، فلا بِدْعَ أن الأهلين منذ نشأت التجارة فكَّروا في تقصير هذه الطرق بالسلوك بحرًا، وربما كانت الطريق البحرية هي وحدها الممكنة.
أما إذا اعتبرت سواحل سورية من حيث وضعها الجغرافي، فإنك تجد فيها مُسهِّلات متعددة للملاحة القديمة، فإن مراحل السفن من مكان إلى آخر كانت قصيرة، وإذا أرست في محلٍّ صادفت فيه عيونًا دارَّة لا تنقطع، وكذلك كان سيرها عاجلًا تجاري الساحل في خطِّه المستقيم دون أن تتريَّث بالخلجان المتَّسِعة والمرافئ الباطنة، وذلك فضلًا عما يهب في السواحل السورية من الرياح الثابتة الهبوب المعتدلته، فكل هذه الصفات لم تسمح للقدماء بأن يتركوا شواطئهم سُدًى كالدقعاء المقفرة، تأوي إليها الضواري والكواسر، وتسبح في مياهها النينان دون أن يستخدموها لمنافعهم إما للصيد وإما للمتاجَرة.
ومما تجدي السواحل السورية من النفع لأصحابها، فضلًا عن الملاحة التجارية، مجاورتُها للجبال القائمة في وجه سكانها، كأنها تدعو أهلها إلى قطع مشارفها ليلقوا ما وراءها ما يقوم بمعاشهم في السهول الواسعة الخصبة، التي تسدُّها تلك الجبال عنهم. أَلَا ترى أن الساحل الفينيقي قليلُ الاتساع لا يستطيع أصحابه أن يستغلوا ريع الأرض مما لا غنى عنه من القمح والزيت؟ وقد ذكر الكتاب المقدس (سفر الملوك الثالث: ف٥) أن غاية ما طلبه حيرام الصوري من سليمان الملك — بدلًا من خدماته — مقدارٌ من الزيت والحنطة، فهذه الحاجة في ساكن الساحل يُضاف إليها عدمُ وجوده لجزائر ينتفع من غلَّاتها، وبُعْدُه عن قبرس الحافلة بسكانها، كل ذلك صرف بنظر السوري إلى جبله؛ ليفتح له معبرًا يجتاز به إلى البقاع التي من ورائه، فنقر في الصخور تلك المراقي الصعبة التي يقطعها المكاري مع بغاله بسرعةٍ عجيبة وقدَمٍ ثابتة، وبسيره هذا لا يلبث أن يعتاد ما هو أوسع عملًا وأجدى نفعًا، فيتحول إلى قائد قوافل، ولا يزال يجدُّ ويكدُّ نافذًا في وسط أوديته، متولِّجًا بين سيولها الجارفة، ثم راقيًا إلى أعالي جبله حتى يبلغ عطفه الآخر، فيدخل في تلك السهول الداخلية الفسيحة التي تُعَد كأَهْرَاء حنطة لا تنفد مستغلَّاتها، وكان من هناك يضرب في الأرض راحلًا إلى أنحاء العراق، فيستجلب منها محصولاتها التي كان مواطنوه ينقلونها بحرًا إلى الجزائر المجهولة الواقعة في بحر الظلمات.
إنه لَناموس من نواميس الهيئة الاجتماعية أنَّ الدول التي تنحصر أملاكها في حدود حرجة، إذا كانت ثروتها واسعة ونقودها متوفرة، أن تطلب لضغطها منفذًا بتوسيع تجارتها، والسعي وراء الاستعمارات، فقد أدرك أجدادنا السوريون والفينيقيون هذه الحقيقة؛ إذ ليس أمرٌ جديد تحت الشمس، فاستشفُّوا ما وراء البلاد التي اعتبروها كحدودهم الشرقية بلادًا غيرها لاحت لهم في أعماق الأفق؛ نريد شبه الجزيرتين الهنديتين وما يُطيف بهما من الجزائر، فاستوقفت تلك الأقطارُ أنظارَهم بما تتضمَّنه من المرافق العديدة، والثروة النباتية الواسعة، وأصناف الزهور الناصعة الألوان التي تفوق ما يُرى من ذلك في غيرها من الأنحاء، فلم تثبِّط همتَهم المسافاتُ الطويلة والعوائق المتعددة، فكانوا ينقلون من حدودها ما يستحبه تمدُّن ذلك الزمان لحاجاته أو لذاته من أفاويه وعطور وزيوت طيَّارة، وأقمشة زاهية، وضروب القطنيات الهندية الرقيقة، والأنسجة المشرقة الألوان، وأصناف الحرائر البهية التي يبذل الباعة الدينار في حقها بيد سخية، وكذلك كانوا يستجلبون من الهند المعادنَ الثمينة كسبائك الذهب، وصفائح الفضة، واللؤلؤ والعقيق والياقوت وقطع الماس، التي تزدان بها تيجان الملوك وأَكِلَّة الأميرات، وكان الناس لاعتبارهم لتلك البلاد يروون عنها العجائب والغرائب، فيعدُّون أرضها تِبرًا، وهواءها مِسكًا، وثمارها شِفاء وقوة، وطَيْرها شِبيهًا بالإنسان في نباهته وحُسنه.
فتجارة الهند في تلك القرون البعيدة كانت تُحسَب كثروة البلاد وغنى الشعوب، كما حسبها بعد ذلك أهل القرون الوسطى، وكانت تلك التجارة تروج أو تكسد على مقتضى أمور الزمان، وصروف الحدثان ينقلها من مظانها الكلدان والعرب، تأتي بها قوافلهم على طريق آسية الوسطى إلى أطراف بحر العجم أو البحر الأحمر، وكان الفينيقيون يرحلون إلى جهات بابل وإلى أنحاء اليمن، فينقلون تلك المحصولات إلى المرافئ السورية فيصرفونها إلى الغرب.
•••
من أراد أن يدرك ما أكسب سورية سابقًا حُسْنَ موقعها من المنافع الاقتصادية — حيث كانت الطريقَ الواصلة بين الشعوب — يجب عليه أن يجرِّد فكره عما استفدناه اليومَ من الأحوال الحاضرة، وترقي المواصلات البحرية التي أضحت في عهدنا الطريق اللاحبة التي تضم الأمم العاملة إلى بعضها، كما صرَّح بذلك آخِرًا جلالةُ الملك ليوبلد الثاني ملك بلجكة.
والفضلُ كل الفضل للفينيقيين؛ إذ سبقوا فأدركوا ما للطريق البرية من عِظَم الشأن، فإن ثروة الهند ومَرافِق الشرق الأقصى ما كانت لتجد سبيلًا أوفق تجري فيه لتبلغ إلى مركز العالم المتمدن، وأدركوا فوق ذلك أنه أجدى إليهم ربحًا لو استلموا تلك المحصولات الجليلة في محطاتها البعيدة؛ ليخفِّفوا بذلك عناء القوافل، ويقتصروا بعض المراحل من طرقها الطويلة؛ رغبةً في ضبط البضائع والتصرف فيها قبل غيرهم. ومما فُطِر عليه آل فينيقية ارتياحُهم إلى الدِّلالة، فإنهم كانوا نِعم السماسرة، يتوسَّطون بين الباعة والمشترين ولا يريدون بينهم وبين الباعة وسيطًا، فتتضاعف بذلك أرباحهم؛ إذ يشترون رخيصًا ويبيعون غاليًا، فعليهم المعوَّل في كل المعاملات التجارية لا يزاحمهم فيها أحد، ولا يقف المراقب على حقيقة متاجراتهم، وبذلك أضحَوْا أربابَ التجارة يدركون كُنْهَ أسرارها، ولا يفوتهم شيء من وجوهها.
والإفادات السابق وصفها التي نالها الفينيقيون في رِحَلهم وأسفارهم البرية والبحرية، توسَّلوا بها لترقية تجارتهم وصناعتهم وتوسيع نطاقهما، فإنهم بصائب نظرهم وتهافتهم على الأعمال واحتكارهم للتجارة البرية والبحرية، بلغوا في آخر الطور اليوناني الروماني مبلغًا راقيًا، فكأني بهم جعلوا في زمانهم الطرقَ الجائزة في سورية الشمالية، وفي سورية الوسطى، وفي بادية الشام نفسها بمثابة ترعة سويس في عهدنا، وكانت بورسعيدهم تَدْمر، إلا أن تَدْمر كانت وقتئذٍ ملكةَ الصحراء تميس في مبانيها الفاخرة ومحاسنها الساحرة، ليست كبورسعيدنا التي هي عبارة عن مدينة مستحدَثة، لا يُرى فيها غير حوانيت الباعة، ومكاتب الحسَبة، ومقامات المتاجرين، بل كانت تَدْمر مُزْدانةً بالهياكل، تأخذ بالأبصار أروقتُها البديعة، وتماثيلها المحكمة الصنع، مما يخلب القلب ولا تجد له أثرًا في بورسعيد.
فترى من ثَم أن سورية كانت بموقعها العجيب أهلًا بأن تصبح مركزًا لعلائق العالم القديم، أو قُل بالحري إن الله جعلها رائدًا للتمدن ووصلة بين الأمم العادية؛ أي المصريين، والكلدان، والأمم الوسطى من يونان ورومان، أجداد عالمنا المستجَد. ولو رقينا في سُلم الأعصار إلى أوائل القرون المتوسطة، وجدنا أهل سورية يتأثَّرون أعقابَ آبائهم، فيتوسَّطون بين الغرب وأواسط آسية، فهم الذين أدخلوا التمدن اليوناني في مدرستَي نصيبين وجنديسابور، كما أنهم جلبوا إلى الغرب مرافق تلك البلاد.
السوريون حمَلة التمدن القديم
وقد أراد الله أن يعظم هذه الدعوة الشريفة التي خولها للفينيقيين ليكونوا وسطاء ونقلة للمواد التجارية وللأمثلة الصناعية، بأن جعلهم سماسرة الأفكار كما جعلهم سماسرة الأموال؛ ليعدوا الشعوب الجديدة لقبول الآداب والعلوم، ومهما قلنا في إطرائهم فإننا لن نبالغ؛ وذلك ليس فقط لأنهم بلغوا بقوافلهم إلى البلاد النازحة فوصلوا بين أطراف الأقطار وأقاصي الأصقاع، لكن أيضًا لأنهم زودوا الشعوب بآلة عجيبة كانت أعظم عامل للتمدن، نريد صناعة الكتابة وحروف الهجاء.
والحق يُقال: إن اختراع الأبجدية قد أجدى للبشر نفعًا، قد خلف وراءه الاختراعات التي تتباهى بها أعصارنا؛ كفن الطباعة، واكتشاف فوائد البخار والكهرباء؛ لأن بهذه الصناعة الكتابية انفتحت للمعارف البشرية أبواب واسعة؛ إذ بها نستطيع تدوين كل لغات العالم حتى قبل فهمها، بها جرى تقلب عظيم في أحوال الشعوب، لكنه تقلب هادئ سلمي غايته التحابُّ وتقريب الأمم من بعضها.
يقول الفلاسفة إن العادة طبيعة ثانية. يريدون أن الإنسان لا يتأثر مما اعتاد نظره وائتلفه بالتكرار، فإن العجائب الطبيعية التي نراها كل يوم تسقط من أعيننا، فكذا قل عن اختراع الأبجدية، قال الأب ديلاتر اليسوعي: «ليت شعري، أيوجد شيء أعجب من اختراع الإنسان لعشرين إلى ثلاثين علامة، يتمكن بها على أن يترجم عن كل معاني قلبه وعواطف نفسه؟!» وهذه الطريقة العجيبة في سذاجتها يعود الفضل في اختراعها — وإن شئت قل: في نشرها — إلى الفينيقيين؛ فإنهم أبطلوا تلك الطرائق السابقة التي شاعت قبلهم بتوفير الصور الكتابية، وتمثيل مقاطع الألفاظ، ورسم أصوات الكلام التي كان يتيه فيها علماء مصر وبابل، فنابت بحروف الهجاء عن تلك المئات والألوف من العلامات حروف قليلة تؤدي كل تهجيات اللسان في لغات معظم الشعوب القديمة والحديثة.
وهنا أيضًا قد لعبت الجغرافية دورًا مهمًا، قال لونرمان في تاريخ الشرق القديم (ج١ ص٤٤٨): «كان ينبغي للشعب المدعو لتنظيم الكتابة البشرية وتكميلها ونشرها، أن يكون شعبًا تجاريًّا عاملًا، لا يستغنى عن مسك الدفاتر وضبط الحسابات التجارية، ويكون مع هذا متاخمًا لمصر موسومًا بسمة التمدن المنتشر على ضفاف النيل.»
ولا نعرف في العالم القديم أمة غير الأمة الفينيقية كانت تقوم بهذه الشروط؛ إذ كانوا بموقع بلادهم أحق من سواهم بأن يكونوا قومًا وسطًا، متأهبين لنقل محصولات التجارة إلى الأقطار البعيدة والسواحل النائية، وهم مع ذلك مواصلون للأعمال مع مصر جارتهم.
وقد نقل الفينيقيون إلى البلاد السحيقة ليس فقط حروف الهجاء لتسهيل المعاملات، بل كل مصنوعات بابل ومصر مع أعمال صناعتهم الوطنية، وأضافوا إلى ذلك ما نقلوه من الأدوات المفيدة ومن الحيوانات الداجنة ومن أحرار البقول، وقد وجد الأثريون في أقطار غربية شتى ما كان أتى به إليها الفينيقيون من المعادن وضروب الخشب والصمغ والأنسجة والخزفيات، وغير ذلك من المصنوعات التي أعدت للتمدن القبائل الغربية المستوطنة للغابات، وقد جرى السوريون على هذه الطريقة في نقل اختراعات الشرق ومحصولات التمدن نحو ألف سنة، حتى أثر مثلهم في قلوب أولئك السكان فأخذوا ينهجون منهجهم ويتعقبون مدارجهم، قال بمبونيوس ميلا — السابق ذكره: (ك١، ف٢): «إن الفينيقيين قوم جهابذة حذاق، يحسنون آداب الحرب ويستفيدون من منافع السلم، هم الذين وضعوا حروف الهجاء فاستخدموها لأعمال شتى، واخترعوا فنونًا عديدة، وهم أيضا الذين سبقوا إلى خوض البحار، وتقدموا الشعوب في الحروب البحرية.»
ولما أراد سناحريب ملك آشور أن يجهز لدولته أسطولًا بحريًّا في الخليج العجمي، لم يجد من يقوم بعمله غير الفينيقيين، قال في إحدى كتاباته: «قد أقمت في نينوى رجالًا من الحثيين (وكان الحثيون من سكان سورية)، أسَرَهم قوْسي، فعمروا لي مراكب كبيرة على مثال بلادهم، فجهزتها بالملاحين الصوريين والصيدويين الذين قبضتهم يدي.»
وقد حفظ أهل فينيقية السيادة على البحار حتى في عهد اليونان بعد فتوحات الإسكندر الذي جرى على مثال سناحريب في تجهيز المراكب، وقلما تجد في تواريخ اليونان كاتبًا يذكر سفينة لا يكون ربانها سوريًّا أو فينيقيًّا.
السوريون دعاة الدين
هذا ولأهل الشام فخر آخر غير المفاخر السابقة؛ فإنهم ليس فقط توسطوا بين الدول القديمة المتمدنة والأمم التي منها اشتُقت الشعوب المستحدثة، لكنهم أيضًا نالوا امتيازًا آخر، فدعاهم الله لتربية العالم الأدبية والدينية، فصاروا متوسطين بين الله والإنسان، ومن هذا القبيل كانوا هم السابقين، لم يأخذوا الأمر من سواهم، نعم، إن التمدن البابلي والمصري كان بلغ في الصنائع والفنون مبلغًا عظيمًا، والفينيقيون استفادوا من ذلك وأفادوا غيرهم، لكن الفراعنة وملوك آشور كانوا من حيث الآداب والأخلاق بعيدين عن الكمال، لا يعرفون من العدل والرحمة غير اسمها، فيستسلمون للجور، ويعتبرون أنفسهم بمثابة آلهة، يتصرفون برعاياهم كيف شاءوا، لا يبالون بما ينتظرهم لدى الديان من المسئولية عن أعمالهم، وإن كان من بعدهم قد غلب على الشعوب التالية روح الدماثة، وأضحى التمدن الجديد مبنيًّا على العدل والمحبة، فالفضل في ذلك إلى المستشرعين الصالحين، وإلى الرسل القديسين، وإلى الأنبياء الأبرار الذي نشئوا في سورية فلسطين، وبالأخص إلى ذاك الذي كان أكبر من المشترعين، وأشرف من الأنبياء، المسيح ابن الله، فإن لاهوت الخالق وصفاته العجيبة لم تظهر في مكان من الأرض ظهورها في سورية فلسطين، فلاح نور التوحيد فيها، ومنها امتد إلى بقية الشعوب، فأدخلها في طور جديد من الترقي والفلاح؛ ولذلك ترى عيون الإنسانية متجهة منذ ألفي سنة إلى تلك البلاد مهد الأديان الموحدة؛ حيث جرت أحداث التوراة الخطيرة، وتجلى الحق سبحانه لعباده فغيرت أنواره هيئة المجتمع الإنساني.
فترى ما لسورية من النصيب العظيم في ترقي الشعوب، فإنها هي السابقة، والفضل كما قيل للمتقدم، فيجوز لكل رجل أن يعتبر سورية كوطنه الثاني؛ لأن منها نال حياته الأدبية إن لم ينل حياته الزمنية؛ ولهذا السبب لم تزل أوروبا توجه بألحاظها إلى البلاد التي منها أخذت مصدر حياتها العقلية والأدبية، وكان قدماء النصارى إذا صلوا جعلوا الشرق قبلتهم فيوجهون بأبصارهم إلى الأراضي المقدسة، وإلى الجلجلة وقبر المسيح.
•••
وقبل ختامنا لهذا الفصل الذي كتبناه في موقع سورية وجعلناه كتوطئة لأبحاثنا في جغرافية الشام، ينبغي لنا أن نضيف إليه بعض ملحوظات عمومية.
من خواص الشام، كما سبق القول، أن لها حدودًا ظاهرة وتخومًا مقررة، وفي ذلك فائدة كبيرة؛ لأن تخوم البلاد بمثابة حدود الأملاك وحواجزها التي تصونها من كل تعدٍّ ومخاصمة. وفي الواقع ترى جهات الشام مفروزة عما سواها، فلا تستطيع أن تخلط بينها وبين البلاد المجاورة لها، كآسية الصغرى مثلًا؛ لأن بين الشام والأناضول طودًا شاهقًا يفوق بارتفاعه جبال البيراناي الذي يفصل فرنسا عن إسبانيا، وهو أعظم مهابة منه، كذلك من جهة الشمال الشرقي نهر وهو الفرات، معدل عرضه ٥٠٠ متر، يفصل الشام عن بلاد ما بين النهرين، أما الفاصل بين الشام ومصر وأنحاء العرب فبحر بلا ماء؛ أي البوادي القفرة الواسعة التي يسهل دونها قطع البحار، وقد بيَّنَّا قبلًا أن البحار صارت اليوم من أسباب الوصال، وهيهات أن يصدُق ذلك في الصحاري والقفار.
وخلاصة الكلام أن بلاد الشام مجموع منفرد قائم بذاته، لا يمتزج بتخومه غيره، ليست كإنكلترة معتزلة عما سواها مفتوحة الثغور لمن يطلبها، لكن هذه العزلة لم تُعرِّض بلاد الشام للفتور والخبل كما جرى لبلاد الصين وراء حائطها الكبير، بل قاسمت البلاد المتمدنة في حركتها، وناهيك بالحركة بركة وخصبًا وترقِّيًا، وقد أثبتنا فيما سبق أن الشام رأت من تقلبات الدول وفتوحاتها ما قلِّ لبلد آخر أن يختبر مثله، فإن الأمم القديمة تجاوزت تلك التخوم، وخرقت تلك الحواجز، وعدَّت الشام كطعمة تتنازعها مطامع «ذباب مصر ونحل آشور» كما قال أشعيا النبي (٧: ١٨). وكانت هذه الأمم تعتبر فتح الشام وفلسطين كأعظم فوز تفوز به؛ لأنها كانت تجد في هذه البلاد معبَرًا أكيدًا لتصريف تجارة الهند في موانئ بحر الشام، وبابًا واسعًا لفتح أفريقية وآسية المتقدمة. وهذا الحكم قد خطر منذ نحو ٥٠٠٠ سنة على بال سرغون — أحد ملوك بابل — فأثبته في بعض مآثره.
وقد سبق لنا القول في سبب انتقال الحركة التجارية العمومية في عهدنا، فعلَّة ذلك أن القطب الذي عليه كان مدار الحركة التجارية لم يَعُد في مكانه مارًّا في وسط بلاد الشام، بل تحول عن ممره فصار يمتد في طريقين أخريين، إما في شرقي الشام وإما في غربيها، وليس هذا الخلل الوحيد الذي تدلنا عليه القوانين الجغرافية، فإننا نرى خللًا آخر يضعِف هذه البلاد تشير إليه الجغرافية أيضًا.
•••
تشبه سورية في هيئتها الطبيعية مربعًا كبيرًا يقيس طوله ثماني مرات عرضه؛ لأن طوله من جبل طورس إلى جبل سينا لا يقل عن ١١٠٠ كيلومتر، بخلاف عرضه الذي لا يتجاوز معدله ١٥٠ كيلومترًا، وكلٌّ يعلم أن مثل هذا التباين في الأقيسة يضر بالموازنة، ويمنع الارتباط والوحدة بين جهات البلاد؛ لأن الجسم السياسي إذا امتدت أطرافه فبعدت عن مركز الحكم خفَّ فعله فيها، ومن ثم ترى الأنحاء تطلب التفرد، فتضعف القوة العمومية، وهذا مما يظهر اليوم في بعض البلاد رغمًا عن الروابط العظيمة التي تستعين بها الدول في عهدنا لضم أطرافها وتوحيد عناصرها، كاحتكار القوة وتعميم التعليم والجندية الإلزامية، وغير ذلك مما تفردت به الدول الحالية، مثال ذلك ما تجده في إيطالية، فإن الحكومة الواحدة تحكم على بلاد مختلفة طبائع وأغراضًا، كبلاد بيامنتي في الشمال وبلاد صقلية في الجنوب، وحتى الآن لم تقوَ الحكومة على مزج هذه العناصر المتباينة وتوحيدها.
ويضاف إلى هذا الخلل في تركيب سورية الجغرافية خلل آخر ليس بأقل ضررًا منه بوحدة إدارتها؛ نريد سلاسل جبالها التي تخترق البلاد فتمنع اختلاط طوائفها وتوحيد عناصرها، كما ترى في سويسرة وجهات الأناضول؛ حيث ارتفعت أيضا الجبال الشاهقة، فأضرت بامتزاج أقسامها، والتاريخ يعلمنا أن الدول الكبرى كانت تجعل مراكزها في السهول، أما سهول سورية فتراها بعيدة عن مركز حركتها، معتزلة في طرفها الشمالي الشرقي، وتلك الجهة أشبه ببادية مقفرة، وهي منزوية معتزلة، فلا تستطيع أن تنشأ فيها مدينة عامرة تحيي الأطراف بنفوذها.
وما هو أخطر من ذلك أن هذه الجبال السورية — التي يبلغ معدل علوها ٢٠٠٠ متر — تقوم في وسط البلاد كحاجز متواصل يُفرد كل طائفة في مكانها ويؤثِّر في حياتها، فاصلًا كل قسم عن أخيه، بحيث لا يمكنه أن ينال منه فائدة لترقِّيه وتمدُّنه، لا سيما أن هذه السلسلة تمتد من الشمال إلى الجنوب، وهي وجهة أقل نسبة لامتزاج الشعوب من وجهة الغرب إلى الشرق؛ لأن السكان إذا انتقلوا تابعين لدرجات العرض أمكنهم أن يعتادوا تغيير الأحوال الجوية بخلاف الذين يتبعون درجات الطول، فإنهم يُبلَون بمقاساة المظاهر الجوية التي لم يعتادوها.
وزد عليه أن جبال الشام تنفصل في سورية الوسطى إلى سلسلتين متوازيتين، لا تكاد الثانية تختلف في علوها عن الأولى، وهذه السلسلة الجديدة تُدعى بالجبل الشرقي، تمتد شُعبها على نواحي دمشق وبادية تدمر وحوران وما وراء الأردن، والجبلان أشبه بحائطين هائلين بينهما البقاع والغور كوادٍ غريب، يبلغ منهبطه عند طرفه الجنوبي — أي بحر لوط — عمقًا لا يقل عن ٤٠٠ متر تحت سطح البحر المتوسط.
والحق يقال: إن الطبيعة أحسنت إلى سورية في شيء؛ إذ حصَّنتها بسور من الجبال، لكنها أفرطت في توفير هذه الجبال في قلب البلاد، فإن السائر الذي يتوغل من سواحل الشام إلى الجهات الداخلية، يلقى في مسيره خمسة أنحاء جغرافية تختلف أحوالها كل الاختلاف في حرارتها وهوائها ونباتها مع قلة أسباب المواصلات بينها؛ لأن السلسلة الكبيرة التي تمتد طولًا في وسط سورية لا تنقطع انقطاعًا محسوسًا إلا عند علو طرابلس؛ حيث توصل جبل النصيرية بأول منعطف لبنان آكامٌ قليلة الارتفاع.
وإن اعتبرتَ تاريخ سورية وجدت هذا الإقليم متقسمًا إلى إيالات منفردة تسكنها العشائر المنفصلة، ففي سورية تعددت رؤساء القبائل وشيوخ الطوائف ورؤساء الربع، فيجد محب المسكوكات والمكاتبات مادة واسعة لدرس آثارهم، لكن المؤرخ يتيه في بيداء أقسامهم السياسية.
وكانت نتيجة هذه الانقسامات الشعبية والتفرقات في الأغراض والأملاك أن البعض وجدوا فيها ما يوافق مطامعهم ويعظم أشخاصهم، لكنها أضعفت القوى وقسمت الكلمة، وهذا ما نراه في تاريخ سورية في أقدم الآثار، تشهد عليه مراسلات تل العمارنة التي ترتقي إلى المائة الخامسة عشرة قبل المسيح (اطلب تسريح الأبصار، ج١، ص٧١–٧٩)، فيؤخذ من هذه المكاتبات أن دولًا عديدة كانت تتزاحم مذ ذاك في سورية، منها في السهول، ومنها في الجبال، بل كانت كل مدينة عبارة عن دولة يتحصن فيها أهلها، ويردون غارات الدولة المجاورة، ولو شاء المسافر لقطع في اليوم الواحد تخوم عدة أملاك مستقلة, هذا ما ورثه تاريخ الشام بكثرة التقاسيم الجغرافية والحواجز الطبيعية.