الدولة الكيانية
وعلى إثر سقوط مدينة «بابل» عاصمة «العراق»، سلمت جميع المدن العراقية لكورش في السنة نفسها (سنة ٥٣٨ق.م)، وانقرضت الدولة البابلية الثانية أو المملكة الكلدانية على يد هذا الفاتح، بعد أن دامت ٧٣ سنة كما تقدَّمَ.
(١) كورش والبابليون
واتخذ لقب ملك بابل لنفسه، وعمل كلَّ ما من شأنه أن يجذب إليه قلوب البابليين، ولم يخرِّب شيئًا من بلادهم؛ لذلك لم يسقط من مدن العراق شيء، وبقيت مدنه جميعها زاهرة عامرة، من جملتها مدينة «أور» فإنها كانت في عهده عامرة زاهرة، ولكنها كانت حينذاك من أصغر المدن العراقية، ومع ذلك فإن كورش سعى لتجديد بعض هياكلها، وقام بعمل في سبيل خدمة هيكل الإله القمر — إله أور — وقد وجد النقابون أخيرًا في أطلال هذه المدينة سنة ١٩٢٣م آجرة كُتِب عليها اسم هذا الفاتح، استدلوا منها على أنه عمَّرَ وجدَّدَ هذا الهيكل، ويقول بعض المؤرخين إنه جدَّدَ عدة هياكل كانت في مدن العراق، وأرجع كلًّا إلى موضعه من تماثيل الآلهة التي كان قد جمعها في مدينة «بابل» الملك نبونا هيد من المدن العراقية أثناء الحرب لتَنْصُرَه على كورش.
ولم يشتهر كورش بسياسته الرشيدة ومراعاته عواطف الشعوب واحترامه لدياناتهم وعاداتهم وأميالهم فحسب، بل إنه اشتهر بتنشيط التجارة وتوسيع الزراعة، كما اشتهر بالفتوحات والانتصارات؛ لذلك تمتَّعَ العراقيون في عهده بالحرية التامة، وكثرت ثروة بلادهم، واتسع نطاق الزراعة في أرضهم، بما حفره هذا الملك من الترع والأنهار، وما بثَّه من العدل والأمن في أنحاء البلاد؛ ومن أجل ذلك أحبُّوه كثيرًا حتى إن أكثرهم تجنَّدوا وقاتلوا في الحروب تحت رايته، مع إن سكان البلاد كانوا حينذاك قد قَلَّ عددهم على ما يقوله بعض المؤرخين.
وبعد أن تمَّ أمر كورش في العراق أناب عنه نائبًا فيها أحد قوَّاده، وضرب عليها خراجًا معلومًا — ضريبة سنوية — وسار بجيوشه قاصدًا فتح سورية، فافتتحها ثم افتتح فلسطين سنة ٥٣٦ق.م، وعلى إثر فتحه فلسطين أصدر أمرًا بإطلاق حرية اليهود المأسورين في «بابل» من عهد الملك بختنصر، وأذن لهم بالرجوع إلى وطنهم «أورشليم» وفي بناء الهيكل، بعد أن داموا بالأسر أعوامًا ذاقوا فيها أنواع المصائب وضروب النوائب، وولَّى على فلسطين زربابل أحد أحفاد يهوياكيم، ولقَّبَه بلقب «بها»؛ أي الحاكم بالفارسية، فسار من العراق نحو الستين ألفًا منهم إلى وطنهم، واختارت جماعة كبيرة منهم السكنى في العراق.
(٢) ثورة البابليين الأولى
دارا الأول
حمل دارا على «بابل» فخرج لملاقاته ملكها ندين توبيل بجيوشه العراقية، والتقى الملكان بالقرب من «دجلة» في أراضي «آشورية»، فانكسر الجيش العراقي واضطر إلى الانسحاب، فعبر «دجلة» ونزل على ساحل «الفرات»، فلحقه دارا، وهناك حدثت حرب شديدة انخذل في آخِرها البابليون، وانهزموا إلى عاصمتهم مدينة «بابل» وتحصَّنُوا فيها، أما دارا فإنه جَدَّ بالمسير بعد ذلك النصر حتى ألقى الحصار على مدينة «بابل»، فدافع ملكها ومَن معه دفاع المستميت أيامًا حتى عجزوا عن مقاومة الفرس؛ لكثرة عُدَدهم وعَدَدهم، فسقطت عاصمتهم سنة «٥١٩ق.م» ودخلها دارا ظافرًا، وقتل ملكها ندين توبيل الملقَّب نبوكد نصر الثالث، الذي لم يملك غير سنتين تقريبًا قضاهما في إعداد المعدات الحربية دفاعًا عن حقه الصريح، وحفظًا لاستقلال بلاده.
سقطت «بابل» فسلمت جميع المدن العراقية لدارا، وخضع الحضر والبدو له، وبعد أن نظم شئون البلاد ولَّى عليها حاكمًا عامًّا أحد قوَّاده المسمَّى زوبيروس — زبورا — وعاد إلى مقره، ورجعت الأمور كما كانت في عهد كورش، واشتغل العراقيون بالتجارة والزراعة، وزادت ثروة بلادهم وعاشوا في بحبوحة الأمن والسعادة تحت راية دارا الأول المشهور بالعدل وحب العمران، والولوع في كل ما يرقي التجارة وينشط الزراعة ويجلب الخير والسعادة إلى رعاياه.